العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

وإعلام القرآن ، وإفهام القرآن الذي هو كلام الله تعالى ، وقال تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) [النّساء : ١٦٣] أي أنزلنا إليك وأفهمناك كلامنا القديم ، كما أنزلنا وأفهمنا من قبلك كلامنا القديم فالإفهام لم يكن ثم كان. وأما المفهوم الذي هو كلام الله القديم فهو موجود ثابت قبل الإفهام وبعده على صفة واحدة ، لا يختلف ولا يتغير.

جواب آخر : وهو أن هذا الحديث قد روي من طرق عدة ، وأضيف إليه الصوت المشبه بجر السلسلة إلى الخلق ، لا إلى كلام الحق ، فمن ذلك ما روى النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا تكلم الله بالوحي أخذت السموات منه رجفة شديدة من خوف الله تعالى ، فإذا سمع بذلك أهل السموات صعقوا وخرّوا سجدا ، وأول من يرفع رأسه جبريل عليه‌السلام ؛ فتكلم الله من وحيه بما أراد ، فينتهي به جبريل عليه‌السلام على الملائكة ، كلما مرّ بسماء سأل أهلها ما ذا قال ربنا؟ فيقول جبريل الحق ، وهو العلي الكبير» فثبت أن الصوت المشبه بالسلسلة صوت رجفة السموات ، لأنهم سمعوا صوت رجفة السموات لا كلام الله تعالى ، ولهذا سألوا جبريل الله تعالى ما ذا قال ربنا ، فدلّ على أنهم لم يسمعوا كلامه ، وإنما سمعوا صوت رجفة السماوات ، التي شبهت بحر السلسلة ، لأنهم لو سمعوا ما سمع جبريل لفهموا كما فهم جبريل.

وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان» فأضاف الرسول عليه‌السلام هذا الصوت المشبه إلى صوت أجنحة الملائكة ، لا إلى كلام الله تعالى وحديث أبي هريرة هذا صحيح. أخرجه البخاري ، وحديث النواس أخرجه مسلم في كتابه ، وروى أبو الضحى مسروق ، عن عبد الله أنه قال : «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان» وفي رواية : «سمع أهل السماء للسماء صلصلة» وليس في شيء من هذه الروايات إذا تكلم الله سمعوا من الله صلصلة ، وإنما سمعوا من السماء إذا أحدث الله فيها رجفة ، وجعل ذلك علامة لأهل السموات. يعلمون بها أن الله تعالى تكلم بالأمر ، وأن المخصوص بسماع كلامه جبريل عليه‌السلام ، ولهذا سألوه ما ذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول : قال الحق. فيقولون : قال الحق. فيصفون الله تعالى بقول الحق ، لا بالصلصلة والصوت ، فصار هذا الحديث حجة عليهم لا لهم.

١٨١

جواب آخر : وهو أنه قد روي من الأخبار والآثار ما لا يحصى عددا أن الصوت مخلوق ، وأنه صفة القارئ لا صفة الباري ، فمن ذلك ما روى ابن جريج عن الزهري أنه قرأ بين يديه (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) [فاطر : ١] فقال : هو الصوت الحسن. فقال الأوزاعي رحمه‌الله أنه قال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتا من إسرافيل ، قيل : فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سماوات تسبيحهم وصلاتهم.

وقال أبو العالية : قال موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقومه : قدسوا بأصوات حسنة ، فإنه أسمع له ، فأضاف الصوت إلى المقدسين لا إلى المقدس. وقال مالك (١) بن دينار في قوله تعالى : (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٢٥] قال : يقيم الله داود عليه‌السلام عند ساق العرش ، فيقول : يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم ، فيقول : كيف أمجدك به وقد سلبتنيه في دار الدنيا؟ قال : فيقول جلّ وعز : إني أرده عليك. قال : فيرده عليه ، فيزداد صوته حسنا ، فيأخذ في التمجيد ، فيستفرغ داود نعيم الجنان ؛ يعني يشتغل أهل الجنة بحسن صوته عن نعيمهم.

فالصوت الحسن المردود المسلوب الرخيم صفة داود عليه‌السلام التي يمجد بها ويقدس بها ، والممجد المقدس هو الله تعالى الخالق لداود ولصوته ولسائر الأصوات.

وروي أن عمر رضي الله عنه كان يقدم الشاب الحسن الصوت لحسن صوته بين يدي المهاجرين والأنصار. وقال أبو عثمان النهدي رضي الله عنه : صلّى بنا أبو موسى صلاة الصبح فما سمعت بصوت ولا بربط أحسن صوتا منه. وتبين من هذه الآثار المروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جعل الصوت صفة للقارئ لا لله تعالى ، فقد روي عنه في هذا المعنى ما لا يحصى عددا ، فمن ذلك : ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : قام رجل من الليل فرفع صوته بالقرآن ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم: «لقد أذكرني كذا. وكذا آية» قال أبو ذر : كان لي جار وكان يرفع صوته بالقرآن فشكوته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يقال له ذو البجادين فقال : «دعه فإنه أوّاه» وكان أسيد بن حضير من أحسن الناس صوتا بالقرآن ، فقرأ ليلة وفرسه مربوط عند رأسه ، وابنه نائم إلى جنبه ، فدار الفرس في رباطه ، فقرأ فدار الفرس في رباطه ، فانصرف وأخذ ابنه وخشي أن يطأه الفرس ، فأصبح فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقرأ أسيد فإن الملائكة لم تزل تسمع صوتك» وروى ابن سابط قال : أبطأت عائشة رضي الله عنها على

__________________

(١) لم يرفعه إلى المعصوم (ز).

١٨٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما حبسك يا عائشة؟» قالت : يا رسول الله ، سمعت رجلا يقرأ ما سمعت من رجل يقرأ قراءة أحسن منها ، فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسمع صوته ، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك». روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سمع قراءة أبي موسى ذات ليلة فقال : «أبو موسى مزمار من مزامير داود» ومعلوم أنه شبه حسن صوته بالقراءة بالمزمار ، لا كلام الله القديم الذي لا يشبهه شيء من أصوات الخلق ولا نغماتهم. وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ في ليلة هو وعائشة رضي الله عنها ، وأبو موسى يقرأ ، فقاما فاستمعا لقراءته ، ثم إنهما مضيا ، فلما أصبح لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لأبي موسى : «يا أبا موسى مررت بك البارحة ومعي عائشة فاستمعنا لقراءتك» فقال أبو موسى : يا نبي الله ، أما إني لو علمت بمكانك لحبرته لك تحبيرا. قال : «لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود». وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأعرف أصوات رفقة الأشعريين بالقرآن وإن كنت لم أر منازلهم حين يدخلون بالليل ، وأعرف منازلهم من أصواتهم بالقرآن بالليل ، وإن كنت لم أر منازلهم حين نزلوا بالنهار». وهذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج في صحيحه ، وهو أكبر حجة في نفي الصوت عن كلام الله القديم ، لأنه فصل الأصوات من القرآن ، فأضاف الأصوات إلى الأشعريين ولم يضفها إلى كلام الله الذي هو القرآن.

وقال شهر بن حوشب : قدم أبو عامر الأشعري على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رهط من قومه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليدلني على حسن إيمان الأشعريين حسن أصواتهم بالقرآن» وفي هذه الأحاديث التي ذكرنا وأمثالها مما لا يحصى عددا : أن الأصوات صفة الصائتين لا صفة كلام رب العالمين ، وفي بعض ذلك مقنع وكفاية لم أراد الله له الهداية.

* * *

فصل

فإن قالوا : أليس تقولون إن كلام الله مسموع بحاسة الآذان على الحقيقة؟ قلنا : بلى. فإن قالوا : فليس يجوز أن يكون مسموعا على الحقيقة إلا ما كان صوتا أو حرفا.

فالجواب : أن هذا جهل عظيم ، وذلك أن أهل السنة والجماعة قد أجمعوا على أن الله تعالى يرى بالأبصار على الحقيقة ، ولا يجوز أن يرى على الحقيقة إلا ما كان جسما وجوهرا وعرضا. أفتقولون : إن الله تعالى جسم ، وجوهر ، وعرض؟ فإن قالوا :

١٨٣

نعم. فقد أقروا بصريح الكفر للتشبيه ، وإن قالوا : يرى وليس بجسم ، ولا جوهر ولا عرض ولا يشبه شيئا من المرئيات. قلنا : فكذلك كلامه قديم ليس بمخلوق ومسموع على الحقيقة ، وليس بحروف ولا أصوات ، ولا يشبه بشيء من المسموعات ، فكما أنه يرى على الحقيقة ولا تكييف لكلماته. فاتقوا الله وقفوا عند حدوده ، ولا تكونوا ممن قال فيهم : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [البقرة : ٢٢٩]. وتمسكوا بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].

ثم نقول لهم : أليس الله تعالى قد سمّى نفسه بانيا ، وهو بان على الحقيقة ، لأنه قال : (أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨)) [النّازعات : ٢٧ ، ٢٨] ولم نر بانيا على الحقيقة ، إلا بآلة من عدة وآجر ، وحجر وخشب وغير ذلك : أفتقولون إنه مفتقر في بناء السماء إلى ذلك ، حتى يكون قد بنى على الحقيقة. فإن قالوا : نعم ، كفروا لا محالة ، وإن قالوا : هو بناء منه على الحقيقة ولا يفتقر فيه إلى آلة وعدة. قلنا : وكذلك كلامه مسموع منه على الحقيقة بواسطة وغير واسطة ، ولا يفتقر في إسماعه إيانا إلى آلة من حروف وأصوات وغير ذلك.

* * *

فصل

فإن احتجوا بجهلهم أن الصفة القديمة تحل في الظروف والأوعية كحلول الشيء المخلوق في الشيء المخلوق. فتفسير هذا القول منهم ـ لو عقلوا ـ كان إقرارا منهم بخلق الله تعالى ، لأن القديم لا يتصور عليه النقلة ، والتحويل ، وتفريغ مكان ، وإشغال مكان ، وأمكنة ، وحصر ، وعد ، وإفساح ، وفراغ ، فإن أصروا على الجهل والضلال واستدلوا على حلول كلام الله القديم في المخلوقين بما يظنون حجة لهم ، وهو جرأة ، وحجة عليهم ، أقروا بقول إخوانهم من النصارى ، بل زادوا عليهم في سوء الاعتقاد ، وخبث المذاهب والمقال على ما سنبينه في ثاني الحال ، إن شاء الله.

فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو» قالوا : فصحّ أن الكلام القديم يصح عليه الحلول والنقلة والتحول ، فالجواب من وجوه عدة :

أحدها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد بذلك المصحف ، لأنه قد بيّن ذلك فقال «مخافة أن تناله أيديهم» ولم يرد أن كلام الله القديم انتقل ولا تحول من بلاد الإسلام إلى بلاد العدو ،

١٨٤

والمصحف قد يسمى قرآنا ، لأن فيه كتابة القرآن ، وقد روي ذلك صريحا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه كتب إلى عمرو بن حزم : «ولا يمس القرآن إلا على طهارة» فأراد بذلك :

المصحف الذي حلّ فيه كتابة كلام الله القديم لا يجوز عليه المس بالأيدي.

جواب آخر : وهو أنه أراد لا تسافروا بكتابة القرآن ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، كما قال تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] يعني أهل القرية (وَالْعِيرَ) [يوسف : ٨٢] يعني أهل العير. وقوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النّساء : ٤٣] قال أكثر أهل العلم موضع الصلاة. وقد قال تعالى : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) [الإسراء : ٦٠] أراد الملعون أهلها في القرآن. وكذلك قال : (وَالطُّورِ (١)) [الطّور : ١](وَالضُّحى (١)) [الضّحى : ١] وجميع الأقسام إنما معناها ورب الطور ورب الضحى ، وهذا كثير جدا في كلام العرب ، يحذفون لعلمهم بفهم أهل اللسان والبيان ذلك ، وأنهم ليسوا كأهل الجهل والهذيان ، والعرب تقول : بنو فلان تطؤهم الطريق ، يريدون يطؤهم أهل الطريق ، وأبين من هذا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) [الأحزاب : ٥٧] يريد أنبياء الله وأولياء الله.

وجواب آخر وهو : أنا نعلم ـ وكل عاقل يعلم ـ أن الرسول عليه‌السلام إنما أراد بالقرآن هاهنا شيئا محترما يتصون عليه من الأيدي ، ولم يرد نفس كلام الله القديم ، والذي يدل على صحة ذلك : أن الحافظ للقرآن : القرآن في صدره عندنا حفظا ، لا أن كلام الله القديم يحل في صدر الحافظ حلول الجسم في الجسم ، وعندهم ـ على حسب عقدهم ـ أنه حال في صدور الحافظ كحلول الشيء في الشيء ، ومع ذلك فإن الرسول ما نهى أحدا من الحفاظ أن يدخل بلاد العدو ، فلم يبق إلا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد مصاحف القرآن التي يتصور عليها نيل أيدي العدو ، ولم يرد أن القديم يحل في المخلوق حلول الجسم في الجسم ـ حاشاه من ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

فصل

فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو جعل هذا القرآن في إهاب ثم ألقي في النار ما احترق» قالوا : وقد أطلق عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن القرآن يجعل في الإهاب ، فدلّ على أنه حال. فالجواب أن أهل العلم رضي الله عنهم ذكروا في ذلك ثلاثة أقوال :

١٨٥

أحدها : أن هذا كان في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليلا على صدقه ، وكان معجزة له ، وكان إذا كتب في جلد أو رقّ أو غير ذلك ثم ألقي في النار لم يحترق. ذلك الجلد أو الرق ، فيكون معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ كانشقاق القمر وغير ذلك من المعجزات ، ثم انقضى ذلك بعد موته : بدليل أن الرقق التي كتب فيها القرآن قد احترقت في زمن الصحابة وغيرهم.

الثاني : أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو جعل القرآن في إهاب ثم ألقي في النار لم يحترق» أراد بذلك فضل حفظه القرآن ، وأنهم لأجل ما حفظوا من كلام الله تعالى وصار حفظه في صدورهم تصير عليهم النار بردا وسلاما ، فلا تحرقهم ، كما كانت على الخليل عليه‌السلام بإذن الله تعالى. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم الشفيع لصاحبه يوم القيامة» فيكون ببركة شفاعة القرآن لصاحبه وعمله به لا تتسلط النار على إهابه فتحرقه ، وهذا صحيح ؛ لأن الإهاب هو الجلد قبل الذبح ، أو قبل الدباغة.

دليل الأول : قول عائشة رضي الله تعالى عنها في مدح أبيها الصديق رضي الله عنه : «وحقن الدماء في أهبها».

ودليل الثاني : قوله عليه‌السلام : «أيما إهاب دبغ فقد طهر» فأما بعد الدباغ فلا يقال له إهاب ، وإنما يقال له أديم أو رق ، أو نحو ذلك.

الثالث : وهو الأصح والأجود : أن القرآن إذا كتب في إهاب أو غير ذلك ، وألقي في النار ، فإن القرآن لا يحرق ولا يتصور عليه الحرق ولا الغرق ولا العدم ، وإن تصور ذلك على الرق والجلد. والورق والخط والمداد. وهذا يوضح أنه مكتوب على الحقيقة. وليس بحال حلول الأجسام في الأجسام ؛ لأن المداد لما حلّ حلول الأجسام في الأجسام احترق مع الرق والورق ، والقرآن لما لم يكن حالا لم يتصور عليه العدم بحرق ولا غرق ولا غير ذلك ، وهذا واضح صحيح. يؤكد ذلك أنا إذا كتبنا اسما من أسماء الله تعالى في محل يتصور عليه الحرق والغرق والبلى والتمزق ، فإن عدم ببعض ما ذكر فإنما يعدم ويذهب المحل المكتوب فيه واللون المكتوب به. وأما المكتوب على الحقيقة وهو الرب تعالى فلا يتصور عليه شيء من العدم والذهاب ، كما أخبر تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].

* * *

١٨٦

فصل

فإن احتجوا بخبر روي ؛ وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حفظ القرآن فاختلط بلحمه ودمه ...» قالوا : وهذا يدل على حلوله واختلاطه بلحوم الحفاظ ودمائهم في حال صغرهم. فالجواب عن هذا من أوجه :

أحدها : أن هذا الحديث يرويه إسماعيل (١) بن رافع ، وعمر (٢) بن طلحة ، وهما ضعيفان جدا ، لا يؤخذ بقولهما في هذا ولا غيره.

الثاني : أن الصبيان الحفاظ للقرآن كثير ، وكلام الله تعالى قديم ، وشيء واحد ، فإذا اختلط بدم صبي ولحمه على زعمهم وامتزج واختلط فكيف يمتزج بلحم آخر ودمه ؛ إذا الشيء الواحد إذا اختلط وامتزج بشيء استحال امتزاجه بغيره ، نعوذ بالله من هذا المذهب الذي يؤدي القول به إلى اختلاط الصفة القديمة وامتزاجها بدم المخلوقين ولحومهم ، ولعمري أن قول النصارى دون هذا ، لأن النصارى ؛ إنما تقول كلمة واحدة قديمة اختلطت بجسم واحد وهو جسم المسيح عليه‌السلام ، حتى صار الجسم لاهوتيا من أجل الكلمة ، ناسوتيا من جهة مريم عليها‌السلام ، فاختلط عندهم القديم بالمحدث اختلاط الماء باللبن ، فوافقتهم هذه المقالة الخبيثة ، وزادوا عليهم ، لأنهم قالوا : جسم واحد اختلط به القديم ، وهؤلاء يقولون اختلط القديم بألف ألف جسم وأكثر ، نعوذ بالله من هذا القول الذي لا يقوله من له مسكة من حس وعقل.

الجواب الثالث : أن هذا الحديث إن صح ، فمراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الحفظ في الصغر أجود وأثبت من الحفظ في حال الكبر ، ويعني باختلاطه باللحم والدم جودة الحفظ ، لا اختلاط المحفوظ الذي هو كلام الله القديم. وصار هذا كقوله تعالى : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة : ٩٣] يعني حب العجل ، لأن العجل لا يدخل ولا يحل في القلوب ، وإنما يدخل ويحل حبه. هذا أيضا كما يقال : التعليم في الصغر كالنقش في الحجر. والتعليم في الكبر كالنقش في المدر ، يريدون بذلك أن الحفظ في الصغر أثبت وأبقى منه في حال الكبر.

* * *

__________________

(١) قال النسائي : متروك (ز).

(٢) قال الذهبي : لا يكاد يعرف (ز).

١٨٧

فصل

فإن قيل : إذا كان القديم لا يحل في المصحف ؛ فما معنى تعظيمه وتوقيره عن الأدناس والأنجاس وأن لا يحمل إلا على طهارة.

فالجواب : أن هذا جهل وتخبط لأن توقير المحل والمكان لا يدل على حلول القديم الذي لا يتصور عليه الحلول فيه ، كما أنا نحرم المسجد ولا ندخله إلا على طهارة من غير جنابة ، ولا ندخل إليه شيئا نجسا ولا قذرا ، وننزهه عن البصقة والنخامة ، وإن كانت طاهرة توقيرا له وتعظيما. وإن كانت أرضه وتربته وأحجاره مخلوقة ، وخشبه وطينه مخلوقان ، لا أنه قديم ، ولا أنه حلّ فيه قديم ، وكذلك الطواف بالبيت لا يدخل بنجاسة إليه ، ولا يصح الطواف ، حتى يكون الطائف متطهرا من النجس والحدث ، ولا يدل هذا على أن البيت قديم ، ولا أنه حل القديم فيه ، كذلك الخطوط التي يكتب بها القرآن ، والصحف التي يكتب فيها نوقره ونعظمه وننزهه أن يمس إلا على طهارة ، ولا يقرب إليه شيء من الأنجاس ، بل نعظمه ونشرفه ، ولا يوجب ذلك كون المداد الأسود والصفرة والحمرة قديمة أو حل القديم فيها ، وهذا أمر واضح لمن له عقل وتحصيل. إذا تأمله ونظر فيه.

* * *

فصل

ثم يقال لهذه العصابة ـ هداهم الله من الضلال ـ ما تقولون فيمن أخذ قلما وورقة ومداد حبر ، وكتب ألف. لام. لام ، ها. أتقولون إن المكتوب على الحقيقة هو الله تعالى أم لا؟ فإن قالوا : ما هو المكتوب على الحقيقة. فقد خالفوا إجماع أهل السنة والجماعة. وإن قالوا : هو المكتوب على الحقيقة. قلنا : أفتقولون إن الله تعالى انتقل من العرش (١) وحل في هذه الورقة؟ فإن قالوا : نعم. كفروا بإجماع الأمة ، وجعلوا الباري تعالى يحويه أصغر الأماكن ، وإن قالوا : ليس بحال وهو الصحيح الذي لا يجوز غيره. قلنا : فكذلك كلامه تعالى مكتوب في مصاحفنا محفوظ في صدورنا مقروء بألسنتنا متلو في محاريبنا غير حال في شيء من المخلوقات.

* * *

__________________

(١) على قولهم بالاستقرار المكاني على العرش (ز).

١٨٨

فصل

ثم يقال لهم : خبرونا إذا كتب كاتب في ورقة (فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)) [النّازعات : ٢١ ـ ٢٤] أفتقولون : إن الكاتب قديم ، أم كتابته قديمة ، أم الورق الذي كتب فيه قديم ، أم اللعين فرعون ، وقوله قديم ، فلا يجوز لعاقل أن يقول شيئا من هذه الأشياء قديم ، بل الكاتب مخلوق ، وكتابته مخلوقة ، والورقة مخلوقة ، والقلم مخلوق ، والحبر مخلوق ، وفرعون اللعين مخلوق ، وما ادعاه من الربوبية كذب مخلوق ، وإنما الذي هو ليس بمخلوق كلام الله تعالى القديم الذي هو خبر يشمل جميع المخبرات التي أخبرنا عن فرعون اللعين وقوله الكذب. فصحّ أن كلام الله القديم ليس بالخط ولا بالورق ولا بقول فرعون اللعين ، لأن قول فرعون اللعين كذب ، وكلام الله حق وصدق ، وكذلك إذا كتب الكاتب في ورقة (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) [الأنعام : ١٥٢] أتقولون : إن اليتيم وماله قديم ، والخط الذي كتب ذلك قديم ، والكاتب له قديم. لا. بل الجميع مخلوق ، وإنما القديم كلام الله الذي هو نهيه الذي يشمل جميع المنهيات ، وهو غير اليتيم والمال والكاتب والكتابة ، وإذا كتب كاتب : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة : ٦٠](وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣] أترى [أن] الكاتب قديم أو الكتابة قديمة ، أو الأكل والآكل ، والشارب والشرب ، والمصلي والصلاة ، والمزكي. والزكاة قديمة. لا والله ؛ ليس شيء من ذلك قديما ، وإنما القديم كلام الله تعالى ، الذي هو أمره الشامل لجميع المأمورات. فصحّ بهذه الجملة الفرق بين كلام الحق وكلام الخلق ، وإن كلامه تعالى قديم غير مخلوق ، ولا يتصف بشيء من صفات الخلق ، ولا يفتقر تعالى في كون كلامه صفة له قديمة غير مخلوقة ، إلى شيء من أدوات الخلق من لسان ، وشفة ، وحلق ، وحرف ، وصوت ، بل هو متكلم ، وله كلام ، صفة له قديمة غير مخلوقة ، ولا يجوز عليها شيء من صفات الخلق. فاعلم ذلك وتحققه ولا توفيق إلا بهدي من الله وفضل ورحمة ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

* * *

فصل

يتعلق بمسائل ثلاثة وفروعها : وهي :

مسألة الخلق والإرادة ، وأنه [لا] يكون من العباد شيء إلا وهو خلق الله تعالى ومراد له ، لا يجوز أن يخلق أحد غيره ، ولا يكون في ملكه إلا ما أراده.

١٨٩

الثانية : مسألة الشفاعة ، وأنها حق وصدق ، وأعلى الشفاعة عند الله شفاعة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويشفع أيضا من أذن له في الشفاعة في العصاة ؛ من ملك ، ونبي ، ومؤمن.

الثالثة : مسألة الرؤية ، وأنها جائزة ، وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة بلا كيف ولا تشبيه ولا تحديد ، كما جاء في الكتاب والسنة ، ودلّ عليه العقل أيضا ، وإنما ختمنا الكتاب بمسألة الرؤية ، لأنها أعلى العطايا وأسنى الكرامة من الله تعالى لعباده المؤمنين ، وليس فوقها مزيد ، بل هي الزيادة المذكورة في قوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

مسألة

اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة أن الله تعالى هو الخالق وحده ، لا يجوز أن يكون خالق سواه ، فإن جميع الموجودات من أشخاص العباد وأفعالهم وحركات الحيوانات قليلها وكثيرها حسنها وقبيحها خلق له تعالى لا خالق لها غيره ؛ فهي منه خلق وللعباد كسب ، على ما قدمنا بيانه بقوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] وأمثال هذه الآية من الأدلة على الفرق بين الخلق والاختراع والكسب ، فالواحد منا إذا سمي فاعلا فإنما يسمى فاعلا بمعنى أنه مكتسب ، لا بمعنى أنه خالق لشيء. وقالت المعتزلة ، والنجارية (١) ، والجهمية ، والروافض : إن أفعال العباد مخلوقة للعباد بقدرة العباد ، وإن كل واحد منا ينشئ ما ينشئ ويخلق ما يفعل ، وليس لله تعالى على أفعالنا قدرة جملة ، ونعوذ بالله من الاعتقاد وسوء المقال.

والدليل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة وبطلان قول من خالفهم من أهل الزيغ والبدع الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل ؛ فالدليل من الكتاب أكثر مما يحصى ، لكن أذكر منه ثلاثة تنبه اللبيب على بقيتها إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك قوله تعالى (٢) : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصّافات : ٩٦] فأخبر تعالى أنه خالق لأعمالنا على العموم ، كما أخبر أنه خالق لصورنا وذواتنا على العموم ، وهذا من أوضح الأدلة من الكتاب.

__________________

(١) لعل النجارية والجهمية مقحمتان في هذا الموضع بقلم الناسخ ، بل لا يعرف هذا في المعتزلة إلا من عهد الجبائي ، كما هو مشروح في موضعه (ز).

(٢) والكلام في هذا طويل في إيثار الحق (ز).

١٩٠

الثاني : قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢] ومعلوم أن أفعالنا مخلوقة إجماعا ، وإن اختلفنا في خالقها ، وهو تعالى قد أدخل في خلقه كل شيء مخلوق ، فدلّ على أنه لا خالق لشيء مخلوق غيره سبحانه وتعالى. فإن قيل فكلامه شيء فيجب أن يكون مخلوقا. قلنا : قد احترزنا بحمد الله تعالى عن هذا السؤال بقولنا : إنه أخبر أنه خلق كل شيء مخلوق ، وكلامه وصفات ذاته تعالى قد أثبتنا أنها غير مخلوقة ولا خالقة ؛ بل هي صفة الخالق ـ تعالى ـ قديمة بقدمه موجودة بوجوده قبل جميع المخلوقات. فبطل هذا السؤال.

وجواب آخر يبطل هذا السؤال وهو : أنك تقول : إن الله تعالى مخاطب ، والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب ، ألا ترى أن الواحد منا إذا قال دخلت الدار فضربت من فيها ، أو أخرجت من فيها ، أو أعطيت من فيها لا يدل ذلك على أنه دخل تحت الخطاب ، بأن يكون ضرب نفسه ، ولا أخرج نفسه ولا أعطى نفسه ، لأنه مخاطب ، والمخاطب لا يدخل تحت الخطاب وكذلك قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢] هو مخاطب ، فلا يدخل تحت الخطاب بذاته ولا بصفاته جلّ عن ذلك وتعالى ، كما قال : (الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] قهر الكل ولم يدخل في القهر ذاته وصفاته. فافهم التحقيق لتدفع به كل بدعة وتمويه من أهل البدع إن شاء الله.

الثالث : قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)) [الرّوم : ٤٠] والدلالة من هذه الآية من أوجه :

أحدها : أنه قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [الرّوم : ٤٠] وهذا عام في ذواتنا وصفاتنا ، ثم أكد ذلك بقوله تعالى : (ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الرّوم : ٤٠] يعني ثم خلق أرزاقكم ، وعند المخالف أن العبد يخلق أفعاله ورزقه ، فهو خلاف ما أخبر الله تعالى به من كونه خالقا لنا ولأرزاقنا.

الوجه الثاني : من الدلالة : أنه قال : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨] فكما لا يقدر أحد أن يخلق موته ولا حياته ، فكذلك لا يقدر أن يخلق فعله ورزقه ؛ من حركة ولا سكون ولا غير ذلك.

الثالث : سبحانه وتعالى نزّه نفسه عن عقدهم وخبثهم إذ أضافوا فعل شيء وخلقه إلى غيره ، فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : ١٨] ثم أكد ذلك

١٩١

بعده بمواضع فقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] سبحانه وتعالى. وقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : ١٧].

وأما الدليل من السنة فكثير أيضا ، غير أني أذكر منه خبرين ننبه العاقل الفطن على الاستدلال بأمثالهما من السنة :

الأول : ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله خلق كل صنعة وصانعها» (١) وصنعة الصانع إنما هي بحركاته وأفعاله ، سواء كان في صنعة مباحة وطاعة ، ككتابة القرآن ، والحديث ، والفقه. أو محظورة ؛ من تصوير صور الحيوان ، أو عمل السلاح ليقتل به المسلمين. فصحّ بهذا الخبر أن الله جلّ وعلا خالق للفاعل منا ولفعله.

الخبر الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن عباس رضي الله عنهما : «فرغ ربك من أربع : من الخلق ، والخلق ، والرزق ، والأجل فلو جهد الخلق على أن يؤتوك ما لم يقدره الله لم يقدروا على ذلك» وروي : «لو جهد الخلق على أن ينفعوك أو يضروك لم يقدروا على ذلك» والمخلوقات منها الضار والنافع ، في العاجل والآجل ، وقد جعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ذلك إلى تقدير الله تعالى وخلقه له ، ولم يجعل إلى العباد شيئا من ذلك. فاعلمه وتحققه.

* * *

فصل

ويدل على صحة ما قلناه : إجماع المسلمين ، وأنهم يقولون : لا خالق إلا الله ، كما يقولون : لا رازق ، ولا محيي ، ولا مميت إلا الله تعالى. فنقول : فلا يكون الخلق من غيره ، وأثبتوه خالقا.

* * *

فصل

ويدل على صحة ما قلناه من جهة العقل. وأنه لا خالق إلا الله تعالى ، وهو كثير جدا ، لكن نختصر على قدر فيه الكفاية إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك : أن نقول لهم : إن قلتم إن الواحد منا يخلق أفعاله ، من طاعة ، أو معصية ، أو إيمان ، أو كفر فقد شركتم بيننا وبين الله تعالى في الخلق ، وأنه لا يتم خلقه

__________________

(١) أخرجه البخاري في خلق الأفعال (ز).

١٩٢

إلا بخلقنا. وذلك أن الجسم لا يخلو من حركة ، أو سكون ، أو كفر ، أو إيمان ، أو طاعة ، أو معصية ، فصحّ أن جميع الذوات مشتركة الخلق بين العبد وبين الرب ، وأنه لا يتم خلق أحدهما إلا بمخلوق الآخر ، وهذا شرك ظاهر ، نعوذ بالله منه.

دليل آخر من جهة العقل : وأنه لا خالق إلا الله ، لأن الخالق الصانع أقل ما يوصف به علمه بخلقه ، كما قال : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤] ونحن نجد الواحد منا يفعل ما لا يعلم فعله فيه ، ولا يحصره ولا يعده بقدرة ، حتى إن الواحد منا يريد أن يتكلم صوابا فيرمى خطأ ، إلى غير ذلك ، فيفعل ما لا يعلمه ولا يريده ، وأيضا الواحد منا إذا خرج إلى المسجد حتى وصل إليه ، فعند المخالف أن كل خطوة خطاها خلقها وأنشأها ، ولو سئل عن عدد كل خطوة خطاها لم يدر ما يقول ولا يعلمه ولا يعرفه ؛ فلم يبق إلا أن الخالق لأفعالنا وأكسابنا هو الله تعالى الذي يعلمها ، كما قال : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك : ١٤].

دليل آخر من جهة العقل : وهو : من شرط الخالق للشيء أن يكون قادرا على خلق الشيء وضده ، فإن من يقدر على خلق الحياة يقدر على خلق ضدها ، وهو الموت ، وكذلك من يقدر على خلق التفريق في الجسم يقدر على خلق الاجتماع له ، حتى يعود كما كان جسما مؤلفا ، ولما وجدنا أحدنا لا يقدر على ذلك صحّ أنه غير خالق ، ولما وجدنا الخالق تعالى يقدر على خلق الشيء وضده دلّ على أنه هو الخالق لا خالق سواه ، وقد قيل عن الشيخ الإمام أبي بكر بن فورك (١) رضي الله عنه أنه كان مع إسماعيل المعروف بالصاحب في بستان ، وكان يعتقد شيئا من ذلك ، فأخذ سفرجلة وقطعها من الشجرة ، وقال له : ألست أنا قطعت هذه السفرجلة؟ فقال له رضي الله عنه مجيبا : إن كنت تزعم أنك خلقت هذه التفرقة فيها فاخلق وصلها بالشجرة حتى تعود كما كانت. فبهت وتحير ولم يقدر على جواب.

وبلغني أيضا أن بعض القدرية وقف على إحدى رجليه وشال الأخرى ، وقال : ألست أنا رفعت هذه وحططت هذه؟ فقال له بعض أهل السنة : إن كنت تزعم أنك خلقت الشيل في هذه المشتالة فاخلق الشيل في الأخرى حتى تصير مشتالة معها ، فبان له الحق ورجع عن قوله الباطل.

__________________

(١) زميل المؤلف في عهد طلبه العلم عند الباهلي ، وإن كانا متباعدي الدار في عهد إمامتها ونشرهما العلم ، ونوّه بجواب ابن فورك هنا كما بلغه تقديرا لصاحبه كما هو شأن الإخلاص في العلم (ز).

١٩٣

دليل آخر من جهة العقل : وهو أنك تقول : حقيقة الخلق والإحداث هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، وإذا كان الواحد منا على زعمكم يقدر أن يخلق حركة معدومة حتى يخرجها من العدم إلى الوجود ، وأن يخلق شيئا زائدا فيخرجه من العدم إلى الوجود ، وأن يخلق له لونا غير لونه فيخرجه من العدم إلى الوجود ، وفي هذا القول الخبيث التسوية بين قدرة الله تعالى وقدرة العباد ، وأنهم يقدرون على ما يقدر عليه. تعالى ربنا عن ذلك علوا كبيرا.

* * *

فصل

نذكر فيها شبها يزعمون أن لهم فيها حجة ، وليس لهم حجة بحمد الله تعالى كما قال : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الشّورى : ١٦] فإن احتجوا بقوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السّجدة : ١٧] قالوا : فأثبت لنا العمل ، والعمل هو الفعل ، والفعل هو الخلق ، فالجواب : أنه تعالى أراد هاهنا بالعمل الكسب ، والعبد مكتسب على ما بيّنّا. يدل على ذلك : أنه قال في موضع آخر : (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [التّوبة : ٨٢] نحن لا نمنع أن يكون سمى كسب العبد عملا له ، إنما نمنع أن يكون العبد خالقا مخترعا لفعله مخرجا له من العدم إلى الوجود ، وقد بيّنّا أن الخلق والاختراع والخروج من العدم إلى الوجود لا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فلم يكن لهم في الآية حجة.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] وبقوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السّجدة : ٧] وبقوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) [المائدة : ١١٠] فالجواب من أوجه :

أحدها : أنه يعني بقوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] يعني أحسن المقدرين ، فعيسى عليه‌السلام يقدر الطين صورة ، والخلق يقدرون الصورة صورة ، لا أنهم يخرجون الصورة من العدم إلى الوجود ، فقال تعالى : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] أي المقدرين. فاعلم ذلك.

جواب آخر : وذلك أن الله تعالى هو الخالق لا خالق سواه ، لكن لما ذكر معه غيره قال : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] وإن كان هو الخالق على الحقيقة دون غيره ، كما يقال : عدل العمرين ، وإنما هو أبو بكر وعمر ، لكن لما جمع بينهما سماهما باسم واحد ، وكذلك قول الفرزدق :

أخذنا بأكناف السماء عليكم

لنا قمراها والنجوم الطوالع

١٩٤

والقمر واحد ، لكن لما جمعه مع الشمس سماهما قمرين. وكأنه تعالى لما علم من الكفار ومنكم أن تجعلوا معه غيره خالقا قال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] على زعمهم أن معه غيره ، وهذا كقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّوم : ٢٧] على زعمكم ، لأن عندهم أن النشأة أهون من الإعادة ، فذكر ذلك على سبيل الرد عليهم والإنكار لقولهم إن معه خالقا غيره ، لا أنه أثبت معه خالقا غيره.

جواب آخر : وذلك أن لفظة أفعل في كلام العرب : يراد بها إثبات الحكم لأحد المذكورين وسلبه الآخر من كل وجه ، وذلك في قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)) [الفرقان : ٢٤] فأثبت حسن المقيل لأهل الجنة ، مع حسن المستقر ، وسلب ذلك عن أهل النار أصلا ورأسا ، لأن أهل النار ليس لهم حسن مستقر ولا حسن مقيل ، فكذلك قوله تعالى : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] أثبت الخلق له وأنه هو المنفرد به دون غيره. وكذلك يقول القائل : العسل أحلى من الخل لا يريد أن للخل حلاوة بوجه ، بل يريد إثبات الحلاوة للعسل وسلبها عن الخل أصلا ، ورأسا ، فكذلك قوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] أثبت الخلق له دون غيره.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] فكيف يجوز أن يكون خالقا لكفر الكافرين ، وعصيان العاصين ، وفيه من التفاوت غير قليل.

فالجواب : أن هذا سوء فهم ، وذلك أن هذا أراد به سبحانه وتعالى خلق السموات في الصورة ، وأنه ليس فيها فطور ولا شقوق ، أجمع المفسرون على ذلك ، فلا حجة لكم فيها ، ثم إن أول الآية حجة عليكم ، لأنه قال : (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] وبين الموت والحياة تفاوت ، وهو خالق الجميع لا خالق لذلك غيره ، فكذلك كفر الكافرين وإيمان المؤمنين وإن كان بينهما تفاوت في الحكم فليس بينهما تفاوت في الإيجاد والاختراع وإحكام الخلق ، فصحّ أن الآية حجة عليهم لا لهم.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [القصص : ١٥] فلو كان الله الخالق لوكزة موسى لقال : هذا من عمل الرّحمن ، الجواب من وجهين :

أحدهما : أن قول موسى هذا القول على وجه الأدب ، أي : إني أرتكب ما نهيت عنه من شره النفس ووسوسة الشيطان ، ألا تراه قال في ضلال السبعين من قومه

١٩٥

لما لم يكن له في ذلك كسب : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥] فيجب على العبد عند خطئه وذنبه أن يرد اللوم والتقصير إلى نفسه وإلى وسوسة الشيطان ، ولا يرد ذلك إلى خلق الله تعالى وإرادته ، لأنه يصير كالمحتج عليه تعالى ، وليس لأحد عليه حجة : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)) [الأنعام : ١٤٩]. ومثل هذا قول أبيه آدم عليه‌السلام وحواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] فردا التقصير والنقص واللوم إلى أنفسهما ، لأن هذا موضع الأدب والتذلل ، لا موضع الاحتجاج ، ومثل هذا كثير.

الجواب الثاني : أن الإجماع منا ومنكم : أن الوكزة ليست خلق الشيطان ولا عمله ، بل هي عندنا من خلق الله تعالى واختراعه ، ولموسى عليه‌السلام كسب. وعلى عقدهم النحس أنها خلق موسى وعمله ، وليس لله فيها خلق ولا اختراع ولا عمل ، فبطل احتجاجهم بالآية ، ولم يبق إلا ما قلناه ، وهو أنه أراد بقوله : (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [المائدة : ٩٠] أي زيّن ذلك وحسّنه لي ، والله المعين.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النّساء : ٧٩] فأوضح تعالى أن السيئة منا ، والحسنة منه ، فالجواب من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه لا يصح لكم الاحتجاج معشر المعتزلة بهذه الآية بوجه من الوجوه ولا بسبب من الأسباب ؛ لأن ظاهرها فيه تعلق لمن يقول إن الخير خلق الله تعالى وفعله ، والشر خلقنا وفعلنا ، وأنتم لا تقولون بظاهر هذه الآية ، لأنكم تقولون إن أحسن الحسن وخير الخير الإيمان والمعرفة. وتقولون ليس لله في هذا قدرة ولا خلق ، وإنما هو بقدرة العبد المؤمن وخلقه ، فلا حجة لكم فيها.

الجواب الثاني : أن صريح النص في أول هذه الآية حجة عليكم ، لأنه يقال : رد عليهم ، وأمر نبيه عليه‌السلام أن يرد عليهم ، بقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النّساء : ٧٨] ثم جهلهم وإياكم ، وأكد ذلك بقوله : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النّساء : ٧٨] فصارت الآية حجة واضحة عليكم لا لكم.

الجواب الثالث : قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النّساء : ٧٩] وهذا صحيح من وجهين :

أحدهما : أن مثله في القرآن كثير. من ذلك قوله تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) [آل عمران : ١٩١] تقديرا لكلام يقولون ربنا

١٩٦

ما خلقت هذا باطلا. ومثله قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) [الأنعام : ٩٣] ومثله أيضا قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ) [آل عمران : ١٠٦] تقدير الكلام (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) [آل عمران : ١٠٦] فيقال لهم : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ) [آل عمران : ١٠٦] فكذلك هذا ، فتقدير الكلام فيه (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) [النّساء : ٧٨] فيقولون : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) [النّساء : ٧٩].

الوجه الثاني : أن هذه الآية إن لم تحمل على ما قلناه صار بعضها ينقص بعضا ويخالف بعضا ، وليس في كتاب الله تعالى مناقضة ولا اختلاف ، فصحّ ما قلناه ؛ لأنه قال في أول الآية : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النّساء : ٧٨] ثم يرجع في سياقها فيقول : لا إنما البعض مني والبعض من خلقي ، كلا والله ، بل ذكر ذلك في سياق الآية تجهيلا لقائله وردا عليه. فافهم الحق وادفع به الباطل.

فإن احتجوا فقالوا : وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا فوجب أن يكون خلقا لنا وفعلا لنا. قالوا : وبيان ذلك أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام ، وإذا أراد أن يقعد قعد. وإذا أراد أن يتحرك تحرك ، وإذا أراد أن يسكن سكن ، وغير ذلك ، فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته دلّ على أن أفعاله خلق له ، وفعل له ، فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن هذا غير صحيح أولا ، فإنا نرى من يريد شيئا ويقصده ولا يحصل ما يريد ولا ما يقصد. فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ ، وربما أراد أكلا لقوة وصحة فيضعف ويمرض ، وربما ابتاع سلعة ليربح فيخسر ، وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه ، إلى غير ذلك. فبطل ما ذكرتموه ، وصحّ أن فعله خلق لغيره ، يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى ، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة. والخلق من الخالق (١).

الجواب الثاني : أن وقوع الكسب من الخلق على حسب القصد منهم لا يدل ذلك على أنه خلق لهم واختراع ، ألا ترى أن مشي الفرس والدابة يحصل على قصد الراكب وإرادته من عدو ، وتقريب ، واستطراف ، ووقوف ، إلى غير ذلك. ولا يقول

__________________

(١) وأما إرادة العبادة للفعل فهي مدار تكليفه ، وهي بيده. جعلها الله هكذا تحقيقا لمسئولية العبد عن أفعاله. وهي متقدمة تقدما ذاتيا على الخلق. كما جرت عادة الله على ذلك. فيكون اختيار العبد بعيدا عن سمة الجبر (ز).

١٩٧

عاقل إن الراكب خلق جري الفرس ولا سرعتها ، ولا غير ذلك من أفعالها ، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل يدل على أنه خلقه ، وكذلك أيضا السفن يحصل سيرها وتوجهها في السير من يمين إلى شمال على حسب قصد الملاح ، ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها فإن كابروا الحقائق وقالوا نقول إن ذلك خلقه الملاح والفارس فقد خرجوا عن الدين وسووا بين الخالق والعباد ، وأن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات ، وهذا كفر صراح ، وإن قالوا : حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح وليس بخلق له. قلنا : فكذلك أفعال أحدنا قد تقع ، ولا نقول إنها تقع في كل حال على حسب قصده ، ولا يدل ذلك على أنه خلقها فاخترعها. يؤكد ذلك أن البياض يحصل في الناطف عند قصد الناطفي له ، ولا يقول أحد إن واحدا منا يقدر أن يخلق لونا لغيره ولا لنفسه ، فلا يمتنع أن يكون الفعل قد يحصل على حسب قصد أحدنا ، وليس هو خلقا له ولا موجودا له ، من العدم إلى الوجود. فاعلم ذلك.

يؤكد هذا أيضا أن نمو الزرع يحصل على حسب قصد الزارع وقيامه عليه بسقيه وغير ذلك ، ولا يقول أحد إن نمو الزرع خلقه الزارع ، ولا أنه خلق في الحبة أضعاف عددها [وكذلك] ما حصل فيه النمو من الفسيل والتين. وغير ذلك.

وكذلك سمن الدابة يحصل على قصد العالف لها والساقي ، ولا يقول أحد إن العالف والساقي هو الذي خلق الشحم والسمن في الدابة. وكذلك دود القز يحصل منه القز على حسب قصد القائم عليه والمربي له ، ولا يقال إن القز خلقه في الدود إلا الله تعالى ، وإن كان حاصلا على حسب إرادة القائم عليه وقصده ، وكذلك فيما يحصل من الواحد منا إذا أراد الله تعالى حصوله على حسب قصده ، لا يدل على أنه هو خلقه بل الخالق له هو الله تعالى.

فإن قيل : فإذا لم يكن أحدنا خالقا لفعله ، فكيف يكون ملوما عليه ومعذبا به ويستحق عليه المدح والثواب أو الذم والعقاب؟ فالجواب :

إننا لا نقول إن المدح والثواب ، ولا الذم والعقاب يحصل بفعل الفاعل منا ؛ حتى يوجب ذلك كونه خلقا له واختراعا ، بل نقول : إن ذلك يحصل بحكم الله تعالى ، ويجب ويستحق بحكمه لا [بأن] يوجب الواجب عليه خلق [فعل] أوجبه عليه. ألا ترى بالإجماع منا ومنكم ومن جميع المسلمين : أن الدية تجب على العاقلة. بقتل غيرها خطأ. وإن لم تفعل العاقلة شيئا يستحق به إيجاب ذلك عليها ، وإن ذلك الذي

١٩٨

فعلته خلق لها ، بل هو خلق لغيرها ، وهو الله تعالى عند المسلمين ، وخلق للقاتل على زعمكم ، أفصح أن الوجوب حصل بإيجاب الله وحكمه ، لا بخلق العاقلة وفعلها ، وكذلك جميع الأحكام في الدنيا والآخرة ، إنما تجب وتستحق بإيجاب الله تعالى وإرادته ، لا بكونها خلقا للفاعل ، فاعلم ذلك وتحققه.

وكذلك أيضا الأكل في الصيام ناسيا ، فعل العبد ، كما هو فعل له عند تعمده ، لكن الله تعالى حكم بأن أحدهما مبطل ومفطر ، ويذم ويعاقب عليه ، والآخر بالضد من ذلك ، وإن كان الجميع فعلا للعبد ، فصحّ أن ذلك إنما يكون بحكم الله تعالى ، لا بكون خلقا للفاعل ، فصحّ ما قلناه ، وبطل ما توهموه.

فإن قيل : من فعل الطاعة كان طائعا ، ومن فعل المعصية كان عاصيا ، فالجواب : أن هذا غير صحيح ، لأن كون الباري تعالى خالقا وفاعلا لا يوجب أن يتصف بالطاعة والمعصية ، لأن الطاعة صفة الطائع ، والمعصية صفة العاصي ، ولا يوجب ذلك وصف خالق الطاعة والمعصية بكونه طائعا عاصيا ، ألا ترى أن الأسود صفة لمن قام به السواد ، ولا يكون صفة لله تعالى ، وإن كان تعالى هو خالق السواد ، فكذلك التحرك صفة لمن له الحركة ، لا صفة من خلق الحركة والولد لمن له الولد ؛ لا لمن خلق الولد ، والحلاوة صفة العسل ، لا لمن خلق الحلاوة فيه. وكذلك الحموضة في الخل صفة للخل ، لا لمن خلق الحموضة فيه ، وكذلك الموت إذا خلقه الله في أحدنا صار ميتا ، واتصف بذلك ، ولا يوجب أن يتصف الخالق للموت بأنه ميت ، لما خلق الموت وفعله بالحي. فكذلك المعصية صفة من حلّت به المعصية ، والطاعة صفة لمن حلّت به الطاعة ، ولا يوجب ذلك وصف خالقها بأنه طائع ولا عاص.

فإن قيل : لا يجوز أن يكون الله خالق الظلم والجور والكذب ، لأن من فعل الظلم كان ظالما ، ومن فعل الجور كان جائرا. ومن فعل الكذب كان كاذبا والله تعالى يتنزه عن جميع ذلك ، فصحّ أن هذه الأشياء ليست بفعل له ، ولا خلق له.

فالجواب : أن هذا السؤال هو الأول بعينه ، والجواب عنه قد تقدم ، لكن نزيد هاهنا جوابا آخر : وذلك أنا نقول : ليس الأمر على ما يقع لكم ، بل نقول إن الله تعالى خلق الظلم ظلما للظالم به ، وخلق الجور جورا للجائر به ، وخلق الكذب كذبا للكاذب به ، كما أنه خلق الظلمة ظلمة للمظلم بها ، وخلق الضوء ضوء للمستضيء به ، وخلق الحمرة حمرة للأحمر بها ، وخلق السواد سوادا للأسود به ، وخلق السم

١٩٩

سما للمسموم به. فكما أن الله تعالى خلق الظلمة لليل والضياء للنهار ، والحمرة للأحمر ، والسواد للأسود ، والسم للحية ، ولا يوجب ذلك كونه ظلمة ولا ضياء ولا سوادا ولا حمرة ولا سما [له] فكذلك خلق الطاعة طاعة للطائع بها ، والكذب كذبا للكاذب به ، والجور جورا للجائر به ولا يوجب ذلك كونه جائرا ولا ظالما ولا كاذبا ، فصحّ ما قلناه وبطل ما قالوه.

جواب آخر : وذلك أن الظلم والكذب والجور ليس من حيث الصورة والفعل ، وإنما يكون كذبا إذا خالف الأمر ، وكذلك الجور والظلم ، وهذا كله يصح الوصف به لمن فوقه آمر أمره ، وناه نهاه ، وهم الخلق. وأما الخالق فليس فوقه آمر ولا ناه ، فلا يصح وصفه بشيء من هذا ، فاعلم ذلك وتحققه ، فإنه أصل قوي تدفع به جميع ظنونهم الفاسدة.

فإن قيل : لا يجوز أن يقال للجور والكذب هذا خلق الله ، بل يعرض عن ذلك ، ولا يقال. فصحّ أنه خلق لغيره.

فالجواب : أن هذا السؤال غير صحيح ، لأنك [إن] أردت الإطلاق في العموم ، فجائز بأن تقول : يا خالق المخلوقات ، ويا خالق الموجودات. ويا خالق كل شيء ، ويا خالق الضر والنفع. وإن أردت ذلك على الخصوص ، بأن تقول : يا خالق الكذب والجور ؛ فلا يجوز من طريق الأدب والإذن في ذلك ، كما أنا نقول يا خالق المخلوقات ، فيعم بذلك السموات ، والأرض ، والشمس ، والقمر ، والقردة ، والخنازير ، والكلاب ، والجعلان ، وغير ذلك من سائر المخلوقات ، فلا يجوز أن تقول على الانفراد يا خالق الأقدار والأنجاس ونحو ذلك من طريق الأدب ، وأنه لم يؤذن لنا في ذلك ، بل ندعوه بأسمائه الحسنى كما أمر ، فقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) [الأعراف : ١٨٠].

مسألة

اعلم أنه لا يجري في العالم إلا ما يريده الله تعالى ، وأنه لا يؤمن مؤمن ولا يكفر كافر إلا بإرادة الله تعالى ، ولا يخرج مراد عن مراده ، كما لا يخرج مقدور عن قدرته. وقالت المعتزلة ومن وافقهم من أهل البدع : إن الله تعالى لا يريد إلا الطاعة والإيمان ، فأما من كفر وعصى فقد أتى بما ليس بمراد لله تعالى ، وقالوا : إن كل واحد يفعل من الأفعال ما لا يريده الله تعالى ، حتى انتهى بهم القول إلى : أن البهائم تفعل أفعالا لم يردها تعالى ، وأنه لو أراد فعل غيرها منهم لم يحصل ذلك له وامتنع

٢٠٠