العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

الخليقة كلها فطرت عليه الخلق» فيقال أسماء الله قديمة فإن لزم من العلى والأعلى كونه فوق جسم لزم قدم العالم والذي فطرت عليه والبديهة التعظيم إلى أعلى غاية.

فصل

كلمة ابن تيمية في العلو والفوقية والرد عليه

قال : «وثالثها صريح الفوق (١) مصحوبا بمن وبدونها أحدهما قابل للتأويل والأصل الحقيقة والمجرور لا يقبل التأويل وأصح لفائدة جليل قدرها إن الكلام إذا أتى بسياقه يبدي المراد أضحى كنص قاطع».

فيقال المجرور أولى بالتأويل لأن قوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النّحل :

٥٠] يحتمل أن المراد خوفا من فوقهم وليس في سياق الكلام ما يبدي المراد الذي ادعاه فأين الفائدة؟ والفوقية بمعنى القهر وعلو القدر متفق عليها والجهة هي عين النزاع ويلزم منها قدم الجهة.

فصل

قال : «ورابعها عروج الروح والملائكة في سورتي السجدة والمعارج قالوا هما بزمان وعندي يوم واحد عروجهم فيه إلى الديّان فالألف مسافة نزولهم وصعودهم إلى السماء الدنيا والخمسون ألف من العرش إلى الحضيض الأسفل».

فيقال له في الآيتين (إِلَيْهِ) [البقرة : ١٧٨] فعلى قوله يكون الله في مكانين أحدهما في السطح التحتاني من السماء الدنيا لأنه نهاية الألف والثاني في العرش ثم إن المسافة

__________________

(١) ينص شيخه في كتابه المذكور على أن المراد بالفوقية الفوقية الحسية فكأنه لم يتل في كتاب الله (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] و (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) [يوسف : ٧٦] والمراد بالفوقية فوقية العزة والقهر والتنزه. «والله فوق ذلك» في حديث الترمذي بمعنى أنه يعلو عن مدارك البشر بدليل ما في سنن الترمذي أيضا من حديث «لو دليتم» قال ابن جهبل : الفوقية ترد لمعنيين : أحدهما نسبة جسم إلى جسم بأن يكون أحدهما أعلى والآخر أسفل بمعنى أن أسفل الأعلى من جانب رأس الأسفل ، وهذا لا يقول به من لا يجسم ، وثانيهما بمعنى المرتبة كما يقال الخليفة فوق السلطان والسلطان فوق الأمير ، وكما يقال : جلس فلان فوق فلان والعلم فوق العمل والصياغة فوق الدباغة. قال تعالى : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) [الزّخرف : ٣٢] ولم يطلع أحدهم فوق أكتاف الآخر وقال تعالى عن القبط : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [الأعراف : ١٢٧] وما ركبت القبط أكتاف بني إسرائيل ولا ظهورهم اه. فظهر بذلك بطلان التمسك بكلمة فوق في الآيات والأحاديث في إثبات الجهة له تعالى الله عن مزاعم المجسمة.

٤٨١

إذا فصلت على أن بين السماء والأرض خمسمائة عام وكذا ثخانة كل سماء وما بين كل سماء وسماء لا يبلغ هذا المقدار وهذا لا يتعلق بغرضنا ، والمتعلق بغرضنا إلزامه بظاهر قوله : (إِلَيْهِ) [البقرة : ١٧٨] مع التزامه أن الغاية في المكان وكون ما بين السماء والأرض خمسمائة عام روي بطرق ضعيفة وفي الترمذي من رواية العباس في حديث الأوعال إما واحدة وإما اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة وهو يوافق قول أهل الهيئة وهذا يرجح أنهما يومان : أحدهما في الدنيا إلى العرش ألف سنة والثاني يوم القيامة خمسون ألف سنة من الشدة وقد جاء أن في الجنة مائة درجة بين كل درجتين مائة عام في رواية وفي رواية كما بين السماء والأرض (وكلاهما في الترمذي والفردوس أعلى الجنة وفوقه العرش فهذه المسافة أكثر من عشرة آلاف سنة) (١).

فصل

قال : «وخامسها صعود كلامنا (٢) والصدقة والحفظة والسعي والمعراج (٣) وعيسى وروح المؤمنين ودعاء المضطر ودعاء المظلوم».

وقال في المعراج : «وقد دنا منه إلى أن قدرت قوسان».

وقد علم كل واحد اختلاف المفسرين في قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨)) [النّجم : ٨] فكيف يستدل به وعيسى في السماء الرابعة ليس على العرش ، ورفع الصدقة والكلام وشبههما من المعاني ليس بالانتقال من مكان إلى مكان لأن المعاني لا تنتقل.

فصل

حديث النزول

قال : «وسادسها وسابعها النزول (٤) والتنزيل».

__________________

(١) ما بين القوسين في هامش الأصل.

(٢) قال ابن جهبل : الصعود كيف يكون حقيقة في الكلام؟ مع أن الصعود في الحقيقة من صفات الأجسام فليس المراد إلا القبول اه وهذا ظاهر جدا.

(٣) قال ابن جهبل : لم يرد في حديث المعراج أن الله فوق السماء أو فوق العرش حقيقة ولا كلمة واحدة من ذلك وهو لم يسرد حديث المعراج ولا بين وجه الدلالة منه حتى نجيب عنه فلو بين وجه الدلالة لعرفنا كيف الجواب اه.

(٤) قاتل الله الجهل ، ما أفتكه ، فمن الذي يجهل استمرار الثلث الأخير من الليل في البلاد باختلاف

٤٨٢

وتنزيل القرآن لنزول جبريل به من جهة العلو.

فصل

قال : «وثامنها رفيع الدرجات وفعيل بمعنى المفعول».

ما بقي من تخلف هذا النحس إلا أن يجعل لله سلما يصعد وينزل في درجاته ، تعالى الله عما يقول. يحمل على اللفظ فوق ما يحتمله ويفهم منه غير مراده فسحقا له.

فصل

«وتاسعها فوق السماء (١)».

فصل

قال : «وعاشرها الملائكة الذين هم عند الرّحمن وكتّاب رحمته عنده فوق العرش وسائر الأشياء ليست كذلك».

من هم الملائكة الذين هم معه في المكان وجبريل يتأخر عن المكان الذي وصل إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟.

فصل

الإشارة إلى رفع الأيدي إلى السماء

قال : «وحادي عشرها إشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإصبعه في الموقف لله (٢)».

__________________

ـ المطالع حتى يحمل النزول إلى السماء الدنيا على النزول الحسي ، وقد حمل حماد بن زيد النزول في الحديث على معنى الإقبال ومن أهل العلم من حمل الحديث على أن الإسناد فيه مجازي من قبيل الإسناد إلى السبب الآمر ويؤيده حديث أبي هريرة في سنن النسائي وفيه «ثم يأمر مناديا يقول هل من داع فيستجاب له». وليس في استطاعة من يخاف الله غير أن يفوض معنى النزول إلى الله مع التنزيه أو أن يحمل الحديث على المجاز في الطرف أو في الإسناد ، بل الأخير هو المتعين لحديث النسائي المذكور فيخرج حديث النزول من عداد أحاديث الصفات بالمرة عند من فكر وتدبر تعالى الله عن النقلة التي يقول بها المجسمة.

(١) يريد حديث الرقية وفي لفظ الناظم تغيير للفظ الحديث وسيأتي بيان ذلك والرد عليه.

(٢) أين في الحديث ذكر الإشارة إلى الله؟ وهكذا تكون أمانة مثل الناظم وشيخه في النقل؟ وهل صدر منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة عرفات سوى أن رفع إصبعه ثم نكبها إليهم وهل في ذلك دلالة على أن رفعه كان ليشير به إلى جهة الله سبحانه؟ تعالى الله عن ذلك. والخطيب يرفع يده وينكبها

٤٨٣

جوابه : إن القلب متوجه إلى الرب العالي قدرا وقهرا على كل شيء والإشارة إلى جهة العلو التي هي محل ملكه وسلطانه وملائكته والعليين عن خلقه ، وقبلة دعائه ومنزل وحيه وهكذا رفع (١) الأيدي في الدعاء.

فصل

قال : «وثاني عشرها وصفه تعالى بالظاهر وفسر في الحديث (أنت الظاهر فليس فوقك شيء)».

يقال لهذا المدبر إن كان الظاهر يقتضي الفوقية الحسية فاسم الباطن يقتضي التحتية الحسية ـ تعالى الله.

فصل

دعوى الناظم في الرؤية بدون مقابلة

قال : «وثالث عشرها إخباره أنا نراه في الجنة وهل نراه إلا من فوقنا (٢) ودعوى

__________________

ـ كيف يشاء في أثناء خطبته. وجعل ذلك حجة في شيء لا يصدر إلا ممن في قلبه مرض على أن الأرض كرية فالواقف في شرق الأرض تكون أخمصه في مقابلة أخمص الواقف في غرب الأرض ، ومن ضرورة ذلك أن يكون سمتا رأسيهما إلى جهتين متعاكستين فتكون إشارة أحدهما إلى جهة تعاكس الجهة التي يشير إليها الآخر ، وهكذا ، وكرية الأرض منصوصة في الكتاب والسنة كما في فصل ابن حزم والمنكر لذلك ليس بمنكر لقول أهل الهيئة فقط ، ولا للمحسوس فقط. ونسي الناظم الاستدلال في هذا الصدد بالإشارة في التشهد؟!

(١) ورفع الأيدي إلى السماء لأجل أن السماء منزل البركات والخيرات لأن الأنوار إنما تنزل منها والأمطار ، وإذا ألف الإنسان حصول الخيرات من جانب مال طبعه إليه فهذا المعنى هو الذي أوجب رفع الأيدي إلى السماء وقال الله تعالى : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢)) [الذّاريات : ٢٢] ذكره ابن جهبل فيما رد به على العقيدة الحموية لابن تيمية وهذا الرد يحق أن يكتب بماء الذهب ، ومن حاول الرد عليه من الحشوية فقد وقع على أم رأسه وكتاب ابن جهبل حقه أن يفرد بالطبع من طبقات ابن السبكي ـ ونسخة مخطوطة من كتاب ابن جهبل هذا توجد بمكتبة (لاله لى) باسطنبول.

(٢) قال : «إذ رؤية لا في مقابلة من الرائي محال ليس في الإمكان». وهذا صريح في أنه لا يرى رؤية لا يكون المرئي فيها في مقابلة الرائي فلا يكون أصرح من هذا في القول بالتجسيم ومن جملة ما يهذي به الناظم في شفاء العليل (١٥٩) : «كيف يصح عند ذي عقل ، مرئي يرى بالأبصار عيانا لا فوق الرائي ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه ولا أمامه» اه وهذا مثل ما هنا وهو من أبعد الناس عن نفي الرؤية فيكون مجسما صريحا ، ورؤية الله كما يرى القمر في ليلة البدر يقول عنها ابن قتيبة في (الاختلاف في اللفظ) لم يقع التشبيه فيها على

٤٨٤

سواها مكابرة ولذا قال محقق منكم للمعتزلة ما بيننا خلف فاحملوا معنا على المجسمة إذ قالوا يرى كما يرى القمران فيلزمهم العلو وليس فوق العرش رب هذا الذي والله مودع كتبهم».

ينبغي أن يحضر هذا النحس ويلزم بأن يخرج من كتبهم أنه ليس فوق العرش رب ولن يجده في كتبهم أبدا وتوهمه أنه لا يرى إلا من فوق لقصور عقله. ونقله اتفاقنا مع المعتزلة لعدم فهمه بل بيننا وبينهم وفاق وخلاف فقوله : ما بيننا وبينكم خلف كذب علينا.

فصل

بسط الكلام في السؤال ب «أين» في حديث الجارية

قال : «ورابع عشرها أين الله في كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث معاوية بن الحكم وفي تقريره لمن سأله رواه أبو رزين».

أقول : أما القول فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للجارية «أين (١) الله؟ قالت : في السماء» وقد تكلم

__________________

ـ حالات القمر من التدوير والمسير والحدود وغير ذلك وإنما وقع التشبيه في أن إدراكه يوم القيامة كإدراكنا القمر ليلة البدر لا يختلف في ذلك كما لا يختلف في هذا ، والعرب تضرب بالقمر المثل في الشهرة والظهور اه فعار على الناظم وشيخه أن يغيب عنهما ما لم يغب عن مثل ابن قتيبة ، لكن الهوى يعمي ويصم ، وكلامهما ينبئ عن تشبيه المرئي بالمرئي بل عادة ابن تيمية تهوين شأن التشبيه حتى تجده يقول فيما ردّ به على الرازي (٢٤ ـ الكواكب) «ليس في كتاب الله ولا سنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا كلام أحد من الصحابة والتابعين ولا الأكابر من أتباع التابعين ذم المشبهة وذم التشبيه ونفي مذهب التشبيه ونحو ذلك وإنما اشتهر ذم هذا من جهة الجهمية اه» كأنه لم يتل قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : ١٧] وهو الذي يروي عن ابن راهويه في موضع آخر من ذلك الكتاب «من وصف الله فشبّه صفاته بصفات أحد من خلقه فهو كافر بالله العظيم» ويروى أيضا مثله عن نعيم بن حماد في موضع آخر وهو من أئمتهم بل يروى عن الإمام أحمد نفسه «لا يشبهه شيء من خلقه» في موضع آخر من كتابه المذكور وهذا مما يدل على وقاحته البالغة وقلة دينه ، وهل أدل على قلة عقل الرجل من تناقضه في كتاب واحد؟ والله ينتقم منه.

(١) وراوي هذا الحديث عن ابن الحكم هو عطاء بن يسار وقد اختلفت ألفاظه فيه ففي لفظ له «فمدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده إليها وأشار إليها مستفهما من في السماء ...» الحديث ، فتكون المحادثة بالإشارة على أن اللفظ يكون ضائعا مع الخرساء الصماء فيكون اللفظ الذي أشار إليه الناظم والمؤلف لفظ أحد الرواة على حسب فهمه لا لفظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومثل هذا الحديث يصح الأخذ به فيما يتعلق بالعمل دون الاعتقاد ، ولذا أخرجه مسلم في باب تحريم الكلام في الصلاة ـ

٤٨٥

__________________

ـ دون كتاب الإيمان ـ حيث اشتمل على تشميت العاطس في الصلاة ومنع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، ولم يخرجه البخاري في صحيحه وأخرج في جزء خلق الأفعال ما يتعلق بتشميت العاطس من هذا الحديث مقتصرا عليه دون ما يتعلق بكون الله في السماء بدون أي إشارة إلى أنه اختصر الحديث وليس في رواية الليثي عن مالك لفظ «فإنها مؤمنة». وأما عدم صحة الاحتجاج به في إثبات المكان له تعالى فللبراهين القائمة في تنزه الله سبحانه عن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات ، قال الله تعالى : (قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الأنعام : ١٢] وهذا مشعر بأن المكان وكل ما فيه ملك لله تعالى ، وقال تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الأنعام : ١٣] وذلك يدل على أن الزمان وكل ما فيه ملك لله تعالى ، فهاتان الآيتان تدلان على أن المكان والمكانيات والزمان والزمانيات كلها ملك لله تعالى وذلك يدل على تنزيه سبحانه عن المكان والزمان ، كما في أساس التقديس للفخر الرازي ، ولأن الحديث فيه اضطراب سندا ومتنا رغم تصحيح الذهبي وتهويله راجع طرقه في كتاب العلو للذهبي وشروح الموطأ وتوحيد ابن خزيمة حتى تعلم مبلغ الاضطراب فيه سندا ومتنا ، وحمل ذلك على تعدد القصة لا يرضاه أهل الغوص في الحديث والنظر معا في مثل هذا المطلب. فالروايات على رجل مبهم محمولة على ابن الحكم ، ولم يصح حديث كعب بن مالك ولا حديث يروى عن امرأة ، فمالك يرويه عن عمر بن الحكم غير مقر بأن يكون غلطا فيه ، ومسلم عن معاوية بن الحكم ولفظهما كما سبقت الإشارة إليه مع نقص لفظ «فإنها مؤمنة» في رواية مالك. ولفظ ابن شهاب في موطأ مالك عن أنصاري ـ وهو صاحب القصة في الرواية الأولى ـ (فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت : نعم ، قال : أتشهدين أن محمدا رسول الله؟ قالت : نعم) وأين هذا من ذاك؟ وستعرف حال الذهبي في أواخر الكتاب فلا تلتفت إلى تهويله وتحريفه في هذا الباب فلعل لفظ (أين الله) تغيير بعض الرواة على حسب فهمه. والرواية بالمعنى شائعة في الطبقات كلها وإذا وقعت الرواية بالمعنى من غير فقيه فهناك الطامة ، وصاحب القصة لم يكن من فقهاء الصحابة ولا له سوى هذا الحديث في التحقيق ، بل كان أعرابيا يتكلم في الصلاة. على أن (أين) تكون للسؤال عن المكان وللسؤال عن المكانة حقيقة في الأول ومجازا في الثاني أو حقيقة فيهما ، قال أبو بكر ابن العربي في شرح حديث أبي رزين في العارضة : المراد بالسؤال بأين عنه تعالى المكانة ، فإن المكان يستحيل عليه ، وأين مستعملة فيه ، وقيل إن استعمالها في المكان حقيقة وفي المكانة مجاز وقيل هما حقيقتان ، وكل جار على أصل التحقيق مستعمل على كل لسان وعند كل فريق اه. وقال أبو الوليد الباجي في المنتقى : يقال مكان فلان في السماء بمعنى علو حاله ورفعته وشرفه ، فلعل الجارية تريد وصفه بالعلو ، وبذلك يوصف كل من شأنه العلو اه فيكون معنى «أين الله» ما هي مكانة الله عندك ومعنى «في السماء» أنه تعالى في غاية من علو الشأن ، يتحد هذا المعنى مع معنى «أتشهدين أن لا إله إلا الله قالت نعم» فإن قيل فليكن لفظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو «أين الله ولفظ الراوي هو «أتشهدين ...» رواية بالمعنى على الصورة السابقة فالجواب أنه لم يصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلقين الإيمان طول أداء رسالته السؤال بأين أو ذكر ما يوهم المكان ولا مرة واحدة في غير هذه القصة المضطربة بل الثابت هو تلقين كلمة الشهادة ، فاللفظ الجاري على الجادة أجدر بأن يكون لفظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على أن المحقق

٤٨٦

الناس عليه قديما وحديثا والكلام عليه معروف ولا يقبله ذهن هذا الرجل لأنهم شاء على بدعة لا يقبل غيرها؟ وأما حديث أبي رزين (١) ففي سنن الترمذي عنه قال :

__________________

ـ السيد الشريف الجرجاني أجاز في شرح المواقف أن يكون السؤال للاستكشاف عن معتقد الجارية هل هي عابدة وثن أرضي أم هي مؤمنة بالله رب السماوات.

ومن أهل العلم من يعد العامي معذورا في اللفظ الموهم اعتدادا بأصل اعتقاده بالله سبحانه وإن أوهم بعض إيهام في وصفه تعالى ، وإليه يشير القرطبي في المفهم في شرح حديث الجارية في صحيح مسلم ، قال ابن الجوزي : قد ثبت عند العلماء أن الله لا تحويه السماء ولا الأرض ، ولا تضمه الأقطار ، وإنما عرف بإشارتها تعظيم الخالق جلّ جلاله عندها اه وعلى تقدير ثبوت لفظ «أين» فالمعنى الذي ذكره الباجي وابن العربي معنى لا حيدة عنه أصلا وجلالة مقدار هذين الإمامين في الحديث واللغة وأصول الدين والفقه لا يجحدها إلا الجاهلون وقول ذلك الصحابي الذي كان يبغي فوق السماء مظهرا ، من الأدلة على ما أشار إليه الباجي.

توهين حديث أبي رزين

(١) وأما حديث أبي رزين ففي سنده حماد بن سلمة مختلط ، وكان يدخل في حديثه ربيباه ما شاءا وليس في استطاعة ابن عدي ولا غيره إبعاد هذه الوصمة عنه ، ويعلى بن عطاء تفرّد به عن وكيع بن حدس أو عدس ، وهو مجهول الصفة ، وهو تفرد عن أبي رزين ، ولا شأن للمنفردات والوحدان في إثبات الصفات فضلا عن المجاهيل وعمن به اختلاط ، فليتق الله من يحاول أن يثبت به صفة لله. وقد سئم أهل العلم من كثرة ما يرد بطريق حماد بن سلمة من الروايات الساقطة في صفات الله سبحانه ، وقد روى أبو بشر الدولابي الحافظ عن ابن شجاع عن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن مهدي أنه قال : «كان حماد بن سلمة لا يعرف بهذه الأحاديث حتى خرج خرجة إلى عبدان فجاء وهو يرويها ، فلا أحسب إلا شيطانا خرج إليه في البحر فألقاها إليه اه». وما ذا يجدي تحمس ابن عدي في الدفاع عنه والرد على محمد بن شجاع الإمام افتراء منه عليه؟ وابن شجاع هذا مات في صلاة العصر وهو ساجد ولا مغمز في علمه وثقته وورعه إلا أنه كان يقف في القرآن ولا يقول إنه مخلوق أو غير مخلوق لعدم ورود هذا وذاك نصا في الكتاب والسنة ، وألّف كتابا في الرد على المشبهة وهذا ذنب لا يغتفر عندهم. وإنما يدل هذا التحمس على خبيء لابن عدي الذي لم يتعلم من العربية ما يقوم به لسانه ويصونه من اللحون الفاضحة ، وأنّى لمثله أن يقوم فكره حتى يتخذ قدوة؟ وكان ابن شجاع يحذر الرواة من الأخذ بروايات تالفة أدخلها الوضّاعون على بعض شيوخ الرواية فيرد عليه عثمان بن سعيد الدارمي المجسم قائلا كيف يجد الوضّاعون سبيلا إلى الإدخال على شيوخ في الرواية؟ وابن عدي يعكس الأمر ويجعل الذي يدخل عليهم هو ابن شجاع بدون أي دليل وبدون سوق أي سند كما هو شأن المتقولين وله مع ثقات الرواة وأئمة الأمة في الفقه الذين تكلم فيهم موقف في يوم القيامة ، لا يغبط عليه ، والعقيلي على تعنته لم يذكره في كتابه ـ وحديث إجراء الخيل كان ذائعا بين شيوخ الرواية من الحشوية حتى يشكو من ذلك ابن قتيبة مر الشكوى في (الاختلاف في اللفظ) وهو معاصر لابن شجاع ، وكذلك خرجه أبو علي الأهوازي بسنده بطريق حماد بن سلمة. وقول الحاكم (أنبأنا إسماعيل بن محمد الشعراني أنه قال : بلغت عن محمد بن شجاع

٤٨٧

قلت : يا رسول الله ، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال : «كان في عماء ما تحته

__________________

ـ عن حبان بن هلال عن حماد بن سلمة) لا يمكن اتخاذه حجة في كون هذا الخبر مرويا عن حماد بن سلمة بطريق ابن شجاع منفردا به لأن بين الشعراني وبين ابن شجاع نحو مائة سنة فلا يقل الساقط من الرجال من بينهم عن نحو ثلاثة ، هكذا يفضح الله من يتطاول على الأئمة. راجع ما علقناه على تبيين كذب المفتري في (ص ٣٦٩) ومن اطلع على كتاب (نقض عثمان بن سعيد على الجهمي العنيد) الجاري طبعه يعرف سبب مقت الحشوية لهذا الإمام الجليل ، بل يكفي في معرفة حال حماد ابن سلمة الاطلاع على كتب الموضوعات المبسوطة ، في باب التوحيد منها خاصة فيرى فيها القارئ أخبارا تالفة رويت بطريقه بكثرة بل ما سرده ابن عدي نفسه في الكامل في ترجمة حماد هذا من الأحاديث التالفة المروية بطريقه كاف في معرفة سقوط ما يروى بطريقه في الصفات بل سقوط ابن عدي المتحمس دونه.

منها روايته عن قتادة عن عكرمة ... أن محمدا رأى به في صورة شاب أمرد ...) وفي لفظ (... جعدا أمرد عليه حلة خضراء ...) إلى غير ذلك من الألفاظ الفاضحة ، وقد روى ابن عساكر بطريق أبي القاسم السمرقندي عن قتادة (الأعمى) : إني ما حفظت عن عكرمة إلا بيت شعر ، وهذا دليل على أنه لم يرض روايته الحديث ، وأما ما يروى عن أحمد من سماع قتادة عن عكرمة عدة أحاديث فلا يثبت عن أحمد لأنه بطريق رواة من المجسمة القائلين بإقعاد الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جنبه على العرش ، تعالى الله عن ذلك ، وقد توسع الفخر بن المعلم القرشي في رد ما يروى عن عكرمة في هذا الصدد ثم قال «فمعاذ الله أن يرى ربه على صورة أصلا فكيف على صورة قد ذكر مثلها أو أكثرها عن المسيح الدجال» اه.

فمن التهور البالغ قول ابن صدقة «من لم يؤمن بحديث عكرمة فهو زنديق» بل من يقول به هو الزنديق ، ويأسف المرء أن يرى بعض تلك الروايات التالفة مدونا في كتاب (أخبار الصفات) للدارقطني. وابن المعلم القرشي يؤكد أنه مدسوس في كتاب الدارقطني وليس ببعيد بالنظر إلى أن راويه عنه العشاري والراوي عنه ابن كادش ، وستعرف قيمتهما في أواخر ما علقناه على هذا الكتاب. ويظهر مما رفعه أبو إسحاق الشيرازي وأصحابه إلى نظام الملك من المحضر ـ في فتنة الحشوية ببغداد ضد ابن القشيري ـ اتخاذ رواية حماد هذه دينا فليراجع المحضر المذكور في (تبيين كذب المفتري) لابن عساكر (ص ٣١٠) وفيه ما نصه «... وأبوا إلا التصريح بأن المعبود ذو قدم وأضراس ولهوات وأنامل ، وأنه ينزل بذاته ويتردد على حمار في صورة شاب أمرد بشعر قطط وعليه تاج يلمع وفي رجليه نعلان من ذهب ...» تعالى الله عما يشركون. وفي مرسوم الخليفة العباسي الراضي الذي أصدره في فتنة البربهاري ما نصه «... وتارة إنكم تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين وهيئتكم الرذلة على هيئته وتذكرون الكف والأصابع والرجل والنعلين المذهبين والشعر القطط والصعود إلى السماء والنزول إلى الدنيا ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا ...» كما في الكامل لابن الأثير (٨ ـ ٩٨) إلى غير ذلك من الفضائح المكشوفة ، وحديث أم الطفيل أنكره أحمد والنسائي فلا يمكن أن يصح مثل تلك الرواية لا يقظة ولا مناما ، راجع دفع الشبه لابن الجوزي و (نجم المهتدي) والله ولي الهداية.

٤٨٨

هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه (١) على الماء» قال الترمذي قال أحمد يعني ابن منيع راوي الحديث قال يزيد يعني ابن هارون شيخ أحمد : العماء أي ليس معه شيء. انتهى كلام الترمذي.

وفي رواية (كان في عما) بالقصر ومعناه ليس معه شيء وقيل هو كل أمر لا يدركه عقول بني آدم ولا يبلغ كنهه الوصف والفطن ، قال ابن الأثير : ولا بد في قوله (أين كان ربنا) من مضاف محذوف فيكون التقدير أين كان عرش ربنا ويدل عليه قوله تعالى : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧] قال الأزهري : نحن نؤمن به ولا نكيفه بصفة أي نجري اللفظ على ظاهره من غير تأويل ، وقوله من غير أن نكيفه بصفة صريح في التنزيه والعلماء في المتشابهات يؤمنون بها إما بأن يتأولوها وإما بأن يسكتوا مع التنزيه وهذا المدبر يصدق بعضها ببعض ليقوي الشبهة ويمكن الريبة من قلوب الناس لعنه الله (٢).

فصل

قال : «وخامس عشرها الإجماع من (٣) رسل الله ، حكى إجماعهم عبد القادر

__________________

(١) قال أبو بكر ابن العربي في العارضة : والذي عندي أنه أراد بالعرش الخلق كله و (على الماء) بمعنى يمسكه بقدرته لا بعمد ترافده ولا أساس يعاضده ، فإنها كانت تكون مفتقرة إلى أمثالها إلى غير نهاية وذلك غير محصول فترده أدلة العقول اه وهو معنى بديع جدا لمن ألقى السمع وهو شهيد. واستعمال العرش بمعنى الملك شائع ، راجع كتاب أصول الدين لعبد القاهر البغدادي.

(٢) ولعن كل من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وأنت قد جربت أن الإمام السبكي رحمه‌الله لا يستنزل اللعنات على الناظم إلا عند كلماته الخطرة جدا ، عامله الله بعدله.

تفنيد زعم الإجماع على الفوقية الحسية

(٣) فيا للعار والشنار على من يهون إجماع المسلمين فيما يستدلون به عليه من المسائل الفرعية كيف يزعم إجماع رسل الله على محال؟ وتجد في الكتب المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر كثيرا مما يرده علماء أصول الدين في الاعتقاد كما تجد فيها كثيرا من الأحاديث الملفقة الموضوعة فلا يعول على مثل تلك الكتب في مثل هذا المطلب ، وقد قال ابن حجر المكي في فتاويه إن ذكر الجهة ونحوها مدسوس في كتب الشيخ عبد القادر ، وذكر مثله اليافعي قبله في نشر المحاسن ، وكذلك النجم الأصفهاني قبل اليافعي ، وهم لا يعتدون بروايات أمثال الذهبي والناظم وشيخه وابن رجب عنه في هذا الصدد لأنهم أظناء عندهم فيما يتعلق بالجهة ، ومن المقرر عند أهل السنة أن أهل البدع لا تقبل رواياتهم فيما يؤيدون به بدعهم ، فالقائلون بصلاح

٤٨٩

__________________

ـ الشيخ عبد القادر ـ وهم الجمهور ـ يبرءونه من تلك البدع ويعدونها مدسوسة في كتبه ولا يوجد بين أهل الحق من يعترف له بالصلاح مع فرض ثبوت تلك المخازي عنه ، فعلى فرض ثبوتها عنه فلا حب ولا كرامة ، ومخارق حفيده عبد السلام المتربي لديه تدعو الباحث إلى غاية من الاحتياط في حقه ، وقد أشار الحافظ أبو شامة المقدسي في ذيل الروضتين إلى ما جرى بينه وبين أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي والوزير العالم ابن يونس الحنبلي نسأل الله السلامة. وبين المتصوفة من يلهج كثيرا بمرتبة الإطلاق ومراتب التنزل في المظاهر أخذا من مذهب السالمية لكن أئمة أصول الدين ليسوا على تصديق التجلي في الصور الذي يقول به هؤلاء بل يعدون ذلك والحلول على حد سواء ، فمن حاول الجمع بين أقوال المتكلمين والمتصوفة والحكماء والحشوية في ذلك كالبرهان الكوراني فإنما حاول المحال والانسلاخ من قيد العقل والنقل معا ، نسأل الله العافية ، وليس بقليل بين الأئمة من جاهر بإكفار القائلين بالجهة كما نقلت نص ذلك من شرح مشكاة المصابيح للعلامة ناصر السنة علي القاري فيما علقته على «دفع شبه التشبيه» لابن الجوزي (ص ٥٧) وشأن من يخاف الله سبحانه أن ترتعد فرائصه في موطن جاهر فيه بعض الأئمة المتبوعين في أصول الدين ؛ بالإكفار.

بسط الكلام في رد القول بالجهة

ولم يرد لفظ الجهة في حديث ما بل قال أبو يعلى الحنبلي في «المعتمد في المعتقد» : ولا يجوز عليه الحد ولا النهاية ولا قبل ولا بعد ولا تحت ولا قدّام ولا خلف لأنها صفات لم يرد الشرع بها وهي صفات توجب المكان اه ولعله آخر مؤلفاته بدليل أن امتحانه في الصفات كان سنة ٤٢٩ قبل وفاته بنحو ثلاثين سنة فمن أثبت له تعالى جهة فقد أثبت له أمثالا وأشباها مع أنه لا مثل له ولا شبيه له تعالى ، قال الله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وقال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : ١٧] فلعائن الله على من يثبت له تعالى ما لم يثبت له الكتاب ولا السنة من الجهة ونحوها ، وأما ابن رشد الحفيد ففيلسوف ظنّين يسعى في إثارة وجوه من التشكيك حول آراء المتكلمين من أهل السنة لينتقم منهم بسبب ردودهم على الفلاسفة إخوانه ولا سيما من أبي المعالي الجويني وأبي حامد الغزالي ، فمن طالع فصل المقال ومناهج الأدلة لابن رشد وخاصة في بحث قدم العالم قدما زمانيا وعلم الله بالجزئيات والبعث الجسماني يتيقن ما قلنا في حقه على أنه يقول في فصل المقال (ص ١٣) : إن هاهنا ظاهرا من الشرع لا يجوز تأويله ، فإن كان تأويله في المبادي فهو بدعة ، وهاهنا أيضا ظاهر يجب على أهل البرهان تأويله وحملهم إياه على ظاهره كفر في حقهم ، وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم. ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول اه.

وهذا الكلام يهد على رأس ابن تيمية وتلميذه ما يريدان أن يبنيا على كلامه ولو علما مغزى كلامه لأبيا كلا الإباء أن يحوما حول كلامه في مثل هذه الأبحاث. فما يكون كفرا في حق طائفة عند ابن رشد يكون إيمانا في حق طائفة أخرى عنده وبالعكس وهذا هو الذي يحتج ابن تيمية في التأسيس وغيره بقوله في الجهة من غير أن يعقل مغزى كلامه الطويل في مناهج الأدلة. وأما ما وقع في كلام ابن أبي زيد وابن عبد البر مما يوهم ذلك فمؤول عند محققي

٤٩٠

__________________

ـ المالكية ولو كان ابن عبد البر لم يكتف بالطلمنكي في أصول الدين ورحل إلى الشرق كالباجي لم يقع في كلامه ما يوهم ولم يقع ذكر الجهة في حق الله سبحانه في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا في لفظ صحابي أو تابعي ولا في كلام أحد ممن تكلم في ذات الله وصفاته من الفرق سوى أقحاح المجسمة وأتحدى من يدعي خلاف ذلك أن يسند هذا اللفظ إلى أحد منهم بسند صحيح فلن يجد إلى ذلك سبيلا فضلا عن أن يتمكن من إسناده إلى الجمهور بأسانيد صحيحة ، وأول من وقع ذلك في كلامه ممن يدعي الانتماء إلى أحد الأئمة المتبوعين ـ فيما أعلم ـ هو أبو يعلى الحنبلي المتوفى سنة ٤٥٨ حيث قال عند إثباته الحد له تعالى في كتابه (إبطال التأويلات لأحاديث الصفات) : «إن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة له وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية فلذلك لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها اه». تعالى الله عما يقول المجسمة علوا كبيرا وهو عين ما ينسب إلى المانوية الحرانية من تلاقي النور من جهة الأسفل مع الظلمة وعدم تناهيه من الجهات الخمس ـ سبحانك ما أحلمك ـ ثم تابعه أناس من الحنابلة في نسبة الجهة إلى الله سبحانه منهم أبو الحسن علي بن عبيد الله الزاغوني الحنبلي المتوفى سنة ٥٢٧ ووقع بعده في غنية الشيخ عبد القادر وقد سبق رده ، وإثبات ذلك له تعالى ليس بالأمر الهين عند جمهور أهل الحق بل قال جمع من الأئمة إن معتقد الجهة كافر كما صرح به العلم العراقي ، وقال إنه قول أبي حنيفة ومالك والشافعي والأشعري والباقلاني اه فانظر قول ابن تيمية في التسعينية (ص ٣) : أما قول القائل ، الذي نطلب منه أن ينفي الجهة عن الله والتحيز فليس في كلامي إثبات لهذا اللفظ لأن إطلاق هذا اللفظ نفيا وإثباتا بدعة اه ، وهذه مغالطة ، فإن ما لم يثبته الشرع في الله فهو منفي قطعا ، لأن الشرع لا يسكت عما يجب اعتقاده في الله ، وقوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] نص في نفي الجهة عنه تعالى إذ لو لم تنف عنه الجهة لكانت له أمثال لا تحصى ، تعالى الله عن ذلك ـ ثم انظر قوله في منهاجه (١ ـ ٢٦٤) : فثبت أنه في الجهة على التقديرين اه» لتعلم كيف رماه الله بقلة الدين وقلة الحياء في آن واحد. وأما ما ينقله الذهبي وغيره من الحشوية من تفسير القرطبي في قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] من أنه قال : وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله فتساهل منه في العبارة ، فإنه لم يرد لفظ الجهة في عبارة السلف ولا في كتاب الله ، ولو أراد ورود هذا اللفظ لكذبه كتاب الله وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والآثار المروية عن السلف لأن الوارد لفظ (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] و (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] ونحو ذلك بدون تعرض للتكييف بالجهة ، وهكذا الوارد في السنة وآثار السلف ويعين قوله «كما نطق به كتابه» أن مراده الفوقية والعلو بلا كيف وذكر الجهة سبق قلم منه فلا يكون متمسك للحشوية فيما ذكره القرطبي في تفسيره كيف وهو القائل فيه : ـ

٤٩١

__________________

ـ «متى اختص بجهة يكون في مكان وحيز فيلزم الحركة والسكون اه» وهو القائل أيضا في (التذكار في أفضل الأذكار) ص ١٣ : «يستحيل على الله أن يكون في السماء أو في الأرض إذ لو كان في شيء لكان محصورا أو محدودا ولو كان ذلك لكان محدثا وهذا مذهب أهل الحق والتحقيق اه».

تناقض ابن تيمية في الجهة وكذبه

وفي (ص ٢٠٧) من الكتاب المذكور : «ثم متبعو المتشابه لا يخلو اتباعهم من أن يكون لاعتقاد ظواهر المتشابه كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما يوهم ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسّم وصورة مصوّرة ذات وجه وغير ذلك من يد وعين وجنب وإصبع ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، والصحيح القول بتكفيرهم إذ لا فرق بينهم وبين عبّاد الأصنام والصور ، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد. اه». فبذلك تبين أن تمسك الحشوية بقول القرطبي السابق من قبيل الاستجارة من الرمضاء بالنار وبه يظهر مذهب المالكية فيمن يقول بذلك كما يظهر قول الشافعية فيه من كفاية الأخيار للتقي الحصني ، حيث قال فيها بعد أن أشار إلى كلام الرافعي في كتاب الشهادات : «جزم النووي في صفة الصلاة من شرح المهذب بتكفير المجسمة.

قلت : وهو الصواب الذي لا محيد عنه اه».

ومن حذّاق النظار من استدل على بطلان القول بالجهة بقوله تعالى : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] باعتبار أن فيه استدلالا على بطلان التعدد ببطلان لازمه الذي هو انحياز الإله إلى جهة. راجع شعب الإيمان للحليمي. وفي الإكمال شرح مسلم للقاضي عياض «ثم من صار من دهماء الفقهاء والمحدثين وبعض متكلمي الأشعرية وكافة الكرامية إلى الجهة أول (في) ب (على). ومن أحال ذلك ـ وهم الأكثر ـ فلهم فيها تأويلات ... وقد أجمع أهل السنة على تصويب القول بالوقف من التفكر في ذاته تعالى لحيرة العقل هنالك ، وحرمة التكييف. والوقف في ذلك غير شك في الوجود ولا جهل بالموجود فلا يقدح في التوحيد بل هو حقيقته. وقد تسامح بعضهم في إثبات جهة تخصه تعالى أو أشار إليه بحيز يحاذيه ، وهل بين التكييفين ـ أي التكييف المحرم إجماعا والتكييف بالجهة ـ فرق؟! وبين التحديد في الذات والجهة فرق؟! وقد أطلق الشرع أنه القاهر فوق عباده وأنه استوى على العرش فالتمسك بالآية الجامعة للتنزيه الكلي الذي لا يصح في العقل غيره وهي قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] «عصمة لمن وفقه الله تعالى» اه. وقد تعقبه الأبي تعقبا شديدا ، وقال ما نسب من القول بالجهة إلى الدهماء ومن بعدهم من الفقهاء والمتكلمين لا يصح ولم يقع إلا لأبي عمر في الاستذكار والتمهيد ولابن أبي زيد في الرسالة وهو عنهما متأول. ثم نقل عن الفقهاء التونسيين كابن عبد السلام وابن هارون والفاسيين كالسطي وابن الصباغ اتفاقهم على إنكار ذلك في مجلس الأمير أبي الحسن ملك المغرب. راجع شرح مسلم (٢ ـ ٢٤١) للأبي.

أقول : إنما ذكر القاضي عياض من صار من الدهماء إلى القول بالجهة وأين في ذلك نسبة ذلك

٤٩٢

وأبو الوليد [ابن رشد الفيلسوف] وأبو العباس (١) الحراني [ابن تيمية] وله اطلاع ، لم

__________________

ـ إلى الدهماء على أن لفظ الجهة لم يقع في كلام أبي عمر ولا في كلام ابن أبي زيد وإن كان ظاهر كلامهما يوهم ذلك وقد تأول كلامهما المالكية ليكونا مع الجمهور في هذه المسألة الخطرة ولو ترك كلامهما على الظاهر لهويا في هاوية التجسيم وذلك عزيز عليهم أيضا ، وقول القاضي عياض ليس يشمل المشارقة حيث لم يرحل إلى الشرق وإنما قوله بالنظر إلى معنى كلام بعض الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من أهل بلاده من أصحاب الطلمنكي وابن أبي زيد وأبي عمر بل لا أذكر وقوع لفظ الجهة في كلام أحد منهم ، وإنما جرى ابن رشد الفيلسوف في المناهج على التساهل بذكر ما لم يجر على لسانهم باعتباره معنى كلامهم كما سبق ، والحاصل أن التكييف غير جائز إجماعا ـ ويمكن جمع جزء في الآثار الواردة في المنع من التكييف والتشبيه ـ ولا شك أن القول بالجهة تكييف لم يقع إلا في عبارات أناس هلكى ، وأما تأويل القائلين بالجهة ما يوهم كونه في السماء بمعنى على السماء ، كما ذكر القاضي عياض ، فلا ينجيهم من ورطة التجسيم لأن (في) في قوله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١] لم تزل تفيد تمكين المصلوب في الجذع كتمكين المظروف في الظرف ، وكذلك قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ١١] فحمل لفظ (في) على معنى (على) لا يجدي في الإبعاد عن التمكن وإنما التأويل الصحيح ما أشار إليه الباجي من استعمال العرب لفظ «هو في السماء» يعنون علو شأنه ورفعة منزلته بدون ملاحظة كونه في السماء أصلا كقول الشاعر :

علونا السماء مجدنا وجدودنا

وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا

وظاهر أنه لم يرد إلا علو الشأن. وليس قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : ١٦] من هذا القبيل بل الظاهر أن المراد خاسف سدوم وعد «في السماء» بمعنى على السماء ثم جعل على السماء بمعنى «على العرش» باعتبار أن السماء مأخوذة من السمو ، غفلة عن شمولها للسقف والسحاب على هذا التقدير غير المتبادر وتخصيصها بالعرش عن هوى مجرد كما لا يخفى. وفيما ذكرناه كفاية لأهل التبصر.

مخالفات ابن تيمية

(١) يوجد من يذكره بلقب شيخ الإسلام ـ وللمبتدعة افتتان بهذا التلقيب لزعمائهم ـ إيهاما للضعفاء في العلم أن ما يدعو إليه هذا الزائغ هو الإسلام الصحيح ويخاف على من يستمر على تلقيبه به بعد أن عرف مخالفاته لشرع الإسلام ومن ذكره بهذا اللقب من أهل السنة إنما ذكره قبل أن يجاهر ذلك المبتدع ببدعه المعروفة ، وأما من استمر على هذا التلقيب من المتأخرين فإنما استمر جهلا ببدعه التي نقلناها من أوثق المصادر أو ظنا من أنه تاب وأناب وحافظ على عهوده وقد توسعنا في بيان ذلك فيما علقناه على ذيول طبقات الحفاظ. على ترجمة العلاء البخاري فليراجع هناك ، ولعل في كتبنا ولا سيما في هذا الكتاب ما يقنع المنصف في أمر هذا الزائغ.

ومما قال المصنف في حقه في فتاويه (٢ ـ ٢١٠) في أثناء رده على فتيا له في الوقف : «وهذا الرجل كنت رددت عليه في حياته في إنكاره السفر لزيارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي إنكاره وقوع الطلاق إذا حلف به ثم ظهر لي من حاله ما يقتضي أنه ليس ممن يعتمد عليه في نقل ينفرد به لمسارعته إلى النقل لفهمه ـ كما في هذه المسألة ـ ولا في بحث ينشئه لخلطه المقصود بغيره ـ

٤٩٣

يكن من قبله لسواه من متكلم».

ونحن نقطع أيضا بإجماعهم (على التنزيه) أما يستحي من ينقل إجماع الرسل على إثبات الجهة والفوقية الحسية لله تعالى؟ وعلماء الشريعة ينكرونها؟ أما تخاف منهم أن يقولوا له إنك كذبت على الرسل؟.

فصل

قال : «وسادس عشرها إجماع أهل العلم (١) ابن عباس ومجاهد ومقاتل والكلبي

__________________

ـ وخروجه عن الحد جدا ، وهو كان مكثرا من الحفظ ولم يتهذّب بشيخ ولم يرتض في العلوم بل يأخذها بذهنه مع جسارة واتساع خيال وشغب كثير ، ثم بلغني من حاله ما يقتضي الإعراض عن النظر في كلامه جملة ، وكان الناس في حياته ابتلوا بالكلام معه للرد عليه ، وحبس بإجماع العلماء وولاة الأمور على ذلك ولم يكن لنا غرض في ذكره بعد موته لأن تلك أمة قد خلت ولكن له أتباع ينعقون ولا يعون ونحن نتبرم بالكلام معهم ومع أمثالهم ولكن للناس ضرورات إلى الجواب في بعض المسائل كهذه المسألة ...» اه. وهذا مما يزيدك معرفة بالرجل ، ومن جملة هذيانات هذا الزائغ قوله في (المحصل) للفخر الرازي :

محصل في أصول الدين حاصله

من بعد تحصيله أصل بلا دين

أصل الضلالات والشك المبين فما

فيه فأكثره وحي الشياطين

هذا رأي الرجل في معتقد أهل السنة ولأهل العلم ردود عليه وكنت قلت في معارضته :

محصل في أصول الدين حصله

من اهتدى فغدا محصن الدين

أس الهداية والحق الصراح فمن

يرتاب فيه قفا إثر الشياطين

كما قلت فيما سبق في معارضة بعضهم :

إن كان تنزيه الإله تجهّما

فالمؤمنون جميعهم جهمى

جلّ الإله عن الحوادث أن تح

ل به وعن جهة وعن كم

بخلاف زعم زعيمكم سفها فإن

تابعتموه فكلكم تيمى

والله سبحانه ولي الهداية.

الرد على الناظم في دعوى الإجماع على الفوقية المكانية

(١) الناظم يروي عن إمامه أحمد بن حنبل في أعلام الموقعين أن من ادعى الإجماع فهو كاذب. فكيف ساغ له أن يروي هنا الإجماع على الفوقية على خلاف البراهين العقلية والنقلية القائمة. فابن عباس ومجاهد لم يرو عنهما ما يوهم ذلك إلا أناس هلكى لا تقبل أقوالهم في حيض النساء فضلا عن المسائل الاعتقادية ، ومقاتل بن سليمان المروزي شيخ أهل التجسيم في عصره وقد أفسد جماعة من المراوزة. والكلبي هالك عند أهل النقد ، وأبو العالية رفيع الرياحي فسر الاستواء بالارتفاع ، كما ذكره ابن جرير بطريق أبي جعفر الرازي ، وهو متكلم فيه حتى عند الناظم. وروى الفريابي عن مجاهد تفسير استوى بقوله : علا بطريق ورقاء عن ابن أبي نجيح

٤٩٤

__________________

ـ عنه. والكلام فيهما مشهور. ولذا ذكر هذا وذاك البخاري من غير سند ، ومع ذلك أين الدلالة في هذا وذاك على الفوقية المكانية؟ وأبو عبيدة معمر بن المثنى الشعوبي ما ذا تكون قيمة كلامه في مثل هذه الأبحاث؟ والأشعري إن كنتم تعتقدون فيه أنه قائل بالفوقية المكانية فما سبب طعن الحشوية كلهم فيه؟ وإنما له رأيان : أحدهما عدم الخوض في الصفات مع إثبات ما ثبت في الكتاب والسنة بدون تشبيه ولا تمثيل والآخر تأويل ما يجب تأويله بما يوافق التنزيه إذا عن ضرورة ، وليس في هذا ولا في ذاك القول بالفوقية المكانية ، وتأليف الإبانة كان في أوائل رجوعه عن الاعتزال لتدريج البربهاري إلى معتقد أهل السنة ، ومن ظن أنها آخر مؤلفاته فقد ظن باطلا. وقد تلاحقت أقلام الحشوية بالتصرف فيها ولا سيما بعد فتن بغداد فلا تعويل على ما فيها مما يخالف نصوص أئمة المذهب من أصحابه وأصحاب أصحابه. وابن درباس غير مأمون في روايتها لأنه أفسده شيخه في التصوف مع تأخر طبقاته .. والبغوي الشافعي إنما نقل في تفسيره ما يروى عن مثل مقاتل بن سليمان والكلبي تعويلا على قول أهل النقد فيهما ، ودلالة على أن هذا القول قول أهل الزيغ. ومالك قائل بالاستواء بلا كيف ، وكذا الشافعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد وابن المبارك ، وهم براء مما يوجد في روايات عبد الله بن نافع الصائغ والعشاري والهكاري وابن أبي مريم ونعيم بن حماد والإصطخري وأمثالهم. و (اعتقاد الشافعي) المذكور في ثبت الكوراني كذب موضوع مروي بطريق العشاري وابن كادش ، وسيأتيان في أواخر الكتاب. وابن خزيمة على سعته في الفقه والحديث جاهل بعلم أصول الدين وقد اعترف بذلك هو نفسه كما في الأسماء والصفات للبيهقي (ص ٢٠٠) وكتاب التوحيد له يعده الرازي كتابا في الشرك. ويستخف عقله وفهمه في تفسير قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وينقل جزءا من سخفه ويرد عليه ردا مشبعا فيجب الاطلاع عليه ، ومن الشافعية من يعد من الشافعية كل من تلقى بعض شيء من بعض الشافعية ، وهذا ليس بصواب لأن كل متأخر يأخذ عمن تقدمه على أي مذهب كان المتقدم كما لا يخفى على من درس أحوال الرجال. وابن خزيمة هذا وإن تلقى بعض شيء من المزني في شبيبته لكن لم يكن شافعيا بل ثبتت مساعدته لمحمد بن عبد الحكم في تأليفه ذلك الرد القاسي على الشافعي. وعلى فرض أنه شافعي لا محاباة في المعتقد أيا كان مذهب من زاغ عن السبيل. وهذا المسكين ممن إذا أصاب مرة في المعتقد يخطئ فيه مرات ، فليسمح لي ساداتنا العلماء أن أعجب غاية العجب من طبع مثل كتاب التوحيد هذا بين ظهرانيهم بدون أن يقوم أحد منهم بالرد عليه كما يجب. أيقظ الله أصحاب الشأن لحراسة السنة وابن خزيمة الذي يروي عنه الطحاوي غير ابن خزيمة صاحب كتاب التوحيد وليعلم ذلك.

والإجماع الذي يرويه ابن عبد البر إنما يصح في العلو والفوقية بمعنى التنزه والقهر والغلبة لا بمعنى إثبات المكان له تعالى. وأبو بكر محمد بن وهب شارح رسالة ابن أبي زيد مسكين مضطرب بعيد عن مرتبة الحجة. وقد ذكرنا ما يتعلق بابن أبي زيد فيما علقناه على تبيين كذب المفتري وقد أغنانا ذلك عن تكرير الكلام. ورأى القاضي أبي بكر بن العربي فيه مدوّن في القواصم ، وأبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي صاحب الفصول مجسّم صريح كأبي الخير يحيى العمراني ، وقد كفانا مئونة الرد عليهما ما قاله فيهما ابن السبكي واليافعي

٤٩٥

__________________

ـ الشافعيان. وعثمان الدارمي السجزي صاحب النقص ـ وهو غير صاحب المسند ـ قد سبق القول فيه ، وهو يثبت الحركة لله تعالى كحرب بن إسماعيل السيرجاني. وقد نقلت فيما كتبت على شروط الأئمة الخمسة ما قاله الحافظ الرامهرمزي في حرب السيرجاني هذا. وخشيش بن أصرم صاحب كتاب الاستقامة يعرف أهل الاستقامة مبلغ انحرافه ، ومن جملة ما هذى به قوله : فإن زعمت الجهمية فمن يخلفه إذا نزل؟ قيل لهم : فمن خلفه في الأرض حين صعد؟ اه. ولا ينجيه من ورطته كونه من مشايخ أبي داود كما لا ينجي عمران بن حطان كونه من رجال البخاري. وعبد الله بن أحمد إذا ثبت عنه كتاب السنة المنسوب إليه فلا حب ولا كرامة. وابن أبي حاتم أقرّ على نفسه بأنه يجهل علم الكلام كما في الأسماء والصفات للبيهقي (ص ١٩٩) وحق مثله أن لا يخوض في أمثال هذه المباحث وأن يهجر قوله إذا خاض ، ومحمد بن أبي شيبة صاحب كتاب العرش مشبه كذاب ، ومن جملة تخريفاته في كتابه المذكور : أن الله تعالى أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش اه تعالى الله عن تخريفات المجسمة. وابن أبي داود كفانا مئونة الرد عليه كلام أبيه فيه. وابن أسباط لا يحتج به في الرواية فكيف يعول على مثله في الصفات. سامح الله اللالكائي والطلمنكي إسماعيل التيمي فإنهم تكلموا في غير علومهم. والباقون كلهم بخير خلا ما أدخل على ابن سلمة ولن يثبت عن هؤلاء سوى أنهم كانوا يقولون : إنه تعالى استوى على العرش بلا كيف وإنه القاهر فوق عباده بلا كيف وأين هذا مما يدعو إليه الناظم؟.

تنبيه : روى الناظم في أعلام الموقعين عن أحمد : أن من ادعى الإجماع فهو كاذب ثم حكى هو نفسه في الكتاب نفسه في (١ ـ ٥٦ و ١١٤ ، ٢٧٥ ، ٣٨٩) وفي (٢ ـ ٣٣ و ٤٨ و ٥٣ و ٢٤١ و ٢٩٠) وغيرها الإجماع والقول بالإجماع في مسائل عن أحمد وغيره ومثل هذا التناقض لا يصدر إلا من مثل الناظم. وذكر أيضا في عدة من كتبه في صدد الرد على من يقول بإجماع الصحابة على وقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد أنه لم يرو ذلك عن عشر الصحابة بل عن عشر عشرهم بل عن عشر عشر عشرهم بل لا تطيقون أن ترووه عن عشرين نفسا منهم. وهو يرمي بذلك إلى أن إجماع الصحابة لا ينعقد إلا برواية نص عن مائة ألف صحابي مات عنهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهذا تخريف لم يقل به أحد قبل الناظم لأن الظاهرية يكتفون باتفاق فقهاء الصحابة إلا أنهم يكثرون عدد الفقهاء منهم ويبلغون عددهم إلى نحو مائة وخمسين صحابيا على خلاف الواقع ـ ثم يناقض نفسه فيقول في إعلام الموقعين (٣ ـ ٣٧٩) : «إن لم يخالف الصحابي صحابيا آخر فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر ، فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة وقالت طائفة منهم هو حجة وليس بإجماع ، وقالت شرذمة من المتكلمين (من أتباع النظام) وبعض الفقهاء المتأخرين لا يكون إجماعا ولا حجة ، وإن لم يشتهر قوله أو لم يعلم هل اشتهر أم لا؟ فاختلف الناس هل يكون حجة أم لا فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة ، هذا قول جمهور الحنفية ، صرح به محمد بن الحسن وذكر عن أبي حنيفة نصا وهو مذهب مالك وأصحابه ، وتصرفه في موطئه دليل عليه وهو قول إسحاق بن راهويه وأبي عبيد وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع عنه واختيار جمهور أصحابه وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد أما القديم فأصحابه مقرون به ، وأما الجديد فكثير منهم

٤٩٦

ورفيع وأبو عبيدة والأشعري والبغوي ومالك والشافعي والنعمان ويعقوب وأحمد وابن المبارك وابن خزيمة وقال يقتل من ينكره وحكى ابن عبد البر إجماع أهل العلم أن الله فوق العرش وابن وهب وحرب الكرماني وحكى الإجماع ابن أبي زيد والكرجي في التصنيف الذي شرحه وتفسير عبد بن حميد والنسائي وعثمان الدارمي وابن أصرم وعبد الله بن أحمد والأثرم (وأبو حاتم وابنه ومحمد بن أبي شيبة) وابن أبي داود وابن أسباط وسفيان وحماد بن زيد وحماد بن سلمة والبخاري والطبري اللالكائي الشافعي وإسماعيل التيمي والطبراني والطلمنكي والطحاوي والباقلاني وابن كلاب والطبري في التفسير والداني وابن سريج وأبو الخير العمراني صاحب البيان وسواهم والله قطاع الطريق أئمة تدعو إلى النيران ما في الذين حكيت عنهم آنفا من حنبلي واحد بضمان ، بل كلهم والله شيعة أحمد ، فأصوله وأصولهم سيان ، أتظنهم لفظية جهلية هم أهل العقول فتقذفون أولاء بل أضعافهم من سادة العلماء كل زمان بالجهل والتشبيه والتجسيم والتبديع والتضليل والبهتان ، يا قومنا الله في إسلامكم لا تفسدوه لنخوة الشيطان ، يا قومنا اعتبروا بمصارع من مضى في هذه الأزمان لم يغن عنهم كذبهم ومحالهم وقتالهم بالزور والتدليس عند الناس والحكام والسلطان وبدا لهم أنهم على البطلان ما عندهم شكاية ما يشتكي إلا عاجز ، لبستم معنى النصوص وقولنا أسأتم الظن بأئمة الإسلام ما ذنبهم ما الذنب إلا للنصوص لديكم إذا جسمت».

انتهى كلام هذا المدبر ، وقد تقدم النقل عن مالك رحمه‌الله بخلاف ما قاله ولكنه اغترّ هنا بما رواه الحسن بن إسماعيل الضراب (١) في كتابه الذي صنفه في فضائل مالك رضي الله عنه بأسانيده إلى مالك رضي الله عنه أنه أتاه رجل فقال يا أبا

__________________

ـ يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدا اه». ثم ذكر وجه النظر. وهذا القول هو الصواب لكن الناظم يناقض هذا حينما يؤول كلام أحمد المذكور على خلاف تأويل الجمهور في (١ ـ ٣٣) من إعلام الموقعين وعند ما يشذ عن الجماعة في مسائل كالطلاق ونحوه في كثير من كتبه ويهون أمر الإجماع بل ينكره ويتابعه الجهلة الأغرار من أبناء الزمن وفي ذلك عبرة بالغة نلفت إليها أنظار المنصفين والحق أن الناظم ليس له أصل يبني عليه وإنما يلبس لكل ساعة لبوسها كما هو شأن أصحاب الأهواء والله ولي الهداية. والحق أن تكذيب أحمد لمن يدعي الإجماع على تقدير ثبوته عنه لا بد من حمله على ادعاء من لم يتأهل لنقل الإجماع في مسألة وإلا لتناقض كلامه وعمله.

(١) هو أبو محمد محدث مصر المتوفى سنة ٣٩٢ ، راجع إكمال ابن مأكولا ، وأنساب ابن السمعاني ، وحسن المحاضرة ، والشذرات.

٤٩٧

عبد الله ، الرّحمن على العرش استوى ، كيف استوى (١) فأمسك عنه مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال : الكيف منه غير معقول والاستواء فيه غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وإني لأحسبك ضالا ، ثم أمر به فأخرج. وفي رواية : فإني أخاف أن يكون شيطانا.

رد المصنف على الناظم في الفوقية

وهذا الكلام صحيح إن صحّ عن مالك ، فإنه ليس فيه إلا الإيمان بآية استوى على العرش كما نطق به القرآن وأن كيفيته غير معقولة ، والسائل عنها ضال مبتدع شيطان ، وفي ذلك قطع بأن الاستواء على ظاهره المعلوم عند الناس من أنه القعود ، فإن ذلك معقول وليس فيه تصريح بفوقية الذات ولا يلزم من قولنا استوى على العرش أن يكون هو على العرش إلا بعد أن نثبت أن الاستواء هو القعود والجلوس كما في المخلوق ، وجلّ الله عن ذلك ، فهذا الرجل لم يفهم كلام مالك ولا كلام غيره من العلماء الكثيرين الذين حكى عنهم كلهم. وإنما يؤثر عنهم كلام مقتد بالكتاب يراد به معنى صحيح مع التنزيه ، وما لا يوهم التشبيه ولا يقتضيه.

روايات الضراب عن مالك

وقد روى الضراب في هذا الكتاب قال : حدثنا عمر بن الربيع حدثنا أبو أسامة حدثنا ابن أبي زيد عن أبيه عن حبيب (٢) كاتب مالك قال : سئل مالك بن أنس عن قول

__________________

(١) قال أبو بكر بن العربي في القواصم والعواصم : المطلوب هنا ثلاثة معان : معنى الرّحمن ومعنى استوى ومعنى العرش ، فالرحمن معلوم والعرش في العربية جاء لمعان ولفظ استوى معه محتمل خمسة عشر معنى في اللغة ، فأيها تريدون أو أيها تدعون ظاهرا منها ، ولم قلتم إن العرش هاهنا المراد به مخلوق مخصوص فادعيتموه على العربية والشريعة ... فقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] إن علمنا معناه آمنا قولا ومعنى ، وإن لم نعلم معناه قلنا كما قال مالك : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة ، فكيف لو رأى من يفسر تعلقه بالله لا يقال إنه بدعة بل أشد من البدعة عنده ، فكيف لو سمع من يقول : إن الله فوقه ، فكيف بمن يعين فوقية الذات فكيف بمن يقول إنه يحاذيه ويليه تبا له اه راجع (٢٤ ـ ٢٦) في الجزء الثاني من الكتاب المذكور. وقد توسع ابن المعلم المحدث في (نجم المهتدي) في بيان محتملات الآية الخمسة عشرة التي أشار إليها أبو بكر ابن العربي فليراجع هناك.

(٢) وعلى روايته في تفسير النزول عن مالك عوّل القاضي عياض في المشارق ، وقد تكلم في حبيب هذا أهل النقد إلا أن مالكا رضي الله عنه كان شديد الانتقاد للرجال وقوله هو القول

٤٩٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة» قال : ينزل أمره كل سحر وأما هو فهو دائم لا يزول وهو بكل (١) مكان. وروى الضراب أيضا في هذا الكتاب بإسناده إلى عبد الرّحمن بن القاسم قال : سئل مالك عمن يحدث الحديث الذي قالوا : إن الله خلق آدم على صورته ، وإن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة ، وإنه يدخل يده في جهنم حتى يخرج من أراد ، فأنكر ذلك إنكارا شديدا ونهى أن يتحدث بها أحد ، فقيل له : إن ناسا من أهل العلم يتحدثون بها ، فقال : من هم؟ قيل : ابن عجلان عن أبي الزناد ، فقال : لم يكن ابن عجلان يعرف هذه الأشياء ولم يكن عالما وذكر أبا الزناد فقال : لم يزل عاملا لهؤلاء حتى مات وكان صاحب عمل يتبعهم ، ورواه الضراب أيضا من طريق ابن وهب عن مالك. وروي أيضا عن طريق الوليد بن مسلم قال : سألت مالكا والأوزاعي وسفيان وليثا عن هذه الأحاديث التي فيها ذكر الرؤية فقالوا : ارووها كما جاءت؟ فانظر كلام مالك وكلام غيره ، لم يصرحوا ولم يبيحوا إلا روايتها لا اعتقاد ظاهرها الموهم للتشبيه ومالك شدد (٢) في روايتها إلا ما يعلم صحته فيروى مع التنزيه كالقرآن ، وهذا النحس وأمثاله يروون في ذلك الجفلاء

__________________

ـ الفصل في رجال المدينة فلا يطمئن القلب إلى إن يكون كاتبه وقارئ موطئه على جمهور المتلقين من مالك غير مرضي عنده.

(١) وظاهر هذا الكلام غير مراد قطعا ، بل المراد أنه لا يوصف بمكان دون مكان حيث تنزه عن الأمكنة ، ومن هذا القبيل ما يروى عن بعضهم أن علمه بكل مكان ، وحاشا أن يكون المراد بهما حلول ذاته أو صفته في الأمكنة ، تعالى الله عما يظن به الجاهلون. وأما قول الترمذي في حديث لهبط على الله (وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا : إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، وقدرته وسلطانه في كل مكان وهو على العرش كما وصف في كتابه) فقد تعقبه ابن العربي في العارضة وقال : إن علم الله لا يحل في مكان ولا ينتسب إلى جهة ، كما أنه سبحانه كذلك لكنه يعلم كل شيء في كل موضع وعلى كل حال فما كان فهو بعلم الله لا يشذ عنه شيء ولا يعزب عن علمه موجود ولا معدوم ، والمقصود من الخبر أن نسبة الباري من الجهات إلى فوق كنسبته إل تحت إذ لا ينسب إلى الكون في واحدة منهما بذاته اه.

وما يرويه سريج بن النعمان عن عبد الله بن نافع عن مالك أنه كان يقول : الله في السماء وعلمه في كل مكان. لا يثبت ، قال أحمد : عبد الله بن نافع الصائغ لم يكن صاحب حديث وكان ضعيفا فيه ، قال ابن عدي : يروي غرائب عن مالك ، قال ابن فرحون : كان أصم أميالا يكتب. راجع ترجمة سريج وابن نافع في كتب الضعفاء وبمثل هذا السند لا ينسب إلى مثل مالك مثل هذا ، وقد تواتر عنه عدم الخوض في الصفات وفيما ليس تحته عمل كما كان عليه عمل أهل المدينة على ما في شرح السنة للالكائي وغيره.

(٢) بل قال أبو بكر ابن العربي في العارضة : روى عن مالك وغيره أنه إذا روى هذه الأحاديث (أحاديث القبض ونحوه) لو أحد مثل بجارحة قطعت اه.

٤٩٩

لأن لهم بدعة لا يبغون عنها حولا ، وكل هؤلاء الذين نقل عنهم كلامه إما متأول أراد به قائله معنى صحيحا غير ما أراده هذا المبتدع ، وإما مختلق عليه وحقه أن يسبر ، فمن سمي من المتأخرين لم يكن له بصر بالحقائق فزلّ كما زلّ شيوخ (١) هذا المبتدع وقادته ممن لم يكن قدوة.

فصل

قال : «وسابع عشرها إخباره سبحانه في القرآن عن موسى ، وفرعون أنكر التكليم والفوقية العليا. ولنا مائتا دليل على أنه فوق السماء (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) [النّساء : ٦٥] ـ بالله ـ هل حدثتكم قط أنفسكم بذا فسلوا أنفسكم عن الإيمان ، لكن رب العالمين وجنده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المبعوث بالفرقان هم يشهدون بأنكم أعداء من ذا شأنه أبدا بكل زمان ولأي شيء كان أحمد (٢) خصكم أعني

__________________

قول اليافعي في الحشوية

(١) من حشوية الحنابلة قال العفيف اليافعي في (مرهم العلل المعضلة في دفع الشبه والرد على المعتزلة) في الجزء الثالث منه : «ومتأخرو الحنابلة غلوا في دينهم غلوا فاحشا وتسفهوا سفها عظيما وجسموا تجسيما قبيحا وشبهوا الله بخلقه تشبيها شنيعا وجعلوا له من عباده أمثالا كثيرة حتى قال أبو بكر بن العربي في العواصم : أخبرني من أثق به من مشيختي أن القاضي أبا يعلى الحنبلي كان إذا ذكر الله سبحانه يقول فيما ورد من هذه الظواهر في صفاته تعالى : «ألزموني ما شئتم ، فإني ألتزمه إلا اللحية والعورة». قال بعض أئمة أهل الحق وهذا كفر قبيح واستهزاء بالله تعالى شنيع وقائله جاهل به تعالى لا يقتدي به ولا يلتفت إليه ولا متبع لإمامه الذي ينتسب إليه ويتستر به بل هو شريك للمشركين في عبادة الأصنام ، فإنه ما عبد الله ولا عرفه ، وإنما صوّر صنما في نفسه ، فتعالى الله عما يقول الملحدون والجاحدون علوا كبيرا اه».

ومثل ما نقله ابن العربي عن أبي يعلى هذا منقول في كتب الملل والنحل عن داود الجواربي ، تعالى الله عن ذلك. ثم قال اليافعي : «ولقد أحسن ابن الجوزي من الحنابلة حيث صنّف كتابا في الرد عليهم ، ونقل عنهم أنهم أثبتوا لله صورة كصورة الآدمي في أبعاضها ، وقال في كتابه هؤلاء قد كسوا هذا المذهب شيئا قبيحا حتى صار لا يقال عن حنبلي إلا مجسم ، قال : وهؤلاء متلاعبون وما عرفوا الله ولا عندهم من الإسلام خبر ولا يحدثون ، فإنهم يكابرون العقول وكأنهم يحدثون الصبيان والأطفال ، قال : وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام وفضحوا التابع والمتبوع .. انتهى». والكتاب الذي أشار إليه اليافعي هو (دفع شبه التشبيه) وهو مطبوع فليراجع.

(٢) وإنما خصوم أحمد هم الذين انتموا إليه كذبا وخالفوه في التنزيه ، وقال الحافظ ابن شاهين (رجلان صالحان بليا بأصحاب سوء : جعفر بن محمد الصادق وأحمد بن حنبل) رواه ابن عساكر بطريق أبي ذر الهروي راوية الجامع الصحيح يريد الروافض والمجسمة.

٥٠٠