العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

المرتبة الثانية: التأويل، وهو مقام خطر(١).

__________________

(١) يقول في شرح المشكاة: قال النووي في شرح مسلم: في هذا الحديث (حديث النزول) وشبهه من أحاديث الصفات وآياتها مذهبان مشهوران: فمذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين الإيمان بحقيقتها على ما يليق به تعالى وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد ولا نتكلم في تأويلها مع اعتقادنا تنزيه اللّه سبحانه عن سائر سمات الحدوث، والثاني مذهب أكثر المتكلمين وجماعة من السلف وهو محكي عن مالك والأوزاعي إنما يتأول على ما يليق بها بحسب بواطنها فعليه الخبر مؤول بتأويلين أي المذكورين. وبكلامه وبكلام الشيخ الرباني أبي إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم من أئمتنا وغيرهم يعلم أن المذهبين متفقان على صرف تلك الظواهر كالمجيء والصورة والشخص والرجل والقدم واليد والوجه والغضب والرحمة والاستواء على العرش والكون في السماء وغير ذلك عما يفهمه ظاهرها لما يلزم عليه من محالات قطعية البطلان تستلزم أشياء يحكم بكفرها بالإجماع، فاضطر جميع الخلف والسلف إلى صرف اللفظ‍‌ عن ظاهره، وإنما اختلفوا هل نصرفه عن ظاهره معتقدين اتصافه سبحانه بما يليق بجلاله وعظمته من غير أن نؤوله بشيء آخر وهو مذهب أكثر أهل الخلف وهو تأويل تفصيل ولم يريدوا بذلك مخالفة السلف الصالح معاذ اللّه أن يظن بهم ذلك وإنما دعت الضرورة في أزمنتهم لذلك لكثرة المجسمة والجهمية وغيرهما من فرق الضلال واستيلائهم على عقول العامة، فقصدوا بذلك ردعهم وبطلان قولهم ومن ثمة اعتذر كثير منهم وقالوا: لو كنا على ما كان عليه السلف الصالح من صفاء العقائد وعدم المبطلين في زمنهم لم نخض في تأويل شيء من ذلك وقد علمت أن مالكا والأوزاعي وهما من كبار السلف أوّلا الحديث تأويلا تفصيليا وكذلك سفيان الثوري أوّل الاستواء على العرش بقصد أمره ونظيره: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: ٢٩] أي قصد إليها ومنهم الإمام جعفر الصادق، بل قال جمع منهم ومن الخلف: أن معتقد الجهة كافر كما صرّح به العراقي وقال إنه قول لأبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني، وقد اتفق سائر الفرق على تأويل نحو (وَهُوَ مَعَكُمْ‌ أَيْنَ‌ مٰا كُنْتُمْ‌) [الحديد: ٤] (مٰا يَكُونُ‌ مِنْ‌ نَجْوىٰ‌ ثَلاٰثَةٍ‌ إِلاّٰ هُوَ رٰابِعُهُمْ‌) [المجادلة: ٧] الآية (فَأَيْنَمٰا تُوَلُّوا فَثَمَّ‌ وَجْهُ‌ اللّٰهِ‌) [البقرة: ١١٥] وَنَحْنُ‌ أَقْرَبُ‌ إِلَيْهِ‌ مِنْ‌ حَبْلِ‌ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] و «قلب المؤمن بين إصبعين من أصبع الرّحمن» و «الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض» وهذا الاتفاق يبين لك صحة ما اختاره المحققون أن الوقف على (الرّٰاسِخُونَ‌ فِي الْعِلْمِ‌) لا الجلالة. قلت: الجمهور على أن الوقف على (إلا اللّه) وعدوا وقفه وقفا لازما وهو الظاهر لأن المراد بالتأويل معناه الذي أراده تعالى وهو في الحقيقة لا يعلمه إلا اللّه جلّ‌ جلاله ولا إله غيره، وكل من تكلم فيه تكلم بحسب ما ظهر له ولم يقدر أحد أن يقول إن هذا التأويل هو مراد اللّه جزما ففي التحقيق الخلاف لفظي ولهذا اختار كثيرون من محققي المتأخرين عدم تعيين التأويل في شيء معين من الأشياء التي تليق باللفظ‍‌ ويكلون تعيين المراد بها إلى علمه تعالى، وهذا توسط‍‌ بين المذهبين وتلذذ بين المشربين واختار ابن دقيق العيد توسطا آخر فقال: إن كان التأويل من المجاز البيّن الشائع سلوكه من غير توقف أو من المجاز البعيد الشاذ فالحق تركه وإن استوى الأمران فالاختلاف في جوازه وعدمه مسألة فقهية اجتهادية والأمر فيها ليس بالخطر بالنسبة للفريقين. قلت: التوقف فيها لعدم ترجيح أحد الجانبين مع أن التوقف مؤيّد بقول السلف ومنهم الإمام الأعظم اه‍‌.

٢٦١

والمرتبة الثالثة: القول فيها بمقتضى الحس، وقد عمّ‌ جهلة الناقلين إذ ليس لهم حظ‍‌ من علوم المعقولات التي يعرف بها ما يجوز على اللّه تعالى وما يستحيل، فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه، فإذا عدموها تصرفوا في النقل بمقتضى الحس، وإليه أشار القاضي (أبو يعلى) بقوله: لا يمتنع أن يحمل التي وطئها الحق تعالى على أصولنا وأنه معنى يتعلق بالذات. وأصولهم على زعمه ترجع إلى الحس.

ولو فهموا أن اللّه تعالى لا يوصف بحركة ولا انتقال ولا تغير ما بنوا على الحسيات، والعجب أنه يقر بهذا القول ثم يقول: «من غير نقلة ولا حركة» فينقض ما بنى.

ومن أعجب ما رأيت لهم ما ذكروا عن ابن أبي شيبة أنه قال في كتاب العرش: إن اللّه تعالى قد أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش.

__________________

ـ ويقول في شرح المشكاة أيضا: والحاصل أن السلف والخلف مؤولون لإجماعهم على صرف اللفظ‍‌ عن ظاهره ولكن تأويل السلف إجمالي لتفويضهم إلى اللّه تعالى وتأويل الخلف تفصيلي لاضطرارهم إليه لكثرة المبتدعين ه‍‌.

وفي (إشارة النبيه في كشف شبه أهل التشبيه إملاء الشيخ نجم الدين أبي الفتح نصر اللّه بن العز بن سعد اللّه بن نجم الكاتب البغدادي): وقد تأول العلماء والأدباء والشعراء قديما وحديثا ولذلك قول بعضهم:

أقول بالخد خال حين أذكره

خوف الرقيب وما بالخد من خال

أبكي إلى الشرق إن كانت منازلهم

يجانب الغرب خوف القيل والقال

ومن قال: (لا أقول بالتأويل ولا أشبه) فقد تأوّل لأنه إذا عدل عن معنى النزول عنده ومعنى اليمين في حديث «الحجر الأسود يمين اللّه في الأرض» إلى غير ذلك فقد تأول فلا محيص لكم عن التأويل بحال اه‍‌.

ويقول العلامة الآلوسي في تفسيره عند الكلام على الوجه: والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي، على أن بعض الآيات مما أجمع على تأويلها السلف والخلف واللّه تعالى أعلم بمراده ه‍‌. وقال أيضا: وأنا أميل إلى التأويل وعدم القول بالظواهر مع نفي اللوازم في بعض ما ينسب إلى اللّه مثل قوله تعالى: (سَنَفْرُغُ‌ لَكُمْ‌ أَيُّهَ‌ الثَّقَلاٰنِ‌) (٣١) [الرّحمن: ٣١]، وقوله صلى اللّه عليه وسلم: «الحجر الأسود يمين اللّه في أرضه فمن قبّله أو صافحه فكأنما صافح اللّه تعالى وقبّل يمينه» فأجعل الكلام فيه خارجا مخرج التشبيه لظهور القرينة، ولا أقول: الحجر الأسود من صفاته كما قال السلف في اليمين اه‍‌.

وقد عقد ابن المعلم في كتابه (نجم المهتدي ورجم المعتدي) بابا سرد فيه جماهير المؤولين (فيما يظهر فيه وجه الكلام) من الصحابة والتابعين وغيرهم (ز).

٢٦٢

قلت: ونحن نحمد اللّه إذ لم يبخس حظنا من المنقولات ولا من المعقولات، ونبرأ من أقوام شانوا مذهبنا، فعابنا الناس بكلامهم.

* * *

الحديث الثاني والثلاثون: روى أبو أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ما تقرّب العباد إلى اللّه تعالى بمثل ما خرج منه»(١). وهو القرآن وفي حديث عفان أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «فضيلة القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه تعالى على خلقه إن القرآن منه خرج وإليه يعود» والمعنى وصل إلينا من عنده وإليه يعود فيرفع.

* * *

الحديث الثالث والثلاثون: روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف سنة فلما سمعت الملائكة قالوا: طوبى لأمة ينزل عليهم، وطوبى لأجواف تحمل هذا، وطوبى لألسن تتكلم به».

هذا حديث موضوع يرويه إبراهيم بن المهاجر عن عمر بن حفص وأما عمر بن حفص فقال الإمام أحمد بن حنبل: حرقت أحاديثه، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال أبو حاتم بن حبان الحافظ‍‌: هذا متن موضوع.

* * *

الحديث الرابع والثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرّحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك»(٢). وفي لفظ‍‌ أخرجه البخاري أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن الرحم شجنة من الرّحمن».

__________________

(١) الذي في الجامع الكبير للسيوطي: «ما تقرّب العباد إلى اللّه بشيء أحب إليه مما خرج منه» ابن السني عن زيد بن أرطأ عن أبي أمامة.

(٢) في شرح صحيح مسلم للإمام النووي: قال القاضي عياض: الرحم التي توصل وتقطع وتبر إنما هي معنى من المعاني ليست بجسم وإنما هي قرابة ونسب تجمعه رحم والدة ويتصل بعضه ببعض فسمّى ذلك الاتصال رحما، والمعنى لا يتأتى منه القيام ولا الكلام، فيكون ذكر قيامها هنا وتعلقها ضرب مثل وحسن استعارة على عادة العرب في استعمال ذلك، والمراد تعظيم شأنها وفضيلة واصليها وعظيم إثم قاطعيها بعقوقهم (ز).

٢٦٣

قال أبو عبيد: الشجنة كالغصن من الشجرة، ومعنى شجنة أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق ولا شجر تشجن إذا التف بعضها ببعض.

قلت: لا يخلو هذا الحديث من أحد أمرين: إما أن يراد أن اللّه تعالى يراعي الرحم فيصل من يصلها ويقطع من قطعها ويأخذ لها حقها كما يراعي القريب قرابته كأنه يزيد في المراعاة على الأجانب أو أن يراد أن الرحم حروف الرّحمن فكأنه عظم قدرها بهذا الاسم ويؤكد هذا حديث عبد الرّحمن بن عوف عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «قال اللّه تعالى أنا الرّحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» وقد ورد هذا الحديث بلفظ‍‌ لم يخرج في الصحاح «الرحم شجنة من الرّحمن تعلق بحقوي الرّحمن تقول اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني» وفي لفظ‍‌ «الرحم شجنة آخذة بحقو الرّحمن» وفي لفظ‍‌ «لما خلق اللّه تعالى الخلق قامت الرحم فأخذت بحقو الرّحمن فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة». وهذه كلها أمثال ترجع إلى ما بيّنّا، ومعنى تعلقها بحقو الرّحمن الاستجارة والاعتصام(١).

قال أبو بكر البيهقي: الحقو الإزار، والمعنى تتعلق بعزه.

قال ابن حامد: يجب التصديق بأن للّه حقوا فتأخذ الرحم بحقوه، قال: وكذلك نؤمن بأن للّه تعالى جنبا لقوله تعالى: (عَلىٰ‌ مٰا فَرَّطْتُ‌ فِي جَنْبِ‌ اللّٰهِ‌) [الزّمر: ٥٦].

وهذا لا فهم له أصلا، كيف يقع التفريط‍‌ في جنب الذات، نعوذ باللّه من سوء الفهم.

* * *

الحديث الخامس والثلاثون: روى البخاري في صحيحه(٢) أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يقول اللّه عزّ وجل الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما عذبته».

قال أبو سليمان الخطابي: وفي الكلام أن الكبرياء والعظمة صفتان للّه تعالى اختص فيهما، لا يشركه فيهما أحد ولا ينبغي لمخلوق أن يتعاطاهما، لأن صفة

__________________

(١) قال في النهاية: والحقو فيه مجاز وتمثيل ومنه قولهم: عزت بحقو فلان إذا استجرت به واعتصمت اه‍‌ وفي أساس البلاغة: لاذ بحقويه إذا فزع إليه.

(٢) يقول العجلوني في كشف الخفا ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس:

رواه مسلم وابن حبان وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة والحاكم (بألفاظ‍‌ متقاربة)، وممن أخرجه بلفظ‍‌ الترجمة القضاعي عن أبي هريرة والحكيم الترمذي عن أنس ه‍‌. ولم يذكر البخاري فليحرر.

٢٦٤

المخلوق التواضع والتذلل، وضرب الإزار والرداء مثلا، يقول واللّه تعالى أعلم: كما لا يشرك الإنسان في ردائه وإزاره أحد كذلك لا يشركه في الكبرياء والعظمة مخلوق.

* * *

الحديث السادس والثلاثون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ‌ شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».

فذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن للّه تعالى نفسا هي صفة زائدة عن الذات.

وهذا قول مبتدع ينوع به التشبيه، لا يفرق بين الذات والنفس وما المانع أن يكون المعنى: ذكرته أنا، وقد سبق هذا في الكلام على الآيات. والتقريب والهرولة توسع في الكلام(١). كقوله تعالى: (وَالَّذِينَ‌ سَعَوْا فِي آيٰاتِنٰا) [الحجّ‌: ٥١] لا يراد به المشي.

* * *

الحديث السابع والثلاثون: روى أبو سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه تعالى جميل يحب الجمال»(٢).

قال العلماء: الجميل: المجمل بتحسين الصور والأخلاق والإحسان والذي أراه أن الجميل الذي أوصافه تامة مستحسنة. وقد فسّر القاضي (أبو يعلى) بما لا يليق بالحق سبحانه وتعالى فقال: غير ممتنع وصفه بالجمال، فإن ذلك راجع إلى الذات، لأن الجمال في معنى الحسن قال: وقد تقدم قوله صلى اللّه عليه وسلم: «رأيت ربي في أحسن صورة».

* * *

__________________

(١) في تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة عند الكلام على التقرب والهرولة: ونحن نقول: إن هذا تمثيل وتشبيه وإنما أراد: من أتاني مسرعا بالطاعة أتيته بالثواب أسرع من إتيانه.

(٢) أثبت العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس هذا الحديث وقال رواه أحمد عن أبي ريحانة، ومسلم والترمذي عن ابن مسعود، وأبو يعلى والبيهقي عن أبي سعيد، والطبراني عن أبي أمامة وابن عمر وجابر، وابن عدي في الكامل عن ابن عمر.

٢٦٥

الحديث الثامن والثلاثون: روى القاضي (أبو يعلى) عن عمر بن عبد العزيز قال: إذا فرغ اللّه تعالى من أهل الجنة والنار أقبل يمشي في ظلل من الغمام والملائكة، فيقف على أول درجة فيسلم عليهم فيردون عليه السلام فيقول: سلوني، فيقولون: ماذا نسأل، وعزتك وجلالك وارتفاعك في علو مكانك لو أنك قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم وسقيناهم ولم ينقص ما عندنا، فيقول تعالى بلى سلوني فيقولون: نسألك رضاك، قال تعالى: رضائي أحلكم دار كرامتي، فيفعل هذا بأهل كل درجة حتى ينتهي إلى مجلسه.

هذا حديث مكذوب به على عمر. وبعد فكيف يثبت للّه تعالى صفة بقول عمر!. قال القاضي (أبو يعلى): يشهد لحديث عمر قوله تعالى: (يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌) [البقرة: ٢١٠] ولم يدر أن المعنى يأتيهم اللّه بظلل من الغمام.

الحديث التاسع والثلاثون: روى عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن المقام المحمود، قال صلى اللّه عليه وسلم: «وعدني ربي عزّ وجل بالقعود على العرش».

هذا حديث لا يصح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

قال ابن حامد: يجب الإيمان بما ورد به من المماسة والقرب من الحق تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم في إقعاده على العرش، قال: وقال ابن عمر: (وَإِنَّ‌ لَهُ‌ عِنْدَنٰا لَزُلْفىٰ) [ص: ٢٥] قال: ذكر الدنو منه حتى يمس بعضه. وهذا كذب على ابن عمر، ومن ذكر تبعيض الذات كفر بالإجماع.

* * *

الحديث الأربعون: روى الدارقطني من حديث أبي إسحاق عن عبد اللّه بن خليفة عن عمر رضي اللّه تعالى عنه أن امرأة جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: ادع اللّه تعالى أن يدخلني الجنة فعظم الرب عزّ وجل فقال صلى اللّه عليه وسلم: «إن كرسيه وسع السماوات والأرض وأن له أطيطا كأطيط‍‌ الرحل الجديد إذا ركب من ثقله».

هذا حديث مختلف جدا وقد رواه أبو إسحاق عن ابن خليفة عن ابن عمر قال: إذا جلس تبارك وتعالى على الكرسي سمع له أطيط‍‌ كأطيط‍‌ الرحل، رواه ابن جرير أن عبد اللّه بن خليفة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «إن كرسيه وسع السماوات والأرض وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع ثم قال بأصبعه فجمعها وإن له لأطيطا كأطيط‍‌ الرحل إذا ركب من ثقله» هذا على ضد اللفظ‍‌ الأول وكل ذلك من تخليط‍‌

٢٦٦

الرواة وسوء الحفظ‍‌ والأليق فما يفضل منه مقدار أربع أصابع والمعنى أنه قد ملأه بهيبته وعظمته، ويكون هذا ضرب مثل لقدر عظمة الخالق جلّ‌ جلاله وقول الرواة: «إذا قعد» و «إذا جلس» من تغييرهم ومن تعبيرهم بما يظنونه كما قال القائل «ثم استوى على العرش» قعد، وإنما قلنا هذا لأن الخالق تعالى لا يجوز أن يوصف بالجلوس فيفضل ذلك الشيء لأن هذه صفة الأجسام.

* * *

الحديث الحادي والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي سعيد عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «يقول اللّه عزّ وجل يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادي بصوت إن اللّه تعالى يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار». انفرد بلفظ‍‌ الصوت حفص بن غياث وخالفه وكيع وجرير وغيرهما فلم يذكروا الصوت وسئل الإمام أحمد عن حفص قال: كان يخلط‍‌ في حديثه.

وفي الحديث الصحيح: «إذا تكلم اللّه بالوحي سمع أهل السماء كجر السلسلة على الصفا». وفي حديث ابن مسعود: «إذا تكلم اللّه بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا» وليس في الصحيح «سمع صوته أهل السماء».

* * *

الحديث الثاني والأربعون: روى جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه لما كلم اللّه موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه به يوم ناداه، فقال له: يا موسى إني كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسنة كلها وأنا أقوى من ذلك، فلما رجع إلى بني إسرائيل قالوا: صف لنا كلام الرّحمن، قال: لا أستطيع، قالوا: قرّب لنا، قال: ألم تروا صوت الصواعق التي تقبل بأحلى كلام سمعتموه.

هذا حديث لا يصح، يرويه علي بن عاصم عن الفضل بن عيسى قال النسائي: علي بن عاصم متروك الحديث، وقال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب.

* * *

الحديث الثالث والأربعون: روى القاضي (أبو يعلى) عن حسان بن عطية أنه قال: الساجد يسجد على قدم الرّحمن. هذا قول تابعي وهو مثل للقرب من فضل اللّه تعالى. وأثبت القاضي (أبو يعلى) بهذا وصف قدم وأنه يسجد على قدمه حقيقة لا على وجه المماسة.

* * *

٢٦٧

الحديث الرابع والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وليس بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجه في جنة عدن».

الرائي في جنة عدن لا المرئي لأنه لا تحيط‍‌ به الأمكنة.

وقال القاضي (أبو يعلى): ظاهر الحديث أن المرئي في جنة عدن. وهذا التجسيم المحض. ورداء الكبرياء ما له من الكبرياء والعظمة، وكأنه إن منعهم فلعظمته وإن شاء كشف لهم؛ وقد تكلمنا على الوجه في الآيات وقلنا المراد هو.

* * *

الحديث الخامس والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «لما قضى اللّه تعالى الخلق كتب في كتابه فهو عنده(١) فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي» وفي لفظ‍‌ «سبقت».

قال القاضي (أبو يعلى) ظاهر قوله «عنده» القرب من الذات.

واعلم أن القرب من الحق تعالى لا يكون بمسافة، إنما ذلك من صفة الأجسام، وقد قال تعالى: (مُسَوَّمَةً‌ عِنْدَ رَبِّكَ‌) [هود: ٨٣].

* * *

الحديث السادس والأربعون: روى عن بعض التابعين أنه قال: خلق اللّه آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس الفردوس بيده.

هذا لا يثبت عن قائله، وقد تكلمنا على قوله تعالى: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ‌) [ص: ٧٥].

* * *

الحديث السابع والأربعون: روى ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في قوله تعالى: (وَسِعَ‌ كُرْسِيُّهُ‌ السَّمٰاوٰاتِ‌ وَالْأَرْضَ‌) [البقرة: ٢٥٥] أنه قال: كرسيه موضع قدمه، والعرش لا يقدر قدره.

رواه جماعة من الأثبات فوقفوه على ابن عباس، ورفعه منهم شجاع بن مخلد(٢). فعلم بمخالفته الكبار المتقنين أنه قد غلط‍‌. ومعنى الحديث أن الكرسي

__________________

(١) يقول العلامة العيني في شرح صحيح البخاري: والعندية ليست مكانية بل هو إشارة إلى كمال كونه مكنونا عن الخلق مرفوعا عن حيز إدراكهم (ز).

(٢) يقول الحافظ‍‌ ابن حجر في (تقريب التهذيب): شجاع بن مخلد الفلاس أبو الفضل البغوي نزيل بغداد صدوق وهم في حديث واحد رفعه وهو موقوف فذكره بسببه العقيلي في الضعفاء (ز).

٢٦٨

صغير بالإضافة إلى العرش كمقدار كرسي يكون عند سرير قد وضع لقدمي القاعد على السرير، قال الضحاك: الكرسي الذي تجعل عليه الملوك أقدامهم، وقال القاضي (أبو يعلى): القدم قدم الذات وهي التي يضعها في النار.

الحديث الثامن والأربعون: حديث العباس عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض، واللّه تعالى فوق ذلك».

هذا الحديث لا يصح، تفرّد به يحيى بن العلاء، قال الإمام أحمد: هو كذاب يضع الحديث.

وقد تكلمنا في الفوق في قوله تعالى: (وَهُوَ الْقٰاهِرُ فَوْقَ‌ عِبٰادِهِ‌) [الأنعام: ١٨].

قال القاضي (أبو يعلى): المراد من الفوقية استواء الذات على العرش. وهذا الكلام أصله التجسيم.

* * *

الحديث التاسع والأربعون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يقبل اللّه إلا الطيب فإن اللّه يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل».

وفي لفظ‍‌ أخرجه مسلم «فتربو في كف الرّحمن حتى تكون أعظم من الجبل».

قال العلماء: هذا خطاب للناس بما يعلمونه ويفهمونه من الأخذ والتربية والنمو ، ولما كان التناول باليد والقبض بالكف خاطبهم بما يعقلون، وإنما جرى ذكر اليمين لأنها مرصدة لما عزّ من الأمور؛ ومعنى التربية المضاعفة.

* * *

الحديث الخمسون: روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه ذكر الدجال فقال: «ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور»(١).

__________________

(١) لفظ‍‌ الحديث في صحيح البخاري «أن اللّه ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينه وأن المسيح الدجال أعور عين اليمنى» وقد قال الحافظ‍‌ ابن حجر: إن الإشارة إلى عينه صلى اللّه عليه وسلم إنما هي بالنسبة إلى عين الدجال فإنها كانت صحيحة مثل هذه ثم طرأ عليها العور لزيادة كذبه في دعوى الإلهية

٢٦٩

قال العلماء: إنما أراد تحقيق وصفه بأنه لا يجوز عليه النقص، ولم يرد إثبات جارحة، لأنه لا مدح في إثبات جارحة، بل كأنه قال: إلا ربكم ليس بذي جوارح يتسلط‍‌ عليها النقائص، وهذا مثل نفي الولد عنه لأنه يستحيل عليه التجزي. ولو كانت الإشارة إلى صورة كاملة لم يكن في ذلك دليل على الإلهية ولا القدم، فإن الكامل في الصورة كثير.

* * *

الحديث الحادي والخمسون: روى البخاري في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم: «إن اللّه تعالى قال: ما يزال عبدي يتقرب إليّ‌ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأكره مساءته».

قوله: «كنت سمعه وبصره» مثل، وله أربعة أوجه:

أحدها: كنت كسمعه وبصره فهو يحب طاعتي كما يحب هذه الجوارح.

الثاني: أن كليته مشغولة بي فلا يصغي إلى ما يرضيني ولا يبصر إلا عن أمري.

الثالث: أني أحصل له مقاصده كما ينالها بسمعه وبصره ويده اللواتي تعينه، وأما التردد فخطاب لنا بما نعقل.

* * *

الحديث الثاني والخمسون: روى جبير بن مطعم قال: أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول اللّه جهدت الأنفس وجاع العيال وتهتكت الأموال وهلكت

__________________

ـ وهو أنه كان صحيح العين مثل هذه فطرأ عليها النقص ولم يستطع دفع ذلك عن نفسه ه‍‌. وقال الفخر الرازي في (أساس التقديس) عند الكلام على هذا الحديث: وأما هذا الخبر فمشكل لأن ظاهره يقتضي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أظهر الفرق بين الإله تعالى وبين الدجال بكون الدجال أعور وكون اللّه تعالى ليس بأعور وذلك بعيد، وخبر الواحد إذا بلغ هذه الدرجة في ضعف المعنى وجب أن يعتقد أن الكلام كان مسبوقا بمقدمة لو ذكرت لزال هذا الإشكال، أليس راوي هذا الحديث هو ابن عمر ثم إن المشهور أن ابن عمر لما روى حديث «إن الميت ليعذّب ببكاء أهله» طعنت عائشة رضي اللّه عنها فيه وذكرت أن هذا الكلام من الرسول كان مسبوقا بكلام آخر واحتجّت على ذلك بقوله تعالى: (وَلاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ‌ وِزْرَ أُخْرىٰ) [الأنعام: ١٦٤] لو حكى لزال هذا الإشكال فكذا هاهنا أنه من البعيد صدور مثل هذا الكلام من الرسول اه‍‌.

٢٧٠

الأنعام، فاستسق اللّه لنا فأستشفع باللّه عليك. فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «ويحك تدري ما تقول» وسبّح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما زال يسبّح حتى عرف ذلك في وجهه أصحابه ثم قال صلى اللّه عليه وسلم: «إنه لا يستشفع باللّه على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك ويحك أتدري ما اللّه، إن عرشه على سماواته هكذا ـ وقال بأصابعه مثل القبة ـ وأنه ليئط‍‌ به أطيط‍‌ الرحل بالراكب».

ومعنى قوله: «أتدري ما اللّه» أي أتدري ما عظمة اللّه تعالى وجلاله ومعنى يئط‍‌ به أي يعجز عن عظمته وجلاله إذ كان معلوما أن أطيط‍‌ الرحل بالراكب إنما يكون لقوة ما فوقه وعجزه عن احتماله فقرب بهذا النوع من عنده معنى عظمة اللّه وجلاله ليعلم أن الموصوف بعلو الشأن لا يجعل شفيعا إلى من هو دونه في القدر، وقد ذكرنا فيما تقدم عن القاضي (أبي يعلى): يئط‍‌ من ثقل الذات، وهذا صريح التجسيم.

* * *

الحديث الثالث والخمسون: روى أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قرأ : إِنَّ‌ اللّٰهَ‌ كٰانَ‌ سَمِيعاً بَصِيراً [النّساء: ٥٨] فوضع إصبع الدعاء وإبهامه على عينيه وأذنه.

قال العلماء: أراد بهذا تحقيق السمع والبصر منه فأشار إلى الجارحتين اللتين هما السمع والبصر، لا أن للّه سبحانه وتعالى جارحة.

* * *

الحديث الرابع والخمسون: روى أبو الدرداء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه عزّ وجل ينزل في ثلاث ساعات بقين من الليل فيفتح الذكر في الساعة الأولى، فيمحو ما يشاء ويثبت، ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن وهي داره التي لم يسكنها غيره وهي مسكنه ثم يقول طوبى لمن دخلك، ثم ينزل في الثالثة إلى سماء الدنيا بروحه وملائكته فيقول بعزتي».

هذا الحديث يرويه زيادة بن محمد الأنصاري قال البخاري: وهو منكر الحديث وقال أبو حاتم بن حبان: يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك، ونقول: على تقدير الصحة إنها مضافة إليه كما أضيف البيت إليه فهذا بيته وذاك مسكنه، وإنما قلت هذا لأن السكنى مستحيلة في حقه سبحانه وتعالى.

* * *

٢٧١

الحديث الخامس والخمسون: روى أبو أمامة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثياته عزّ وجل».

الحثية: ملء الكف، والمراد التقريب بما نعقل، لا حقيقة الحثية.

* * *

الحديث السادس والخمسون: روى أبو أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إن اللّه يجلس يوم القيامة على القنطرة بين الجنة والنار».

يرويه عثمان بن أبي عاتكة، وعن يحيى: ليس بشيء.

* * *

الحديث السابع والخمسون: روى القاضي (أبو يعلى) عن محمد بن كعب قال: كان الناس إذا سمعوا القرآن من في الرّحمن لم يسمعوه قط‍‌.

قال القاضي (أبو يعلى): ولا يمتنع أن يطلق الفم عليه.

قلت: وا عجبا يعني (في) الرّحمن فمه، فيثبت للّه تعالى صفة بقول تابعي لا تصح الرواية عنه، هذا من أقبح الأشياء.

فأما الحديث الذي قد سبق عن أبي أمامة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «ما تقرّب العباد إليّ‌ بمثل ما خرج مني» فالمعنى: ظهر عنه، ولا يجوز أن يظن أنه كخروج جسم من جسم.

* * *

الحديث الثامن والخمسون: روينا عن سهل بن سعيد عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم «دون اللّه تعالى سبعون ألف حجاب من نور وظلمة، وما من نفس تسمع شيئا من حسن تلك الحجب إلا زهقت».

هذا حديث لا أصل له.

* * *

الحديث التاسع والخمسون: رواه أنس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إن للّه تعالى لوحا أحد وجهيه درة والآخر ياقوتة، قلمه النور فيه يخلق وبه يرزق، وبه يحيى وبه يميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء في يوم وليلة».

هذا حديث موضوع يرويه محمد بن عثمان، وهو متروك الحديث.

* * *

٢٧٢

الحديث الستون: روى جابر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إذا رأيتم الريح فلا تسبّوه فإنها من نفس الرّحمن تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فاسألوا اللّه خيرها واستعيذوا باللّه من شرها».

النفس بمعنى التنفيس عن المكروب(١). ومثله ما روى أبو هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «إني لأجد نفس ربكم من جهة اليمن» يعني تنفيسه عن الكرب بنصرة أهل المدينة إياي، والمدينة من جانب اليمن وهذا شيء لا يختلف فيه المسلمون.

وقال ابن حامد: رأيت بعض أصحابنا يثبتون للّه تعالى وصفا في ذاته بأنه يتنفس، قال: وقالوا الرياح الهابّة مثل العاصف والعقيم والجنوب والشمال والصبا والدبور مخلوقة إلا ريحا من صفاته هي ذات نسيم خيالي وهي من نفس الرّحمن.

قلت: على من يعتقد هذا اللعنة لأنه يثبت جسدا مخلوقا، ما هؤلاء بمسلمين.

قال المصنف: ولما علم بكتابي هذا جماعة من الجهال لم يعجبهم لأنهم ألفوا كلام رؤسائهم المجسمة فقالوا : ليس هذا المذهب.

قلت: ليس مذهبكم ولا مذهب من قلدتم من أشياخكم، فقد نزهت مذهب الإمام أحمد ونفيت عنه كذب المنقولات وهذيان المقولات غير مقلد فيما أعتقده، وكيف أترك بهرجا وأنا أنقده وقلت:

سبقت بحمد اللّه من كان من قبلي

فقل للذي يرجو لحاقي على مهل

وإنكم لو تنقصون عتابكم

لعزّ على التفتيش أن تجدوا مثلي

ثم قصيدة مطولة وهي:

حمدت إلهي كيف لا وله الفضل

كما قد تولاني فذلت لي السبل

وأخرجني من بين أهلي مفهما

وعلّمني علما به قيمتي تغلو

وحركني للمكرمات أحوزها

فهمة نفسي دائما أبدا تعلو

وألهمني بالعلم حتى ملكته

فصار مرير الصبر عند فمي يحلو

وقد زاد عشقي للعلوم فأصبحت

كتمثال ليلى عند قيس فما يسلو

__________________

(١) يقول الزمخشري في أساس البلاغة: وما لي نفس أي فرج. وقال ابن قتيبة: وقد فرج اللّه عن نبيه صلى اللّه عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب، قال تعالى: (فَأَرْسَلْنٰا عَلَيْهِمْ‌ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ‌ تَرَوْهٰا) [الأحزاب: ٩].

٢٧٣

فما من علوم بثّها اللّه في الورى

إلى خلقه إلا ولي معها وصل

وصنفت ما قد صنف الناس جنسه

فيا قاصدي الإنصاف لي ميزوا وأبلوا

ولي من بديهات الكلام عجائب

تكر عليهم كلما طولت تحلو

وقد قادني علمي إلى الزهد في الدنا

وما جمعا إلا لعبد له فضل

نعم وتقاة اللّه أشرف خلة

ولا خير في قول إذا ضيع الفعل

قنوعي بما يكفي يقيني من الأذى

وبعد يقيني بالمقادير لا ذل

وأحسن من علم ترامى بأهله

إلى مين مخلوق يماثله الجهل

وأسكن قلبي حب كل محقق

عشقت كما قد تعشق الأعين النجل

وبغداد دار ليس يغبن أهلها

وما حبهم إلا لمن ما له شكل

وكل البلاد أشحنتها فضائلي

أقرّ بفضلي الدين والحزن والسهل

وذكرى وراء النهر بالفضل وافر

وفي المغرب الأقصى وما بلغت إبل

* * *

ولما نظرت في المذاهب كلها

طلبت الأسد في الصواب وما أغلو

فألفيت عند السبر قول ابن حنبل

يزيد على كل المذاهب بل يعلو

وكل الذي قد قاله فمشيد

بنقل صحيح والحديث هو الأصل

وكان بنقل العلم أعرف من روى

يقوم بأنباء وإن شأنه عضل

* * *

ومذهبه أن لا يشبه ربه

يتبع في التسليم من قد مضى قبل

فقام له الحساد من كل جانب

فقام على رجل الثبات وهم زلوا

وكان له أتباع صدق تتابعوا

فكم أرشدوا نحو الهدى ولكم دلوا

وجاءك قوم يدعون تمذهبا

بمذهبه ما كل فرع له أصل

فلا في الفروع يثبتون لنصره

وعندهم عن فهم ما قاله شغل

إذا ناظروا قاموا مقام مقاتل

فوا عجبا والقوم كلهم عزل

قياسهم طردا إذا صدروا به

وهم من علوم النقل أجمعها عطل

إذا لم يكن في النقل صاحب فطنة

تشابهت الحيات وانقطع الحبل

ومالوا إلى التشبيه أخذا بصورة ال‍‌

ذي نقلوه في الصفات وهم غفل

وقالوا الذي قلناه مذهب أحمد

فمال إلى تصديقهم من به جهل

٢٧٤

وصار الأعادي قائلين لكنا

مشبهة قد ضرنا الصحب والخل

فقد فضحوا ذاك الإمام بجهلهم

ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا

لعمري لقد أدركت منهم مشايخا

وأكثر من أدركته ما له عقل

وما زلت أجلو عنهم كل خلة

من الاعتقاد الرذل كي يجمع الشمل

تسموا بألقاب ولا علم عندهم

فوائدهم لا حرم فيها ولا حل

موائدهم لا يلحق الخل بقلها

وإن شئت لا خل عليها ولا بقل

* * *

وأكثر حساد لنا أهل مذهبي

فلو قدروا أفتوا بأن دمي حل

تمنوا بجهل أن تزل بي النعل

ولم تمش في مجد بمثلي لهم رجل

ومنذ مضى شيخ الجماعة أحمد

إلى الآن لم يوجد لعالمكم مثل

لقد بات عندي ألف ألف يقوموا

سحابة وعظي كلهم صيب وبل

وروضات علمي كلها تمرح الجنا

وبستانهم إذ ما تأملته أثل

وكيف ترى تبرى الحسود وداؤه

إذا سئل الطب الخبير به يسلو

تفرد بالبغض القبيح مخالف

أليس اجتماع الناس لي شاهد عدل

تمّ‌ كتاب دفع شبه التشبيه للإمام ابن الجوزي

جاء في آخر (مجلس في نفي التشبيه من أمالي الحافظ‍‌ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة اللّه الشافعي): أنشدنا أبو عبد اللّه محمد بن الحسن بن منصور المؤمل لنفسه:

اللّه أكبر أن يكون لذاته

كيفية كذوات مخلوقاته

أو أن تقاس صفاتنا في كلما

نبديه من أفعالنا بصفاته

تبا لذي سفه يقول بأنه

جسم وأن سماتنا كسماته

لبديع صنعته عليه شواهد

تبدو على صفحات مصنوعاته

ذرا الأنام بقدرة أزلية

وأراده فيهم لتقديراته

ورأى بعين العلم ما تأتي به

لمحات أعينهم وما لم تأته

* * *

٢٧٥
٢٧٦

٢٧٧
٢٧٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ترجمة

الإمام الحصني مؤلف هذا الكتاب

إنا إنما نذكر ترجمة هذا الإمام رضي الله عنه ليعرف القارئ من ترجمته مقدار كتابه هذا فإنا نرى أن الكتب أشبه بالأبناء فمن لا والد له من الأبناء ضائع لا قيمة له حتى في نظر نفسه ومن له والد حقير كان حقيرا كوالده ومن جلّ والده جلّ ويزداد عظما كلما عظم والده هذا شيء لا نزاع فيه. وهكذا الكتب إذا رأى الناس كتابا لا يعرف مؤلفه ارتفعت ثقتهم به وظنوا به الظنون وإذا عرف المؤلف نظروا إليه وبمقدار عظمته في نفوسهم علما وعملا تكون ثقتهم بكتابه واستفادتهم منه. وأعدل حكم على الرجل هو الذي يصدر عليه من معاصريه الناظرين إليه المحيطين علما بكل أحواله مع ما في المعاصرة من منافسات ومنازعات وأحقاد يهيجها الحسد الذي يدفن الفضائل وينشر الرذائل فإذا صدر مع هذا حكم جليل من معاصر دلّ ذلك على أن الحقيقة أرفع وأسمى. رفع سؤال إلى علماء عصره رضي الله عنه عن زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واسمع ما قاله عنه أحد معاصريه قال ما نصه : فأجاب شيخنا وسيدنا ومولانا العارف الورع العابد الزاهد المحقق المدقق شيخ الإسلام ومفتي الأنام وعلم الأعلام الرباني والصدر النوراني. منقح الألفاظ. ومحقق المعاني. بحر العلوم. والمبرز على ذوي الفهوم. داعي الخلق للحق. الناصح لكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. بقية السلف. وزين الخلف. شافعي زمانه. وسيبويه أوانه. القطب الكبير. والغوث الشهير. والعلم المنير. والعلامة النحرير. والمجتهد الأخير. البحر الزاخر. والسيف الباتر. زبدة المتقدمين. وعمدة المتأخرين. ومفزع العباد. وحجة الله على العباد. وصمصامة أهل الزيغ والفساد. رحلة وقته. ووحيد عصره. وفريد دهره. نسيج وحده. جامع أشتات العلوم والفضائل. القائم في نصرة الحق بالبراهين والدلائل. قدوة أهل الأصول والفروع. وناثر فرائد المنقول والمسموع. الحسيب النسيب. والمتصل في الدين بالمصطفى الحبيب. الشيخ تقي الدين أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن بن حريز بن

٢٧٩

سعيد بن داود بن قاسم بن علي بن ناسي بن جوهر بن علي بن أبي القاسم بن عبد الله بن عمر بن موسى بن يحيى علي الأصغر بن محمد التقي بن حسن العسكري بن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب الحسيني الشافعي الأشعري الحصني قدس الله روحه. ونوّر ضريحه. وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه. وضاعف له جزيل هباته. وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاته. ونفعنا بعلومه الجمة وفوائده. كما حلّى أجياد الدهر بقلائد فرائده. آمين. بجاه سيد الأولين والآخرين. اه من الفتاوى السهمية في ابن تيمية. بمجموعة ٣٣ دولاب ١٥ من مكتبة صاحب الفضيلة أستاذنا الشيخ محمد بخيت المطيعي حفظه الله وهو وصف لم يدع قولا لقائل في هذا الإمام الهمّام رضي الله عنه ورضي عنا به : ولد رضي الله عنه بدمشق سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة من الهجرة الشريفة وبها أخذ العلم عن أئمة عصره وأخذ عنه أئمة وكان من الزهد في الدنيا بدرجة لا تقل عن درجات سلف الأمة الصالحين وكان لتقواه وخشيته لربه وقورا مهيبا حتى عند الأكابر من ولاة الأمور وكان إذا رأى ما لا يرضاه ربه صدع بالحق لا يخاف في الله لومة لائم ـ لم يقتصر في بث علومه على ما كان يلقيه من جواهر المعارف والآداب في دروسه حال حياته بل ألّف من الكتب الجليلة الكثيرة ما يجعل نفعه العلمي خالدا : فمن مؤلفاته شرح صحيح مسلم في ثلاثة مجلدات ، وشرح التنبيه لأبي إسحاق الشيرازي في الفقه الشافعي في خمسة مجلدات نافع جدا ، وشرح منهاج النووي في خمسة مجلدات كذلك ، وتفسير آيات متفرقات في مجلد ، وقواعد الفقه على المذهب الشافعي في مجلدين ، وتلخيص مهمات الإسنوي في مجلدين ، وتنبيه السالك على مضار المسالك في ستة مجلدات ، وأسنى المسالك لسير السالك في مجلد ، وقمع النفوس في مجلد ، وشرح أسماء الله الحسنى في مجلد ، وشرح الأربعين النووية في مجلد ، وسير نساء السلف العابدات في مجلد ، وتلخيص تخريج أحاديث الأحياء في مجلد ، وأهوال القبور في مجلد ، وتأديب القوم في مجلد ، وشرح الهداية في أوهام الكفاية في مجلد ، وشرح مختصر أبي شجاع في مجلد. قال السخاوي : حسن للغاية وقد طبع في العام الماضي فكاد يطرب الشافعية فرحا طلبة وعلماء ، وتقرر رسميا أن يقرأ بالأزهر لجلالته ، ودفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى السيد الجليل الإمام أحمد وهو هذا الكتاب الذي يجل عن نظير في موضوعه كيف لا وقد أتي على بناء مخالفه من أساسه. مات رحمة الله عليه ليلة الأربعاء منتصف شهر جمادى الثانية سنة تسع وعشرين وثمانمائة وحملت

٢٨٠