العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

عليه ، سبحانه وتعالى عما يشركون. ونحن براء إلى الله تعالى من جهلهم وبدعهم ، ونقول : إن مذهب أهل السنة والجماعة الذي ندين الله تعالى به أنه لا يتحرك متحرك ، ولا يسكن ساكن ولا يطيع طائع ، ولا يعصى عاص ، من أعلى العلى إلى ما تحت الثرى إلا بإرادة الله تعالى ، وقضائه ومشيئته.

ويدل على صحة ما قلناه الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل. فأما الكتاب : فأكثر من أن يحصى ، لكن نذكر منها ما فيه الكفاية ، ويدل العاقل على نظائره من أدلة الكتاب ، فمن ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨)) [هود : ١١٨](إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٩] وهذه الآية أوضح دليل وأقوم حجة من وجوه عدة :

أحدها : أنه أخبر تعالى أنه لو شاء وأراد لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الإيمان أو على الكفر والضلال ، وهذا خلاف قول المعتزلة ، لأنهم يقولون : إنه ما أراد إلا كونهم أمة واحدة على الإيمان ، بطل قولهم ببعض هذه الآية.

الثاني : أنه قال : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود : ١١٨](إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٩] فأخبر تعالى أنه خلقهم لما أراد من اختلافهم ، وأنه لم يرد أن يكونوا أمة واحدة.

الثالث : قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود : ١١٩] فأخبر تعالى أن منهم من رحمه وأراد رحمته دون غيره ، فصحّ أنه لا يكون من عباده ولا يجري في ملكه إلا ما أراده وقضاه وقدره.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥] فنصّ تعالى على أن الهدى بإرادته ، والضلال بإرادته ، وهذا نص واضح لا إشكال فيه.

ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] وجه الدليل : أنه تعالى خلق من الجن والناس قوما ليدخلوا النار ويكونوا أهلا لها ، ولا يكونون أهلا لها إلا بالكفر والطغيان والعصيان ، فعلم أن جميع ذلك بإرادته وقضائه وقدره.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] فأخبر تعالى أن الحجج والآيات لا تنفع ، وإنما تنفع المشيئة التي تتم بها الأشياء ، فمن شاء إيمانه آمن ، ومن شاء كفره لم يؤمن.

٢٠١

ويدل عليه قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [المائدة : ٤١] وهذا نص في أنه أراد فتنة الكافر وإضلاله. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] وهذا نص واضح يغني عن الشرح ، إلا أنه أخبر أنه ما شاء أن يؤمن أهل الأرض كلهم. وعند المخالف أنه قد شاء ذلك ، والله قد أكذبه في هذه الآية وأمثالها.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة : ٤١] وهذا صريح في إرادته بقاءهم على كفرهم. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التّوبة : ٤٦] فأخبر تعالى أنه أراد قعود المنافقين عن الخروج إلى الغزو في سبيل الله تعالى ، ولو أن أحدنا أراد أن يستقصي جميع ما في القرآن من الأدلة على صحة مذهب أهل السنة والجماعة وإبطال بدعة القدرية مجوس هذه الأمة كما جاء في الأثر وقول الصحابة لطال ذلك ، وما وسعه كتاب (١).

ويدل على صحة قول أهل السنة والجماعة من الأخبار ، ما روي في الصحاح في محاجة موسى وآدم عليهما‌السلام ، حتى قال آدم : يا موسى أترى هذا الأمر قد قدر علي أولم يقدر؟ فقال موسى : بل قدر عليك. فقال له آدم : فكيف يكون فراري من أمر قدر علي؟ قال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فحج آدم موسى ، أي ظهر عليه في الحجة (٢) وهذا صريح من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن جميع الرسل عليهم‌السلام أن جميع الأمور خيرها وشرها بقضاء الله وقدره ومشيئته.

ويدل عليه أيضا الخبر المروي في الصحاح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن أبيه ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أتاه الرجل فسأله عن الإيمان فقال : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى» فقال : صدقت

__________________

(١) والأدلة المذكورة واضحة في عموم إرادة الله سبحانه. وليس في شيء منها إبطال اختيار العبد ليكون مجبورا في أفعاله ، وأما حديث القدرية مجوس هذه الأمة فقد ذكرنا كلام أهل الشأن فيه في مقدمة «التبصير» وفي سنده جعفر بن الحارث ، وهو منكر الحديث عند العقيلي ، وغلا ابن الجوزي والصنعاني فحكما بوضعه (ز).

(٢) ويرى ابن حزم كون موسى محجوجا ناشئا من جعله لو آدم على غير فعله لا من القدر ، كما في الإحكام (١ ـ ٢٦) فلا يكون الحديث من أدلة القدر عنده ، وإن كان في الكتاب والسنة كثير من الأدلة على القدر ، ولا يرى ابن حزم أيضا معنى الإجبار والإكراه في القضاء والقدر على خلاف ظن بعض الناس كما في الفصل (٣ ـ ٥١) (ز).

٢٠٢

يا محمد ، ثم أخبرهم أنه جبريل عليه‌السلام ، فصحّ بإجماع الأنبياء والرسل والملائكة والصحابة أن الأمور كلها بقضاء الله وقدره.

ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جملة حديث : «فتقول الملائكة يا رب أشقي أم سعيد ، فيقضي الله عزوجل ويكتب الملك ، ثم تطوى الصحف فلا يزاد فيها ولا ينقص» ثم أكد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه» فعلم كل عاقل أن الله تعالى أسعد من شاء وكتبه سعيدا وأشقى من شاء وكتبه شقيا ، وأخبار الرسول وأقوال الصحابة في هذا المعنى كثيرة جدا لا تحصى ، وفي بعض ما ذكرنا كفاية.

ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة : إجماع المسلمين من الصحابة وهلم جرا إلى وقتنا هذا : أن الجميع منهم يطلق ، ويقول في الخلاء والملاء من غير نكير : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. فوقع الإجماع من الخاص والعام أن الأمور كلها بمشيئة وقدر (١) من الله تعالى. وقيل أوحى الله إلى بعض الأنبياء : تريد وأريد ولا يكون إلا ما أريد ، فإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ، وهذا نص واضح في أنه لا يكون في الدارين إلا ما أراد الله تعالى. وقد سئل بعض السلف فقيل له : بم عرفت ربك؟ قال : بنقض العزائم ، وفسخ الهمم ، وذاك أن الواحد منا يعزم على الأمر ويهم به ، فيجري عليه غير ما عزم عليه وهمّ به ، فعلم كل عاقل أن ذلك الفسخ لأن المقدر قدر له غير ما قدر لنفسه ، والمريد أراد له غير ما أراد لنفسه ، فكان ما أراده العبد لنفسه. ولو شرعنا في ذكر ما روي عن السلف والخلف في هذا المعنى طال ولم يسعه كتاب (٢).

* * *

فصل

ويدل على صحة مذهب أهل السنة والجماعة من أدلة العقل أن الملك إذا جرى في ملكه ما لا يريد ، دلّ ذلك على نقصه أو ضعفه أو عجزه ، والله تعالى موصوف

__________________

(١) وقدر الله في أفعال العباد الاختيارية على طبق علم الله بها ، وعلم الله بأفعال العبد باختياره لا ينافي اختياره فيها ، بل يحقق اختياره فيها ، فليس هناك شائبة جبر في التحقيق (ز).

(٢) أسباب الخذلان وأسباب التوفيق عند الله سبحانه تؤدي إلى تيسير النشر في أناس وتيسير الخير في أناس ، والأسباب التي يتلبس بها العبد تؤديه إلى مقتضاها وإن كانت تفاصيل ذلك مجهولة عند العبد ، فيعود الأمر إلى حسن اختيار العبد أو سوء اختياره (ز).

٢٠٣

بصفات الكمال ، لا يجوز عليه في ملكه نقص ولا ضعف ولا عجز ، فكيف يكون في ملكه ما لا يريده ، ويريده أضعف خلقه فيكون. كلا سبحانه وتعالى أن يأمر بالفحشاء أو يكون في ملكه إلا ما يشاء ، فثبت بحمد الله ومنّه مذهب أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة وأدلة العقل.

* * *

فصل

في ذكر آيات وسنة يحتجون بها والجواب عنها.

فإن قالوا : فما معنى قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] قلنا :

المراد به أنه لا يثيب على الفساد ولا يمدحه ولا يأمر به ، فإن اسم المحبة إنما يقع على ما يثاب عليه ويمدحه فاعله عليه ، وليس كل ما يريده المريد يقال فيه أنه أحبه ، ألا ترى أن المريد يريد بذل ماله للسلطان الجائر من هدية ورشوة ليتقي بذلك شره ، ثم لا يقال إنه أحب ذلك ، وكذلك الرجل اللبيب يريد ضرب ولده وقرّة عينه ليؤدبه ، ثم لا يقال إنه أحب ذلك ، وكذلك يريد ربط جروحه وقطع سلعته وشرب المر من الدواء ، ولا يقال إنه أحب ذلك. وكذلك الحميم يريد ويبادر في الحفر لميته وتجهيزه وتغييبه تحت التراب ، ولا يقال إنه محب لذلك ولا يؤثره. فعلم أنه ليس كل ما أراده المريد أحبه ، وإنما يقال أحب الشيء إذا مدحه وأثنى عليه وأثاب عليه ، والله تعالى لم يمدح الفساد ولم يثن على المفسد ولم يثبه.

جواب آخر : وهو ما ذكره بعض أصحابنا وهو أن قوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] يعني لا يحبه من أهل الصلاح والطاعة ، وهو كقوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : ٧] يعني لعباده المؤمنين ، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.

فإن قيل أليس قد قال الله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الأنعام : ١٤٨] فدلّ على أن الشرك ليس بمشيئة الله تعالى فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن سياق الآية حجة عليهم ، لأنه قال فيها : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (١٤٩)) [الأنعام : ١٤٩].

الجواب الثاني : أنهم إنما قالوا ذلك على سبيل التكذيب والاستهزاء ، لا على سبيل الإيمان ، وإنما قصدوا تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي

٢٠٤

الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] وهذا كقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧] قالوا ذلك على سبيل التكذيب والاستهزاء ، لا على وجه الإيمان والاعتراف بأن الله قادر أن يطعمهم. فلذلك قالوا : ما في تلك الآية وجعلوه لهم حجة ، فجعله كذبا وأن حجتهم باطلة ، فصحّ ما قلناه.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذّاريات : ٥٦] فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنه أراد بعض الجن والإنس. الذي يدل على صحة ذلك أن كثيرا من الجن والإنس يموت قبل أن يبلغ حد التكليف والعبادة ، وصار هذا كقوله تعالى لأصحاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) [الفتح : ٢٧] وأراد البعض لا الكل ، لأن منهم من مات قبل الدخول وقتل قبل الدخول. الذي يقوي ذلك ويصححه : أنه قال في آية أخرى : (فَرِيقاً هَدى) [الأعراف : ٣٠] يعني إلى الطاعة (وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) [الأعراف : ٣٠] يعني عن العبادة والطاعة.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] وهم الذين لم يرد أن يطيعوه ، فأعلم ذلك.

والجواب الثاني : أن المراد بذلك أن لا يقروا بالعبادة طوعا أو كرها ، وهذا قول ابن عباس ، وهو حسن ، لأن الكل لا بد أن يقروا بذلك ؛ إما في الدنيا وإما في الآخرة.

جواب آخر : وهو أن المراد بذلك إلا لآمرهم وأنهاهم ، وهذا قول مجاهد.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصّلت : ١٧] فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن معنى هديناهم ، أي دعوناهم قاله [سفيان] وهذا صحيح ، لأن الهدى يكون بمعنى الدعاء ؛ قال الله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرّعد :

٧] أي داع يدعوهم إلى الهدى ، وقال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشّورى : ٥٢] أي تدعو.

الجواب الثاني : (وَهَدَيْناهُمْ) [الأنعام : ٨٧] أي بيّنّا لهم سبيل الهدى ، قاله قتادة ، وهذا صحيح ، يدل عليه قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)) [البلد : ١٠] يعني بيّنّا له طريق الخير وطريق الشر. وقال الصديق رضي الله عنه لما كان هو والرسول

٢٠٥

عليه‌السلام قاصدين إلى الهجرة من مكة إلى المدينة فكان الناس يقولون يا أبا بكر ، وكان معروفا فيسلمون عليه ويسألونه. من هذا الرجل الذي معك؟ فيقول : رجل يهديني السبيل ، يعني يعرفني الطريق ، وهو يريد رضي الله عنه سبيل الحق والدين.

الجواب الثالث : أعلمناهم الهدى من الضلالة.

جواب رابع : وهو أن المراد بذلك هدينا فريقا منهم وأضللنا فريقا دليل ذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥)) [النّمل : ٤٥] ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦)) [الأعراف : ٧٥ ، ٧٦] فصحّ ما قلناه ، وأنه هدى بعضا وأضلّ بعضا بنص القرآن ، فاعلم ذلك.

جواب خامس : وهو أن فريقا من ثمود آمنوا ثم ارتدّوا ، ففيهم نزلت الآية ، يدل عليه قوله تعالى : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصّلت : ١٧] يعني رجعوا إلى الكفر بعد الإيمان.

فإن قيل : فما قولكم في قوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : ٧] فصح أنه لا يريد الكفر ، فالجواب من وجهين :

أحدهما : أنه لو كان كما قلتم لكان يقول : ولا يرضى لأحد الكفر ، أو يقول :

ولا يرضى لكم الكفر ، فلما لم يقل ذلك لم يكن لكم حجة.

الثاني : أنه قال تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : ٧] وإذا أضافهم إليه بلفظ العبودية فإنما أراد بذلك خواص عباده المؤمنين دون الكافرين. ونحن نقول : إنه ما رضي للخواص الكفر ولا أراد لهم الكفر ، وإنما رضي لهم الإيمان. الذي يدل على صحة هذا : إن العباد إذا أضافهم إليه كان المراد بهم المؤمنين دون غيرهم ، قوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢] وأراد بذلك المؤمنين دون الكفار. وكذلك قوله تعالى : (يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨)) [الزّخرف : ٦٨] أراد المؤمنين دون الكفار. وكذلك قوله تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦)) [الإنسان : ٦] أراد المؤمنين دون الكفار ، وكذلك قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزّمر : ٧] أراد المؤمنين دون الكافرين ، فاعلم ذلك وتحققه.

٢٠٦

الجواب الثاني : أن الرضا بالشيء هو المدح له والثناء عليه والإثابة عليه وكونه دينا وشرعا ، والله تعالى لا يرضى الكفر بمعنى أنه لا يمدحه ولا يثيب عليه ولا يرضى كونه دينا وشرعا ، دون إرادة وجوده وخلقه. فاعلم ذلك.

فإن قيل : أتقولون أن الله تعالى قضى المعاصي وقدّرها ، كما أنه خلقها ، قلنا له : أجل : نقول ذلك بمعنى أنه خلقه وأوجده على حسب قصده وإرادته ، ولا نقول إنه قضاه بمعنى أنه أمر به ، ولا رضيه دينا وشرعا ، وأنه يمدحه ويثيب عليه.

فإن قيل : فعلى كم وجه ينقسم القضاء؟ قيل له على وجوه كثيرة ...

منها : قضاء يكون بمعنى الخلق ، وذلك قوله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصّلت : ١٢] يعني خلقهن ، ويكون القضاء بمعنى التسليط. والخلق ، وهو قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) [سبإ : ١٤] يعني خلقنا وسلطنا عليه الموت ، ويكون بمعنى الإخبار والإعلام ، وهو قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) [الإسراء : ٤] يعني أعلمناهم وأخبرناهم ، ويكون القضاء بمعنى الأمر ، قال الله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] ، ويكون القضاء بمعنى الحكم والإلزام ، يقال : قضى القاضي على فلان بكذا ، أي أوجبه عليه وألزمه إياه وحكم به عليه ، فإن الله تعالى قضى بالمعاصي والكفر ، بمعنى أنه أراده وخلقه ، وقدّره ، ولا يجوز أن يكون بمعنى أمر به واختاره دينا وشرعا ، ولا مدحه ، ولا يثيب عليه ، ولا فرضه فرضا على أحد ، بمعنى أنه أوجبه عليه ، فاعلم هذه الجملة وتحققها تسلم من شبه المبتدعة وتلبيسهم على العوام ومن لا فهم له إن شاء الله.

فإن قيل : أفترضون بقضاء الله وقدره؟ قلنا : هذا يحتاج إلى تفصيل ، فنحن نطلق الرضا بقضاء الله وقدره على الإطلاق ، بمعنى أنه لا يعترض على حكمه السابق وإرادته الأزلية ، ولا يتقدم بين يديه بالاعتراض بل نسلم لما أراد فينا وفي غيرنا ، ولا نعترض بما يفعل ، فنقول : نحن نوصي بقضاء الله الذي هو خلقه ، كما أخبرنا به ومدحنا على فعله ، ووعد عليه الثواب ، فنرضى بذلك ونريده لنا ولجميع إخواننا من المسلمين ، ولا نقول : إن قضاءه الذي هو بمعنى خلقه ، وإيجاده الذي هو خلقه مذموما قبيحا ؛ ذنبا معصية كفرا ، إنا نرضى بذلك دينا وشرعا ولا نحبه ولا نرضاه ولا نريده لنا ولا لأحد من إخواننا المسلمين ، فاعلم هذا التفصيل تسلم من شبه الأباطيل ومن خدع أهل التعطيل. يؤكد هذا أو يقرره أنا نقول وكل مسلم عند الإطلاق : إن

٢٠٧

جميع الأشياء لله تعالى ، إنه خلقها وهي ملك له ، لا خالق ولا مالك لها غيره ، من والد ، وولد ، وزوجة ، وصاحبة ، فنطلق ذلك عند الإجمال. فأما عند التفصيل فنقول : إن لله الأسماء الحسنى. ونقول : إن له الجلال ، والجمال ، والقدرة ، والكمال ، ولا نقول : إن له الولد ، والوالد ، والصاحبة ، والزوجة ، والشريك. فاعلم ذلك. وكما نقول عند الإطلاق : إن كل مخلوق يبيد ويفنى ويزول ويضمحل ، ولا نقول عند التفصيل : إن حجة الله على خلقه والأعمال من الصلاة ، والصيام ، والحج ، إن ذلك يبيد ويفنى ويضمحل ، ونحو ذلك.

ثم نقول لهم يا جهلة : أليس الله تعالى قضى بموت نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك موت جميع الأنبياء عليهم‌السلام ، فلا بد أن يقولوا : بلى. فنقول لهم : أفترضون بذلك وأشباهه؟ إن قالوا : نعم. وكلنا نقول : إنه قضى ذلك ، قلنا : وكذلك نقول نحن أيضا : قضى كل موجود وخلقه وأراده عند الإطلاق ، وعند التفصيل لا نقول : إنا رضينا موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بمعنى إنا أحببنا ذلك ، وأنه سرنا ، فاعلم ذلك.

فإن قيل : أليس الله تعالى قد نهى عن الكفر والمعصية؟ قلنا : بلى قد نهى عن ذلك ، فإن قالوا : فلا يحسن أن يريد شيئا ويريد وجوده ثم ينهى عنه ، قلنا : الجواب من وجهين :

أحدهما : أن يقال لهم : أليس الله تعالى قد علم أن الكافر يكفر ، وأنه يوجد منه الكفر لا محالة ، فلا بد لهم من [أن يقولوا] نعم. فيقال لهم : فكيف نهاه عن أمر قد علم أنه يكون منه ولا بد من وجوده ، فلما جاز أن ينهى مع علمه أنه لا بد منه جاز أن ينهى عنه وإن أراده. فاعلم ذلك.

جواب آخر : وهو أن يقال لهم : أليس الله تعالى نهى عن إيلام الرسل والمؤمنين ، فلا بد من [أن يقولوا] نعم ؛ فيقال لهم : فيوجد فيهم الألم من الأمراض والموت أم لا؟ فلا بد من [أن يقولوا] نعم. فيقال لهم : فإذا جاز أن ينهي عن إيلامهم ، ثم يريد ذلك ويحسن منه. فكذلك في مسألتنا يريد وينهي حتى يثبت لنفسه كمال القدرة ونفاذ الأمر والمشيئة (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)) [الأنبياء : ٢٣]. والجملة أن الأمر منا ، والنهي منا ، والفعل منا ، والإرادة منا إنما توصف تارة بكونها حسنة ، وتارة بكونها قبيحة ، إنما ذلك لمعنى ، وهو أن كل ما كان منا مخالفا لأمر الرب تعالى فهو قبيح ، وإن كانت صورته حسنة من حيث الحس والنظر والسمع ، ونحو ذلك ؛ وأن كل ما كان منا حسنا إنما كان ذلك لأنه موافق لأمر الرب

٢٠٨

تعالى ، لا من حيث الصورة والحسن. فإذا صحّ هذا جئنا إلى أفعاله تعالى وإرادته وأمره ونهيه ، فوجدناه ليس فوقه تعالى آمر يأمره ولا ناه ينهاه ، فصحّ أن جميع أفعاله وأمره ونهيه حسن على كل حال لا يتصف بغير ذلك ، فاعلم هذه الجملة توفّق إن شاء الله تعالى وفّقنا الله وإياكم وجميع المسلمين.

* * *

الشفاعة

اعلم أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على صحة الشفاعة منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل الكبائر من هذه الأمة ، وقد قدّمنا المسألة وذكرنا الأخبار الواردة في الشفاعة أصلا ورأسا.

واعلم أن المعتزلة افترقت فرقتين ؛ فقوم منهم أنكروا الشفاعة أصلا ورأسا ، وردّوا الأخبار الصحيحة الواردة فيها وما دلّ عليه القرآن من ذلك. وقالت الفرقة الثانية : إن للأنبياء شفاعة ، وللملائكة ، لكن لثلاث فرق من المؤمنين.

فرقة منهم : أصحاب صغائر وليست لهم كبيرة من الذنوب. والفرقة الثانية : قوم عملوا الكبائر وتابوا منها وندموا عليها. والفرقة الثالثة : قوم من المؤمنين لم يعملوا ذنبا أصلا. فأما صاحب الكبيرة الذي مات من غير توبة فلا شفاعة له عندهم ، وكلا القولين باطل.

أما الفرقة الأولى : فجحدت صحة الأخبار الصحاح ؛ وأما الفرقة الثانية : فذهبت إلى محال من القول ، لأن الشفاعة عندهم فيمن لم يعمل كبيرة أو عمل وتاب لا معنى لها ، لأنها تكون بمعنى أن الشافع يقول : يا رب لا تظلم عبادك. فإنك قد وعدت أنك تغفر الصغائر مع اجتناب الكبائر ؛ وكذلك التائب من الكبيرة لا تظلمه ، فإنك قد وعدت بقبول التوبة ، والله أجل وأعلى من أن يسأل ويشفع إليه بظلم ، فبطل قولهم.

وأما من لم يذنب أصلا فعلى خبث عقدهم أنه قد وجب له على الله الثواب ، والجنة ، والنعيم المقيم ، فما معنى هذه الشفاعة له. فلم يبق إلا أنهم عاندوا الحق وضلّوا السبيل واستحوذ عليهم وسوسة المردة والشياطين ، حتى ردّوا القرآن والسنة وإجماع الأمة ، فنعوذ بالله منهم ومن خبث عقدهم.

فإن قالت هذه الفرقة الأخيرة منهم : تكون الشفاعة لمن ذكرنا من الثلاث فرق شفاعة في الثواب ، قلنا : وهذا ضلال أيضا ، لأن القرآن إنما نطق بشفاعة الملائكة في

٢٠٩

وقاية المؤمنين شر ذنوبهم يوم القيامة ، ولم يذكر فيها زيادة الثواب ، وإنما أخبر عنهم يقولون : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) [غافر : ٩] فصحّ أن الشفاعة في الذنوب والسيئات أن يغفر لها ويتجاوز عنها ، لا ما ذكرتم يا فرقة الضلال.

فأما الأدلة على صحة الشفاعة ، فقد ذكرناها من الكتاب والسنة ، لكن نجدد هاهنا طرفا منها. أما من القرآن فقوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] روي [عن] أنس بن مالك ، وأبي سعيد الخدري وجماعة من الصحابة لا يحصون عددا : أن ذلك في الشفاعة ، ثم ذكروا ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أخبار يطول ذكرها وشرحها. وقد ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وهذا فيه الحجة على الفريقين ممن أنكر الشفاعة أصلا ، ومن قال إنها لغير أهل الكبائر. وقال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشفع إلى ربي فيحد لي حدا فأخرجهم من النار ، ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار» ثم ذكر الحديث إلى أن قال : «حتى لا يبقى أحد من أهل الإيمان في النار ، ولو كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان» وهذا الحديث صريح في الحجة على كل من الفريقين من المعتزلة. وأخبار الشفاعة كثيرة جدا ، وقد قدّمنا منها ما فيه الكفاية وزيادة ، ولأن الشفاعة في أقل الدارين من أقل الشفعاء تكون في الذنوب وغيرها ، فما ظنك بالشفاعة في أعلى الدارين من أعلى الشفعاء عند الله عزوجل ، حتى ذكر في بعض الأخبار أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغبط بذلك المقام ، يغبطه به الأولون والآخرون ، ثم تكون الشفاعة فيمن لا كبيرة له ، وإنكار هذا جهل وعناد وطعن في القرآن وصحيح الأخبار.

* * *

فصل

نذكر فيه شبها لهم يرومون بذلك دفع الأخبار الصحاح المجمع على صحتها في صحة الشفاعة ، ونحن نجيب عنها بعون الله وحسن توفيقه. فإن قالوا : هذه الأخبار تعارض بمثلها ، فإنه قد روى الحسن البصري وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تنال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي» فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن هذا عن الحسن لم يصح ، ولم يرد في [خبر] صحيح ولا في سقيم ، وإنما هو اختلاق وكذب ، ولا يعارض الآثار الصحاح المتفق على صحتها ، ثم لو جاز أن يكون قد روي فلم يسقط الصحيح المجمع على صحته بالضعيف السقيم الذي لا أصل له. مع إمكان الجمع بين الكل ، واستعمال الجميع ، فتحمل صحاح

٢١٠

الأخبار على ما قلنا ، ويحمل هذا الخبر على أنه أراد به الكبائر التي تخرج من الإسلام ، نحو الكفر بعد الإيمان ، أو استحلال ما حرّم الله ، أو تكذيب بعض الرسل أو بعض الكتب ، ويصير هذا كما قلنا إنا نجمع بين كل ما ذكر في القرآن ، وإن كان ظاهره يناقض بعضها بعضا عند الجهّال مثلكم ، فإنه تعالى قال : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥)) [المرسلات : ٣٥] ثم قال في موضع آخر : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧)) [الصّافات : ٢٧] فيحمل هذا على أنهم لا ينطقون عند الصراط ، والميزان ، والكتب ، ويسأل بعضهم بعضا بعد ذلك ، حتى لا نسقط شيئا من كتاب الله ولا ينقض بعضه ببعض فكذلك يحمل قوله : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» في حق من يبقى على الإيمان حتى يخرج من دار الدنيا ، ويحمل ما ذكروا ـ لو كان صحيحا ـ على من خرج من الدنيا على غير إيمان ، ونكون أسعد وأولى ، لأنا نثبت الصحيح بتأويل لشيء باطل لا أصل له أن لو صحّ ، وهم يسقطون الصحيح المتفق على صحته بشيء باطل لم يصح.

فإن قيل : هذا لا يصح مع قوله عليه‌السلام : «لا ينال شفاعتي أهل الكبائر من أمتي» والكافر بما ذكر به ثم ليس من أمته ، قلنا : بل يصح ذلك من وجهين :

أحدهما : أنه أراد بذلك من كان من أمتي ثم ارتد ، أو نحو ذلك ، فقد يجوز أن يسمى الشيء بما كان عليه أولا ، وإن كان في الحال لا يسمى به ، ألا ترى إلى ما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النبيذ : «ثمرة طيبة وماء طهور» يعني كان ثمرة طيبة وماء طهورا ، لا يريد أنه في الحال ثمرة ، وكذلك أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلالا : «ارجع فناد ألا إن العبد نام» ولم يرد أنه الآن عبد ، بل أراد أنه كان عبدا ، لأن الصديق أعتق بلالا قبل ذلك. يقال لعتيق الرجل : عبد بني فلان ، أي كان عبدا لهم ، ونحو ذلك كثير. ويحتمل أن يكون سماهم من أمته ، لأنهم كانوا في عصره ووقته وقرنه ، وكل قرن يسمى أمة ، ويكون ذلك فيمن كان آمن به في وقته ثم ارتد ، فمن ذكر من أهل الردة ، أو كان في وقته ولم يؤمن ، وسماه من أمته لأنه في قرنه وعصره. فصحّ ما قلناه وبطل تعلقهم بما لا أصل له.

فإن قيل : أليس قد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من تحسّى سما وقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا فيها أبدا» ، وروي مثله فيمن قتل نفسه بحديدة ، ومن تردى من جبل. وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يدخل الجنة مدمن خمر ، وعاق والديه» فهذه الأخبار معارضة لأخبار الشفاعة.

٢١١

فالجواب عن هذه الأخبار : أن [منها] ما صح [و] منها [ما لم يصح] ويجمع بين الكل ، فتحمل هذه الأخبار على من فعل ذلك مستحلا لفعله ، أو فعله على وجه التكذيب للصادق فيما أخبر به أن هذا الفعل كبيرة حرام ، ونحو ذلك ، وهذا صحيح لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة». فقال أبو ذر : وإن زنا ، وإن سرق؟ فقال : «وإن زنا ، وسرق ، وقتل ، وشرب الخمر ، وإن رغم أنف أبي ذر» فصحّ ما قلناه ، وقبلنا جميع الأخبار الصحاح ولم نضرب بعضها ببعض ، ولا أسقطنا بعضها ببعض ، كما يفعل أهل البدع الذين ضاهوا اليهود في قولهم : (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) [النّساء : ١٥٠].

فإن قيل : أليس عندكم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشفع إلا في مؤمن ، وقد وردت الروايات «لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن» وكذلك روي أنه قال : «ليس منا من يأتينا بطينا ويأتي جاره خميصا» و «من غشنا فليس منا» و «لا إيمان لمن لا أمانة له» إلى غير ذلك ، فكيف يشفع الرسول عليه‌السلام فيمن ليس بمؤمن؟

فالجواب : أن يقال لهم : هذه الأخبار لا حجة فيها ولا تعارض أخبار الشفاعة ، فإنها محتملة لوجوه إذا صرفت إليها صحت ، ولم تكن معارضة لأخبار الشفاعة.

أحدها : أن يكون المراد لا يزني ولا يسرق حين يفعل ذلك ، وهو مؤمن : أي مستحل لذلك ، حتى يصح الجمع بين هذه الأخبار وبين قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن سرق وإن زنا وشرب الخمر» ، أو يكون أراد بذلك إذا فعله على وجه التكذيب لتحريم هذه الأشياء ، والله تعالى لم يحرمها ، أو يكون المراد ليس بمؤمن كإيمان المؤمن الذي لم يكن منه سرقة ، ولا زنا ، ولا شرب خمر أي في البر ، والطهارة ، والعفة ونحو ذلك ، ويصير هذا كقوله : «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» أراد الكمال. وهذا الفصل أفسد الحجج وأدحضها بحمد الله تعالى.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] قيل : معناه الرد على من أنكر أصل الشفاعة ، فأخبر تعالى أن ثم شفاعة ، لكن لمن أراد تعالى أن يشفع له وأذن في ذلك ، ولم يرد إلا لمن رضي سائر عمله ، لأن من رضي سائر عمله لا يحتاج إلى شفاعة ، ويحتمل أن يكون (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] يعني لمن كان معه عمل مرتضى. والمؤمن معه أفضل الأعمال التي ترضى ، وإن كان عاصيا فاسقا ، وهو التوحيد والتصديق ، وقوله : لا إله إلا الله. والذي لا يرضى عمله أجمع هو الكافر ، فصحّ ما قلناه.

٢١٢

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] قلنا : معناه فالظلم بالشرك والكفر الذي لا ينفع معه طاعة ، كما قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] ولهذا لما نزل قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [الأنعام : ٨٢] حزن الصحابة رضي الله عنهم كذلك ، حتى قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه : يا رسول الله : وأينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس هذا يا أبا بكر ، إنما الظلم الشرك هاهنا ، ألا ترى إلى قول لقمان : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]» فدلّ أن لا شفاعة تنفع الكافر. ولا حميم يدفع عنه ، والمؤمن بخلاف ذلك بحمد الله وإن كانت له سيئات. فاعلم ذلك.

فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥)) [الزّخرف : ٧٥](وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] وقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النّساء : ٥٦] وقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)) [المدّثر : ٤٨].

فالجواب : أن نقول : أنتم وإخوانكم من الخوارج دأبكم أبدا أن تجعلوا آيات العذاب في أهل الإيمان والتوحيد ، وهي لأهل الكفر والضلال دون المؤمنين بحمد الله تعالى ؛ وهذه الآيات كلها في أهل الكفر ، والذي يدل على صحة هذا ما قدمنا من الأخبار الصحاح : «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» وغير ذلك من الأخبار الصحاح.

وأيضا فإن القرآن نطق بذلك فإنه قال في أول هذه الآية : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨)) [المدّثّر : ٤٢ ـ ٤٨] فصحّ أن لا شفاعة لهم لأجل كفرهم ، وصارت في النار ، وجدا لهم لأجل كفرهم وصارت الآية إلى آخرة حجة عليهم ، إلا أن الله تعالى أخبر أن ثم شفاعة ، وأنتم تقولون أن لا شفاعة ؛ غير أنه تعالى أخبر أنها لا تنفع للكافرين ، فدلّ على أنها تنفع المؤمنين.

فإن قيل : ما تقولون فيمن حلف بالطلاق الثلاث أنه يفعل فعلا ينال به شفاعة الرسول عليه‌السلام ، ويستحق به شفاعة الرسول ، أو قال : أفعل فعلا يجوز أن يشفع لي فيه الرسول مما أستحق من العقاب بما ذا تأمرونه؟ أتأمرونه بالمعصية أم بالطاعة؟ قلنا : الجواب من وجهين :

٢١٣

أحدهما : أنا نقول نأمره بالتمسك بالتوحيد والإيمان دون فعل الذنوب ، لأن الشفاعة لا تنال بالذنوب ، وإنما تنال بالإيمان دون الذنوب ، وهذا كما أن زيدا يشفع في ذنب صديقه ، أو قريبه ، أو حبيبه في دار الدنيا إلى من ملك إسقاط ذلك ، لا يقال إنه نال ذلك بالذنب الذي أذنب أو الخطأ الذي أخطأ ، وإنما ناله بالصداقة المتقدمة أو القرابة المتقدمة أو السؤال المتقدم ، لا نفس الذنب ، ونأمره أيضا بفعل الطاعات حتى ينال بذلك شفاعة الرسول عليه‌السلام في الزيادة له من البر والنعيم ونحو ذلك.

الجواب الثاني : أنا نعارضكم بمثل هذا : لا تجدون أنتم عنه محيصا ، فنقول لكم : ما تقولون فيمن سمع قوله تعالى : (يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة : ٢٢٢] فحلف رجل بالطلاق الثلاث ليفعلن فعلا يجب عليه فيه التوبة أو الاستغفار حتى يتوب منه ويستغفر ، ما تأمرونه؟ فإن قالوا : نأمره بالطاعة ، وفعل الخير. قلنا لهم : هذا لا يصح ؛ لأن الإنسان لا يجب عليه التوبة أو الاستغفار من فعل الطاعة والخير بإجماع المسلمين. وإن قلتم : نأمره بفعل المعاصي والذنوب حتى تجب عليه التوبة والاستغفار فيتوب ويستغفر حتى يتخلص من يمينه فقد استحللتم ما حرّم الله وأمرتم بما لا يجوز لمسلم أن يأمر به. وإن قلتم : لا نأمره بفعل المعصية ولكن إن ابتلي بشيء من ذلك قلنا له قد فعلت ما وجب به عليك التوبة والاستغفار وزوال حكم اليمين. قلنا لكم : نحن أيضا نقول لمن حلف ليفعلن فعلا ، يجوز أن يشفع فيما يستحق عليه من العقاب شفاعة الرسول عليه‌السلام ، نقول له تمسك بالطاعة والإيمان ، فإن ابتليت بشيء من المعاصي فقد خرجت من اليمين ، ويجوز أن يشفع لك الرسول ، لا أنا نأمره بالمعصية بوجه من الوجوه.

* * *

رؤية الله تعالى

اعلم أن رؤية الله تعالى جائزة من جهة العقل ، وهي واجبة للمؤمنين في الآخرة من طريق الشرع ، وبها نختم الكتاب إن شاء الله تعالى بعونه وتوفيقه ، وإنما ختمنا بها لأنها أعلى الأشياء وأجلها ، وبها يختم للمؤمنين المصدقين لها حتى يستحقروا كل نعيم في جنبها ، جعلنا الله من أهلها بمنّه وفضله ، إنه جواد كريم.

اعلم أن أهل السنة والجماعة قد جوّزوا الرؤية على الله تعالى شرعا وعقلا بلا خلاف بينهم على الجملة ، وإنما وقع الخلاف بينهم هل يكون ذلك ويجوز في الدنيا أم ذلك في الآخرة خاصة.

٢١٤

فكل الصحابة أجمعوا ومن بعدهم من أهل السنة والجماعة أن الله تعالى يرى في الجنة ، يراه المؤمنون بلا خلاف في ذلك. واختلف الصحابة في الرسول عليه‌السلام هل رآه ليلة المعراج بالقلب أو بعيني الرأس على قولين : فكانت الصديقة عائشة رضي الله عنها في جماعة من الصحابة يقولون : رآه بقلبه دون عيني رأسه ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما في جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يقولون : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه ليلة المعراج بعيني رأسه. ونحن نقول بقول ابن عباس رضي الله عنهما ، فإذا تقرر هذا : فإن المعتزلة ، والنجارية ، والجهمية ، والروافض ، والخوارج : الكل منهم ينكرون الرؤية ولا يجوّزونها بوجه ، حتى قالوا : ولا يرى ولا يرى هو نفسه. وقد قدّمنا الأدلة على صحة الرؤية وجوازها فيما تقدم ، ولا بد أن نذكر هاهنا طرفا من الأدلة أيضا يؤكد ما تقدم ويقوّيه إن شاء الله.

ودليل ذلك من الكتاب والسنة والإجماع ممن يعد إجماعه إجماعا ، ودليل العقل.

فمن أدلة الكتاب قوله تعالى في قصة موسى عليه‌السلام : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] وهذا السؤال إنما كان من موسى بعد النبوة ، والبعثة ، والرسالة ، لأن الله تعالى قال : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ولا يخلو سؤال موسى عليه‌السلام هذا السؤال بعد النبوة والكمال من أحد أربعة أوجه : إما أن يكون سأل الرؤية بعد علمه بجوازها على ربه ، أو مع علمه باستحالتها على ربه ، أو سألها وهو شاك في ذلك ، أو سألها وهو ذاهل العقل لا يتفهم شيئا. فلا يجوز أن يكون سأل ذلك مع علمه بأنه يستحيل على ربه ، لأن من المحال أن يسأل النبي الكريم ربه ما يستحيل في حقه ، ولا يجوز عليه كما يستحيل في حقه سبحانه وتعالى ، ولا يجوز أن يكون سأل ذلك وهو شاك جاهل حكم هذه المسألة أو ذاهل لا يدري ، لأن هذه المسألة من مسائل أصول الدين ، وكيف يجوز على النبي الكريم عليه‌السلام الشك فيها أو الذهول ، أو غفلة القلب عنها. وإذا بطل جميع ذلك لم يبق إلا أنه عليه‌السلام سأل وهو معتقد جواز الرؤية عليه سبحانه وتعالى. فإذا اعتقد النبي الكريم جواز الرؤية لم يخل من أن يكون مصيبا أو مخطئا ، ولا يجوز أن يخطئ النبي الكريم في اعتقاده ، فلم يبق إلا أنه أصاب ، وهذا التقرير لا مخرج للمخالف عنه بوجه ولا سبب. فافهمه.

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون موسى لم يسأل الرؤية ، وإنما سألها قومه وسألوه أن يسألها لهم ، أما أن يكون هو سألها لنفسه فلا.

٢١٥

فالجواب : أن هذا تعلل لا ينفعكم ولا ينجيكم مما قررنا وحققنا في اعتقاد موسى عليه‌السلام جواز الرؤية ؛ وذلك : أن موسى عليه‌السلام لو كان يعتقد استحالة جواز الرؤية لكان قد أنكر عليهم ذلك أشد الإنكار وجهلهم بذلك غاية الجهل. ولم يساعدهم على ذلك. ولا سأل ما جهلهم عليه ، ولما ساعدهم كما فعل لما قالوا : (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨] ولم يسأل ربه أن يجعل لهم إلها ، لأنه علم عليه‌السلام استحالة ذلك. فكيف يسأل له أو لهم الرؤية مع اعتقاده استحالة ذلك عليه سبحانه وتعالى ، فلم يبق إلا ما قلناه.

جواب آخر : وذلك أن هذا عدول عن الظاهر إلى غيره بغير دليل ، لأنه قال : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] فلا يحمل أرني أنظر ، على قومي ينظرون إليك ، فبطل ما قالوه ، وصار هذه بمنزلة قول من قول : قوله أي (أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) [طه : ١٤] أي اعبد غيري ، وهذا لا يجوز ، فبطل قولهم.

فإن قيل : أليس قد قال الله تعالى : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] فنص على أنه لا سبيل إلى ما سأله فالجواب من وجهين :

أحدهما : أن هذا لا يمنع من جواز الرؤية ، لأن قوله لن تراني إنما تضمن عدم وجود الرؤية عند السؤال ، لا استحالة الرؤية على ما قررنا ، ولو أراد استحالة الرؤية لقال : لن يجوز أن تراني. وقد لا يوجد الشيء ولا يدل على استحالته ، ألا ترى أن أحدا لو سأل نبي زمانه أن يسأل ربه أن يرزقه ولدا ، فسأل نبي ذلك الزمان ، فأوحى الله تعالى لن يرزق هذا السائل ولدا ، هل يدل ذلك على أنه لا يجوز وجود الولد في حق هذا السائل ، ويستحيل ، بل هو جائز وإن منع من وجوده عقب السؤال ، على أن حرف لن لا يقتضي عدم جواز الرؤية في الدنيا والآخرة. ولو قرن بأبد. ألا ترى أنه تعالى قال في حق اليهود : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٩٥] يعني الموت ولم يقتض ذلك [أن لا يتمنوه] في الدنيا والآخرة ، لأنه أخبر تعالى أنهم يتمنون الموت في النار بقوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزّخرف : ٧٧] يعنون الموت ، فإذا كان حرف لن مع اقتران أبد به لا يقتضي نفي ذلك في الدنيا والآخرة ، فكيف به إذا لم يقرن به أبد ، وأيضا الجواب يجوز فيه الاستثناء ، بأن كان يقول : لن تراني في الدنيا ولن تراني إلى وقت كذا وكذا ، كما قال أخو يوسف عليه‌السلام : (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ) [يوسف : ٨٠] ثم استثنى (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي) [يوسف : ٨٠] فصحّ أن حرف لن لا يحيل عليه جواز الرؤية ، وإنما توجب أن لا توجد الرؤية في هذا الوقت دون جوازها فصحّ ما قلناه.

٢١٦

والجواب الثاني : أن الله تعالى علّق جواز الرؤية على أمر جائز ، ولو كانت مستحيلة لما علقها على أمر يجوز أن يوجد ، وهو استقرار الجبل ، فلما كان استقرار الجبل من الجائز دلّ على أن الرؤية جائزة.

فإن قيل : أليس قد قال موسى عليه‌السلام : (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] قالوا : والتوبة إنما تكون من الخطأ ، فلما علم عليه‌السلام أنه أخطأ تاب ، فالجواب من أوجه :

أحدها : أن موسى عليه‌السلام لما رأى الآية من جعل الجبل دكا ، وصعوقه ، قال على جاري العادة من القول عند الفزع (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] وإن لم يكن سؤاله مستحيلا ، وهذا كما أن الواحد منا إذا سمع صوت الرعد العظيم ، أو رأى الظلمة العظيمة ، أو أمرا هائلا فزع عند ذلك إلى التوبة والاستغفار ، وإن لم يكن منه قبل ذلك معصية. أو سؤال مستحيل.

وجواب آخر : وهو أنه يحتمل أن موسى عليه‌السلام ذكر عند هول ما رأى فيه النفس ، فجدّد التوبة منها وأكدها ، وإن لم يكن منه في هذه الحالة ذنب يتاب منه.

جواب آخر : يحتمل أن يكون قال : تبت إليك للشدة التي أصابته عند سؤال الرؤية ، وإن كانت الرؤية جائزة. كما أن الواحد منا إذا ركب البحر وناله شدة وخوف من هوله وأمواجه ، أو سافر فلقي في سفره ما أتعبه وشقّ عليه يقول : أنا تائب من ركوب البحر ومن السفر ، وإن كان ركوب البحر والسفر جائزا غير محرم. ولا مستحيل ، وكذلك مسألتنا مثله.

جواب آخر : يحتمل أن يكون قال : (تُبْتُ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] من أن أسأل مثل هذا الأمر العظيم الجليل قبل الاستئذان فيه ، حتى يؤذن لي في السؤال ، ولهذا قيل عن موسى عليه‌السلام : إنه تأدب بعد ذلك ، فقال : يا رب أسألك في جميع أموري؟ قال : نعم يا موسى اسألني في جميع أمورك حتى ملح عجين أهلك.

جواب آخر : وهو أن موسى عليه‌السلام كانت إرادته وهمته تعجيل الرؤية له في الدنيا قبل الآخرة ، وكان مراد الله تعالى تأخير الرؤية له إلى الآخرة ، وأن لا يتقدم على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الرؤية ، فكأنه قال : تبت عن مرادي وهمتي إلى مرادك. وهذا صحيح ، لأن التوبة هي الرجوع ، فكأنه رجع عن مراده إلى مراد ربه. فاعلم ذلك.

ويدل على صحة ما قدّمناه من قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقوله :

٢١٧

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) [المطفّفين : ١٥] والحجب للكفار عن رؤيته عذاب. فدلّ على أن المؤمنين غير محجوبين ، ولا يعذبون بعذاب الحجاب. فاعلم ذلك.

ويدل على ذلك أيضا الأخبار التي قدّمنا ذكرها عند سؤال الصحابة مع قوله عليه‌السلام في دعائه إنه قال : «اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضر ـ أو مضر ـ ولا فتنة مضلة» وهذا أيضا تصريح من الرسول عليه‌السلام في جواز الرؤية ، وأنها غير مستحيلة ، لأنه لا يسأل صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمر مستحيل ، لا سيما بعد تقدم موسى عليه‌السلام في سؤال الرؤية ، وما كان منه ، فلو كانت غير جائزة أو مستحيلة لما سألها صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما سألها دل على الجواز ، وبطل ما قال أهل العناد. وبالله التوفيق.

ويدل على صحة جواز الرؤية إجماع الصحابة على جوازها في الجملة ، وإنما اختلفوا هل عجلها لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج أم لا؟ على قولين ، ولو لم يقع الاتفاق منهم على جوازها ، لما صحّ هذا الاختلاف ، فلما وقع هذا الاختلاف فقال بعضهم : عجل ذلك له في الدنيا قبل الآخرة. وقال البعض : لم يرد دليل على الجواز في الجملة وأنه متفق عليه ، وإلا كان يقول لمن قال بأنها لم تعجل : فكيف تجوز الرؤية وهي مستحيلة عليه ، فلما لم يقل ذلك أحد منهم دلّ على إجماعهم على جوازها. فاعلم ذلك.

ويدل على ذلك من جهة العقل : أنه تعالى موجود ، والموجود لا يستحيل رؤيته ، وإنما يستحيل رؤية المعدوم. وأيضا فإنه تعالى يرى جميع المرئيات ، وقد قال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤)) [العلق : ١٤] وقال : (الَّذِي يَراكَ) [الشّعراء : ٢١٨] وكل راء يجوز أن يرى ؛ ولا يجوز أن تحمل الرؤية منه تعالى على العلم ، لأنه تعالى فصل بين الأمرين ، فلا حاجة بنا أن نحمل أحدهما على الآخر ، ألا ترى أنه سمى نفسه عالما ، وسمى نفسه مريدا ، ولا أن نحمل الإرادة على العلم ، كذلك لا نحمل الرؤية على العلم. فاعلمه.

جواب آخر : وهو أن الصحابة سألوا الرسول عليه‌السلام : هل نرى ربنا؟ فقال : «نعم» ولا يجوز أن يكون سؤالهم : هل نعلم ربنا أو يعلمنا ربنا ؛ فبطل قول من يحمل الرؤية على العلم ، ولهذا أجاب صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سترونه كما يرى القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترى الشمس ليس دونها سحاب» يعني لا تشكون في رؤيته كما لا يشك [من] رأى القمر والشمس فيها ، فشبّه الرؤية بالرؤية في نفي الشك عن الرائي ، ولم يشبه المرئي بالمرئى. فاعلم ذلك.

* * *

٢١٨

فصل

في ذكر الأجوبة عن آيات يحتجون بها ، وأخبار ، وشبه في نفي الرؤية.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] قالوا : فأخرج ذلك مخرج التمدح ، كما تمدح بقوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ) [الأنعام : ١٠١] فكيف يجوز أن يزول عن مدحته ، فالجواب عن هذه الآية من وجوه عدة :

أحدها : أن يقال لهم : ما أنكرتم على قائل يقول لكم ، لا حجة لكم في ذلك ، لأن التمدح إنما وقع في قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] لأن كون الشيء لا يدرك بالأبصار لا يدل على مدحه ، ألا ترى المعدوم لا تدركه الأبصار ، ولا يوجب كون ذلك مدحة له ، وكذلك عندكم العطور والروائح وأكثر الأعراض لا تدرك بالأبصار ، وليست بممدوحة ، لأنها لا تدركها الأبصار.

فإن قيل : ما أنكرتم أن يكون متمدحا بأنه يدرك الأبصار وأنها لا تدركه؟ قيل لهم : لأن للوصفين الذين يتمدح بهما لا بد أن يكون في كل واحد منهما مدح بمجرده نحو قوله تعالى : (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٠٩ ، ٢٢٠ ، ٢٢٨ ، ٢٤٠ ، ٢٦٠ ، الأنفال : ١٠ ، ٤٩ ، التوبة : ٧١] و (عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [النّحل : ٧٠] فكل واحد من الوصفين مدح في نفسه ، تجدد أو انضم إلى غيره ، ولما لم يكن كون المعدوم غير مدرك بالبصر مدحا له عندنا وعندكم بطل ما قلتم.

جواب آخر : وهو أن نقول الآية حجة عليكم وذلك قوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] فحسب ، وإنما أراد أنه يدرك جميع المرئيات ، فأثبت تعالى أنه يرى الأشياء لأنه موجود ، قادر على الرؤية ، وسائر الأشياء الموجودة التي يجوز أن ترى ، لكن تمدح تعالى بأن كل راء يجوز أن يرى ، لكن هو تعالى مع جواز رؤيته منعنا من الإدراك له ، بأن يحدث في أبصارنا مانعا يمنعنا من رؤيته ؛ فالمدح وقع بكونه قادرا على ذلك دون غيره من الخلق ، فصار هذا بمنزلة تمدحه تعالى بكونه محييا مميتا ، أي لا يقدر على ذلك غيره ، وإن جاز أن يميت الحي ويحيي الميت ، فكذلك لا يمدح تعالى بأن يحدث مانعا في البصر من الإدراك ، وإن جاز أن يزيل ذلك المانع حتى نراه تعالى بلا كيف ، ولا شبه ، ولا تحديد. فاعلم ذلك.

جواب آخر : وهو أن المعتزلة لا يصح لهم الاحتجاج بهذه الآية ؛ لأن عند البصريين منهم أنه لم يعن بالإدراك الرؤية ، لأن البصر عندهم عرض ؛ فلا يدرك عند

٢١٩

البغداديين منهم : أنه تعالى لا يرى شيئا ، إنما المراد بالإدراك العلم ، فهو يعلم الأبصار عندهم ، والأبصار لا تعلمه ، فبطل احتجاج الجميع منهم بهذه الآية ، لأن عندهم لا يراد بالإدراك الرؤية ، فلا يصح لهم الاحتجاج بها في نفي الرؤية.

جواب آخر : وهو أن الآية لا حجة فيها ، لأنه قال : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] ولم يقل لا تراه الأبصار ، والإدراك بمعنى يزيد على الرؤية ، لأن الإدراك : الإحاطة بالشيء من جميع الجهات ، والله تعالى تعالى يوصف بالجهات ، ولا أنه في جهة ، فجاز أن يرى وإن لم يدرك ، وهذا كما قال تعالى في قصة اللعين فرعون : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) [يونس : ٩٠] يعني أحاط به من جميع جوانبه ، فالغرق لا يوصف بأنه يرى ، وإنما يوصف بأنه أحاط بالشيء. كذلك المؤمن يوصف بأنه يرى ربه ولا يدركه بالإحاطة ، وهذا كما نقول : إنا نعلم ربنا ، ولا نقول إنا نحيط بربنا ، فكما كانت الإحاطة معنى يزيد على العلم كذلك الإدراك معنى يزيد على الرؤية ، وهذا صحيح. لأنا نجمع بين قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمّد : ١٩] وبين قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠] ونجمع بين قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] وبين قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] فنقول : معلوم ولا يحاط به ، ومرئي ولا يدرك. فصحّ ما قلناه ، وبطل قول الغير.

جواب آخر : أن معنى الآية لا تدركه الأبصار في الدنيا ، وإن جاز أن تدركه في الآخرة ، ليجمع بين قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] وبين قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٣].

جواب آخر : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] يعني أبصار الكفار دون المؤمنين ، ليجمع بين قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] وبين قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) [المطفّفين : ١٥] وهذا صحيح ؛ لأن الحجاب لما كان للكفار دون المؤمنين ، كذلك الرؤية للمؤمنين دون الكفار.

جواب آخر : وهو أن أبصار الخلق لا تدركه في الدنيا والآخرة ؛ لأن هذه الأبصار جعلت للفناء ، وإنما يحدث لهم بصرا غير هذا البصر ، ويكون باقيا غير فان فيرى الباقي بالباقي ، وقد قيل : إنه تعالى يحدث لأوليائه حاسة سادسة غير هذه الحواس الخمس يرونه بها. وقال هذا القائل : الله أخبر في كتابه العزيز : أنه من أهل

٢٢٠