العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

الطاعة هو المقروء في حال المعصية ، وهذا أمر قد اتضح بحمد الله تعالى لمن له أدنى عقل وتصور.

مسألة

ويجب أن يعلم أنه لا يجوز أن يقول أحد إني أتكلم بكلام الله ، ولا أحكي كلام الله ولا أعبر كلام الله ولا أتلفظ بكلام الله ، ولا أن لفظي بكلام الله مخلوق ولا غير مخلوق ، بل الذي يجوز أن يقول : إني أقرأ كلام الله تعالى ، كما قال تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النّحل : ٩٨] وكما قال : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمّل : ٢٠] ويجوز أن يقول : إني أتلو كلام الله ، كما قال تعالى : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) [النّمل : ٩٢] ويجوز أن يقول إني أحفظ القرآن كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حفظ القرآن ثم نسيه ... الخبر». فكل ما نطق به الكتاب والسنة في القرآن جاز لنا أن نطلقه ، وما لا ينطق به كتاب ولا سنة فلا نطلقه في الله تعالى ، ولا في صفاته. فاعلم ذلك وتحققه.

وأيضا فإن زيدا إنما يكون متكلما بكلامه ، ولا يجوز أن يكون زيد متكلما بكلام عمرو ، وكذلك لا يكون زيد أسود سوادا من عمرو ، ومن عجيب الأمر أن المجسمة الحشوية لا يجوزون أن يتكلم زيد بكلام عمرو وعمرو مخلوق ، وكلامه مخلوق ، والمخلوق إلى المخلوق أقرب في الشبه والذات والصورة والحكم ، ويجوزون أن يقولوا : نتكلم بكلام الله تعالى وكلام الله غير مخلوق ولا يشبه كلام الخلق في الذات والحكم.

مسألة

ويجب أن يعلم أن الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل عليه أمارات تدل عليه ، فتارة تكون قولا بلسان على حكم أهل ذلك اللسان وما اصطلحوا عليه وجرى عرفهم به وجعل لغة لهم ، وقد بيّن تعالى ذلك بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم : ٤] فأخبر تعالى أنه أرسل موسى عليه‌السلام إلى بني إسرائيل بلسان عبراني ، فأفهم كلام الله القديم القائم بالنفس بالعبرانية ، وبعث عيسى عليه‌السلام بلسان سرياني ، فأفهم قومه كلام الله القديم بلسانهم ، وبعث نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسان العرب ، فأفهم قومه كلام الله القديم القائم

١٦١

بالنفس بكلامهم ؛ فلغة العرب غير لغة العبرانية ولغة السريانية غيرهما ، لكن الكلام القديم القائم بالنفس شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، وقد يدل على الكلام القائم بالنفس الخطوط المصطلح عليها بين كل أهل خط ، فيقوم الخط في الدلالة مقام النطق باللسان ، وقد بيّن تعالى ذلك فقال : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩)) [الجاثية : ٢٩] فقام الخط مقام النطق ، لما كان يدل على الكلام دلالة النطق ، لكن الخطوط تختلف بحكم الاصطلاح والمواضعة وقلة الحروف وكثرتها ، فحرف الإنجيل والتوراة كل واحد منها خلاف الآخر ، وكذلك حروف العرب وخطوطهم تخالف غيرها ، وكذلك حروف الهند وخطوطهم تخالف الجميع ، لكن لكل خط وحرف بين أهله يقوم لهم في الدلالة على الكلام القائم بأنفسهم مقام دلالة نطق ألسنتهم ، ويختصون بذلك في الفهم والاصطلاح عند كلام اللسان ، وعند رسم الحروف الخطوط ، حتى لا يفهم غيرهم ذلك إلا أن يتعلم لغتهم وخطوطهم ، فصحّ أن الكلام الحقيقي هو المعنى القائم بالنفس دون غيره ، وإنما الغير دليل عليه بحكم التواضع والاصطلاح ويجوز أن يسمى كلاما إذ هو دليل على الكلام ، لا أنه نفس الكلام ، الحقيقي. وكذلك قد يدل على الكلام الحقيقي القائم بالنفس الرموز والإشارات ، وقد بيّن ذلك تعالى بقوله في قصة زكريا عليه‌السلام : (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران : ٤١] يعني أن لا تفهم الكلام القائم بنفسك باللسان ، وإنما أفهمه بالرمز والإشارة ففعل كما أمره تعالى ، فأخبر عنه فقال : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)) [مريم : ١١] فأفهم أمره الذي هو الأمر بالتسبيح القائم في نفسه بالإشارة دون نطق اللسان ، وكذلك الأخرس الذي لا ينطق باللسان ولا يسمع الصوت ، إنما يفهمنا كلامه القائم بنفسه ، ونفهمه كلامنا القائم بأنفسنا بالإشارة دون نطق اللسان ، فحصل من هذه الجملة أن حقيقة الكلام على الإطلاق في حق الخالق والمخلوق إنما هو المعنى القائم بالنفس لكن جعل لنا دلالة عليه تارة بالصوت والحروف نطقا ، وتارة بجمع الحروف بعضها إلى بعض كتابة دون الصوت ووجوده وتارة إشارة ورمزا دون الحرف والأصوات ووجودهما ، فحقيق الكلام القائم بالنفس موجود عند الحرف والصوت ، لكن الخلق كلامهم مخلوق كهم وكلام الله ليس بمخلوق كهو ، سبحانه وتعالى. ونريد بقولنا كهو أن صفات ذاته لا توصف بالخلق والحدث ولا بشيء من الخلق والحدث ، كما أنه تعالى لا يوصف بالخلق والحدث. ولا بشيء من صفات الخلق

١٦٢

والحدث ، ولا نريد بقولنا كهو أنها خالقة رازقة. فافهم هذا التحقيق ، لأن المعتزلة تشنع وتقول : إذا كان الباري عالما بعلم ومتكلما بكلام والكل قديم (١) يجب أن يكون معه قدماء كثيرة في الأزل ، وإذا كانت كهو فيجب أن تكون خالقة رازقة آلهة كهو ، وهذا تمويه منهم على عقول العوام ، حتى ينفروهم عن أهل التحقيق والسنة والجماعة ، ويميلوا إلى باطلهم من نفي صفات الله التي وصف بها نفسه في كتابه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يوافقوهم في القول بخلق القرآن معنى ، وإن لم ينطقوا به ، وكذلك أن المعتزلة أكثر حجتهم على أن كلام الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن أنه بزعمهم حروف وأصوات فرضوا من هؤلاء العوام أن يصرحوا في كلام الله تعالى بما يوجب كونه مخلوقا ضرورة ، وإن لم يقولوا إنه مخلوق نطقا. فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ومما يدل على أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس من الكتاب والسنة والأثر وكلام العرب ؛ ما نذكر (٢) فمن ذلك قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)) [المنافقون : ١] ونحن نعلم وكل عاقل أنه تعالى ما كذب المنافقين في ألفاظهم ، إنما كذبهم فيما تكنه ضمائرهم وتكنه سرائرهم. وأيضا قوله تعالى مخبرا عن الكفار : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) [المجادلة : ٨] فأخبر تعالى : أن القول بالنفس قائم وإن لم ينطق به اللسان ، والقول هو الكلام ، والكلام هو القول. وأيضا قوله تعالى : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] قيل ما حدث به المرء نفسه مما يضمر فيها من قول أو فعل. وأيضا قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة : ٢٣٥] وأيضا قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النّحل : ١٠٦] فأسقط تعالى تلفظ المنافقين بالشهادة لرسوله ، وجعل حكم الكذب للقول الذي في النفس والكلام الذي في النفس دون نطق اللسان ، وأسقط حكم الكفر عن المكره على كلمة الكفر وجعل الحكم لصدق الكلام القائم في القلب ؛ فدلّ بهذه الآيات وما جرى

__________________

(١) وقول القاضي عضد الدين في الواقف : (لا ثبت في غير الإضافة) حاسم للنزاع بين الفريقين عند من أحاط خبرا بما يقوله ، وراجع حاشية الخيالي وعبد الحكيم على النسفية (ز).

(٢) لقد أحسن المصنف كل الإحسان في التدليل على الكلام النفسي بتوسع لا تجده في غير هذا الكتاب ؛ والنزاع بين الفريقين في إثبات ذلك ونفيه كما سبق (ز).

١٦٣

مجراها أن حقيقة الكلام هو المعنى القائم بالنفس. وله الحكم في الصدق والكذب دون الحروف والأصوات التي هي أمارات ودلالات (١) على الكلام الحقيقي.

ويدل على ذلك من جهة السنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه». وهذا في حق المنافقين ، فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الكلام الحقيقي هو الذي في القلب دون نطق اللسان ، وأن الحكم للكلام الذي في القلب على الحقيقة وأن قول اللسان مجاز قد يوافق قول القلب وقد يخالفه. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الندم توبة» فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن العاصي إذا نوى بقلبه الندم على المعصية منها أن ذلك حقيقة التوبة ، وأن استغفار اللسان تبع لذلك ، فصحّ أن الكلام الأصلي الحقيقي المعنى القائم بالنفس.

وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تبارك وتعالى : إذا ذكرني عبدي في نفسه» فأثبت الذكر للنفس ، فالذكر والقول ، والكلام ، واحد ، فعلم أن حقيقة الكلام المعنى القائم في النفس.

ويدل على ذلك أيضا قول عمر رضي الله عنه : زورت في نفسي كلاما فأتى أبو بكر فزاد عليه. فأثبت الكلام في النفس من غير نطق لسان ، وعمر كان من أجل هذا اللسان والفصاحة وهو أحد الفصحاء السبعة ، والعربي الفصيح يقول كان في نفسي كلام ، وكان في نفسي قول ، وكان في نفسي حديث ، إلى غير ذلك. وأنشد الأخطل :

لا تعجبنك من أثير خطبة

حتى يكون مع الكلام أصيلا

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

واعلم أن مذهب أهل الحق والسنة والجماعة أن كلام الله القديم ليس بمخلوق ، ولا محدث ، ولا حادث ، ولا خلق ، ولا مخلوق ، ولا جعل ، ولا مجعول ، ولا فعل ، ولا مفعول. بل هو كلام أزلي أبدي هو متكلم به في الأزل ، كما هو متكلم به فيما لا يزال. لا أول لوجوده ، ولا آخر له ، وأنه لا يقال إن كلامه حكاية ولا عبارة ولا إني أحكي كلام الله ، ولا إني أعبر كلام الله ، بل نقول : نتلو كلام الله ، ونقرأ كلام الله ، ونكتب كلام الله ، ونحفظ كلام الله ، وأنه يجب التفرقة بين القراءة والمقروء ، والتلاوة والمتلو ، والكتاب والمكتوب ، والحفظ ، والمحفوظ ، ولا يجوز

__________________

(١) وهذا يعود إلى ما حققه السعد كما سبق (ز).

١٦٤

أن يطلق على كلامه شيء من أمارات الحدث من حرف ولا صوت ، ولا يقال إن القديم يجوز حلوله في المحدث كحلول الشيء في الشيء. وقد قدّمنا الأدلة على جميع ذلك وحققناه ، ومذهب المشبهة الحلولية المجسمة ؛ أن كلام الباري حروف وأصوات وأنه قديم ، وأن الحروف والأصوات التي توجد في كلام الخلق كلها قديمة ، لا أخصص بعضهما على بعض ، وهذا قول يفضي إلى قدم العالم عند كل محقق ، ومنهم من قال : بل الأصوات والحروف إذا ذكرنا الله تعالى بها أو تلونا به كلامه قديمة ، فإذا ذكرنا بها غير الله وأنشدنا بها شعرا كانت محدثة ، وهذا جهل عظيم وتخبط ظاهر ، لأن الشيء عندهم على هذا القول تارة يكون محدثا ثم يصير قديما ، وتارة قديما ثم يصير محدثا ، وليس في الجهل أعظم من هذا وكفى به ردا لقولهم. ومنهم من يقول : أصواتنا وحروفنا بالقرآن قديمة وبغير القرآن محدثة ، وهذا مثل القول الأول على الحقيقة وإن اختلفت العبادة ، وقد بيّنّا فساده ، ومنهم من حدث في هذا الوقت وبان له فساد الأقوال المقدّم ذكرها فقال بجهله : أقول إن القرآن بأصوات وحروف تكلم بها الله ، وإن كلامه حروف وأصوات ، لكن حروف قديمة وأصوات قديمة. لا تشبه هذه الحروف والأصوات المخلوقة التي تجري في كلام الخلق ، وهذا أيضا جهل من قائله ، ويؤدي أن لا يكون في المصاحف القرآن. لأن الحروف التي تكتب بها المصاحف هي هذه الحروف التي تجري في سائر ما يكتب ويؤدي إلى أن القرآن الذي نقرؤه ليس بقرآن ، لأن القرآن بحروف وأصوات قديمة ، ولا تشبه هذه الحروف والأصوات ، ونحن لا نسمع إلا صوتا مثل هذه الأصوات ، ولا نرى حرفا ولا نسمعه إلا مثل هذه الحروف ؛ وهذا القول يوجب أن لا يكون عندنا قرآن بالجملة أو يؤدي إلى أن يكون هذا القرآن بهذه الحروف والأصوات المعروفة غير ذلك القرآن الذي هو بحروف وأصوات قديمة ، لا تشبه هذه الحروف والأصوات ، والجميع فاسد باطل ، وسيأتي بطلان مقالتهم في هذا وغيره في جواب ما يزعمون أنه حجة لهم في هذا وغيره ، إن شاء الله تعالى.

وزعمت المشبهة أن القراءة هي المقروء ، والتلاوة هي المتلو ، وزعموا أن القديم يحل في المحدث (١) ويختلط به ، وتمسكوا في جميع ذلك بآيات وآثار زعموا أنها حجة لهم فيما صاروا إليه من هذه البدعة العظيمة التي جميعها يدل على أن كلام الله مخلوق محدث ، فاحتجوا في التلاوة هي المتلو ، وأن الله يسمى تاليا ، ولا فرق

__________________

(١) كما هو رأي السالمية (ز).

١٦٥

عندهم في أن يقال تال أو متكلم. قالوا : والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٢٥٢] وبقوله تعالى : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) [القصص : ٣]. قالوا : فسمّى نفسه تاليا كما سمّى نفسه متكلما وقائلا ، والجواب عن هذا وما جرى مجراه من وجهين :

أحدهما : أنا نقول ما أنكرتم أن ما ذكرتم هو حجة عليكم ، وأن هاتين الآيتين قد دلتا على الفرق بين التلاوة والمتلو ، وأن التلاوة غير المتلو وذلك أنه قال : (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) [البقرة : ٢٥٢] والحق هاهنا هو كلامه القديم الموجود بوجوده القديم بقدمه ، والتلاوة لم تكن موجودة ثم أوجدها ؛ والدليل على أن الحق هو كلامه القديم الموجود بوجوده قوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)) [السّجدة : ٣] وأيضا قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) [سبإ : ٢٣] فدلّ على أن الحق هو المتلو القديم ، وأن التلاوة صفة لا فعل ذات. والذي يحقق ذلك قوله تعالى ، قال : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) [العنكبوت : ٤٨] فنفى قبل أن يكون تاليا ، ثم أحدث له تلاوة ولم تكن ثم كانت ، فالحق الذي هو المتلو موجود ثابت لا يتصف بأنه لم يكن ثم كان.

والجواب الثاني : أن قوله «نتلو» يريد به بأمر من يتلو عليك ، وهو جبريل عليه‌السلام. إلا أن التلاوة لما كانت بأمره أضافها إلى نفسه ، وهذا صحيح ، يدل عليه الكتاب والمعنى الصحيح. فأما الكتاب ، فالدليل عليه قوله تعالى : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) [آل عمران : ١٠١] وقوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)) [الشّعراء : ١٩٣ ـ ١٩٥] وصار هذا كقوله في قوم نوح : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١)) [الحاقّة : ١١] يعني السفينة ، فأضاف الحمل في السفينة إلى نفسه ، والحامل فيها نوح عليه‌السلام ، إلا أنه لما كان بأمره أضاف الحمل إليه ، والدليل على الحامل أنه كان نوحا عليه‌السلام ، قوله تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [هود : ٤٠] وهذا أيضا كقوله تعالى في قصة مريم عليها‌السلام : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [الأنبياء : ٩١] والنافخ كان جبريل عليه‌السلام إلا أنه لما كان نفخه بأمره أضاف ذلك إلى نفسه فلذلك أضاف التلاوة إلى نفسه لما فعلت بأمره. وكذلك قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ) [النّحل : ٢٦] وجبريل عليه‌السلام الذي كان أتى البنيان ، لكن لما كان بأمره أضافه إلى نفسه

١٦٦

وكذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) [الأعراف : ٥٢] والذي جاءهم بالكتاب هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن لما كان مجيئه بالكتاب إليهم بأمره تعالى أضاف ذلك إلى نفسه ، والقرآن من هذا مملوء إذا تتبع. إنه يضيف الفعل إلى نفسه وإن كان الفاعل له غيره ، لما كان بأمره.

وأما الدليل من كلام العرب ، فإنه يقال : نادى الأمير في البلد ، فيضاف النداء إليه لما كان بأمره ، وإن كان المنادي غيره ، فصحّ ما قلناه.

ثم نقول لهم : أليس الله تعالى قال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٣] أتقولون : إن الله تعالى قاصّ؟ هذا قول لا يجوزه أحد من المسلمين ؛ لكن لما قصّ عليه جبريل عليه‌السلام بأمر الله تعالى أضاف القصص إلى نفسه ، لما كان بأمره ، وقد بيّن ذلك بقوله : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) [يوسف : ٣] فالقرآن كلامه وصفته ، وقصّ جبريل عليه‌السلام على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقرآن الذي تضمن قصص الأولين وأخبارهم. فإن احتجوا على أن القراءة هي المقروء بما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «قرأ الله (طه (١)) [طه : ١] و (يس (١)) [يس : ١] قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة قالوا : طوبى لأمة ينزل هذا عليها» قالوا : فأضاف القراءة إلى الله تعالى. فالجواب عن هذا من وجهين :

أحدهما : أنه ذكر أن القراءة وجدت قبل السموات والأرض بألفي عام ، ودل على أنها لم تكن موجودة ثم وجدت ، والمقروء القديم ليس لوجوده أولية ، بل هو موجود بوجوده تعالى ، فدلّ على الفرق بين القراءة والمقروء ، لأن المقروء موجود بوجوده تعالى.

والجواب الثاني : أنه أمر بعض الملائكة أن يقرأ (طه (١)) [طه : ١] و (يس (١)) [يس : ١] قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، فلما سمعت الملائكة ذلك قالوا : وأضاف القراءة إلى نفسه. لما كانت بأمره ، فصار هذا كقوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) [الزّمر : ٤٢] والمتوفى هو ملك الموت ، بدليل قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السّجدة : ١١] لكن لما كان توفّيه لهم بأمره أضاف ذلك إلى نفسه.

* * *

١٦٧

فصل

ومما يقوي جميع ذلك من السنة : أن الفعل يضاف إلى الآمر به ، وإن كان لم يفعله بنفسه ، وإنما أمر بفعله ؛ ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ماعزا ؛ والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يباشر الرجم بنفسه ، لكن لما أمر الصحابة جاز أن يضاف إليه.

وأيضا ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قطع يد سارق ثوب صفوان ومعلوم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما باشر القطع ، لكن أمر به ، فأضيف الفعل إليه لما صدر عن أمره. وكذلك روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه جلد شارب الخمر أربعين ، ولم يباشر الجلد بنفسه ، لكن لما كان عن أمره جاز إضافة الفعل إليه. والأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا. وأيضا يقال : جبى عمر رضي الله عنه خراج العراق ، ولم يباشر الجباية بنفسه ، لكن لما جبى بأمره جاز إضافة الفعل إليه. وكذلك يقال : افتتح عمر رضي الله عنه الشام والأمصار ، وهو لم يباشر ذلك بنفسه ، لكن الصحابة والجند بأمره ، فصحّ بهذه الجملة أن التلاوة فعل التالي ، لكن هي بأمر الله تعالى وإيجاده ، فصحّ أن يضاف إليه القراءة والتلاوة على هذا الوجه ، فأما المتلو والمقروء فليس بفعل لأحد بل هو كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته الذي ليس بمخلوق ولا يتصف بشيء من صفات الخلق.

* * *

فصل

ثم نقول لهؤلاء الجهلة الضّلال : كيف يجوز لكم أن تقولوا إن القراءة هي المقروء ، والتلاوة هي المتلو ، والله تعالى قد فصل بينهما ، وجعل القراءة فعل القارئ ، والمقروء هو القرآن الذي هو كلام الباري ، في غير موضع من كتابه.

أحدها : قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النّحل : ٩٨] فأفرد القراءة عن القرآن ، وأن القراءة فعل الرسول ، والمقروء ليس بفعل لأحد ، بل هو كلام الله القديم ، وهذا كقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) [آل عمران : ٤١] فأفرد الذكر عن المذكور ، فالذكر فعل الذاكر ، والمذكور هو الله تعالى القديم الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] وأيضا قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزّمّل : ٢٠] وقوله تعالى : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) [العنكبوت : ٤٥] وقوله تعالى : (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) [النّمل : ٩٢] وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) [فاطر : ٢٩] وفي القرآن أكثر من ألف موضع يدل على الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء ، لمن له حس سالم ، وعقل ثابت. ومن القدر الذي قدمناه دليلان :

١٦٨

أحدهما : أنه تعالى ذكر تلاوة ، ومتلوا ، وقراءة ، مقروءا ، فبطل بذلك زعمهم أنه شيء واحد.

الثاني : أنه أمر بالقراءة ، والتلاوة ، والأمر هو استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه. والصفة القديمة التي هي المقروء ، والمتلو لا يصح فيه الفعل ولا استدعاء الفعل ، فصحّ أن المأمور به استدعى غير المقروء ، والمتلو هي القراءة والتلاوة. فافهم هذا التقرير فإنه يوجب الفرق بين الأمرين ، ضرورة الإشكال فيه. ثم نقول لهم : القراءة قد اختلفت وتنوعت أنواعا ، أفتقولون إن المقروء الذي هو القرآن مختلف متنوع؟ فإن قالوا : نعم كفروا ، وإن قالوا : لا فقد ثبت أن الذي جاز عليه الاختلاف والتنوع غير الذي لم يجز عليه ذلك ، وأيضا فإن كل قراءة منسوبة إلى قارئها ، فيقال هذه قراءة أبي ، وهذه قراءة ابن مسعود ، وكذلك في سائر القراءات ، ولا يجوز أن ينسب المقروء الذي هو القرآن إلى أحد من الخلق ، فيقال هذا قرآن أبي ولا قرآن ابن مسعود ، فصحّ أن القراءة فعل القارئ ، فصحّ أن تنسب قراءة كل واحد إليه ، لأنها فعله الذي يثاب ويمدح عليها تارة ويعاقب ويندم عليها أخرى ، والمقروء بسائر القراءات كلام الله تعالى الذي ليس بفعل لأحد ، فصحّ الفرق بين الأمرين.

* * *

فصل

ثم نقول لهم : ما تقولون فيمن قال : إن قرأت بقراءة أبي جعفر يزيد القعقاع ـ شيخ نافع ـ فعبدي حر ، فقرأ بقراءة الجحدري عاصم ، أيعتق عبده أم لا؟ ليس فيه خلاف بين المسلمين. ولو قال إن قرأت مقروء ابن كثير فعبدي حر ، فقرأ بقراءة ابن عامر عتق عبده ، لأن المقروء شيء واحد ، وإن اختلفت القراءات.

* * *

فصل

ثم نقول : لو اجتمع مائة قارئ فقرءوا القرآن أليس عدة القراء مائة ، كل واحد منهم يثاب على قراءته ، فالثواب مائة ثواب على مائة قراءة ، أفتقولون : إن القرآن الذي قرءوه بقراءتهم مائة قرآن أم قرآن واحد ، فلا يقول عاقل إلا أنه قرآن واحد ، لكن القراءات متعددة ، فصحّ الفروق بين القراءة والمقروء.

* * *

١٦٩

فصل

ثم نقول لهم : إذا قرأ القارئ القرآن وحصل له الثواب ، أحصل له الثواب على فعل فعله أو على غير فعل؟ فإن قالوا : على غير فعل فعله وجب أن يكون هذا الثواب يحصل للساكت كما حصل للقارئ ، وهذا لا يقوله عاقل. وإن قالوا : على فعل فعله ، صحّ أن الذي فعل القراءة ، أو السماع إلى القراءة ، والمقروء المتلو الذي هو كلام الله ليس بفعل لأحد ، وكذلك المسموع ليس بفعل لأحد ؛ فصحّ الفرق بين الأمرين. فافهم.

وأيضا فإنه يجوز إذا أعرب القارئ القراءة ، ومكن ما يجب تمكينه ، ووقف فيما يجب الوقوف عليه ، وبدأ بما يجوز البداءة به ، وقطع ما يجوز القطع عليه ، ووصل ما يجوز وصله ، فجائز أن يقال فلان حسن القراءة ، جيد القراءة ، وإذا كان بالعكس من ذلك جاز أن يقال : فلان ليس بحسن القراءة ولا جيد القراءة ، ولا يجوز أن يقال لمقروء غير حسن ولا جيد ، بل المقروء حسن ، سواء كانت القراءة حسنة أو غير حسنة. فافهم الفرق بين الأمرين.

ثم نقول لهم خبرونا : أليس الله تعالى فرض علينا القراءة في الصلاة؟ فإذا قالوا : بلى. قلنا : أفرض علينا شيئا نفعله أو غير شيء نفعله؟ فإن قالوا : فرض علينا شيئا نفعله. قلنا : وما هو هذا الشيء؟ فلا بد أن يقولوا : القراءة. قلنا : فقد صحّ أن القرآن موجود قبل القارئ له وقراءته في الصلاة ، ثم أمره تعالى بأن يقرأ : أي يفعل فعلا يسمى قراءة ففعل العبد صفة العبد لا صفة الرب ، هذا بمنزلة قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) [الأحزاب : ٤١] أليس المذكور غير الذكر الذي هو فعل الذاكر المأمور بفعله ، فكذلك القراءة فعل القارئ والمقروء القرآن ، ثم نقول لهم أليس كلام الله تعالى موجود بوجوده ، قديم بقدمه قبل أن يخلق خلقا ، فلا بد من نعم. فنقول : فهل يصح وجود القراءة من القارئ قبل وجوده؟ فلا بد من لا. فنقول : ما كان موجودا قبل القارئ فهو القرآن الذي هو كلام الله ، وما وجد من القارئ بعد أمره بالقراءة فهو فعله لا محالة ، وهذا قدر لا يخفى على بشر سليم العقل.

فإن احتجوا على أن الكلام القديم يوصف بالصوت والحرف ، بقوله تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التّوبة : ٦] قالوا : والذي يسمع إنما هو صوت وحرف ، وقد نسبه إليه ، فدل على أنه متكلم بصوت وحرف. فالجواب من وجهين :

١٧٠

أحدهما : أن يقال لهم : ما أنكرتم أن تكون هذه الآية حجة عليكم ، وذلك أن كل عاقل يقول : إن المشرك لا يسمع كلام الله بلا واسطة ، وهي قراءة القارئ ، فلا بد من وجود القراءة التي هي حروف وأصوات ، فيحصل لهذا المشرك السماع حينئذ لكلامه تعالى ، فحصل معنا عند ذلك مسمع أسمع كلام الله بإسماع أوجده ، وهي قراءته التي هي حروف وأصوات ، ومسموع وهو كلام الله تعالى الذي لا يجوز أن يكون حروفا وأصواتا ، لأن الحروف والأصوات يتقدم بعضها على بعض ، وصار هذا بمنزلة من أسمعنا الله بذكره ، بأن قال : يا الله. قلنا : حصل معنا مسمع وهو الذاكر ، وإسماع أسمعنا به المسموع ، وهو المذكور ، فالإسماع يقع بحروف وأصوات ، فيجوز لكل أن يقول : إن الله المذكور هو حروف وأصوات (١).

الجواب الثاني : أن المراد بهذه الآية ما هو سماع الحروف والأصوات إنما المراد بهذه الآية : حتى يتدبر كلام الله ويفهم ما فيه. لعله يرجع عن شركه ويهتدي ، فالحروف والأصوات لا تهدى ، إنما الذي يهدى هو القرآن الذي هو كلام الله تعالى. دليله : قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩].

جواب ثالث : وهو أن يقال لهم : إذا كان الكلام القديم أصواتا وحروفا.

والكلام المخلوق الذي من الشعر والخطب أصواتا وحروفا ، فقد صار الكلام القديم كالكلام المخلوق ، وهذا القول يوجب أن يكون كل كلام قديم أو محدث [سواء] لأن الحرف والصوت في قول القائل إذ أخبر عن قول اللعين فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النّازعات : ٢٤] فاعبدون ، فصورة الحروف في قول فرعون أنا ربكم ، كصورتها في قراءة القارئ (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٩٢] ، فصحّ أن الحروف والأصوات ليست [كلام] فرعون ، ولا الرب تعالى ، فالحرف والصوت يعبر به عن كلام فرعون ، ويقرأ به كلام الله تعالى ، فصحّ ، أن الحرف والصوت أداة يقرأ بها الكلام القديم ، لا أن الحرف والصوت نفس الكلام القديم.

جواب رابع : وهو أن يقال لهم : خبرونا عن قولكم إن الله تعالى متكلم بأصوات وحروف ، أهي هذه الحروف والأصوات الجارية الدائرة في سائر كلام الخلق ، أو غيرها؟ فإن قالوا : هي هذه فقد جعلوا جميع كلام الخلق قديما كله ؛ وإن قالوا : بل هي غير هذه الحروف والأصوات الجارية في كلام الخلق. قلنا : فصحّ

__________________

(١) يعني الاسم المسمى (ز).

١٧١

حينئذ أن قراءة القراء للقرآن بحروف وأصوات غير الحروف والأصوات التي تعنون ؛ فإذن ليس عندنا كلام الله تعالى ، بل هو غائب عنا ، لأن أصوات القراء وحروفهم هذه هي المعهودة الجارية في كلام الخلق. وكذلك أيضا يجب أن لا يكون في المصحف قرآن ؛ لأن الحروف التي فيه هي الحروف المعهودة الجارية في خطوط الخلق ، وكل هذين القولين باطل ؛ فثبت أن الحروف والأصوات يقرأ بها الكلام القديم ويكتب بها الكلام القديم ، لا أنها نفس الكلام. ثم يقال لهم : خبرونا : أيصح خروج حرف من غير مخارج؟ فإن قالوا : لا. قلنا : فتقولون إن الباري ـ تعالى عن قولكم ـ ذو مخارج من شفة للفاء ؛ وحلق للحاء ؛ ولسان للثاء ؛ وإن قالوا : نعم جسموا بإجماع المسلمين (١) ؛ وإن قالوا : لا تحتاج الحروف إلى مخارج ؛ فقد كابروا الحس والعيان مع قولهم بصحة الخبر المروي بزعمهم ، وذلك أن كلامه منه خرج ، وكلامه عندهم حروف ، فيجب على قولهم أن يكون خروجها من مخارج ؛ وكل هذا القول كفر وضلال ، وسفه وحمق وجهل عظيم.

* * *

فصل

فإن احتجوا بقوله تعالى : (حم (١)) [غافر : ١ ، فصلت : ١ ، الشورى : ١ ، الزخرف : ١ ، الدخان : ١ ، الجاثية : ١ ، الأحقاف : ١] و (الم (١)) [البقرة : ١ ، آل عمران : ١ ، العنكبوت : ١ ، الروم : ١ ، لقمان : ١ ، السجدة : ١] ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقالوا بالإجماع إن هذا كلام الله ، فصحّ أن كلامه حروف ، قلنا : الجواب عن هذا من وجوه :

أحدها : إن أردتم بقولكم إنها كلام الله تعالى ، بما تزعمون من الإجماع أن نفس صورة الألف ، ولام ، وميم نفس الكلام القديم ، فلا قائل بهذا غير جهالكم الذين لا فهم لهم ولا عقل ، لأن هذا القول منهم يؤدي إلى أن الكافر المشرك يقدر أن يوجد القديم ويفعل القديم ، لأن كل كافر كاتب يقدر أن يكتب صورة ألف ويلفظ بألف ، ومن عظيم الجهل أن يكون عبد مخلوق مربوب يقدر أن يوجد القديم ويفعل

__________________

(١) فتعسا لمن عزا إلى أحمد ـ كما سبق ـ سماع موسى التوراة من الله من فيه ، كما في طبقات الحنابلة لأبي الحسين بن أبي يعلى في ترجمة الإصطخري ؛ وذكره ابن بدران أيضا في المدخل. نعوذ بالله من الخذلان (ز).

١٧٢

قديما ، هذا جهل ظاهر. وإن قلتم المفهوم من (الم (١)) [البقرة : ١] و (حم (١)) [غافر : ١ ، فصلت : ١ ، الشّورى : ١ ، الزخرف : ١ ، الدخان : ١ ، الجاثية : ١ ، الأحقاف : ١] ونحو ذلك هو كلام الله تعالى عند نظر الناظر إليها ، وأن المسموع عند قراءة القارئ (الم (١)) [البقرة : ١] و (حم (١)) [الشّورى : ١] ونحو ذلك هو كلامه تعالى وهذا صحيح ، وصحّ بذلك أن الكلام القديم يفهم بالحروف المنظومة ، على اختلاف نظمها بين أرباب تلك الخطوط والأشكال كلام الله تعالى ، فكذلك صحّ أن القراءة هي حروف وأصوات بها يسمع كلام الله القديم على حسب اختلاف اللغات بين أربابها ، لا أنها نفس كلامه القديم. وقد اختلف المفسرون في هذه الحروف المقطعة في أوائل السور على ثمانية أقوال :

أحدها : أنها أسماء من أسماء القرآن ، كالذكر والفرقان ، وهذا قول قتادة وابن جريج.

الثاني : أنها اسم لكل سورة ذكرت في أولها ، وهذا قول زيد بن أسلم.

الثالث : أنها يعبر بها عن اسم الله الأعظم ، وهذا قول السدّي ، والشعبي.

والرابع : أنها أقسام أقسم بها الله تعالى ، وبه قال ابن عباس ، وعكرمة.

والخامس : أنها حروف مقطعة من أسماء وأفعال ، فالألف من أنا ، واللام من الله ، والميم من أعلم. فكان معنى ذلك أنا الله أعلم. وهذا قول ابن مسعود ، وسعيد بن جبير ونحوه عن ابن عباس أيضا ؛ والعرب قد تعبر عن الكلمة بحرف منها ، كقول القائل : قلت لها قفي. قالت : قاف. أي وقفت ، ومثله في كلام العرب كثير. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى : (كهيعص (١)) [مريم : ١] الكاف من كاف ، والهاء من هاد ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق.

السادس : أن كل حرف منها يدل على معان مختلفة ، فالألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف ، والميم مفتاح اسمه مجيد ، والألف آلاء الله ، يعني نعمه ، واللام ملكه ، والميم مجده ، والألف سنة ، واللام ثلاثون سنة ، والميم أربعون سنة ، آجال ذكرها.

والسابع : أنها حروف من حساب الجمل ، لما روي عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله قال : مر أبو ياسر [ابن أخطب] ورسول الله يتلو فاتحة الكتاب وسورة البقرة (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ و ٢] فأتاه أخوه حييّ بن أخطب ، فأخبره ، فقال حييّ بن أخطب : وأقبل على اليهود ، فقال لهم : الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم

١٧٣

أربعون ، وهذه أحد وسبعون سنة ، ثم [ذهب حيي مع هؤلاء النفر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم و [قال رسول الله فهل معك غير هذه؟ قال نعم (المص (١)) [الأعراف : ١] قال : أثقل وأطول ، والألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه أحد وستون ومائة سنة ، ثم قال : هل معك غير هذه يا محمد؟ قال : نعم ، قال : ما ذا؟ قال : (الر) [يونس : ١ ، هود : ١ ، يوسف : ١ ، إبراهيم : ١ ، الحجر : ١] فقال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة ، فهل مع هذا غيره؟ قال : نعم (المر) [الرّعد : ١] قال : هذا أثقل وأطول ، الألف واحد ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. قال : لقد التبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليل أعطيت أم كثير. ثم قاموا من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو يسار لأخيه حيي ولمن معه من اليهود : وما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون سنة. قالوا : والله لقد تشابه علينا أمره ، قيل فنزلت فيهم (١) : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)) [آل عمران : ٧].

والثامن : أنها حروف هجاء ، أعلم الله بها العرب حين تحداهم ، أن تلاوة القرآن بحروف كلامهم هذه التي عليها بناء كلامهم ، ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم ، إذ لم يخرج تلاوته عن مباني كلامهم.

جواب ثاني : وهو أنك تقول : إذا قلتم أن الحرف المفرد إذا أتى به في تلاوة كلام الله هو نفس كلام الله ، فما تقولون فيمن أسقط شيئا من كلام الله ، أيجوز ذلك أم لا؟ فلا بد من أن يقولوا لا يجوز. فيقال لهم : خبرونا عن جماعة من القراء من الصحابة والتابعين ومن اتبعهم بإحسان الذين قرءوا (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)) [الفاتحة : ٤] وهم الأكثر ، قد أسقطوا ألفا هي في قراءة غيرهم. لأن غيرهم يقرءون مالك بالألف. فإن قالوا : أخطئوا فلا يجوز لهم ذلك. وهو القول الصحيح الصواب. قلنا : فصحّ أن الألف ليس نفس كلام الله القديم ، لأنه لا يجوز لأحد أن

__________________

(١) والخبر ضعيف (ز).

١٧٤

يسقط منه شيئا (١) ، وإنما الألف صفة قراءة دون قراءة ، فالمقروء مع إثبات الألف هو المقروء مع إسقاط الألف شيء واحد ، لا يزيد بزيادة الحروف ولا ينقص بإسقاط الحروف ، والقراءة تزيد بزيادة الحروف وتنقص بإسقاط الحروف ، وقد قيل : إن من قرأ القرآن بقراءة ابن كثير كتب له أجر ختمة وثلث ، لأنه يزيد في الحروف أكثر من سائر القراء لأنه يقرأ لديه وإليه وعليه ، والكسرة عندهم تقوم مقام حرف ، وقرأ في التوبة (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥ و ٢٦٦ ، آل عمران : ١٥ ، ١٣٦ ، ١٩٥ ، ١٩٨] وهذا يوضح لك أن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات» أن الحروف عائدة إلى القراءة. وطول حروفها دون المقروء الذي هو كلام الله تعالى لا يزيد ولا ينقص. وسنذكر ذلك في الجواب عن هذا الخبر إذا احتجوا إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

جواب آخر : وهو أنك تقول : خبرونا عن حروف كلام الله على زعمهم ، أهي ثمانية وعشرون حرفا أو أكثر أو أقل؟ فإن قالوا هي ثمانية وعشرون حرفا فقد جعلوا القديم مما يحله الحصر والعد والافتتاح والانتهاء [وهي] صفة المخلوقات لا صفة القديم. وإن قالوا : أكثر. قلنا : أكثر إلى ماله حد أو إلى ما لا حد له؟ فأي القولين قالوا كان باطلا ، لأن القرآن لا يخرج في الكتابة والتلاوة على أكثر من هذه الثمانية وعشرين حرفا ، فعلى قولهم يجب أن يكون معنا بعض القرآن لا كله ، لأن القرآن عندهم حروف يزيد على هذه الحروف ، ولعل الذي يكون معنا من القرآن أقله ، لا سيما إن قالوا إن الحروف القديمة لا يدخلها حصر ولا عد ، وهذا قول ساقط واه عند كل عاقل محصل ، فلم يبق إلا أن الحروف والأصوات أدوات نكتب بها ونتلو بها الكلام القديم ، وغير الكلام القديم ، لا أنها نفس الكلام. فافهم ذلك.

وجواب آخر : وهو أن تقول لهم : خبرونا أليس قد قرأ سائر القراء غير نافع وابن عامر في سورة الحديد في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الحديد : ٢٤] بإثبات الهاء والواو ، وقرأ نافع وابن عامر بإسقاط الهاء والواو ، فالذي أسقط من الهاء والواو كلام الله تعالى أو قراءة كلام الله تعالى ، فلا يجوز لعاقل أن

__________________

(١) وإسقاط الألف وإثباتها متواتران ، فيكونان كآيتين ، ولم يسقطها قارئ بنفسه ولا أثبتها قارئ آخر بنفسه ، فلا تكون في الجواب وجاهة كما سيأتي (ز).

١٧٥

يقول الهاء والواو كلام الله ؛ لأن من أسقط شيئا من كلام الله كفر (١) ولا خلاف بين المسلمين أنهما على الحق ، وربما رجحوا قراءتهما على غيرهما ، فلم يبق إلا أن الحروف آلة للقراءة تسقط تارة وتثبت أخرى ، والمقروء المتلو ثابت لا يحتمل النقصان ولا الزيادة ، لأنه قديم لكن المخلوق يجوز ثبوته تارة وإسقاطه أخرى.

* * *

فصل

فإن احتجوا على إثبات قدم الحروف ، وأن كلام الله القديم يتصف بالحروف ، بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أنزل القرآن على سبعة أحرف».

فالجواب : أنه لا حجة في هذا الحديث من وجوه عدة ، لأنكم تخالفون هذا الحديث. لأن الرسول قال على سبعة أحرف ، وأنتم على ثمانية وعشرين حرفا ، فقد أسقطتم متن هذا الحديث ، ولم تقولوا به ، فلا حجة لكم فيه.

جواب آخر : وهو أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزل على سبعة أحرف» ولم يقل تكلم الله بحرف ، وأنتم إنما تريدون إثبات الحرف لكلامه ، لا نزول كلامه فلا حجة لكم فيه.

جواب آخر : وهو أن قوله عليه‌السلام على سبعة أحرف ، لم يرد بها حروف التهجي ، وإنما أراد بها غير ذلك ، بإجماع أهل العلم من الصحابة والتابعين ، ولأنه روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه فسر ذلك بغير حروف التهجي ، لأنه قال : «على سبعة أحرف» ثم فسرها فقال : «أمر ، ونهي ، وترغيب ، وترهيب ، وجدل ، ومثل ، وقصص» وقال بعض الصحابة والتابعين يعني على سبع لغات ، مما لا يغير حكما من تحليل ولا تحريم ، مثل قوله تعالى : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) [القصص : ٣١] فكانوا لا يفرقون بين قول التالي أقبل أو هلم ، أو يقال : لأن معانيها متفقة وإن اختلفت اللغات فيها ، وما جرى هذا المجرى ، وكانوا في صدر الإسلام مخيرين فيها ، فلما اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم عند جمع القرآن على أحدها ، وهو قوله (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ) منع هذا الإجماع من غير أقبل إلى هلم وتعال. ونحو ذلك ، وقيل عن بعض الصحابة والتابعين : إن قوله على سبعة أحرف أراد بذلك على سبع لغات للعرب ، في صيغة

__________________

(١) والإسقاط والزيادة في مثل هذه المواضع متواتران ؛ فيكونان في حكم آيتين فلا وجاهة في هذا الجواب. وكفى باقي الأجوبة (ز).

١٧٦

الألفاظ في التلاوة وكيفية مخارجها ونقص حروفها وزيادتها ووجوه إعرابها ، كالذي اختلف فيه القراءات ، فقرأ بعضهم : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ١٣٣] بغير الواو ، وقرأ آخرون بواو ، وقرأ بعضهم «فيكون» بالنصب في مواضع ، وقرأ آخرون فيكون بالرفع فيما نصبه الأولون ، وقرأ بعضهم : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧] فنصب آدم ورفع كلمات وهو ابن كثير ، وقرأ آخرون برفع آدم ونصب كلمات ، إلى نحو هذا مما لا يحصى عددا ، فبطل احتجاجهم بالإجماع مما نقل عن الرسول والصحابة والتابعين أن أحدا منهم قال إنه أريد بالسبع حروف التهجي ، وإنما المراد به اختلاف القراءات دون غيرها ما روي أن عمر رضي الله عنه مرّ ببعض الصحابة وهو يقرأ سورة الفرقان على خلاف القراءة التي أقرأه إياها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال عمر : فكدت أن أساوره ، يعني أعجل عليه. فأبطش به ، ثم قال : لببته حتى أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله ، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على خلاف القراءة التي أقرأتنيها فقال : خلّ عنه. ثم قال : اقرأ ، فقرأ عليه القراءة التي سمعتها فقال : هكذا أنزل. ثم قال : اقرأ يا عمر ، فقرأت عليه القراءة التي أقرأنيها فقال : هكذا أنزل. ثم قال : «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، الكل شاف كاف فاقرءوا ما تيسر منه» فأد هذا الحديث وجوها :

أحدها : أن الحروف واختلافه صفة القراءة التي يجوز فيها الاختلاف ، لا كلام الله القديم الذي لا يجوز فيه الاختلاف (١).

الثاني : أن عمر ما أنكر عليه أن القرآن المقروء بقراءته كلام الله ، إنما أنكر عليه القراءة التي هي صفة القارئ وظن أن هذه القراءة فاسدة وقراءته أعلمه الرسول عليه‌السلام أن كل واحدة من القراءتين جائزة ، وإن اختلفا ، لأن المقروء بها لا يختلف لاختلافها.

الثالث : أن الرسول أخبر أن القرآن يقرأ على سبع قراءات ، وأن تعدد القراءات لا يدل على تعدد القرآن ؛ لأن السبع المقروء بها واحد ، وهو كلام الله القديم ، الذي لا يشبه كلام الخلق ، ولا يختلف في حال من الأحوال ، وإن اختلفت القراءات. فافهم التحقيق ترشد إن شاء الله تعالى.

* * *

__________________

(١) كان أحمد يقول : القرآن من علم الله وعلم الله غير مخلوق : فما تواتر من زيادة ونقص كلاهما أبعاض القرآن باعتبار الوجود العلمي ، فلا وجاهة في هذا الجواب (ز).

١٧٧

فصل

فإن احتجوا على أن الله تعالى متكلم بحروف ، بما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ، أما إني لا أقول ألم حرف ، لكن الألف حرف ، واللام حرف ، والميم حرف» قالوا : فدل على [أنه] تكلم بحروف ، فالجواب من وجوه :

أحدها : أن الحديث لا حجة فيه على ما تريدون ، لأنه لم يقل تكلم الله بحروف ، وإنما قال : من قرأ فله ؛ وهذا لا حجة فيه.

جواب آخر : وهو أن الأجر إنما يقع على الطاعة التي هي القراءة ، لا على القديم الذي هو كلام الله ، ونحن نقول : إن الحرف عائد إلى القراءة لا إلى المقروء ، والذي يحقق ذلك أنه إذا جلس اثنان حافظان لكلام الله تعالى وهما ساكنان ؛ أليس كل واحد منهما معه كلام الله في صدره ، كما أخبر تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٩] ولا يحكم بأن لكل واحد منهما حسنة ، وإن كان كلام الله موجودا معهما ؛ فإذا قرأ أحدهما وسكت الآخر ، أليس يحصل للقارئ بكل حرف عشر حسنات ، لوجود القراءة منه ، وليس للساكت منهما هذه الحسنات ، وإن كان معه كلام الله القديم على الوجه الذي ذكرنا ، وإنما زاد عليه هذا ، بأن وجدت منه القراءة التي هي حروف وفعل منه يسمى طاعة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل عبادات أمتي قراءة القرآن» فصحّ أن الثواب على الفعل الذي هو طاعة ، لا على الكلام القديم ، فكان الحرف صفة التلاوة لا صفة المتلو.

جواب آخر : وهو أنه قد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أضاف الحرف إلى التلاوة ، لا إلى كلام الله القديم ، وهو ما روى عبد الله بن مسعود أن الرسول قال : «تعلموا القرآن فإنه مأدبة الله فتعلموه واتلوه فإنكم تؤجرون على تلاوته بكل حرف عشر حسنات».

فأضاف الحرف إلى التلاوة لا إلى المتلو ، فصحّ ما قلناه ، وبطل ما توهم الجاهل أنه حجة له.

* * *

فصل

فإن احتجوا في إثبات الصوت لكلام الله تعالى ، وأنه متكلم بأصوات ، بما روي في الحديث : «إذا كان يوم القيامة نادى الله تعالى بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه

١٧٨

من قرب» (١) الخبر ... قالوا : فقد أضاف الرسول عليه‌السلام الصوت إلى الله تعالى ، فصحّ ما قلناه ، الجواب من أوجه :

أحدها : أنك تقول أولا لا حجة لكم فيه ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قال تكلم الله بصوت ، ولا قال بصوت ، ولا قال كلام الله أصوات ، كما تزعمون بجهلكم ؛ وإنما قال نادى الله بصوت ، وليس الخلاف إلا أن كلامه أصوات ، فلا حجة لكم فيه.

جواب آخر : وهو أن هذا الحديث قد روي فيه ما يدل على [أن] الصوت من غير الله بأمره ، لأنه روي إذ كان يوم القيامة جمع الله الخلائق في صعيد واحد ، ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي ، يأمر مناديا فينادي ، فصحّ أن النداء من غيره ، لكن لما كان بأمره أضيف النداء إليه ، كما يقال : نادى الخليفة في بغداد بكذا وكذا. ويقال : أمر الخليفة مناديا فنادى بأمره في بغداد بكذا وكذا ، ولا فرق بين الموضعين ، فإن كل عاقل يعلم أن الخليفة لم يباشر النداء بنفسه ، لكن لما كان بأمره جاز أن يضيفه إلى نفسه ، وأن يضاف إليه ، وإن لم يكن هن المنادي بنفسه ، ويصحح جميع ذلك القرآن ، قال الله : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢)) [ق : ٤١ ، ٤٢] فأضاف النداء إلى المنادي ، فصحّ أن الصوت صفة المنادي لا صفة الآمر بالنداء ؛ ومن عجيب الأمر أن الجهال لا يجوزون أن يكون النداء صفة المخلوق إذا كان رفيع القدر في الدنيا ، كالخليفة والأمير ، وينفون عنه ذلك ثم يجوزونه في حق رب العالمين.

جواب ثالث : وذلك أنا وكل محقق يقول : إن هذا الصوت ليس بموجود اليوم ، وإنما يكون يوم القيامة ، وكلام الله قديم بقدمه ، موجود بوجوده ، فصحّ أن هذا شيء لم يكن بعد ، وإنما يكون يوم القيامة ، ومن زعم أن صفة الله تعالى ليست بموجودة اليوم ، وإنما توجد يوم القيامة فقد جعل كلام الله تعالى مخلوقا لا محالة ، فصحّ بهذه الجملة أن الصوت ليس بصفة لكلام الله تعالى ، وإنما هو صفة للمنادي الذي يأمره الله تعالى بالنداء في ذلك اليوم.

__________________

(١) يريد به حديث جابر ، وفي سنده عبد الله بن محمد بن عقيل ، وهو ضعيف. وقد انفرد عنه القاسم بن عبد الواحد ، وهو ممن لا يحتج بهم عند بعضهم ، ولذا علقه البخاري بقوله «ويذكر» على أن كون الإسناد مجازيا متعين بحديث الدار قطني «يبعث الله يوم القيامة مناديا بصوت يسمعه أولهم وآخرهم» .. الحديث. راجع ما علقناه على السيف الصقيل (٤٥٣) (ز).

١٧٩

جواب آخر : وهو أن كل ما أضيف إلى الله تعالى لا يجب أن يكون صفة له ، فمن زعم هذا فقد كفر وأشرك لا محالة ، لأن الخبر قد جاء بقول الله تعالى : «يا ابن آدم مرضت فلم تعدني ، جعت فلم تطعمني ، عطشت فلم تسقني ، عريت فلم تكسني» فأضاف هذه الأشياء إليه في الخبر ، ومن زعم أنه يجوع ويعطش ، ويمرض ويعرى ، فقد كفر وأشرك لا محالة. وكذلك قال تعالى : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [الأنعام : ٧٣] على قراء من قرأ بالنون [المفتوحة] والنافخ إسرافيل. وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) [الأحزاب : ٥٧] فأضاف الأذية إليه ، ومن زعم أن الأذية من صفته فقد كفر لا محالة ، فلم يبق إلا أن النداء والصوت حصل من الصائت المأمور ، لا من الآمر ، لكن لما كان بأمره جاز أن يضاف إليه ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ) [الأعراف : ٥٢] وإنما جاء به محمد عليه‌السلام بأمره. وقال تعالى : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) [القمر : ٣٧] والطامس جبريل ، وميكائيل طمسا أعين قوم لوط ، لكن لما كان بأمره أضافه إلى نفسه وكذلك يقال : رجم وجلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما الراجم والجالد غيره ، لكن لما كان بأمره حسن أن يضاف إليه. فافهم الحق لتبطل به الباطل.

فإن احتجوا بما روي : أن الله تعالى إذا تكلم الله بالوحي ، وروي بالأمر من الوحي جاء له صوت كجر السلسلة على الصفا (١). فالجواب عن هذا من وجوه عدة :

أحدها : أن هذا هو الحجة عليكم ، لأن هذا الصوت خلاف ذلك الصوت الذي في الخبر الأول ، لأن ذلك قال فيه «يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب» وهذا الصوت إنما يسمعه بعض الملائكة ، فصحّ أن هذا الصوت خلاف ذلك الصوت ، ولو كان الصوت صفة قديمة لما اختلف ولا تغير لأن القديم لا يجوز عليه الاختلاف ، ولا التغير ، فلما اختلف وتغير دلّ أن ذلك صفة الخلق لا صفة الحق. فافهم.

جواب آخر : وذلك أنه قال : إذا تكلم الله بالوحي ، جاء له صوت ، ولم يقل إذا تكلم الله بصوت فالوحي غير الموحي ، لأن الموحي كلام الله تعالى ، والوحي إنزال كلام الله ، وإعلام كلام الله ، والذي يدل على صحة ذلك القرآن. وذلك أن الله تعالى فصل بينهما فقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً) [الشّورى : ٧] فالوحي إنزال القرآن ،

__________________

(١) والمحفوظ هو الموقوف ، كما ذكره الدار قطني في العلل ، ولا يحتج بالموقوف في باب الصفات ، والسكري في (خلق الأفعال) مختلط لا يحتج به عند ابن أبي حاتم ، وفي سند خبر الصوت عنعنة الأعمش وهو مدلس. راجع ما ذكرناه فيما علقناه على الأسماء والصفات (ز).

١٨٠