العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

مقالتهم هذه من أهل السنة الجهال بطرق التحقيق ؛ حيث سلموا لهم مع زعمهم أنه كلامه ليس بمخلوق ، ما قرروه من هذه الشبهة ، وقالوا مثل قولهم : إن كلامه حروف وأصوات ، فإن لله وإنا إليه راجعون (١).

والجواب عن هذه الشبهة : أن يقال لهم : أما ما ذكرتم من الحصر ، والتحديد والتبعيض ، والحروف والأصوات ، فجميع ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين دون كلام الله تعالى الذي هو صفة من صفات ذاته ؛ لأن جميع ما ذكرتم يحتاج إلى مخارج من لسان ، وشفتين ، وحلق ، والله يتعالى ويتنزه عن جميع ذلك. بل نقول إن كلامه صفة له قديمة لا يحتاج فيه إلى أداة من صوت. أو حرف أو مخرج. يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وكذلك ما ذكرتم من الحصر ، والعد ، والأول ، والآخر ، إنما ذلك راجع إلى تلاوة المخلوقين لكلامه وكتبتهم لكلامه دون كلامه الذي هو صفة ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى بأظهر بيان لمن كان له فهم صحيح ، لأنه تعالى قال : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩)) [الكهف : ١٠٩] وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧)) [لقمان : ٢٧] ومعلوم أن الكاتب منا يكتب عدة مصاحف بمحبرة واحدة ، ويتلو التالي منا عدة ختمات ، فالمحصور والمعدود المحدود الذي يتصف بأول وآخر صفاتنا من تلاوتنا لكلامه ،

__________________

(١) قال السعد في شرح المقاصد : (انتظم من المقدمات القطعية والمشهورة قياسان ينتج أحدهما قدم كلام الله تعالى ، وهو أنه من صفات الله وهي قديمة ، والآخر حدوثه ، وهو أنه من جنس الأصوات ، وهي حادثة ، فاضطر القوم إلى القدح في أحد القياسين ومنع بعض المقدمات ضرورة امتناع حقية النقيضين ، فمنعت المعتزلة كونه من صفات الله تعالى ، والكرامية كون كل صفة قديمة ، والأشاعرة كونه من جنس الأصوات والحروف ، والحشوية كون المنتظم من الحروف حادثا ، ولا عبرة بكلام الكرامية والحشوية ، فبقي النزاع بيننا وبين المعتزلة ، وهو في التحقيق عائد إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه ، وأن القرآن هو أو هذا المؤلف من الحروف الذي هو كلام حسي أولا. فلا نزاع لنا في حدوث الكلام الحسي ولا لهم في قدم النفسي لو ثبت) ثم قال السعد : (وعلى البحث والمناظرة في ثبوت الكلام النفسي وكونه هو القرآن ينبغي أن يحمل ما نقل من مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف ستة أشهر ثم استقر رأيهما على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر) وهذا التحقيق هو مفتاح هذا البحث الطويل العريض. وقد أثبت المصنف الكلام النفسي بكل ما جلاه في موضعه ، وحدوث ما سواه مما في الأذهان والألسنة والخطوط جلي واضح عند أرباب العقول فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (ز).

١٤١

وخطنا لكلامه ، وحفظنا لكلامه. فأما صفته التي هي كلامه على الحقيقة فلا تتصف بالزوال ، والحصر ، والعد ، والأول والآخر على ما أخبر سبحانه وتعالى على مقتضى التحقيق. لأن كل ما اتصف بالبداية والفراغ والحصر والعد فإنما هي صفة المخلوق لا صفة الخالق القديمة بقدمه الموجودة بوجوده ، التي لا يجوز أن تتقدم عليه ولا تتأخر عنه. فاعلم هذه الجملة وتحققها تسلم من ضلالة الفريقين وتخلص من جهل الطائفتين.

مسألة

ويجب أن يعلم أن القراءة غير المقروء. والتلاوة غير المتلو (١) والكتابة غير المكتوب ، وهذا إنما خالف فيه من لا حس له ، ولا فهم ، ولا عقل ولا تصور ، ونحن بحمد الله نبيّن الفرق بين الأمرين من الكتاب والسنة ودليل العقول.

فأما الدليل من الكتاب فكثير جدا. أحدها : قوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الإسراء : ١٠٦] فأخبر تعالى أن القرآن منه منزل موحى ، وأن الرسول يقرؤه ويعلّمه ، فالموحي المنزل المقروء هو كلام الله تعالى القديم وصفة ذاته ، والقراءة له فعل الرسول التي هي صفته. وأيضا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) [المائدة : ٦٧] ففعل الرسول البلاغ الذي هو القراءة. وقوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) [القيامة : ١٦] وقوله تعالى : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجّ : ٥٢] وقوله تعالى : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة : ١٢١] وقوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١)) [النّمل : ٩١](وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) [النّمل : ٩٢] فمعلوم أن هاهنا آمر أمر بشيئين ، وهو الله تعالى ، ومأمور وهو الرسول ، فأمره بالعبادة له ، فحصل هاهنا آمر ، ومأمور ، ومأمور به ، فالآمر هو

__________________

(١) اعلم أن المتلو في الحقيقة هو اللفظ ، والمكتوب هو أشكال الحروف ، والمحفوظ هو الحروف المتخيلة ، والمسموع هو الصوت ، وأما التلاوة ، والكتابة والحفظ ، والسماع بالمعاني المصدرية فإنما هي نسب بين التالي والمتلو ، والكاتب والمكتوب ، والحافظ والمحفوظ ، والسامع والمسموع ، فطرفا كل من هذه النسب مخلوقان ، وإنما القديم هو ما قام به سبحانه. وإطلاقنا المتلو والمحفوظ والمكتوب والمسموع ونحو ذلك على ما قام به سبحانه من قبيل وصف المدلول بصفة الدال ، كما ذكرت فيما علقت على الأسماء والصفات نص قول السعد في شرح المقاصد في ذلك (ز).

١٤٢

الله تعالى ، والمأمور الرسول ، والمأمور به العبادة ، فالمعبود غير العبادة التي هي فعل الرسول ، فكذلك التلاوة (١) غير المتلو ، لأن التلاوة فعل الرسول وهو المأمور بها ، والمتلو كلامه القديم ، ولم يأمره أن يأتي بكلامه القديم ؛ لأن ذلك لا يتصور الأمر به ولا يدخل تحت قدرة مخلوق ، إنما أمر بتلاوة كلامه ، كما أمر بعبادته ، وعبادته غيره ، فكذلك تلاوة كلامه غير كلامه ، فحصل من هذا : تال. وهو الرسول عليه‌السلام وتلاوته صفة له. ومتلو : وهو كلام الله القديم الذي هو صفة له. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النّحل : ٩٨]. ففرق بين القراءة والمقروء :

وأيضا قوله تعالى : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) [الكهف : ٢٧] فذكر قراءة ومقروءا ، وتلاوة ، ومتلوا ، وعند الجاهل أن ذلك شيء واحد. وأيضا فإنه أمر بالتلاوة والقراءة ، والأمر هو استدعاء الفعل ، والفعل صفة المأمور لا صفة الآمر ؛ ألا يرى أنه أمر بالعبادة ، والعبادة صفة العابد لا المعبود. ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] فأخبر تعالى أنه لم يكن تاليا ، ثم جعله تاليا ولم يكن كاتبا ، ولم يجعله أيضا في الثاني كاتبا ، وقد جعل غيره تاليا لكلامه كاتبا له ، ومعلوم عند كل عاقل أن ما لم يكن ثم كان وهي التلاوة ؛ صفة للرسول لم يكن موصوفا بها ثم صار موصوفا بها ، غير كلام الله الذي هو صفة له لا يستحق غيره الوصف بها ولا يتصف بأنه لم يكن ثم كان ، ومعلوم أن الرسول كان تاليا قبل أن تكون أمته تالية ، وحافظا قبل أن تكون أمته حافظة ، ثم صارت أمته تالية حافظة لما أقرأها وحفظها ، فتلاوته فهو كلام الله القديم و [كذا] الذي تلته أمته بتلاوتها. فلا يخفى على عاقل أن التلاوة غير المتلو ، كما أن العبادة غير المعبود ، والذكر غير المذكور ، والشكر غير المشكور ، والتسبيح غير المسبح ، والدعاء غير المدعو إلى غير ذلك.

__________________

(١) ومما يجب الانتباه إليه هنا : أن التلاوة بالمعنى المصدري لها طرفان كما سبق ؛ جانب الفاعل وجانب الأثر المترتب عليه ، الذي يقال له الحاصل بالمصدر المبني للمفعول ، وهذا هو المتلو حقيقة. فالتالي والمتلو بهذا المعنى مخلوقان ، وأما ما دلّ عليه هذا الصوت المكيف فهو صفة لله قائمة به وقديمة قدم باقي صفاته الذاتية الثبوتية ، فليس مراد المصنف بالمتلو والمحفوظ والمكتوب ما هو أثر مترتب على المعنى المصدري للتلاوة والحفظ ، والكتابة بل مراده بها الصفة القائمة بالله التي لا ترتب ولا تقدم ولا تأخر فيها. وفي شرح المقاصد تفصيل ذلك (ز).

١٤٣

ويدل على صحة ذلك من السنة وأن القراءة والتلاوة صفة القارئ ، والمقروء المتلو صفة الباري قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أراد أن يقرأ القرآن غضا فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» يعني ابن مسعود ، فأضاف القراءة إلى ابن مسعود ، والمقروء صفة الله تعالى ، والذي يدل على صحة هذا القول أنه يجوز أن يقال هذا الحرف قراءة ابن مسعود وليس قراءة أبيّ وغيره من القراء ولا يجوز أن يقال إن المقروء الذي يقرأه ابن مسعود غير المقروء الذي يقرأه أبي ، لأن القراءة تكون غير القراءة والقرآن الذي يقرأه هذا بقراءته هو القرآن الذي يقرأه هذا أنه شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، وإن تغيرت القراءة له واختلفت. والذي يوضح لك هذا ويبينه تبيينا مستوفيا أن عمر رضي الله عنه لما مر على بعض الصحابة وهو يقرأ سورة الفرقان على خلاف قراءة عمر فأنكر ذلك عليه وقال : قد قرأتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خلاف هذه القراءة ولبّبه حتى أتى به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قال : «خلّ عنه ؛ اقرأ يا عمر ، فقرأ فقال : هكذا أنزل ، ثم قال للآخر : اقرأ ، فقرأ بالقراءة التي سمعها عمر منه فقال : هكذا أنزل. إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه». فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم باختلاف القراءتين وأن كل واحدة منهما تؤدي إلى ما تؤدي إليه الأخرى ، وهو المتلو المقروء القديم الذي لا يختلف ولا يتغير. وأيضا ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه من عدة طرق عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن هذا القرآن مأدبة الله فاقبلوا مأدبته ما استطعتم واتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات أما إني لا أقول الم حرف ، ولكن بالألف عشر ـ الحديث ...».

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حرفا من كتاب الله» فأضاف القرآن إلى الله تعالى لأنه صفة من صفات ذاته ، وأضاف التلاوة إلى التالي لأنها صفته يؤجر عليها كما يؤجر على جميع أفعال طاعاته. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استقرءوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل» وهذا يدلك على الفرق بين القراءة والمقروء ، والتلاوة والمتلو ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حضهم على أخذ القراءة للقرآن عن هؤلاء الأربعة لأنهم قد باينوا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم في جودة القراءة وصحتها والعلم بها ، وهذا المعنى صحيح لأن الغلط ، واللحن ، والتحريف ، والتصحيف إنما يقع في القراءة والتلاوة التي هي صفة القارئ ؛ فأما القرآن المقروء فهو كلام الله تعالى الذي قد أخبر أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولأن القراءة تتعوج فيقومها القارئ الماهر ، لأنها يجوز عليها التعويج والتغيير ؛ فأما كلام الله القديم فليس يوصف بالتعويج. دليله : قوله

١٤٤

تعالى : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً) [الكهف : ١ ، ٢] وأيضا ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا معه ، وأبو بكر ؛ وعبد الله بن مسعود يقرأ ؛ فاستمع لقراءته ، فلما ركع ـ أو سجد ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل تعطه من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ قراءة ابن أم عبد». فأضاف القراءة إلى عبد الله ، لأنها صفته وعبادته عليها يثاب ويؤجر ؛ والمقروء بها كلام الله القديم الأزلي ، وقد روي : «من سره أن يقرأ القرآن رطبا» وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أبو بكر ، وعمر وإني أقرأ سورة النساء ، فكنت أسجلها سجلا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل تعطه» ، ومعلوم عند كل عاقل أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما وصف بالغضاضة والطراوة والتسجيل قراءة ابن مسعود دون كلام الله تعالى المتلو المقروء ، لأنه لا يوصف بالشيء وضده ، فاعلم ذلك وتحققه ؛ ولأن صفة القراءة تارة تكون غضة رطبة من قارئ دون قارئ إنما ذلك راجع إلى صفات المحدثين الذين يتفاضلون في قراءتهم وأصواتهم فتكون قراءة بعضهم غضة رطبة ، وقراءة بعضهم فجة سمجة ، ويكون صوت أحدهم حادا حسنا ، وصوت آخر فجا جهورا عاليا ، فأما القرآن المقروء المتلو فلا يختلف في ذاته بأي قراءة قرئ ، وبأي تلاوة تلي ، وبأي صوت سمع. بل الأدوات ، والأصوات واللغات تختلف في الجودة والرداءة والخفاء والجهارة.

* * *

فصل

وقد روي من الأخبار والآثار عن سيد الأولين والآخرين وصحابته رضي الله عنهم في الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء ما لا يحصى عددا ونحن نذكر شيئا من ذلك يقوي جميع ما تقدم.

فمن ذلك ما روي عن جابر بن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نقرأ القرآن وفينا الأعجمي ، والأعرابي. قال : فاستمع وقال : «اقرءوه فكل حسن ، سيأتي قوم يقومونه كما يقومون القدح ، يتعجلونه ولا يتأملونه».

وعن سهل بن سعد الساعدي قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نقترئ يقرئ بعضنا بعضا فقال : «الحمد لله كتاب الله واحد فيه الأحمر والأسود اقرءوا اقرءوا قبل أن يجيء قوم يقومونه كما يقومون القدح ، ولا يجاوز تراقيهم يتعجلون أجره ولا يتأملونه» ، ففصل صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذين الحديثين بين التلاوة والمتلو ، والقراءة

١٤٥

والمقروء ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنى بالأحمر العربي الفصيح ، وبالأسود الأعجمي ، فالعجمي يقع في قراءته اللكنة والتمتمة ويسلم من ذلك العربي الفصيح فاستمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم قراءتهم المختلفة وحثّهم ورغّبهم في القراءة وأخبر أن كتاب الله واحد ليس بمختلف ولا متغاير ، ثم أعلمهم بمجيء قوم من بعدهم ممن يقوم القراءة تقويم القدح ، فعلم كل عاقل أن كلام الله القديم الأزلي ليس مما يعوج فيقوم ، وإنما العوج يقع في قراءة القارئ فيقوم.

ويدل عليه أيضا قول ابن مسعود رضي الله عنه : عجبت للناس وتركهم لقراءتي وأخذهم قراءة زيد بن ثابت ، وقد أخذت من فيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبعين سورة وزيد بن ثابت غلام صاحب ذؤابة. فأضاف ابن مسعود قراءته إلى نفسه ، وأضاف قراءة زيد إلى نفسه ، وأخبر أن قراءته أكمل من قراءة زيد ؛ لأخذه لها من في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فغاير بين القراءتين ، ومعلوم عند كل عاقل أن المقروء والمتلو الذي يقرأه عبد الله هو المقروء المتلو الذي يقرأه زيد ، وإن كانت قراءة أحدهما غير قراءة الآخر.

ويدل عليه ما روي عن عمرو بن مرة قال : سمعت أبا وائل يحدث : أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال : إني قرأت المفصل كله في ركعة فقال عبد الله : هذّا كهذّ الشعر ، لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرن بينهن. وعنه أيضا أنه قال له رجل : إني أقرأ المفصل في ركعة ، فقال عبد الله : هذّا كهذ الشعر ، إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع في القلب فرسخ نفع. ومعلوم أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يشبه كلام الله تعالى بهذا الشعر ، وإنما شبه قراءة القارئ دون كلام الباري. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن بإعراب فله أجر شهيد». وأيضا ما روى أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ القرآن متثبتا أو بإعراب كان له بكل حرف فضل أربعين حسنة». فكل عاقل يعلم ويتحقق أن القراءة المعربة غير القراءة الملحونة ؛ لأن من صحح قراءة الفاتحة صحت صلاته ، ومن ترك ذلك مع قدرته عليه بطلت صلاته. فأما كلام الله تعالى القديم فلا يتصف بالصحة وضدها بل هو صحيح على كل حال ، وإن وقع الفساد في القراءة.

وأيضا ما روي قتادة قال : قلت لأنس بن مالك كيف كانت قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : يمد صوته مدا. وأيضا ما روى عبد الله بن مغفل قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الفتح وهو على ناقته أو جمله وهو يسير وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة لينة. فمعلوم عند كل عاقل عارف أن الترجيع والمد ، واللين ، إنما تقع في القراءة التي هي صفة القارئ دون كلام الله القديم الأزلي ، ومن اعتقد أن الترجيع ،

١٤٦

والمد ، واللين الذي هو صفة القارئ ومد صوته ولينه راجع إلى الكلام القديم الأزلي فقد جهل الله تعالى وصفات ذاته ، وصرح بحدوث القرآن وخلقه. وأيضا ما روى النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل عبادة أمتي قراءة القرآن» وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النظر في كتاب الله عبادة» وروى أبو سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطوا أعينكم حظها من العبادة ، قالوا : يا رسول الله وما حظها من العبادة؟ قال : قراءة القرآن نظرا ، والاعتبار والتفكر فيه» وقال ابن مسعود : «النظر في المصحف عبادة» فقد اتضح بهذه الأخبار الفرق بين القراءة والمقروء ، لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل قراءتنا عبادة منا ، والعبادة منا صفتنا التي نثاب عليها ونؤجر ، وذلك أن الله تعالى وصف عبادته على الأعضاء ، وكل عضو من ابن آدم مخصوص بنوع من العبادة ، فالقلب مخصوص بالعلم بالله تعالى وبمعرفته وبحفظ كلامه ، والإيمان به وبكلامه ، ثم المعرفة غير المعروف ، والعلم غير المعلوم ، والإيمان غير المؤمن به ، والحفظ غير المحفوظ ، لأن العلم صفة العبد ، والمعلوم الرب تعالى ، وكذلك الإيمان صفة للعبد ، والمؤمن به هو الله تعالى. وكذلك الحفظ صفة العبد لم يكن يحفظ ثم صار حافظا ، والمحفوظ كلام الله القديم الذي لا يتصف بأنه لم يكن ثم كان بل قديم موجود بوجود الحق سبحانه وتعالى ، موجود قبل الحفظ وبعده ، واللسان مخصوص من العبادة بالذكر لله تعالى والتسبيح له والدعاء له ، وقراءة كلامه ، ثم الذكر صفة الذاكر ، والمذكور هو الله تعالى ، والتسبيح صفة المسبح ، والمسبّح هو الله تعالى ، والدعاء صفة الداعي والمدعو هو الله تعالى. كذلك القراءة صفة القارئ التي هي له عبادة وطاعة ، والمقروء كلام الله القديم الموجود قبل القارئ وقبل قراءته. فافهم إن كان لك فهم.

وعبادة العين : النظر في المصحف ، والتفكر في الآيات من كلام الله تعالى ، فالناظر إنما يثاب على نظره الذي هو صفة لا على المنظور فيه الذي هو صفة الله تعالى. ولهذا المعنى : أن من كان أكثر قراءة ونظرا وتفكرا كان أكثر ثوابا ممن نظر أقل من نظره ، وقرأ أقل من قراءته ؛ فالزيادة والنقصان إنما يكونان في أفعال العباد التي تتصف بالشيء وضده فأما القديم الذي هو كلام الله فلا يتصف بالشيء وضده. فاعلم ذلك وتأمله تهد إن شاء الله.

ويدل على الفرق بين القراءة والمقروء ، ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طرق عدة : أنه قال : «خذوا القرآن من أربعة : عبد الله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل» ثم خصّ عبد الله بن مسعود فقال : «من سرّه أن يقرأ القرآن

١٤٧

غضا رطبا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» يعني ابن مسعود. فالدليل من وجهين :

أحدهما : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصّ هؤلاء الأربعة بجودة القراءة دون غيرهم من الصحابة ، وإن كان المقروء بقراءة هؤلاء هو المقروء بقراءة غيرهم ، ففاضل صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين القراءة وقدّم بعضها على بعض ، وكلام الله القديم لا يجوز عليه الجودة والرداءة بل كله شيء واحد جيد لا يختلف ، وإن اختلفت القراءة له.

الثاني من الدليلين : أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أضاف القراءة إلى ابن مسعود دون القرآن الذي هو كلام الله تعالى فقال : «من سرّه أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن مسعود». فقراءة ابن مسعود صفة له ، والمقروء كلام الله صفة له لا لابن مسعود. وأيضا فإنه وصف قراءة ابن مسعود بأنها غضة رطبة وهذه صفة لا تقع إلا على صفة المحدثين ؛ لأن قراءة بعضهم تكون غضة رطبة ، مستحسنة تميل إليها القلوب ، وقراءة بعضهم فجة غليظة تنفر عنها الطبائع ، والمقروء بهذه هو المقروء بهذه ، وكذلك بعض القراءات مصححة معربة ، وبعضها ملحونة معوجة مفسدة ، والمقروء بهذه ، هو المقروء بهذه لأن القديم لا يتصف بالصحة تارة وبالفساد تارة أخرى ، إنما يتصف بالفساد تارة وبالصحة تارة أخرى صفة المخلوقين ، وهي قراءتهم دون المقروء والمتلو الذي هو كلام الله القديم.

* * *

فصل

وأما الدليل على أن الحروف والأصوات من صفات قراءة القارئ ، لا أنها من كلام الباري سبحانه وتعالى من الأخبار فكثير جدا ، لكن إن شاء الله أذكر من ذلك ما يقع به الكفاية لكل عاقل محصل.

فمن ذلك : ما روى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قام من الليل فقرأ يخفض طورا ويرفع طورا. وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفا حرفا ، فموضع الدليل من هذين الخبرين أنهما أضافا القراءة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأضافا الخفض والرفع بتفسير الحروف حرفا حرفا إلى قراءة القارئ لا إلى كلام الباري ، وكل حديث أذكره لك بعد هذين الحديثين فتأمله ؛ فإني أذكرها سردا إن شاء الله ، فتجد في كل حديث ما يدلك على صحة ما أقول ، وهو : إضافة الصوت ، والحرف إلى قراءة القارئ لا إلى كلام الباري القديم الأزلي.

١٤٨

فيدل على صحة ذلك ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطع قراءته آية آية ، ولو شاء العاد أن يعدها أحصاها. وهذا يدلك على أن القراءة تنعد وتنحصر ، والمقروء القديم لا ينعد ولا ينحصر فافهم ذلك.

ويدل على ذلك أيضا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت : أكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرفع صوته بالقرآن؟ قالت : ربما رفع وربما خفض. ويدل عليه أيضا ما روي عن البراء بن عازب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في العشاء بالتين والزيتون ، فما سمعت أحدا أحسن صوتا منه.

ويدل عليه أيضا ما روي عن أنس أنه قال : ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه ، وحسن الصوت وكان نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسن الوجه وحسن الصوت إلا أنه كان لا يرجّع. وأيضا ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر رضي الله عنه : «ما لك إذا قرأت لا ترفع صوتك» قال : إني أسمع من أناجي. وقال لعمار : «ما لك إذا قرأت تأخذ من هذه السورة ومن هذه السورة؟ فقال : سمعتني أخلط به ما ليس منه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فكله طيب» فموضع الدليل : أن الرسول عليه‌السلام أضاف قراءة كل واحد وصوته إليه ، وذكر أنها قراءة مختلفة ، وأضاف إلى كل واحد صفته من القراءة والصوت ، ولم يضف إلى كلام الله تعالى شيئا من ذلك فافهم.

وأيضا ما روي عن أم هانئ رضي الله عنها قالت : كنت أسمع قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا علي عريشي. وأيضا ما روى جبير بن مطعم قال : أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي بأصحابه المغرب ، فسمعته وهو يقرأ ، وقد خرج صوته من المسجد : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨)) [الطّور : ٧ ، ٨] فكأنما صدع قلبي ، ويقال إن هنا كان سبب إسلامه ، لأنه جاء يكلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسارى بدر ، فلما سمع قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحسن صوته قال : فكأنما صدع قلبي ، وكأني بالعذاب قد أحاط بي ، فصدقت وآمنت من ساعتي. وهذا الحديث أدل دليل على الفرق بين القراءة والمقروء ، وأن الصوت صفة الصائت والقارئ دون كلام الباري ، لأن الذي صدع قلبه وهداه إنما هو الذي فهمه من كلام الله تعالى الذي أوعد به المستكبرين ؛ فعلو الصوت من قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفة للرسول عليه‌السلام ، والذي صدق به قلبه هو ما فهمه من كلام الله تعالى الذي سمعه بواسطة قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلو صوته ،

١٤٩

لأن الأصوات والحروف لا تهدى ولا تشقى ، إذ لا تأثير لها في إحياء القلوب وإقبالها ، إنما الذي يحيي القلوب ويهديها كلام الله القديم الأزلي يدل عليه قوله تعالى : (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشّورى : ٥٢] فالهادي الشافي المقروء لا القراءة ، والمفهوم من الصوت لا الصوت.

يدل على ذلك أيضا ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن : اللهم إني عبدك وابن عبدك ناصيتي بيدك ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور بصري وجلاء حزني وذهاب همي ، إلا أذهب الله عزوجل همه وأبدله مكان حزنه فرحا» قالوا : يا رسول الله ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال : «أجل ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن» فبيّن لك صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن كلام الله الذي هو القرآن هو الذي يهدي ويشقي لا قراءة القارئ.

وأيضا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أنا في الجنة إذ سمعت صوت رجل بالقرآن فقلت من هذا؟ فقالوا : حارثة بن النعمان. كذلك البر. كذلك البر». وكان حارثة من أبر الناس بأمه ، وأضاف صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصوت إلى الرجل الصائت دون القرآن. ولو أني أتقصي الأخبار والآثار في الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء لاحتاج إلى مجلدات عدة ؛ لكن ذكرت من ذلك ما فيه كفاية بحمد الله لمن له عقل سليم وفهم صحيح ، فإذا تقرر هذا صحّ لك أن القراءة صفة القارئ ، والمقروء على الحقيقة كلام الباري ، وكذلك الحفظ صفة الحافظ ، والمحفوظ كلام الله تعالى ، وكذلك الكتابة صفة الكاتب وصنعته ، والمكتوب كلام الله تعالى ، كما أن الذكر صفة الذاكر ، والمذكور هو الله تعالى. وكذلك العبادة من الصلاة ، والصوم ، والحج صفة للعابد وهي في أنفسها مختلفة الصفات متغايرة ، والمعبود بها واحد أحد ليس بمختلف ولا متغاير وهو الله تعالى. وفي هذا كفاية لمن سلم له التصور والفهم.

وأما الدليل من جهة العقل هو : أن يعلم أن القراءة تارة تكون طيبة مستلذة ، وتارة فجة تنفر منها الطباع ، وتارة رفيعة عالية ، وتارة منخفضة خفية ، وتارة يلحقها اللحن والخطأ ، وتارة تصح وتقوم ، وما جازت عليه الأشياء فلا يجوز أن يكون إلا صفة الخلق دون صفة الحق. وكذلك أيضا الكتابة تارة تكون مرتبة جيدة حسنة يمدح كاتبها. وتارة وحشية يذم كاتبها ، والإنسان إنما يمدح ويذم على فعله ، فصحّ أن

١٥٠

الكتابة صفة الكاتب ، والمكتوب بها كلام الله تعالى ، وأيضا فإن الكتابة يلحقها المحو يتصور عليها الغرق ، والحرق ، والتواء ، والتلف ، وكلام الله القديم لا يتصور عليه شيء من ذلك. وكذلك الحفظ ، والسمع تارة يوجد ، وتارة يعدم ، وما يجوز عليه الوجود بعد العدم والعدم بعد الوجود فليس بصفة لله تعالى ، وإنما هو صفة المخلوق المربوب ، لكن المسموع من القرآن ، والمحفوظ منه ، والمقروء منه ، والمكتوب منه كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا مربوب. فافهم تصب إن شاء الله.

وأيضا فإن من حلف بالطلاق الثلاث أن لا يقوم من مقامه حتى يفعل فعلا يكون عبادة وطاعة لله تعالى ؛ فقرأ عشر آيات من القرآن ثم قام ولم يفعل شيئا غير ذلك لم يحنث في يمينه بإجماع المسلمين ، فصحّ أن قراءته فعله وعمله الذي صار به فاعلا ، عابدا ، طائعا. وأن المقروء بقراءته كلام الله تعالى القديم الذي ليس بفعل لأحد فافهم.

وأيضا : فإن قراءة القارئ تارة تكون طاعة وقربة ، وتارة تكون معصية وذنبا. فأما الطاعة فهي إذا قرأها وهو طاهر غير جنب وغير مرائي بها أحدا من الخلق ، ويكون معصية إذا قرأها وهو جنب مرائي ، وما يكون تارة طاعة وأخرى معصية كيف يكون صفة الحق؟ ـ تعالى عن ذلك ـ بل هو صفة الخلق ، لكن المقروء في الحالتين شيء واحد ، وهو كلام الله تعالى القديم لا يتصف بالشيء وضده. فافهم ، وفي بعض هذا مقنع لمن لم يكن يكابر الضرورات.

مسألة

ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مكتوب في المصاحف على الحقيقة (١) كما قال : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨)) [الواقعة : ٧٧ ، ٧٨] وهو في مصاحفنا مكتوب على الوجه الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ ، كما قال تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)) [البروج : ٢١ ، ٢٢] لكن نحن نعلم وكل عاقل أن كلام الله الذي هو مكتوب في اللوح المحفوظ هو القرآن المكتوب في مصاحفنا شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، وأن اللوح غير أوراق مصاحفنا ، وأن الخط الذي فيه غير الخطوط التي في مصاحفنا ، وأن القلم الذي كتب في اللوح المحفوظ غير أقلامنا ،

__________________

(١) عند من يرى وجود الشيء في الأعيان والأذهان واللسان والكتابة ونحوها حقائق يشترك بينها لفظ الوجود اشتراكا لفظيا (ز).

١٥١

وكذلك ما اختلف وغاير غيره واختص بمكان دون مكان وزمان دون زمان ، فهو مخلوق مربوب ، وكل ما هو على صفة واحدة لا يختلف ولا يتغير ولا يجوز عليه شيء من صفات الخلق ، فكذلك هو كلام الله تعالى القديم وجميع صفات ذاته [قديمة] وكذلك القرآن محفوظ بالقلوب على الحقيقة. كما قال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٩] لكن نعلم قطعا أن زيدا الحافظ غير عمرو الحافظ ، وأن قلب هذا غير قلب هذا ، وأن حفظ هذا غير حفظ هذا. لكن المحفوظ لهذا بحفظه هو المحفوظ للآخر بحفظه ، وهو شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، إذ هو صفة الله تعالى قديم غير مخلوق ، وكذلك نقول إنه مقروء بألسنتنا نتلوا بها على الحقيقة لكن نعلم أن زيدا القارئ غير عمرو القارئ ، وأن لسان زيد غير لسان عمرو ، وأن قراءة زيد غير قراءة عمرو ، ولكن المقروء لزيد هو المقروء لعمرو شيء واحد لا يختلف ولا يتغير ، بل هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يجوز عليه صفات الخلق وهذا كما قال تعالى : (أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : ١٤] يعلمه زيد بعلمه ويعلمه عمرو بعلمه ، ويعبده زيد بعبادته ، ويعبده عمرو بعبادته ، ويدعوه زيد بدعائه ، ويدعوه عمرو بدعائه ويذكره زيد بذكره ، ويذكره عمرو بذكره ، ويسبحه زيد بتسبيحه ، ويسبحه عمرو بتسبيحه ، فزيد غير عمرو ، وذكره غير ذكر عمرو ، وعبادته غير عبادة عمرو ، ولكن المعبود لهذا هو المعبود لهذا ، والمذكور لهذا هو المذكور لهذا ، والمسبح لهذا هو المسبح لهذا ، والله تعالى القديم الواحد الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].

مسألة

ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى مسموع لنا على الحقيقة (١) لكن بواسطة وهو القارئ.

دليل ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التّوبة : ٦] واعلم : أن المسموع فهو كلام الله القديم صفة لله تعالى قديمة موجودة بوجود قبل سماع السامع لها ، وإنما الموجود بعد أن لم يكن هو سمع

__________________

(١) على القول بالاشتراك بين الوجودات السابق ذكرها ، وأما على القول بأن القرآن اسم للنظم الدال لا من حيث تعين من قام به فيكون واحدا بالنوع ، كما هو قولهم في أسماء الكتب ، فيكون المقروء هو هو بدون إشكال الحدوث والقدم ، فما قام بالقديم قديم ، وما قام بالحادث حادث (ز).

١٥٢

السامع وفهم الفاهم لكلام الله تعالى يحدث الله تعالى له سمعا إذا أراد أن يسمعه كلامه ، وفهما إذا أراد أن يفهمه كلامه ، لأن المسموع لم يكن ثم كان عند السمع والفهم ، وهذا كما أن الله موجود قديم بوجود قديم ، وإذا خلق رجلا أو امرأة لعبادته وسهل له العبادة التي لم تكن ثم كانت فإنه يصير عابدا لله تعالى ، الذي هو موجود قديم دائم قبل العبادة وبعدها ، وإنما الذي لم يكن ثم كان هو العابد والعبادة ، فافهم الحق وحدوده.

مسألة

فحصل من هذا : أن الله تعالى يسمع كلامه لخلقه على ثلاث مراتب : تارة يسمع من شاء كلامه بغير واسطة لكن من وراء حجاب ، ونعني بالحجاب للخلق لا للحق كموسى عليه‌السلام أسمعه كلامه بلا واسطة (١) لكن حجبه عن النظر إليه ، وتارة يسمع كلامه من شاء بواسطة مع عدم النظر والرؤية أيضا من ملك أو رسول أو قارئ ؛ وهو استماع الخلق من الرسول عند قراءته للصحابة وقراءة الصحابة على التابعين ، وكذلك هلم جرا إلى يومنا هذا ؛ يسمع كلام الله تعالى على الحقيقة لكن

__________________

(١) وفي شرح المقاصد : (اختصاص موسى عليه‌السلام بأنه كليم الله تعالى ، فيه أوجه ، أحدها ـ وهو اختيار الغزالي ـ أنه سمع كلامه الأزلي بلا صوت ولا حرف ، كما ترى ذاته في الآخرة بلا كم ولا كيف ، وهذا على مذهب من يجوز تعلق الرؤية والسماع بكل موجود حتى الذات والصفات ، ولكن سماع غير الصوت والحرف ، لا يكون إلا بطريق خرق العادة ، وثانيها : أنه سمعه بصوت من جميع الجهات على خلاف ما هو العادة ، وثالثها : أنه سمع من جهة لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا. وحاصله أنه أكرم موسى عليه‌السلام فأفهمه كلامه بصوت تولى بخلقه من غير كسب لأحد من خلقه ، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي ، وأبو إسحاق الأسفراييني ، وقال الأسفراييني : اتفقوا على أنه لا يمكن سماع غير الصوت إلا أن منهم من بتّ القول بذلك ، ومنهم من قال لما كان المعنى القائم بالنفس معلوما بواسطة سماع الصوت كان مسموعا ، فالاختلاف لفظي لا معنوي ا. ه) والصوت سواء كان من جهة أو الجهات كلها حادث مخلوق لا يقوم بالله سبحانه ، وفي طبقات الحنابلة لأبي الحسين بن أبي يعلى عند ترجمة الإصطخري في صدد ذكر عقيدة أحمد : (وكلم الله موسى تكليما من فيه ، وناوله التوراة من يده إلى يده) ومن هذا يعلم مبلغ ضلال هؤلاء المجسمة المتسترين بالانتساب إلى أحمد زورا وحاش لله أن يكون الإمام أحمد يثبت لله فما ، وما إلى ذلك من وجوه الضلال في العقيدة المعزوة إليه هناك ، كما ذكرت فيما علقت على الأسماء والصفات (ص ١٩٣) ولي إفاضة في ذلك في كثير من المواضع والله سبحانه هو الهادي (ز).

١٥٣

بواسطة ، فتارة يسمع كلامه من شاء من الخلق بغير واسطة ولا حجاب ، كتكليمه لنبينا عليه‌السلام ليلة المعراج. دليل الثلاثة قوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) [الشّورى : ٥١] وهو نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسمعه الله تعالى كلامه ليلة المعراج من غير واسطة ولا حجاب ، لأنه تعالى في تلك الليلة قال : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠)) [النّجم : ١٠] ولا يحمل الوحي هاهنا على الإلهام بل على السماع والإفهام ؛ أو من وراء حجاب ، كموسى عليه‌السلام أسمعه كلامه بلا واسطة لكن حجبه عن الرؤية ، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء فيسمع من يشاء كلامه بواسطة تبليغ الرسول أو قراءة القارئ. وهذه جملة بليغة في هذا المعنى إن شاء الله تعالى.

مسألة

ويجب أن يعلم أن كلام الله تعالى منزل على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال.

والدليل على ذلك قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)) [الشّعراء : ١٩٢ ـ ١٩٥] فيجب أن تعتقدها هنا أربعة أشياء هنا : منزّل ، ومنزّل ، ومنزول عليه ، ومنزول به. فالمنزل هو الله تعالى لقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) [الحجر : ٩] وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) [النّحل : ٤٤] والمنزل على الوجه الذي بيّنّاه من كونه نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال كلام الله تعالى القديم الأزلي القديم بذاته ، لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢)) [الشّعراء : ١٩٢] والمنزل عليه قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لقوله تعالى : (عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤)) [الشّعراء : ١٩٤] والمنزول به هو اللغة العربية التي تلا بها جبريل ، ونحن نتلو بها إلى يوم القيامة ، لقوله تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)) [الشّعراء : ١٩٥] والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر ، قول جبريل عليه‌السلام. يدل على هذا قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣)) [الحاقّة : ٣٨ ـ ٤٣] وقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

١٥٤

[التّكوير : ١٥ ـ ٢٩] وهذا إخبار من الله تعالى بأن النظم العربي الذي هو قراءة كلام الله تعالى قول جبريل لا قول شاعر ولا قول كاهن. وقالوا : ما هذا إلا قول البشر ، فرد عليهم بهاتين الآيتين وكذلك رد عليهم أيضا لما قالوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) [النّحل : ١٠٣] فحصل من هذا أن الله تعالى علّم جبريل عليه‌السلام القرآن. دليله قوله تعالى : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢)) [الرّحمن : ١ ، ٢] وجبريل عليه‌السلام علّم نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليله قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥)) [النّجم : ٥] وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ مع جبريل حال قراءته فزعا منه أن يذهب عنه حفظه حتى نهاه الله تعالى عن ذلك بقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] وبقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦)) [القيامة : ١٦] معناه لا تعجل بقراءتك حتى يفرغ جبريل عليه‌السلام. ثم طمّن قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه يحفظه إياه ويثبت حفظه في قلبه ، فقال : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧)) [القيامة : ١٧] يعني في صدرك حفظه. ووعده أن لسانه يقرؤه قراءة لا يحصل معها نسيان فقال : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦)) [الأعلى : ٦] يعني قراءة لا نسيان معها ، فحاصل هذا الكلام أن الصفة القديمة كالعلم والكلام ونحو ذلك من صفات الذات لا يجوز أن تفارق الموصوف ، لأن الصفة إذا فارقت الموصوف اتصف بضدها ، والله تعالى متنزه عن الصفة وضدها. فافهم ذلك. فجاء من ذلك أن جبريل عليه‌السلام علم كلام الله وفهمه ، وعلّمه الله النظم العربي الذي هو قراءته ، وعلّم هو القراءة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، ولم يزل ينقل الخلف عن السلف ذلك إلى أن اتصل بنا فصرنا نقرأ بعد أن لم نكن نقرأ ، فالقراءة أغيار لأن قراءة جبريل عليه‌السلام غير قراءة نبينا عليه‌السلام ، وقراءة نبينا عليه‌السلام غير قراءة أصحابه ، وقراءة أصحابه غير قراءة من بعدهم ، ثم كذلك هلم جرا إلى يومنا هذا ، يعلم كل عاقل أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ قبل الصحابة ، ثم قرأت الصحابة ، ثم قرأ التابعون ثم كذلك إلى اليوم ، لكن المقروء والمتلو هو كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق ولا يشبه كلام الخلق هو المقروء بقراءة الرسول عليه‌السلام وقراءة الجميع. وهذا أمر واضح إن شاء الله تعالى.

مسألة

ويجب أن يعلم أن الله تعالى لا يتصف كلامه القديم بالحروف والأصوات ولا شيء من صفات الخلق ، وأنه تعالى لا يفتقر في كلامه إلى مخارج ، وأدوات ، بل يتقدس عن جميع ذلك ، وأن كلامه القديم لا يحل في شيء من المخلوقات.

١٥٥

والدليل على ذلك : أنه قد صحّ وثبت أن من شرط الصفة قيامها بالموصوف ، والدليل على صحة ذلك أولا : أن حد القديم ما لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه ، وأن القديم لا يدخله الحصر والعد ، ونحن نعلم وكل عاقل أن هذه الأشكال من الحروف لم تكن قبل حركة الكاتب وإنما يحدثها الله مع حركة الكاتب شيئا فشيئا. ثم هي مختلفة الصور والأشكال ، ويدخلها الحصر والحد ، وتعدم بعد أن توجد ، وكل ذلك صفة المحدث المخلوق لمن كان له عقل سليم. وأيضا فإن حروف الكلمة يقع بعضها سابقا لبعض فعند خط الكاتب «با» قد حصلت وثبتت قبل خطه «سينا» وكذلك السين حصلت وثبتت قبل خطه «ميما» وكذلك النطق إذا تلفظ بالباء حصلت قبل السين وما تقدم بعضه على بعض وتأخر بعضه عن بعض فهو صفة الخلق لا صفة الحق (١) : وكذلك الأصوات يتقدم بعضها على بعض ويتأخر بعضها عن بعض ويخالف بعضها بعضا وكل ذلك صفة كلام الخلق لا صفة كلام الحق الذي هو قديم ليس بمخلوق. وأيضا فإن القول بقدم الأصوات والحروف يوجب القدم لجميع كلام الخلق ، وأصوات الناطق والصامت ، وهذا قول يؤدي إلى قدم جميع العالم أجمع ، وأيضا فإن الحروف التي يزعمون أنها قديمة وأنها صفة لكلامه تعالى لا يخلو إما أن تكون هذه الحروف التي تجري في كلام الخلق أو مثلها أو ضدها. فإن قالوا : إنها هي وجب قدم كلام الخلق ، وكذلك إن قالوا مثلها وجب ذلك أيضا ، لأن حد المثلين ما سدّ أحدهما مسدّ الآخر وناب منابه وساوقه من جميع الوجوه.

وإن قالوا : بل هي مضادة لهذه الحروف فقد يقولون القول [من غير] أن يكون [له] معنى وهذا بين الفساد.

ويدل على أن كلام الله القديم لا يجوز أن يكون حروفا وأصواتا ؛ ما روي عن ابن عباس أنه قال : لما سلط الله بختنصر على اليهود لما قتلوا يحيى عليه‌السلام سلطه عليهم فقتلهم وخرب بيت المقدس وحرق التوراة. قال عزير عليه‌السلام في جملة مناجاته : (يا رب سلّط عليهم عدوا من أعدائك ، بطر رحمتك ، وأمن مكرك ، وهدم بيتك ، وحرق كتابك) فأوحى الله تعالى إليه من جملة ما أوحى أن بختنصر إنما أحرق

__________________

(١) قال المصنف في النقض الكبير ـ كما في الشامل لإمام الحرمين ـ : (من زعم أن السين من بسم الله بعد الباء ، والميم بعد السين الواقعة بعد الباء لا أول له فقد خرج عن العقول وجحد الضرورة وأنكر البديهة. فإن اعترف بوقوع شيء بعد شيء فقد اعترف بأوليته ، فإذا ادعى أنه لا أول له فقد سقطت محاجته وتعين لحوقه بالسفسطة ، وكيف يرجى أن يرشد بالدليل من يتواقح في جحد الضروري اه) راجع ما علقناه على السيف الصقيل (ص ٤٦٢) (ز).

١٥٦

من التوراة الخط ، والحروف ، والورق ، والدفتر ولم يحرق كلامي ، فأخبر تعالى أن كلامه ليس هو الحروف التي حرقت ولا أنه مما تناله الأيدي ولا تعتديه ولا يبلى ولا ينعدم ، ويؤكد هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو جعل هذا القرآن في إهاب وألقي في النار لم يحترق» ولم يرد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الجلد ، والمداد والحروف المصورة لا تحترق ، وإنما أراد أن كلام الله تعالى هو القرآن لا يحترق في النار ولا يتصور عليه الحرق والعدم ، إنما يتصور ذلك على الأجسام والأشكال. فأما الكلام القديم فلا. والذي يدل على صحة هذا أنه ـ ونعوذ بالله تعالى ـ لو أخذ اليوم جبار عاص لله مصحفا فحرقه بالنار حتى صار رمادا ، أنقول إن كلام الله القديم احترق وانعدم؟ أم نقول إن كلامه باق ثابت لم يحترق ولم ينعدم ، وإنما احترق الورق ، والحروف المصورة بلا خلاف بين كل عاقل.

دليل آخر على حدث الحروف : وهو أن الأمة مجمعة على أن من قرأ كلام الله تعالى في صلاته لم تبطل صلاته ، ولا خلاف أن من قرأ حروف التهجي في صلاته بطلت صلاته ، فعلم بذلك أنها ليست بكلام الله تعالى.

دليل آخر على ذلك : وهو أن من قرأ القرآن وهو جنب أو امرأة حائض مع علمها بتحريم ذلك أنهما قد عصيا وفعلا ما لا يجوز لهما ، ولو تهجّى الجنب والحائض حروف الهجاء من أولها إلى آخرها لم يعصيا بذلك ، فعلم بذلك أن الحروف غير كلام الله تعالى. وإنما هي آلة يكتب بها كلام الله تعالى ويتلى بها كلامه ، وليست نفس كلامه. ويدل على ذلك أيضا ما روى علي رضي الله عنه أنه قال في جواب مسائل سأله عنها اليهود فقال : إن الله تعالى كلّم موسى عليه‌السلام بلا جوارح ، ولا أدوات ، ولا حروف ، ولا شفة ، ولا لهوات ، سبحانه عن تكيف الصفات. وأيضا ما روي عن علي عليه‌السلام أنه سئل هل رأيت ربك؟ وكان السائل له دعبل فقال في جوابه : لم أعبد ربا لم أره. فقال له : كيف رأيته؟ قال : لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان ، ويحك يا دعبل! إن ربي لا يوصف بالبعد وهو [قريب] ولا بالحركة ، ولا بقيام ، ولا انتصاب ، ولا مجيء ، ولا ذهاب ، كبير الكبراء لا يوصف بالكبر ، جليل الأجلاء لا يوصف بالغلظ ، رءوف رحيم لا يوصف بالرقة ، آمر لا بحروف ، قائل لا بألفاظ ، فوق كل شيء ولا يقال شيء تحته ، وخلف كل شيء ، ولا يقال شيء قدامه ، وأمام كل شيء ، ولا يقال له أمام ، وهو في الأشياء غير ممازج ولا خارج منها كشيء من شيء خارج ، (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف : ٥٤] لو كان على شيء لكان محمولا ، ولو كان في شيء لكان محصورا ، ولو كان من شيء لكان محدثا.

١٥٧

ويدل عليه قول شيخ طبقة التصوف الجنيد رحمه‌الله ؛ فإنه قال : جلّت ذاته عن الحدود ، وجلّ كلامه عن الحروف ، فلا حد لذاته ، ولا حروف لكلامه. ويدل عليه أيضا ما حدّث به أبو بكر (١) النقاش في تفسيره عن آدم بن أبي إياس قال : رأيت في يد بكر بن خنيس كتابا فزدت فيه حرفا أو نقصت منه حرفا : فقال لي بكر بن خنيس : يا آدم من أمرك أن تفعل هذا؟ أما علمت أن الله تعالى لما خلق الألف انتصبت قائمة ، فلما خلق الباء أضجعت ، وقيل للألف لم انتصبت قائمة؟ قالت : أنتظر ما أومر. وقيل للباء لم أضجعت؟ قالت : سجدت لربي. فقال بكر : فأيهما أجل؟ الذي فعل ما لم يؤمر به ـ يعني الباء سجدت ولم تؤمر بالسجود ـ أو الذي انتظر ما يؤمر ـ يعني الألف ـ. قال آدم بن أبي إياس : فكأنه فضل الألف على الباء ودلالة هذا على وجهين :

أحدهما : أنه صرح في هذا بخلق الألف والباء.

والثاني : أنه فضل الألف على الباء ، والقديم لا يجوز أن يفضل بعضه على بعض ، ولا يوصف بالأبعاض وإنما الذي يبعض ويحدد تلاوة القديم لا نفس الكلام القديم : وأيضا ما ذكره في تفسيره بإسناد رفعه إلي كعب الأحبار أنه قال : إن أول ما خلق الله تعالى من الحروف الباء ، ويقال : كانت الألف والسين حرفين كاملين فرفعت السين فرفع الله الألف عليها.

وأيضا ما روي عن عبد الله بن سعيد أنه قال : عرضت حروف المعجم على الرّحمن تعالى وتقدّس وهي تسعة وعشرون حرفا فتواضع الألف من بينها فشكر الله تعالى له فجعله قائما ، وجعله أمام اسمه الأعظم ـ يعني الله ـ فإنه لم يسم به غيره.

ويدل عليه أيضا : أن حروف التوراة مخالفة لحروف الفرقان في الهيئة والصورة والعدد ، لأن حروف التوراة حروف عبرانية ، وكذلك القول في حروب الإنجيل والمقروء بالكل منهما وإن اختلفت الحروف شيء واحد ، لا يختلف ولا يتغير.

وأيضا فإن الحروف تحتاج إلى مخارج ، فحرف الشفة غير حرف اللسان ، وحرف الحلق غيرهما ، فلو كان تعالى يحتاج في كلامه إلى الحروف لاحتاج إلى المخارج وهو منزّه عن جميع ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون.

__________________

(١) محمد بن الحسن صاحب شفاء الصدور الكذاب المشهور (ز).

١٥٨

وأيضا فإن الحروف متناهية معدودة ، وكلام الله تعالى قديم لا مفتتح لوجوده ولا نهاية لدوامه كعلمه ، وقدرته ، ونحو ذلك من صفات ذاته. وقد أكد تعالى ذلك بغاية التأكيد ، وأن كلامه لا يدخله العد والحصر والحد ، بقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩)) [الكهف : ١٠٩] وقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] فأخبر تعالى في هاتين الآيتين أنه لا نهاية لكلامه. إذ كل ما له نهاية له بداية ، وإنما تتصور النهاية في حق من يتصور في حقه البداية. وبالجملة أن من خالف في هذا فلا أراه أهلا للكلام معه ، لأنه ينكر ما قد علم ضرورة ويكابر الحس ويعاند الحق ، وفي هذا القدر كفاية ومقنع.

مسألة

ويجب أن يعلم أن القراءة (١) غير المقروء ، وأنها صفة للقارئ ، والمقروء بها غير مخلوق بل هو من كلام الباري وكذلك الحفظ صفة القلب والمحفوظ غير مخلوق ، بل هو كلام الرب ، وكذلك السمع صفة السامع والمسموع به غير مخلوق بل هو كلام الله تعالى ؛ وكذلك الكتابة صفة الكاتب والمكتوب بها من القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ولا صفة مخلوق ، وهذا كما تقول : إن الذكر غير المذكور ، لأن الذكر صفة الذاكر ، والمذكور بذكره هو الله تعالى ، وكذلك العبادة صفة العابد من المخلوقين ، والمعبود غير العبادة بل هو الله تعالى ؛ وكذلك التسبيح صفة العبد المسبح ، والمسبح هو الله تعالى ، والذي يحقق هذه الجملة النفي ، والإثبات ، والوجود ، والعدم. فإنك تقول : قرأ زيد أمس. فقراءته أمس معدومة اليوم ، وقراءته اليوم غير قراءته أمس ، والمقروء أمس بقراءته أمس هو المقروء بقراءته اليوم. ثم تنفي تارة أخرى فتقول : لم يقرأ زيد يوما ولم يوجد منه قراءة ، والمقروء موجود ثابت لا يتصور عليه العدم ، بل هو ثابت قبل وجود زيد وقبل وجود قراءته ، وموجود ثابت في حال قراءته وبعد قراءته على وجه واحد لا يتصور عليه الشيء وضده وهذا كما تقول : عبد زيد ربه اليوم ولم يعبده أمس ، فعبادته اليوم غير عبادته أمس ، وعبادته أمس

__________________

(١) ليكن على ذكر منك ما علقناه على مواضع من هذا الكتاب وغيره من أن وصف القرآن القائم بالله المقروء والمكتوب ، والمخطوط ، والمسموع من قبيل وصف المدلول بوصف الدال عند السعد وغيره من المحققين (ز).

١٥٩

ليست موجودة اليوم ، لكن المعبود موجود قبل أمس وفي اليوم لا يجوز أن يوصف بالشيء وضده. وعلى هذا نفس المحفوظ ، والمسموع ، والمكتوب ، فإن الكتابة توجد بعد أن لم تكن ، والحفظ يوجد بعد أن لم يكن ، والسمع يوجد بعد أن لم يكن ؛ ويتصور على الحفظ العدم بالنسيان. ويتصور على السمع العدم بالصمم ؛ ويتصور على الكتابة العدم بالغسل بالماء وطول الزمان والحرق بالنار ، لكن المحفوظ من كلام الله تعالى ، والمكتوب ، والمسموع لا يتصور عليه العدم بوجه من الوجوه ، لأنه قديم كذاته تعالى في القدم ، ولا تقول كذاته تعالى من جميع الوجوه ، لأنه لو كان كذاته تعالى من جميع الوجوه لوجب أن يكون خالقا رازقا محييا مميتا.

* * *

فصل

[ويعلم من] جميع ما تقدم : أن القراءة تارة توصف بالصحة والحسن ، وتارة بالفساد والقبح. فيقال : قراءة فلان حسنة صحيحة جيدة ، ويقال : قراءة فلان قبيحة فاسدة ، فالقراءة تتصف بالشيء وضده ، لأنها صفة القارئ ، والمقروء بها لا يتصف بالشيء وضده ، لأنه صفة الباري. وكذلك أيضا القراءة تكون تارة طيبة مستلذة ، وتارة تأباها الطباع وتنفر عنها الأنفس ، لكن المقروء والمتلو من كلام الله تعالى لا يختلف ولا يتغير بتغير غيره. وكذلك الكتابة تكون تارة بالذهب ، وتارة بالفضة ، وتارة بالمسك والعنبر ، وتارة تنحت في الخشب ، وتارة تكون بقطع الآجر ، فكتابة الذهب غير كتابة الفضة ، وكذلك كتابة المسك غير كتابة العنبر ، لكن المكتوب وهو القرآن كلام الله بالذهب هو المكتوب بالفضة ، وكذلك المكتوب بالمسك هو المكتوب بالعنبر ، وما أعلم أحدا يخالف في هذا إلا أحد رجلين : إما جاهل غبي ليس له حس ولا تصور ، وإما منافق مداهن ، نعوذ بالله من الجميع ونسأله حسن التوفيق في الدنيا والآخرة.

فتحقق [من] جميع ما ذكرنا أن القراءة فعل من أفعال العباد ، والمقروء والمتلو لا يجوز أن يكون فعلا من أفعال العباد ، ولا نقول أيضا إنه من صفات الفعل لله تعالى بل هو من صفات الذات. يدل على صحة هذا القول أن رجلا لو حلف بالطلاق لأقمت من موضعي هذا حتى أفعل فعلا يكون طاعة من طاعات الله فقرأ آيات من القرآن ثم قام قبل أن يفعل شيئا آخر أنه قد برّ في يمينه ولم يحنث ، فعلم أن القراءة فعل القارئ الذي يثاب عليها تارة ويعاقب عليها أخرى ، والمقروء في حال

١٦٠