العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

وأزيد على ذلك ما ذكره صاحب عيون التواريخ وهو ابن شاكر ويعرف بصلاح الدين الكتبي وبالتريكي وكان من أتباع ابن تيمية وضرب الضرب البليغ لكونه قال لمؤذن في مأذنة العروس وقت السحر أشركت حين قال :

ألا يا رسول الله أنت وسيلتي

إلى الله في غفران ذنبي وزلتي

وأرادوا ضرب عنقه ثم جددوا إسلامه وإنما أذكر ما قاله لأنه أبلغ في حق ابن تيمية في إقامة الحجة عليه مع أنه أهمل أشياء من خبثه ولؤمه لما فيها من المبالغة في إهانة قدوته والعجب أن ابن تيمية ذكرها وهو سكت عنها.

كلام ابن تيمية في الاستواء ووثوب الناس عليه

فمن ذلك ما أخبر به أبو الحسن علي الدمشقي في صحن الجامع الأموي عن أبيه قال : كنا جلوسا في مجلس ابن تيمية فذكر ووعظ وتعرض لآيات الاستواء ثم قال : (واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا) قال : فوثب الناس عليه وثبة واحدة وأنزلوه من الكرسي وبادروا إليه ضربا باللكم والنعال غير ذلك حتى أوصلوه إلى بعض الحكام واجتمع في ذلك المجلس العلماء فشرع يناظرهم فقالوا : ما الدليل على ما صدر منك؟ فقال : قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] فضحكوا منه وعرفوا أنه جاهل لا يجري على قواعد العلم ثم نقلوه ليتحققوا أمره فقالوا : ما تقول في قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥]؟ فأجاب بأجوبة تحققوا أنه من الجهلة على التحقيق وأنه لا يدري ما يقول وكان قد غرّه بنفسه ثناء العوام عليه وكذا الجامدين (١) من الفقهاء العارين عن العلوم التي بها يجتمع شمل الأدلة على الوجه المرضي وقد رأيت في فتاويه ما يتعلق بمسألة الاستواء وقد أطنب فيها وذكر أمورا كلها تلبيسات وتجريات خارجة عن قواعد أهل الحق ، والناظر فيها إذا لم يكن ذا علوم وفطنة وحسن رؤية ظن أنها على منوال مرضي ومن جملة ذلك بعد تقريره وتطويله (إن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤)) [الحديد : ٤] فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا) هذه عبارته بحروفها ، فتأمل أرشدك الله تعالى هذا التهافت وهذه الجرأة

__________________

(١) كذا بالأصل وليس يخفى أن لفظ الجامدين حقها الجامدون وكذا العارون ، اه مصححه.

٣٢١

بالكذب على الله تعالى أنه سبحانه وتعالى أخبر عن نفسه أنه فوق العرش ومحتجا بلفظ الاستواء الذي هو موضوع بالاشتراك ومن قبيل المجمل وهذا وغيره مما هو كثير في كلامه يتحقق به جهله وفساد تصوره وبلادته وكان بعضهم يسميه حاطب ليل وبعضهم يسميه الدار الهدار وكان الإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه أبو الحسن علي بن إسماعيل القونوي يصرح بأنه من الجهلة بحيث لا يعقل ما يقول ويخبر أنه أخذ مسألة التفرقة (١) عن شيخه الذي تلقاها عن أفراخ السامرة واليهود الذين أظهروا التشرف بالإسلام وهو (٢) من أعظم الناس عداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقتل علي رضي الله عنه واحدا منهم تكلم في مجلسه كلمة فيها ازدراء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد وقفت على المسألة أعني مسألة التفرقة التي أثارها اليهود ليزدروه بها وبحثوا فيها على قواعد مأخوذة من الاشتقاق وكانوا يقطعون بها الضعفاء من العلماء فتصدى لهم الجهابذة من العلماء وأفسدوا ما قالوه بالنقل والعقل والاستعمال الشرعي والعرفي وأبادوهم بالضرب بالسياط وضرب الأعناق ولم يبق منهم إلا الضعفاء في العلم ودامت فيهم مسألة التفرقة حتى تلقاها ابن تيمية عن شيخه وكنت أظن أنه ابتكرها واتفق الحذاق في زمانه من جميع المذاهب على سوء فهمه وكثرة خطئه وعدم إدراكه للمآخذ الدقيقة وتصورها. عرفوا ذلك منه بالمفاوضة في مجالس العلم.

ولنرجع إلى ما ذكره ابن شاكر في تاريخه ذكره في الجزء العشرين قال : وفي سنة خمس وسبعمائة في ثامن رجب عقد مجلس بالقضاة والفقهاء بحضرة نائب السلطنة بالقصر الأبلق فسئل ابن تيمية عن عقيدته فأملى شيئا منها ثم أحضرت عقيدته الواسطية وقرئت في المجلس ووقعت بحوث كثيرة وبقيت مواضع أخرت إلى مجلس ثان ثم اجتمعوا يوم الجمعة ثاني عشر رجب وحضر المجلس صفي الدين الهندي وبحثوا ثم اتفقوا على أن كمال الدين بن الزملكاني يحاقق ابن تيمية ورضوا كلهم بذلك فأفحم كمال الدين ابن تيمية وخاف ابن تيمية على نفسه فأشهد على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب ويعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي فرضوا منه بذلك وانصرفوا ثم إن أصحاب ابن تيمية أظهروا أن الحق ظهر مع شيخهم وأن الحق معه فأحضروا إلى مجلس القاضي جلال الدين القزويني وأحضروا ابن تيمية وصفع ورسم بتعزيره فشفع فيه وكذلك فعل الحنفي باثنين من أصحاب ابن تيمية ثم قال : ولما كان

__________________

(١) ظاهر أنها الفوقية وكذا ما يأتي بعد كالسياق أو التفرقة بين حياة الرسول ومماته ، اه مصححه.

(٢) ظاهر أن هذا اللفظ هم لا هو ، اه مصححه.

٣٢٢

سلخ رجب جمعوا القضاة والفقهاء وعقد مجلس بالميدان أيضا وحضر نائب السلطنة أيضا وتباحثوا في أمر العقيدة وسلك معهم المسلك الأول فلما كان بعد أيام ورد مرسوم السلطان صحبة بريدي من الديار المصرية بطلب قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وبابن تيمية وفي الكتاب (تعرفونا ما وقع في سنة ثمان وتسعين في عقيدة ابن تيمية) فطلبوا الناس وسألوهم عما جرى لابن تيمية في أيام نقل عنه فيها كلام قاله وأحضروا للقاضي جلال الدين القزويني العقيدة التي كانت أحضرت في زمن قاضي القضاة إمام الدين وتحدثوا مع ملك الأمراء في أن يكاتب في هذا الأمر فأجاب فلما كان ثاني يوم وصل مملوك ملك الأمراء على البريد من مصر وأخبر أن الطلب على ابن تيمية كثير وأن القاضي المالكي قائم في قضيته قياما عظيما وأخبر بأشياء كثيرة من الحنابلة وقعت في الديار المصرية وأن بعضهم صفع فلما سمع ملك الأمراء بذلك انحلت عزائمه عن المكاتبة وسير شمس الدين بن محمد المهمندار إلى ابن تيمية وقال له قد رسم مولانا ملك الأمراء بأن تسافر غدا وكذلك راح إلى قاضي القضاة فشرعوا في التجهيز وسافر صحبة ابن تيمية أخواه عبد الله وعبد الرّحمن وسافر معهم جماعة من أصحاب ابن تيمية وفي سابع شوال وصل البريدي إلى دمشق وأخبر بوصولهم إلى الديار المصرية وأنه عقد لهم مجلس بقلعة القاهر بحضرة القضاة والفقهاء والعلماء والأمراء ، فتكلم الشيخ شمس الدين عدنان الشافعي وادعى على ابن تيمية في أمر العقيدة ، فذكر منها فصولا فشرع ابن تيمية فحمد الله تعالى وأثنى عليه وتكلم بما يقتضي الوعظ فقيل له يا شيخ إن الذي تقوله نحن نعرفه وما لنا حاجة إلى وعظك وقد ادعي عليك بدعوى شرعية فأجب ، فأراد ابن تيمية أن يعيد التحميد فلم يمكنوه من ذلك بل قيل له أجب فتوقف وكرر عليه القول مرارا فلم يزدهم على ذلك شيئا وطال الأمر فعند ذلك حكم القاضي المالكي بحبسه وحبس أخويه معه فحبسوه في برج من أبراج القلعة فتردد إليه جماعة من الأمراء فسمع القاضي بذلك فاجتمع بالأمراء وقال يجب عليه التضييق إذا لم يقتل وإلا فقد وجب قتله وثبت كفره فنقلوه إلى الجب بقلعة الجبل ونقلوا أخويه معه بإهانة وفي سادس عشر ذي القعدة وصل من الديار المصرية قاضي القضاة نجم الدين بن صصري وجلس يوم الجمعة في الشباك الكمالي وحضر القراء والمنشدون وأنشدت التهاني وكان وصل معه كتب ولم يعرضها على نائب السلطنة فلما كان بعد أيام عرضها عليه فرسم ملك الأمراء بقراءتها والعمل بما فيها امتثالا للمراسيم السلطانية وكانوا قد بيتوا على الحنابلة كلهم بأن يحضروا إلى مقصورة الخطابة بالجامع الأموي بعد الصلاة وحضر القضاة كلهم بالمقصورة وحضر

٣٢٣

معهم الأمير الكبير ركن الدين بيبرس العلائي وأحضروا تقليد القضاة نجم الدين بن صصري الذي حضر معه من مصر باستمراره على قضاء القضاة وقضاء العسكر ونظر الأوقاف وزيادة المعلوم وقرئ عقيبه الكتاب الذي وصل على يديه وفيه ما يتعلق بمخالفة ابن تيمية في عقيدته وإلزام الناس بذلك خصوصا الحنابلة والوعيد الشديد عليهم والعزل من المناصب والحبس وأخذ المال والروح لخروجهم بهذه العقيدة عن الملة المحمدية ونسخة الكتاب نحو الكتاب المتقدم وتولى قراءته شمس الدين محمد بن شهاب الدين الموقع وبلغ عنه الناس ابن صبح المؤذن وقرئ بعده تقليد الشيخ برهان الدين بالخطابة وأحضروا بعد القراءة الحنابلة مهانين بين يدي القاضي جمال الدين المالكي بحضور باقي القضاة واعترفوا أنهم يعتقدون ما يعتقده محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه وفي سابع شهر صفر سنة ثمان عشرة ورد مرسوم السلطان بالمنع من الفتوى في مسألة الطلاق الذي يفتي بها ابن تيمية وأمر بعقد مجلس له بدار السعادة وحضر القضاة وجماعة من الفقهاء وحضر ابن تيمية وسألوه عن فتاويه في مسألة الطلاق وكونهم نهوه وما انتهى ولا قبل مرسوم السلطان ولا حكم الحكام بمنعه فأنكر فحضر خمسة نفر فذكروا عنه أنه أفتاهم بعد ذلك فأنكر وصمم على الإنكار فحضر ابن طليش وشهود شهدوا أنه أفتى لحاما اسمه قمر مسلماني في بستان ابن منجا فقيل لابن تيمية اكتب بخطك أنك لا تفتي بها ولا بغيرها فكتب بخطه أنه لا يفتي بها وما كتب بغيرها ، فقال القاضي نجم الدين بن صصري : حكمت بحبسك واعتقالك ، فقال له : حكمك باطل لأنك عدوي ، فلم يقبل منه وأخذوه واعتقلوه في قلعة دمشق ، وفي سنة إحدى وعشرين وسبعمائة يوم عاشوراء أفرج عن ابن تيمية من حبسه بقلعة دمشق وكانت مدة اعتقاله خمسة أشهر ونصف وفي سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة في السادس عشر من شعبان قدم بريدي من الديار المصرية ومعه مرسوم شريف باعتقال ابن تيمية فاعتقل في قلعة دمشق وكان السبب في اعتقاله وحبسه أنه قال : (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وإن زيارة قبور الأنبياء لا تشد إليها الرواحل كغيرها كقبر إبراهيم الخليل وقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ثم إن الشاميين كتبوا فتيا أيضا في ابن تيمية لكونه أول من أحدث هذه المسألة التي لا تصدر إلا ممن في قلبه ضغينة لسيد الأولين والآخرين فكتب عليها الإمام العلامة برهان الدين الفزاري نحو أربعين سطرا بأشياء وآخر القول إنه أفتى بتكفيره ووافقه على ذلك الشيخ شهاب الدين بن جهبل الشافعي وكتب تحت خطه كذلك المالكي وكذلك كتب غيرهم ووقع الاتفاق على تضليله بذلك وتبديعه وزندقته ثم أراد النائب أن يعقد لهم مجلسا

٣٢٤

ويجمع العلماء والقضاة فرأى أن الأمر يتسع فيه الكلام ولا بد من إعلام السلطان بما وقع فأخذ الفتوى وجعلها في مطالعه وسيرها فجمع السلطان لها القضاة فلما قرئت عليهم أخذها قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة وكتب عليها (القائل بهذه المقالة ضال مبتدع) ووافقه على ذلك الحنفي والحنبلي فصار كفره مجمعا عليه (١) ثم كتب كتاب إلى دمشق بما يعتمده نائب السلطنة في أمره ، وفي يوم الجمعة عاشر شهر شعبان حضر كتاب السلطان إلى نائب البلد وأمره أن يقرأ على السدة في يوم الجمعة فقرئ وكان قارئ الكتاب بدر الدين بن الأعزازي الموقع والمبلغ ابن النجيبي المؤذن ومضمون الكتاب بعد البسملة أدام الله تعالى نعمه ونوضح لعلمه الكريم ورود مكاتبته التي جهزها بسبب ابن تيمية فوقفنا عليها وعلمنا مضمونها في أمر المذكور وإقدامه على الفتوى بعد تكرير المراسيم الشريفة بمنعه حسب ما حكم به القضاة وأكابر العلماء وعقدنا بهذا السبب مجلسا بين أيدينا الشريفة ورسمنا بقراءة الفتوى على القضاة والعلماء فذكروا جميعا من غير خلف أن الذي أفتى به ابن تيمية في ذلك خطأ مردود عليه وحكموا بزجره وطول سجنه ومنعه من الفتوى مطلقا وكتبوا خطوطهم بين أيدينا على ظاهر الفتوى المجهزة بنسخة ما كتبه ابن تيمية وقد جهزنا إلى الجناب العالي طي هذه المكاتبة فيقف على حكم ما كتب به القضاة الأربعة ويتقدم اعتقال المذكور في قلعة دمشق ويمنع من الفتوى مطلقا ويمنع الناس من الاجتماع به والتردد إليه تضييقا عليه لجرأته على هذه الفتوى فيحيط به علمك الكريم ويكون اعتماده بحسب ما حكم به الأئمة الأربعة وأفتى به العلماء في السجن للمذكور وطول سجنه فإنه في كل وقت يحدث للناس شيئا منكرا وزندقة يشغل خواطر الناس بها ويفسد على العوام عقولهم الضعيفة وعقلياتهم وعقائدهم فيمنع ما ذلك وتسد الذريعة منه فليكن عمله على هذا الحكم ويتقدم أمره به وإذا اعتمد الجناب الرفيع العالي هذا الاعتماد الذي رسمنا به في أمر ابن تيمية فيتقدم منع من سلك مسالكه أو يفتي بهذه الفتاوى أو يعمل بها في أمر الطلاق أو هذه القضايا المستحدثة وإذا اطلع على أحد عمل بذلك أو أفتى به فيعتبر حاله فإن كان من مشايخ العلماء فيعزر تعزير مثله وإن كان من الشبان الذين يقصدون الظهور كما يقصده ابن تيمية فيؤديهم ويردعهم ردعا بليغا ويعتمد في أمر ما يجسم به مواد أمثاله لتسقيم أحوال الناس وتمشي على السداد ولا يعود أحد يتجاسر على الإفتاء بما يخالف الإجماع ويبتدع في دين الله عزوجل

__________________

(١) لينظر هذا المغرورون ، اه مصححه.

٣٢٥

من أنواع الاقتراح ما لم يسبقه أحد إليه فالجناب العالي يعتمد هذه الأمور التي عرفناه إياها الآن وسد الذرائع فيها وقد عجلنا بهذا الكتاب وبقية فصول مكاتبته تصل بعد هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وكتب في سابع عشرين رجب سنة ست وعشرين سبعمائة صورة الفتوى من المنقول من خط القضاة الأربعة بالقاهرة على ظاهر الفتوى :

الحمد لله هذا المنقول باطنها جواب عن السؤال عن قوله إن زيارة الأنبياء والصالحين بدعة وما ذكره من نحو ذلك وأنه لا يرخص بالسفر لزيارة الأنبياء باطل مردود عليه وقد نقل جماعة من العلماء أن زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضيلة وسنّة مجمع عليها وهذا المفتي المذكور ينبغي أن يزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند الأئمة والعلماء ويمنع من الفتاوى الغريبة ويجلس (١) إذا لم يمتنع من ذلك ويشهر أمره ليحتفظ الناس من الاقتداء به وكتبه محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي.

وكذلك يقول محمد بن الجريري الأنصاري الحنفي : لكن يحبس الآن جزما مطلقا. وكذلك يقول محمد بن أبي بكر المالكي : ويبالغ في زجره حسبما تندفع به المفسدة وغيرها من المفاسد وكذلك يقول أحمد بن عمر المقدسي الحنبلي ووجدوا صورة فتوى أخرى يقطع فيها بأن زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبور الأنبياء معصية بالإجماع مقطوع بها وهذه الفتوى هي التي وقف عليها الحكام وشهد بذلك القاضي جلال الدين محمد بن عبد الرّحمن القزويني فلما رأوا خطه عليها تحققوا فتواه فغاروا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غيرة عظيمة وللمسلمين الذين ندبوا إلى زيارته وللزائرين من أقطار الأرض واتفقوا على تبديعه وتضليله وزيغه وأهانوه ووضعوه في السجن.

وذكر الشيخ الإمام العلامة شمس الدين الذهبي بعض محنته وأن بعضها كان في سنة خمس وسبعمائة وكان سؤالهم عن عقيدته وعما ذكر في الواسطة وطلب وصورت عليه دعوى المالكي فسجن هو وأخواه بضعة عشر شهرا ثم أخرج ثم حبس في حبس الحاكم وكان مما ادعى عليه بمصر أن قال : (الرّحمن استوى على العرش) حقيقة وأنه تكلم بحرف وصوت ثم نودي بدمشق وغيرها من كان على عقيدة ابن تيمية حلّ ماله ودمه (٢).

__________________

(١) ظاهر أن اللفظ ويحبس لا يجلس ، اه مصححه.

(٢) ليتأمل العاقل هذا ثم ليتأمله ، اه مصححه.

٣٢٦

وذكر أبو حيان النحوي الأندلسي في تفسيره المسمى بالنهر في قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥] ما صورته : (وقد قرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرناه وهو بخطه سماه كتاب العرش (إن الله يجلس على الكرسي) وقد أخلى مكانا يقعد معه فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحيل عليه التاج محمد بن علي بن عبد الحق وكان من تحيله عليه أنه أظهر أنه داعية له حتى أخذ منه الكتاب وقرأنا ذلك فيه. ورأيت في بعض فتاويه أن الكرسي موضع القدمين وفي كتابه المسمى بالتدمرية ما هذا لفظه بحروفه بعد أن قرر ما يتعلق بالصفات المتعلقة بالخالق والمخلوق (ثم من المعلوم أن الرب لما وصف نفسه بأنه حي عليم قادر لم يقل المسلمون أن ظاهر هذا غير مراد لأن المفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا فكذلك لما وصف نفسه أنه خلق آدم بيديه لم يوجب ذلك أن ظاهره غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا) هذه عبارته بحروفها وهي صريحة في التشبيه المساوي كما أنه جعل الاستواء على العرش مثل قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : ١٣] تعالى الله وتقدّس عن ذلك.

وقال في الكلام على حديث النزول المشهور (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا إلى مرجة خضراء وفي رجليه نعالان من ذهب) هذه عبارته الزائغة الركيكة وله من هذا النوع وأشباهه مغالاة في التشبيه حريصا على ظاهرها واعتقادها وإبطال ما نزّه الله تعالى به نفسه في أشرف كتبه وأمر به عموما وخصوصا وذكره إخبارا عن الملأ الأعلى والكون العلوي والسفلي ومن تأمل القرآن وجده مشحونا بذلك وهذا الخبيث لا يعرج على ما فيه التنزيه وإنما يتتبع المتشابه ويمعن الكلام فيه وذلك من أقوى الأدلة على أنه من أعظم الزائغين ومن له أدنى بصيرة لا يتوقف فيما قلته إذ القرائن لها اعتبار في الكتاب والسنة وتفيد القطع وتفيد ترتب الأحكام الشرعية لا سيما في محل الشبه.

قال بعض السلف رضي الله عنهم : الإعراض عن الحق والتسخط له علامة الركون إلى الباطل وطريق الحق دقيق وبعيد ، والصبر معه شديد ، والعدو لا يزال عنه يحيد ، وأثقال الحق لا يحملها إلا مطايا الحق.

وقال بعض السلف : داعي الحق داعي رشد ، ليس للشيطان فيه يد ، ولا للنفس فيه نصيب ، وداعي الباطل من نزغات الشيطان وهوى النفس ومتبعها هالك لا محالة لأنه عاص في صورة طائع ، ومبعد في صورة مقرب ، وصدق ونصح رضي الله عنه فقد هلك بسبب ذلك خلق لا يحصون عدّا ، ولا يمكن ضبطهم حدا.

٣٢٧

قال العلماء : إن وسوسة التشبيه من إبليس فالرد عليه وإبطال وسوسته أن يقول في نفسه كل ما تصور في صدري فالرب بخلافه فإنه لا يتصور في صدري إلا مخلوق له كيفية ومثل والرب سبحانه وتعالى لا مثل له ولا كيفية فما مثل في صدري فهو غير ربي فهو سبحانه وتعالى موحد الذات والصفات.

وسئل علي رضي الله عنه عن التوحيد والعدل فقال : (التوحيد أن لا تتوهمه والعدل أن لا تتهمه).

وقال يحيى بن معاذ : (التوحيد في كلمة واحدة ما تصور في الأوهام فهو بخلافه).

وقال علي رضي الله عنه : (ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود).

وقال رضي الله عنه : (أول الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به وكمال التصديق به توحيده وكمال توحيده الإخلاص له وكمال الإخلاص له نفي الصفات المحدثة عنه فمن وصفه بحادث فقد قرنه ، ومن قرنه فقد؟؟؟ (١) ومن؟؟؟ فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله ومن أشار إليه فقد حدّه ومن حدّه فقد عده).

قال المحققون : (من اعتقد في الله سبحانه وتعالى ما يليق بطبعه فهو مشبه لأنه سبحانه وتعالى منزّه عما يصفه به أو يتخيله لأن ذلك من صفات الحديث).

وسئل ـ أعني عليا رضي الله عنه ـ : بم عرفت ربك؟ فقال : (عرفته بما عرف به نفسه لا يدرك بالحواس ولا يقاس بالناس قريب في بعده بعيد في قربه فوق كل شيء ولا يقال تحته شيء وأمام كل شيء ولا يقال أمامه شيء وهو في كل شيء لا كشيء في شيء فسبحان من هو هكذا وليس هكذا غيره).

وقال أيضا رضي الله عنه : (عرّفنا الله سبحانه وتعالى نفسه بلا كيف وبعث سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتبليغ القرآن وبيان المفصلات للإسلام والإيمان وإثبات الحجة وتقويم الناس على منهج الإخلاص فصدقته بما جاء به).

وقال الإمام الحافظ محمد بن علي الترمذي صاحب التصانيف المشهورة : (من جهل أوصاف العبودية فهو بنعت الربوبية أجهل).

قال جعفر في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١)) [الإخلاص : ١] (هو الذي لم يعط لأحد من معرفته غير الاسم والصفة) وقيل هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته

__________________

(١) قوله :؟؟؟ هي ثناه ، اه مصححه.

٣٢٨

وصفاته إلا هو وقوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ (٢)) [الإخلاص : ٢] قيل هو الذي أيست العقول من أن تطلع عليه أو تدرك ما وصف به نفسه ونسب إليه ، وقيل هو السيد الذي لا نهاية لسؤدده وقيل هو المصمود إليه في الحوائج وقيل هو الذي لا يستغني عنه شيء من الأشياء.

وقال ابن عباس رضي الله عنه : معناه الذي لا جوف له وقيل غير ذلك ، وقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣)) [الإخلاص : ٣] نفي الجنسية والبعضية ، وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤)) [الإخلاص : ٤] نفي الشريك والنظير فهو الذي لا نظير له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله فتعالى أن تدركه الأوهام والعقول والعلوم بل هو كما وصف نفسه والكيفية عن وصفه غير معقولة ولا موهومة كيف يكون ذلك وهو قديم الذات والصفات والتخيل إنما يكون في المحدثات.

وسئل الإمام العلامة أبو الحسن الدينوري عن الاستدلال بالشاهد على الغائب فقال : كيف يستدل بصفات من يشاهد ويعاين وذو مثل على من لا يشاهد ولا يعاين في الدنيا ولا نظير له ولا مثل هذا من جهل الجاهلين بالآيات التي قلبوا بها حقائق الأمور فجعلوا الآيات صفات ومعنى الآيات العلامات ، وهو كلام إمام محقق وقد زلّ خلق كثير بمثل ذلك ، فسبحان الأحدي الذات العلي الصفات المنزّه عن الآلات ، المقدّس عن الكيفيّات ، المنزّه عن مشابهة المخلوقات ، تعالى عما يقوله من الإلحاقات ، كيف يقاس القادر بالمقدورات والصانع بالمصنوعات ، وهي من آياته البينات الظاهرات ، رفع السماوات وبسط الأرض وثبتها بالأوتاد الراسيات ، وأتحفها بالمزن الماطرات ، فزهت بأنواع النباتات المختلفات ، كذلك يحيي الموتى.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) [الحديد : ١٧] قال : أرباب البصائر وذوو التحقيقات : ليس كذاته ذات ، ولا كاسمه اسم من جهة المعنى ولا لصفته صفة من جميع الوجوه إلا من جهة موافقة اللفظ وكما لم يجز أن يظهر من مخلوق صفة قديمة كذلك يستحيل أن يظهر من الذات الذي ليس كمثله شيء صفة حديثة وأن التكرار من حدوث الصفة جلّ ربنا أن يحدث له صفة أو اسم إذ لم يزل بجميع صفاته واحدا ولا يزال كذلك وكل أمور التوحيد والتفريد خرجت (١) من هذه الكلمة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] لأنه ما عبر عن الحقيقة بشيء إلا والعلة مصحوبة والعبارة منقوضة لأن الحق لا ينبعث (٢) إقداره إلا على إقراره لأن كل

__________________

(١) أي ظهرت للمؤمنين وفهموها من هذه الكلمة ، اه مصححه.

(٢) قوله : لا ينبعث هو لا تنعت الخ بدليل قوله بعد ذلك : لأن كل ناعت الخ ، اه مصححه.

٣٢٩

ناعت مشرف على المنعوت وجلّ ربنا أن يشرف عليه مخلوق. احتجب عن خلقه بخلقه ثم عرفهم صنعه بصنعه وساقهم إلى أمره بأمره فلا يمكن الأوهام أن تناله ولا العقول أن تختاله (١) ولا الأبصار أن تمثله ، ولا الأسماع أن تستمله (٢) ، ولا الأماني أن تمتحنه ، هو الذي لا قبل له ولا مقصر (٣) عنه ولا معدل ، ولا غاية وراءه ولا مثل ، ليس له أمد ولا نهاية ولا غاية ولا ميقات ولا انقضاء ، ولا يستره حجاب ، ولا يقله مكان ولا يحويه هواء ، ولا يحتاطه (٤) فضاء ، ولا يتضمنه خلاء.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١] قال ابن عباس رضي الله عنهما : (معنى الآية ليس له نظير) وقيل الكاف صلة أعني زائدة فالمعنى ليس مثله شيء وقيل المثل صلة فالمعنى ليس كهو شيء فأدخل المثل للتأكيد فمن الجهل البين أن يطلب العبد درك ما لا يدرك وأن يتصور ما لا يتصور كيف وقد نزّه نفسه بنفسه عن أن يدرك بالحواس ، أو يتصور بالعقل الحادث والقياس ، فلا يدركه العقل الصحيح من جهة التمثيل ، ويدركه من جهة الدليل ، فكل ما يتوهمه العقل فهو جسم ولا (٥) نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة ومن الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث تعالى الله عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان المحدثين وهو الأول قبل سوابق العدم ، الأبدي بعد لواحق القدم ، ليس كذاته ذات ، ولا كصفاته صفات ، جلت الذات القديمة الواجبة الوجود التي لم تسبق بقدم (٦) أن تكون كالصفة الحديثة.

قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧)) [مريم : ٦٧] فهو سبحانه وتعالى احتجب عن العقول والأفهام كما احتجب عن الإدراك والأبصار فعجز الخلق عن الدرك والدرك عن الاستنباط وانتهى المخلوق إلى مثله وأسنده الطلب إلى شكله.

__________________

(١) يريد أن تتخيله ، اه مصححه.

(٢) لعلها تشمله أي هو ليس من جنس الأصوات فتسمعه الأسماع ، اه مصححه.

(٣) لعلها مفر ، اه مصححه.

(٤) لعل الأصل ولا يحيط به الخ ، اه مصححه.

(٥) قوله : ولا نهاية صوابه وله نهاية الخ كما هو ظاهر ، اه مصححه.

(٦) قوله بقدم هو بعدم كما هو واضح ، اه مصححه.

٣٣٠

قال الصديق رضي الله عنه : العجز عن درك الإدراك إدراك ، وقال رضي الله عنه : سبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته فهو سبحانه عليم قدير سميع بصير لا يوصف علمه وقدرته وسمعه وبصره بما يوصف به المخلوق ولا حقيقته وكذلك علوه واستواؤه إذ الصفة تتبع الموصوف فإذا كانت حقيقة الموصوف ليست من جنس حقائق سائر الموصوفات فكذلك حقيقة صفاته فأجهل الناس وأحمقهم وأجحدهم للحق من يشبه من ليس كمثله شيء بالمخلوق المصنوع في شيء من صفاته وأفعاله وذاته (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣)) [الإسراء : ٤٣] لأنه سبحانه وتعالى وصفاته مصون عن الظنون الكاذبة والأوهام السخيفة وقد قيل في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] أي ما وصفوه حق وصفه وقيل ما عظموه حق عظمته وقيل ما عرفوه حق معرفته وقيل غير ذلك.

قال بعض أهل المعاني والقلوب : لا يعرف قدر الحق إلا الحق وكيف يقدر أحد قدره وقد عجز عن معرفة قدره الوسائط والرسل والأولياء والصديقون ، ثم قال : ومعرفة قدره أن لا تلتفت عنه إلى غيره ولا تغفل عن ذكره ولا تفتر عن طاعته إذ ذاك (١) عرفت قدر ظاهر قدره وأما حقيقة قدره فلا يقدر قدرها إلا هو وصدق لأن الخلق تعجز عن تنزيهه بما يستحقه من كمال صفاته وعظم ذاته ولهذا نزّه سبحانه نفسه بقوله : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٨٠)) [الصّافات : ١٨٠] وفي هذا غاية الحث على كثرة التنزيه ودوامه مع أمره لأكمل خلقه في قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١)) [الأعلى : ١] مع غير ذلك مما في أشرف الكتب مما أذكر بعضه. فقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) [الأعلى : ١] أي قل سبحان ربي الأعلى والمعنى نزّه اسمه ربك واذكره وأنت له معظّم وقيل نزّه عن المعاني المفضية إلى نقصه وقيل نزّه اسمه عن الكذب إذا أقسمت به وقيل لفظ اسم زائد وفي الكلام حذف المعنى نزّه مسمى ربك الذي خلق فسوّى أي مخلوقه بأن خلقه مستويا بلا تفاوت فيه وفي أعضائه وغير ذلك من مخلوقاته فإن من هذا من بعض مصنوعاته يستحق التنزيه فكيف بمخلوقات أخر يعجز الخلق عن إدراكها لعظمها وكلها على اختلاف أجناسها وأنواعها كل يسبّحه بلغته وبما يليق بجلاله.

قال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] وقال : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ

__________________

(١) أي لو كنت كما ذكر تعرف قدر الخ ، اه مصححه.

٣٣١

وَتَسْبِيحَهُ) [النّور : ٤١] قال مجاهد : تسبيح المخلوقات هو تنزيه خالقها وتوحيده بما يستحقه من كمال صفات عظم ذاته ، قيل : يفقه تسبيحهم العلماء الربانيون الذين انفتحت أسماع بصائرهم والمنورون البصائر الذين يشاهدون كل شيء مرقوما عليه بقلم القدرة هو الملك القدوس.

وقال مجاهد : كل الأشياء تسبّح حيوانا وجمادا وتسبيحها سبحان الله وبحمده.

وروى ابن السني أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ما تستقبل الشمس فيبقى شيء من خلق الله تعالى إلا سبّح الله تعالى وحمده إلا ما كان من الشيطان وأغبياء بني آدم» فقيل : ما أغبياء بني آدم؟ فقال : «شرار الخلق».

وقال شهيب (١) بن حوشب : حملة العرش ثمانية أربعون يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وقال : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر : ٢٣] فالملك اسم من أسمائه تعالى وكذا مليك وهو صفة مبالغة في الملك. قال تعالى : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] فالملك هو المستغني عن كل شيء ويفتقر إليه كل شيء ونافذ حكمه في مملكته طوعا أو كرها ، وقيل هو القادر على الإبداع والإنشاء والإعدام وهذا على الحقيقة لا يكون إلا لله عزوجل أبدع المكونات العلويات والسفليات الجليات والخفيات أبدعها بقدرته ورتبها على اختلاف أطوارها بحكمته فكل ما برز فهو مقهور الوجود بكن ، وكل ما انعدم فهو مقهور العدم بكن وبهذا يعلم أن إطلاق الملك على ما سواه أمر مجازي إذ المملوك لا يكون مالكا لأن من هو تحت قهر الأغيار فهو كالعدم ولهذا لما تحقق أرباب القلوب أن الملك لله عزوجل تحققا قلبيا سكنت أنفسهم عن وصف الإضافات وتبرءوا من الحول والقوة حتى بالإشارات فلا يقول مني ولا لي حتى قيل لبعضهم ألك رب؟ فقال : أنا عبد وليس لي نملة ومن أنا حتى أقول لي ، فهذا وأمثاله صفّى نفسه عن رعونة البشرية وهواها وفك ربقة رق خيالاتها الباطلة ومناها ومحض رق العبودية لمولاها فترى الملوك الجبابرة مع جبروتهم يخضعون ويتذللون له ولهذا تتمات ليس هذا المقام مقامها إذ الغرض التنزيه.

__________________

(١) معروف هذا الاسم بشهر ، اه مصححه.

٣٣٢

والقدوس من أسمائه عزوجل سمّى نفسه بذلك ليرشدك إلى تقديسه كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠)) [الأنبياء : ٢٠] وفيه الحث على دوام التقديس فالقدوس قيل هو المنزّه عما لا يليق به من الأضداد والأنداد ، وقيل هو المنزّه والمطهّر من النقائص والعيوب وهاتان غير مرضيين عند المحققين.

قال حجة الإسلام الغواص الغزالي : وهذا في حق الباري سبحانه وتعالى يقارب ترك الأدب كما أنه ليس من الأدب أن يقال لملك ليس بحائك ولا بحجام لأن نفي الوجود يكاد يوهم إمكان الوجود وفي ذلك الإيهام نقص بل القدوس المنزّه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره وهم أو يسبق إليه فكر أو يهجس به سر أو يختلج به ضمير أو يسنح له خفي خيال وقد أجاد رضي الله عنه وهاهنا فائدة جليلة للمنزه والمشبه وهي أنه ينبغي للعبد أن يجعل له حظا وافرا من تكرير هذا الاسم والإمعان في معناه فإن كان منزّها عطف ذلك عليه وقدّس نفسه وقلبه وبدنه أما نفسه فيطهرها من الأوهام المذمومة كالغضب والحقد والحسد والغش وسوء الظن والكبر وحب الشرف والعلو وحب الدنيا ولوازمها وغير ذلك ويبدلها بالأوصاف المحمودة فيطهرها أيضا عن العاهات والشهوات وما تدعو إليه من المستحسنات والمألوفات إذ هي أزمة الشيطان يقود بها إلى ارتكاب الموبقات وأما القلب فيطهره بالعقد الصحيح المطابق الجازم وبالمبادرة إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي والأهواء وتحقيق الإخلاص نية وقولا وعملا وبالرضى بما جرى فلا يأسف على فائت ولا يفرح بآت وذلك يرجع إلى ذوق حلاوة الإيمان القلبي لا العملي وعلامته تقديس القلب عن ملاحظة الأكوان ولا يرى الأغيار إلا على العدم الأصلي فلا يتحرك في ظاهره ولا باطنه حتى في أنفاسه إلا بالله عزوجل وأما البدن فيطهره بماء الجوع ويكفنه بدوام التقشف ويحنطه بالعزلة ويطيبه بدوام الذكر والفكر ويدفنه في لحد الخوف فإذا قدّسه بذلك ذهب مغناه وبقي معناه فإذا اجتمعت له هذه التقديسات ذهبت أوصافه القواطع والموانع ولاح له خزائن أسرار الآيات في معارج ترداد الآيات فأثمر له ذلك كشف أسرار الملكوتيات فيثمر له ذلك الشوق إلى رؤية مطلوبه فلا شيء أشهى إليه من الموت لأنه لا سبيل إلى الوصول إلى محبوبه إلا به فمن أراد أن يجلسه في حضرة القدس على منابر التقديس فليجر على هذا التأسيس.

ومر إبراهيم بن أدهم قدس الله روحه بسكران مطروح على قارعة الطريق وقد تقيأ فنظر إليه وقال : بأي لسان أصابته هذه الآفة وطهر فمه ومضى فلما أفاق السكران أخبر بما فعله به إبراهيم فخجل وتاب وحسنت توبته فرأى إبراهيم فيما يرى النائم كأن قائلا يقول غسلت لأجلنا فمه فلا جرم أنا طهرنا لأجلك قلبه.

٣٣٣

وأما المشبه والمجسم فلأنه بتكرار هذا الاسم يتعقل معناه فيضيء له نوره فينكشف له حجاب الضلال فإذا حقق المعنى المراد منه ظهر له نوره فأحرق حجاب الضلال فصفى قلبه للحق وزاح الباطل وقد وقع ذلك لبعض الغلاة في التشبيه والتجسيم مرّ يوما على هذه الآية (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) [الحشر : ٢٣] فكرر هذا الاسم وتعقل معناه فقال : والله إنا لفي ضلال مبين بيّن فبادر في الحال وأتى بالشهادتين وقال : والله لا يخلصني إلا استئناف العمل. فانظر أرشدك الله تعالى إلى بركة تكرير هذا الاسم العظيم في حق أهل التنزيه والتشبيه والله أعلم.

ثم تمام التقديس لا يحصل إلا بالتمكن بعد كمال التوحيد وحقيقة التوحيد تكون باعتبار الذات وباعتبار الفعل فتوحيد الذات ينفي الحدوث وثبوت الأحدية ينفي الأضداد وثبوت الذات ينفي التشبيه ويحير العقل في بحر الإدراك وأما توحيد الأفعال فهو شهود القدرة في المقدور ثم الاستغراق في أنوار العظمة فيغيب بذلك عن الموجودات وتبقي القدرة بارزة بأسرار التوحيد ثم الاستغراق في أنوار المحو فيغيب عن رؤية القدرة بالقادر.

ومن مقدوراته جلّ وعلا ما ذكره في قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) [النّبأ : ٣٨] قال أبو الفرج بن الجوزي : روي عن علي رضي الله عنه في تفسيرها أن الروح ملك عظيم له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله عزوجل من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : الروح ملك عظيم أعظم من السماوات والأرضين والجبال والملائكة يسبّح كل يوم ألف ألف تسبيحة يخلق الله سبحانه وتعالى من كل تسبيحة ملكا يجيء يوم القيامة صفا والملائكة بأسرهم يجيئون صفا.

قال ابن عباس : وهو الذي ينزل ليلة القدر زعيم الملائكة وبيده لواء طوله ألف عام فيغرزه في ظهر الكعبة ولو أذن الله عزوجل له أن يلتقم السماوات والأرض لفعل وقيل الروح هنا جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل هو ملك ما خلق الله بعد العرش خلقا أعظم منه وقيل غير ذلك.

روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : «رأيت على كل ورقة من السدرة ملكا قائما يسبّح الله عزوجل» ومراده سدرة المنتهى ، سميت بذلك لأنها لا يتجاوزها أحد من الملائكة وغيرهم ولا يعلم ما وراءها إلا الله عزوجل وهي شجرة نبق على يمين

٣٣٤

العرش عندها جنة المأوى يأوي إليها الملائكة عليهم‌السلام وقيل أرواح الشهداء وقيل أرواح المتقين.

وقال الله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨)) [الرّحمن : ٧٨] معنى (تَبارَكَ) جلّ وعظم ومعنى (ذِي الْجَلالِ) المستحق للرفعة وصفات التعالي ونعوت الكمال جلّ أن يعرف جلاله غيره تنزّه وعظم شأنه عما يقول فيه المبطلون لأن كل شيء يثني عليه بقدرته وكل ذاكر يذكره على قدر طاقته وطبعه وعلمه وفهمه ، والحق جلّ جلاله ذكره خارج عن أوهام الآدميين لأن الحادث ناقص بقهر الإيجاد والفناء والمعارف (١) دون الغايات الجلالية فسبحانه ما أثني عليه حق ثنائه غيره ولا وصفه بما يليق به سواه عجز الأنبياء والرسل بأجمعهم عن ذلك قال : أجلّهم قدرا وأرفعهم محلا وأبلغهم نطقا مع ما أعطي من جوامع الكلم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأما (٢) الإكرام فمعناه ذو الإنعام والمنن على العام والخاص والطائع والعاصي ، ووصف سبحانه وتعالى نفسه بالكريم في قوله : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] قال عمر رضي الله عنه : لو قيل لي ما غرك بي لقلت جهلي بك غرني ، والكريم هو الذي إذا قدر عفا ، وإذا وعد وفى ، وقيل هو الذي إذا أعطى زاد على منتهى الرجاء ولا يبالي لمن (٣) أعطي وكم أعطي ولا يضيع من لاذ به والتجا ، وقيل هو الذي يغني السائل عن الوسائل والشفعاء وإذا رفعت الحاجة إلى غيره لا يرضى ، وقيل هو الذي إذا أبصر خللا جبره وما أظهره وإذا أولى فضلا أجزله ثم ستره وقيل غير ذلك ، فمن تأمل القرآن الكريم وجده مشحونا بالتقديس والإجلال والتعظيم وناطقا بإضلال أهل الإلحاد والتجسيم والحيدة عن الصراط المستقيم وطريقة السلامة في ذلك أن من أشكل عليه شيء من المتشابه في الكتاب والسنة فليقل كما أخبر سبحانه وتعالى في كتابه المبين عن الراسخين في العلم ومدحهم عليه في قوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران : ٧] ويقول كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث : «وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه» خرجه غير واحد منهم الإمام أحمد والنسائي وغيرهما ويقول كما قاله الشافعي آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله

__________________

(١) لم يظهر لي في هذه العبارة معنى فلتحرر ، اه مصححه.

(٢) ذو الإنعام ليس معنى الإكرام بل معنى ذو الإكرام فهنا لفظ ذو ساقط ، اه مصححه.

(٣) لعله بما أعطى الخ ، اه مصححه.

٣٣٥

وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والراسخ في العلم هو من طولع على محل المراد منه وسئل مالك عن الراسخين في العلم فقال : العالم العامل بما علم المتبع له. وقال عمر بن عبد العزيز : انتهى علم الراسخين بتأويل القرآن إلى أن قالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [آل عمران : ٧] وقال بعضهم : للقرآن تأويل استأثر الله تعالى بعلمه لا يطلع عليه أحد من خلقه كما استأثر بعلم الساعة ووقت طلوع الشمس من مغربها ونحو ذلك ، والخلق متعبدون بالإيمان به ومتعبدون بالمحكم بالإيمان به وبالعمل به وقيل غير ذلك ثم اعلم أنه حق على اللبيب المعتصم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمتمسك بالعروة الوثقى أن يثبت لله عزوجل ما قضى العقل بجوازه ونص الشرع على ثبوته فإن المشبهة أثبتوا لله ما لم يأذن فيه بل نهى عنه وهي زيغة سامرية ويهودية والمعطلة سلبوه ما اتصف به وسفهوه ولقد أحسن أبو الحسن الأشعري في جوابه عن التوحيد حيث قال : إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ولا معطلة عن الصفات ، شعر :

الله أكبر أن يكون لذاته

كيفية كذوات مخلوقاته

أو أن تقاس صفاتنا في كل ما

تأتيه من أفعالنا بصفاته

أبدا عقول ذوي العقول بأسرها

متحيرات في دوام حياته

لبديع صنعته عليه شواهد

تبدو على صفحات مصنوعاته

فكل ما ترى عينك الباصرة فهو دلائل ظاهرة على (١) العالم مخلوق بتقدير شامل وتدبير كامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية ، ولو جمعت عقول العقلاء عقلا واحدا ثم تفكروا بذلك العقل في جناح بعوضة حتى يجدوا تركيبا أحسن منه وأكمل لفنيت تلك العقول وانقطعت تلك الأفكار ولم تصل إلى درك ذرة من ذرات حكمته في تلك البعوضة على سبيل الكمال والتمام فما الظن بذي الجلال تبا ثم تبا لأهل الضلال والجهل وما اعتقدوه من النقص مع تنزيه البحار وشوامخ الجبال فسبحان من تسبحه البحار الطوافح والجبال الشم والسحب السوائح والأمطار الطوامح والأفكار والقرائح ، تقدس عن مثل وشبيه ، وتنزه عن نقص يعتريه ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور من سر أضمرته الجوانح ، تعالى عن الند المماثل والضد المكارح ، يفعل ما يشاء ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، هلك الجاهل والمكافح ، متكلم

__________________

(١) هنا لفظ أن محذوف كما هو ظاهر ، اه مصححه.

٣٣٦

بكلام (١) مسموع بالآذان (٢) بغير آلات ولا أدوات ولا جوارح ، أين لهوات الحصى وحلقوم الجذع وجارحتهما فما أجهلك بقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) [النّمل : ١٣] نسب الأبصار إلى الآيات فأين الحذّق يا قامح.

ومن آياته إنزال القطر بقدرته ، وصبغ ألوان النبات والثمار بحكمته مع مخالفة الطعوم بمشيئته ، وإرسال الرياح لواقح. موصوف بالسمع والبصر يرى في الدجنة كما يرى في القمر ، من شبهه أو كيفه طغى وكفر. هذا مذهب أهل الحق والسنة ، وإن دليلهم لجلي واضح ، من شبهه أو مثل أو جسم فهو مع السامرة واليهود ومن حزبهم يوم تظهر المخبآت وتبلى السرائر وتبين الفضائح ، وإن قيل عنه في الدنيا إنه ولي صالح هلك الهالكون بآرائهم لأنه عمل غير صالح ، وفاز المنزّهون فيا لها صفقة رابح. هو الواحد المتوحد في صفاته الأزلي الجبار ، العظيم العزيز القهار ، تبارك وتعالى وتنزّه عن درك الخواطر والأفكار ، وسم كل مخلوق بميسم الافتقار ، وأظهر آثار قدرته في مخلوقاته ومن أظهرها السماوات والأرض والبراري والبحار ، والأعين والأنهار ، وجريانها على المدرار ، وتصريف السحاب المسخّر بين السماء والأرض واختلاف الليل والنهار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران : ١٣] يعلم حركات الأسرار ، ودبيب النملة السوداء في الظلمة على سواد الصخور والأحجار ، نوع هذا العالم الإنساني فمنهم شقي ومنهم سعيد وربك يخلق ما يشاء ويختار.

وصفاته كذاته والمشبهة والمجسمة أهل زيغ وكفار ، نزّه نفسه بنفسه وقدّسها فمن شبه أو عطل فمأواه النار ، ومن أناب ورجع قبله وإن ارتكب العظائم الكبار ، لأنه سبحانه وتعالى عزيز غفّار ستّار.

ومن بديع صنعته أن خلق اليوم وليلته ، وقمر السماء وشمسه ، وآدم عليه‌السلام وما مسه ، علم ذلك المنزّه فنزّه قدسه ، وجهله أعمى البصيرة المشبه فتصور فيه جنسه ، لأنه بجهله قاس الخالق جلّ وعلا على ما ألفه وأحسه ، فتراكم عليه غبار التشبيه فضاعت المحسة ، وأما المعطل فجحد صفاته فما أغباه وما أخسه ، وإذا كان الأمر كذلك فادفع المعطل بيديك النقية ، وألحق بالمشبه دفعه ورفسه.

__________________

(١) المراد بهذا الكلام هو القرآن لأنه الذي يسمع ، اه مصححه.

(٢) قوله : بغير آلات ، متعلق بمتكلم فليفهم ، اه مصححه.

٣٣٧

مبحث الرد على ابن تيمية في قوله بفناء النار

واعلم : أنه مما انتقد عليه زعمه أن النار تفنى ، وأن الله تعالى يفنيها وأنه جعل لها أمدا تنتهي إليه وتفنى ، ويزول عذابها وهو مطالب أين قال الله عزوجل وأين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحّ عنه وقد سفّه الله تعالى في ذكره في كتابه العزيز كما سفّهه في تنزيهه لنفسه وأتى بأمور إقناعية (١) صادم بها النصوص الصريحة في دوام العذاب عليهم فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النّساء : ٥٦] تبدل في كل ساعة مائة مرة ، وقال الحسن : تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة (إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً) [النّساء : ٥٦] أي شديد النقمة على من عصاه ، وقيل العزيز الشديد القادر القوي وقيل الغالب الذي لا يغلب والقاهر الذي لا يقهر وقيل الذي لا نظير له وقيل معناه المعز فيكون فعيل بمعنى مفعل كالأليم بمعنى المؤلم ونحوه.

وقال أهل المعاني وأرباب القلوب : العزيز من ظلت العقول في بحار تعظيمه وحارت الألباب دون إدراك نعته وكلّت الألسن عن استيفاء مدح جلاله ووصف كماله والقيام بشكر آلائه ، وقوله : (حَكِيماً) [الفتح : ٧] أي حكم على الأعداء بدوام العذاب كما حكم للأولياء بدوام النعيم فلا يعلم كنه حقيقة حكمته غيره فلا شيء من الأشياء إلا وفيه شيء من حكمته على وفقه لمناسبته (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النّمل : ٨٨] وقال تعالى : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢)) [الحج : ١٩ ـ ٢٢] وقال : (فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النّبأ : ٣٠] وقال تعالى : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [الإسراء : ٩٧] وقال تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)) [المائدة : ٣٧] وقال تعالى : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : ٦٥] أي مقيما ملازما فكل عذاب يفارق صاحبه فليس بغرام والآيات في ذلك كثيرة جدا وأما السنة فطافحة بذلك وتدل على إخراج المؤمنين دون غيرهم حتى يخرج من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ، وفي رواية مثقال ذرة من خير ، فأقول : يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ، أي وجب عليه الخلود. قال الله تعالى : (لَهُمْ فِيها دارُ

__________________

(١) أي للعامة البله الذين لم يخالطوا المؤمنين أما من عرف دين الله عالما ومخالطه فمعاذ الله أن يقتنع بغير كلام ربه فليعلم ، اه مصححه.

٣٣٨

الْخُلْدِ) [فصّلت : ٢٨] إلى غير ذلك ولأن العذاب يدوم بدوام سببه بلا شك ولا ريب وهو قصد الكفر وبقاء العزم عليه ولا شك أنهم لو عاشوا أبد الآباد لاستمروا على كفرهم وكذلك المؤمن يستحق الخلود وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام «نية المؤمن خير من عمله» وفي معناه أقوال أخر فادعاء فناء النار بعد أمد نزعة يهودية ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] الآية ، أي قدرا مقدورا ، ثم يذهب عنا العذاب ، وكانت اليهود تقول إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما ثم ينقطع العذاب بعد سبعة أيام وقيل أربعين يوما الذي عبد آباؤنا العجل فيها وكانت تقول إن ربنا عتب علينا في أمر فأقسم ليعذبننا أربعين يوما فلن تمسنا النار إلا تحلّة القسم أربعين يوما. فالرجل ساع خلف سلفه كما تقدم وكما يأتي.

مبحث الرد عليه في القول بقدم العالم

ومما انتقد عليه ، وهو من أقبح القبائح ما ذكره في مصنفه المسمى بحوادث لا أول لها وهذه التسمية من أقوى الأدلة على جهله فإن الحادث مسبوق بالعدم (١) والأول ليس كذلك وبنى أمره فيه على اسم من أسماء الأفعال ونفى المجاز في القرآن وهو من الجهل أيضا فإن القرآن معجز ومحشو بالمجازات والاستعارات حتى أن أول حرف فيه أحد أنواع المجاز وتضمن هذا المصنف مع صغره شيئين عظيمين تكذيب الله عزوجل في قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ) [الحديد : ٣] فجعل معه قديما وتكذيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : «كان الله ولا شيء معه» وفي البخاري من رواية عمران بن حصين رضي الله عنه : «كان الله ولم يكن شيء قبله وليس وراء ذلك زيغ وكفر فإن الدين ما قاله عزوجل» وقاله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قال : «هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم» هو الأول قبل كل شيء بلا ابتداء كان ولم يكن شيء موجودا والآخر بعد فناء كل شيء بلا انتهاء ويبقى هو. والظاهر هو الغالب على كل شيء والباطن هو العالم بكل شيء ، هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ، والأقوال في ذلك كثيرة ، ومنها قول أبي القاسم الجنيد نفي القدم عن كل أول بأوليته ونفى البقاء عن كل آخر بآخريته واضطر الخلق إلى الإقرار بربوبيته لظاهريته وحجب الإدراك عن إدراك كنهه وكيفيته بباطنيته. وقال أيضا : هو الأول بشرح القلوب والآخر بغفران

__________________

(١) لعله (والذي لا أول له ليس كذلك) ، اه مصححه.

٣٣٩

الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب. وقال السيد الجليل محمد بن الفضل. الأول : ببره والآخر بعفوه والظاهر بإحسانه ، والباطن بستره ، ومن حق العبد أن يجعل له حظا من هذا الخطاب فيزين ظاهره بأنواع الخدمة ويزين باطنه بأنوار الهيبة ويحقق جميع أفعاله وحركاته وسكناته وسائر طاعاته وقرباته بالصدق والإخلاص لقوله عزوجل : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٨٢] وسأل عمر رضي الله عنه كعب الأحبار عن معنى هذه الآية فقال : إن علمه بالأول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن.

ومما انتقد عليه : تكذيبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به عن نبوته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قالوا : يا رسول الله متى وجبت لك النبوة؟ قال عليه الصلاة والسلام : «وآدم بين الروح والجسد» وفي رواية «وإن آدم لمنجدل في طينته وتكلم بكلام لبس فيه على العوام وغيرهم من سيئ الأفهام» يقصد بذلك الازدراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والحط من قدره ورتبته ، وما فيه رفعه يسكت عنه يفهم ذلك منه كل عالم امتلأ قلبه بعظمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقيره وبما خصّه الله تعالى من مزايا المواهب الإلهية التي لم ينلها غيره.

وهذا الخبيث حريص على حط رتبته والغض منه تارة يقع ذلك منه قريبا من التصريح وتارة بالإشارة القريبة وتارة بالإشارات البعيدة التي لا يدركها إلا أهلها فمن ذلك وقد سئل على ما زعم أيما أفضل مكة أو المدينة فأجاب : مكة أفضل بالإجماع ، وكتبه أحمد بن تيمية الحنبلي وعليها خطه وأنا أعرف خطه ، وفي هذا الجواب دسائس وفجور ورمز بعيد فمن الفجور نسبته نفسه إلى الإمام أحمد والإمام أحمد وأتباعه برآء منه ومما هم (١) عليه وهو لا يلتفت إليه إلا إذا كان له في ذكره غرض أما إذا لم يكن فلا يلوي على قوله ويسفهه حتى فيما ينقله ويكفره فيما يعتقده إذا كان على خلاف هواه.

ومن مواضع تسفيهه الإمام أحمد مسألة الطلاق ، فإن الإمام أحمد قال : الذي أخبرنا بأن الطلاق واحدة أخبرنا بأن الطلاق ثلاث وعلى ذلك جرى الأئمة من جميع المذهب فإذا كان الإمام أحمد غير ثقة فبمن يوثق.

__________________

(١) هم هو ، اه مصححه.

٣٤٠