العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

وقال ـ أعني ابن تيمية ـ في الجواب عن المسألة المبسوطة والإمام أحمد أعلم الناس في زمانه بالسنة وبالغ في الثناء عليه فيا لله العجب من هذا الأعمى البصيرة الذي لا يحس بتناقض كلامه كيف يجعل الإمام أحمد فيما له فيه غرض أعلم الناس بالسنة ويسفهه فيما لا غرض له فيه وهذا ونحوه مما يأتي في غير الإمام أحمد من أئمة الحديث يعرفك ما في قلبه من الخبث وعمي بصيرته وأنه لا عليه فيما يقوله. ومن فجوره ادعاء الإجماع على ما يقوله ويفتي به كهذه الفتوى مع شهرة الخلاف في المسألة حتى إنه مشهور في أشهر الكتب المتداولة بين الناس وهو الشفاء فإنه ذكر الخلاف بين مكة والمدينة وإن مالكا وأكثر أهل المدينة قائلون بأن المدينة أفضل من مكة وقال : أهل مكة والكوفة مكة أفضل ومحل الخلاف في غير الموضع الذي ضمّ سيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما هو فالإجماع منعقد على أنه أفضل من مكة وسائر البقاع وممن حكى الإجماع القاضي عياض في الشفاء بعد أن حكى الخلاف في التفضيل بين مكة والمدينة فقال : ولا خلاف في أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض وكذا ذكره الإمام هبة الله في كتابه (توثيق عرى الإيمان) وذكر الإمام أبو زكريا يحيى النووي في شرح مسلم ذلك فقال : قال القاضي عياض : أجمعوا على أن موضع قبره أفضل بقاع الأرض وأقره على ذلك ، فسكوت الخبيث عن مثل ذلك دليل على خبث في باطنه في حق سيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي هذه الفتوى رمز إلى عدم الاعتداد بقول عمر رضي الله عنه فإنه رضي الله عنه من القائلين بأن المدينة أفضل من مكة ويدل على ما قلته من الرمز (١) تخطئته في الطلاق وعدم الاعتداد بذلك كما رمز إلى تكفير الصديق رضي الله عنه في قوله في بعض تصانيفه من قال الله : ورسوله في أمر يلحقه فإنه يكون مشركا فإن الصديق رضي الله عنه لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أبقيت لأهلك؟» قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، ويؤيد ما قلته ما هو مشهور في كتبه وعند أتباعه لا ينبغي أن ينسب إلى غير الله تعالى ضر ولا نفع ولا أنه يغني وهذا من الدسائس أيضا فإنه يلبس به على كثير من الناس لا سيما الضعفاء في العلم وأصحاب الأذهان الجامدة فهي كلمة حق أريد بها باطل.

وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز : (وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) [التّوبة : ٧٤] وقال تعالى : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ) [التّوبة : ٥٩] وغير ذلك فهذا نص القرآن العظيم على مثل هذا القول في

__________________

(١) هنا لفظ إلى محذوف ، اه مصححه.

٣٤١

الذين يقولون إنه شرك ففي قولهم قدح في القرآن وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإقراره الصديق رضي الله عنه على هذا القول الذي هو شرك (١) وهذا منهم كفر بيقين لأنه واجب وحتم لازم على كل أحد أن يؤمن بالقرآن وبما جاء به سيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رب العالمين من غير شك ولا ارتياب.

قال الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣)) [الفتح : ١٣] وقال تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [المائدة : ٩٢] وقال : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [النّساء : ١٣٦] جمع بينهما بواو العطف للشركة ولا يجوز هذا في حق غيره عليه الصلاة والسلام ولما خطب عليه الصلاة والسلام أم سلمة رضي الله عنها فاعتذرت إليه بأعذار منها وأنا موتم مرملة في أربعة من الولد فقال لها من جملة قوله : «وأما ولدك فهم ولد أخي أبي سلمة وهم على الله وعلى رسوله» وقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) [المائدة : ٥٥] واعلم أن ما ذكرته من الرمز إلى الصديق والفاروق رضي الله عنهما وأن فيه أشعارا بأنه رافضي هو كذلك ، وفي الرد على الرافضي أنه رافضي وهذا نبّه عليه الشيخ زين الدين القرشي والشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي. نعم وقفت على مصنف لطيف له ولم يتم وفيه ما يدل على ما قالاه وفي هذا الكتاب رمز إلى أنه من القائلين بتناسخ الأرواح (٢) وبعض أتباعه الذين هم رسل في التبعية يقع منه (٣) ما يدل على ذلك ، والله أعلم.

ومن الأمور الخبيثة التي وقفت عليها في فتاويه ما فيه أن بعض المكاسين مثاب في وظيفة المكس بل أبلغ من ذلك ، وأقبض عنان الكلام فيه لما أخشى مما يترتب

__________________

(١) يعني في زعمهم ، اه مصححه.

(٢) القول بتناسخ الأرواح كفر لأنه عبارة عن اعتقاد أن أرواح من يموتون تتصل بغيرهم فقد يكون روح الخواجة الذي مات اليوم روح أكبر عالم مرشد زاهد ورع بعد ذلك والعكس ، وقد يتصل روح الخنزير الذي مات بمحمد الذي ولد بعد ذلك ويعكس ، وقد يتصل بعد ذلك بكلب ثم يتصل بحمار ثم يتصل بنبي وهكذا إلى غير نهاية ، وهذا يقتضي أن لا بعث وأن لا جزاء ، فإن الروح لا يقف عند حد معلوم يجازى عليه بل قد يكون بحال يقتضي العذاب ويسبح بحال يقتضي النعيم ثم بحال لا يقتضي عذابا ولا نعيما وهكذا ، وهذا غير ما تنطق به الشرائع الإلهية كلها فهو مصادم للأنبياء ولما جاء به الأنبياء ، وكيف لا يكون ما هذا حاله كفرا وهذا المذهب لا دليل عليه من العقل مع كونه مع الشرع كما ذكرنا وذلك أن الأرواح ليست من عالم المحسوسات حتى نراها ونحكم عليها وهي لم تخبرنا عن نفسها بشيء فالجهالة بها مطلقة ، اه مصححه.

(٣) أي من ذلك البعض ، اه مصححه.

٣٤٢

على التصريح من أهل المكس وتجرئهم عليه وقرر ما قاله بتقرير مقبول في شق وأهمل الآخر فلما وقفت على ذلك قب بدني وهجت على الكلام في ذلك وكان شخص من الحنابلة يدعى بعلاء الدين بن اللحام البعلبكي وكان عندهم عظيما وصنّف في مذهب الإمام فأتيته وهو في حلقة في الجامع الأموي وهم يقرءون عليه في بعض مصنفاته فسألته عن شيء يتعلق بمسألة تقرأ عليه في كتابه فما أجاب ثم أخرى فما أجاب ثم قلت : ما هذه المسألة التي ذكرها الشيخ تقي الدين بن تيمية في المكس فقال : وشرع يقرر ما قرره ابن تيمية فأخذت الشق الآخر وقررته فسكت ولم يجد جوابا فقلت : يلزم أحد شيئين إما بطلان ما قاله أو تكفيره فقال : هذه المسألة ما هي في فتاويه وأنا اختصرتها فهذه قاعدة من قواعدهم يبحثون مع الخصم فإن ظفروا به فلا كلام وإن ظفر بهم قالوا هذه ما هي في كلامه فهم خلف إمامهم في المكر والخديعة والكذب وقد خاب من افترى ، والله أعلم.

ومن الأمور المنتقدة عليه : وهو من أقبح القبائح وشر الأقوال وأخبثها مسألة التفرقة التي أحدثها غلاة المنافقين من اليهود وعصوا أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستمر عليها أتباعهم الذين يظهرون الإسلام وقلوبهم منطوية على بغض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يقدروا أن يتوصلوا إلى الغض منه إلا بذلك. وقد ذكر المسألة الأئمة الأعلام فاذكر بعض كلامهم فيها ثم أعود إلى تتميمه مستدلا بأمور سمعية وغيرها تفيد جلالته وعظامته وحياته في قبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبقاء حرمته على ما كان عليه في حياته ويقطع الواقف عليها أو على بعضها بأن القائلين بالتفرقة من متغالي أهل الزيغ والزندقة وأن ابن تيمية الذي كان يوصف بأنه بحر في العلم لا يستغرب فيه ما قاله بعض الأئمة عنه من أنه زنديق مطلق وسبب قوله ذلك أنه تتبع كلامه فلم يقف له على اعتقاد حتى أنه في مواضع عديدة يكفر فرقة ويضللها وفي آخر يعتقد ما قالته أو بعضه مع أن كتبه مشحونة بالتشبيه والتجسيم والإشارة إلى الازدراء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والشيخين وتكفير عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأنه من الملحدين وجعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من المجرمين وأنه ضال مبتدع ، ذكر ذلك في كتاب له سماه (الصراط المستقيم والرد على أهل الجحيم) وقد وقفت في كلامه على المواضع الذي كفر فيها الأئمة الأربعة (١)

__________________

(١) أحب أن لا يستغرب القارئ شيئا يراه منسوبا إلى هذا الرجل بعد تصريح العلماء عنه أنه يستخف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويزدريه ويصغر من شأنه فإن الذي يجترئ على أسمى مقام في الوجود لا يتهيب ما دونه فليعلم ، اه مصححه.

٣٤٣

وكان بعض أتباعه يقول إنه أخرج زيف الأئمة الأربعة يريد بذلك إضلال هذه الأمة لأنها تابعة لهذه الأئمة في جميع الأقطار والأمصار وليس وراء ذلك زندقة.

ولنرجع إلى قول بعض الأئمة فمنهم : الإمام العلامة شيخ شيوخ وقته أبو الحسن علي القونوي قال بعد ذكره أشياء لا أطول بذكرها وفيها دلالة على أن التوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحاجات بعد وفاته كالتوسل به في حال حياته ثم قال : وهذا وأمثاله يرد على هؤلاء المبتدعة الذين نبغوا في زماننا ومنعوا التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد جمع بعضهم كلاما يتضمن نفي عمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الوفاة ونقل طائفة منهم التفرقة بين حياته وحال وفاته فقال : (والتفريق بين الحياة والوفاة كان ثابتا عند الصحابة فلهذا استسقي أمير المؤمنين عمر بالعباس ولو لا هذا التفريق الواضح عندهم لما عدل عمر مع جلالته وكونه خليفة راشدا وكان يشاور أيضا ـ عن قبر رسول الله إلى غيره) ثم قال : (هذا لفظ المبتدع الجاهل التي قامت البينة عليه بأشياء من هذا القبيل وعزر على ذلك التعزير البالغ بالضرب المبرح والحبس وغير ذلك في شهور سنة خمس وعشرين وسبعمائة بالقاهرة وهذا الكلام من التفرقة بين الحالتين والاستناد فيه إلى استسقاء عمر بالعباس ليس له وإنما هو لشيخه فإنه لما أظهر القول بنفي التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أورد عليه حديث الاستسقاء ففزع إلى التفرقة المذكورة ولا متشبث في الحديث المذكور فإن عمر رضي الله عنه إنما قصد أن يقدم العباس ويباشر الدعاء بنفسه وهذا لا يتصور حصوله من غير الحي أي الحياة الدنيوية ، وأما التوسل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا نسلّم أن عمر رضي الله عنه تركه بعد موته.

وتقديم العباس ليدعو للناس لا ينفي جواز التوسل به مع ذلك ، ثم قال : وهذا القول الشنيع والرأي السخيف الذي أخذ به هؤلاء المبتدعة من التحاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعدم حاشاه من ذلك ـ يلزمه أن يقال إنه ليس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم وهو قول بعض الضّلال.

قال أبو محمد حزم في كتابه الملل والنحل : (حدثت فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس هو اليوم رسول الله لكن كان رسولا) ثم قال : (وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله عزوجل ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما عليه أهل الإسلام منذ كان أهل الإسلام إلى يوم القيامة) قال : (وإنما حملهم على هذا الرأي الخبيث قولهم الآخر الخبيث إن الروح عرض والعرض يفنى أبدا أو يحدث ولا يبقى وقتين) قال : (فروح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند هؤلاء بطل ولا روح له الآن عند الله وأما جسده ففي قبره تراب فبطلت نبوته ورسالته بموته عندهم فنعوذ بالله من هذا القول

٣٤٤

فإنه كفر صراح لا تردد فيه ، ويكفي في بطلان هذا القول الفاحش الفظيع إنه مخالف لما أمر الله تعالى به ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتفق عليه أهل الإسلام من الأذان في الجوامع والصوامع وأبواب المساجد جهارا في شرق الأراضي وغربها كل يوم خمس مرات بأعلى أصواتهم قد قرنه الله تعالى بذكره أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن سيدنا محمدا رسول الله ، كان يجب أن يقال على قولهم أشهد أن محمدا كان رسول الله وكذلك كان يجب أن يقال في ثاني الشهادتين في الإسلام وقد قال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [النّساء : ١٦٤] وقال تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) [المائدة : ١٠٩] وقال تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزّمر : ٦٩] فسماهم الله عزوجل بعد موتهم رسلا ونبيين والأصل الحقيقة وكذلك أجمع المسلمون وجاء به النص أن كل مصل فرضا أو نفلا يقول في تشهده السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ولو كان بعد موته في حكم العدم لما صحّت هذه المخاطبة) هذا معنى كلام ابن حزم ثم قال : (إن ابن حزم أورد على نفسه إيرادات وأجاب عنها) قلت : وقد حذفتها أنا لأجل الإطالة ولا تسع عقول العوام وكثير ممن أشير إليه بالعلم أن يدركها ويدرك الجواب ، ثم قال : (وإنما أطلت النفس في هذه المسألة وإن كانت في غاية الوضوح لقرب العهد بهذيان من أظهر الخلاف فيها وأفسد به عقائد خلق كثير من العوام فلذلك استطرقت في هذا المقام بما يتعلق بهذه المسألة هذا المقدار اليسير من الكلام وللمقال فيها مجال واسع لكن إشباع القول في ذلك خارج عما نحن بصدده في هذا الكتاب والله تعالى أعلم).

وهذا الكتاب الذي أشار إليه ومنه نقلت يقال له (شرح التعرف لمذهب أهل التصوف) واعلم أرشدنا الله وإياك أيها الموفق المنزّه المعظم لسيد الأولين والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذريته الذين بهم تم الدين ولسائر الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين إن في هذا الذي ذكره الأئمة كفاية لمن له أدنى فهم ودراية إلا أني وعدت بذكر شيء وخلف الوعد صعب شديد فأنا أذكر نبذة يسيرة وأرجو من الله عزوجل حصول البركة فيها وقد ذكرت في كتاب (تنبيه السالك على مظان المهالك) جملة كثيرة تتعلق بذلك وبغيره وسقت فيها فتواه المطولة والجواب عما قاله ذكرته في فضل الحج والله أعلم.

ومن الأمور المهمة معرفة الإنسان حاله في التوفيق والخذلان فمن الخذلان عدم إيمان الإنسان بالآيات والنذر كما قال تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ١٠١] قيل : المعنى لا تصل العقول الخالية عن التوفيق إلى سبيل

٣٤٥

النجاة وما يغني ضياء العقل مع الخذلان إنما ينفع نور العقل مؤيدا بنور التوفيق وعناية الأزل وإلا فإنه متخبط بإدراكه بعقله فإذا وعيت ما قلته ووقفت على بعض ما أذكره من الأدلة ولم تجد قلبك مؤمنا بها فاعلم أنك من أهل الخذلان ومرقوم في حزب الشيطان وتابع لأهل البدع عصاة الرّحمن.

قال كعب الأحبار : تجد الرجل يستكثر من أنواع البر ويحتاط في (١) صانع المعروف ويكابد سهر الليل وشدة ظمأ الهواجر وهو مع ذلك لا يساوي عند الله جيفة حمار يشير إلى أهل البدع والتبري منهم بحيث لا يمكن سمعه من ذي هوى ، لما صالح عمر رضي الله عنه أهل بيت المقدس وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح به عمر رضي الله عنه وبإسلامه.

قال له عمر : رضي الله عنه هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنتفع بزيارته قال : نعم يا أمير المؤمنين افعل ذلك ، فهذا ضريح في الندب إلى زيارة قبره عليه الصلاة والسلام وشد الرحل وأعمال المطي إليه والكلام على هذا يأتي إن شاء الله تعالى.

بيان زندقة من قال إن روحه عليه الصلاة والسلام فنيت وأن جسده صار ترابا وبيان زيغ ابن تيمية وحزبه في جواب الفتوى التي زعم أنه سئل عنها :

فقال في جوابه : الحمد لله رب العالمين ، من استغاث بميت أو غائب من البشر بحيث يدعوه في الشدائد والكربات ، ويطلب منه قضاء الحاجات ، فيقول : يا سيدي الشيخ فلان أنا في حسبك أو في جوارك ، أو يقول عند هجوم العدو عليه : يا سيدي فلان ، يستوحيه أو يستغيث به ، أو يقول نحو ذلك عند مرضه وفقره وغير ذلك من حاجاته ، فإن هذا ظالم ضال مشرك ، وفي بعض النسخ كافر عاص لله تعالى باتفاق المسلمين فإنهم متفقون على أن الميت لا يسأل ولا يدّعي ولا يطلب منه شيء سواء كان نبيا أو غير ذلك ثم أكد ما قاله بقصة عمر والعباس في الاستسقاء تبعا لشيخه الجاري خلف سلالة اليهود ، وأنت أرشدك الله تعالى وبصّرك إذا تأملت ما قاله في هذا الجواب اقشعر جلدك وقضيت العجب مما فيه من الخبائث والفجور وادعاء اتفاق المسلمين وما فيه من الرمز إلى تكفير الأنبياء وتضليلهم والتلبيس على الأغبياء بقصة عمر رضي الله عنه وليت شعري من أي الدلالات أن من توجه إلى قبر سيد الأولين

__________________

(١) صانع المعروف صوابها صنائع ، اه مصححه.

٣٤٦

والآخرين صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوسل به في حاجة الاستسقاء أو غيرها يصير بذلك ظالما ضالا مشركا كافرا. هذا شيء تقشعر منه الأبدان ولم نسمع أحدا فاه بل ولا رمز إليه في زمن من الأزمان. ولا بلد من البلدان ، قبل زنديق حران ، قاتله الله عزوجل وقد فعل ، جعل الزنديق الجاهل الجامد قصة عمر رضي الله عنه دعامة (١) للتوصل بها إلى خبث طويته في الازدراء بسيد الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين وحط رتبته في حياته وأن جاهه وحرمته ورسالته وغير ذلك زال بموته وذلك منه كفر بيقين وزندقة محققة فإنه عليه الصلاة والسلام حرمته وقدره ومنزلته عند ربه ما زالت ولم تزل وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على الله عزوجل على الدوام ، ومن تأمل القرآن العظيم وجده مشحونا بذلك وقد ذكرت جملة من ذلك في مولده عليه الصلاة والسلام وأشير هنا إلى نبذة يسيرة من ذلك ليتحقق السامع لها خبث هذا الزنديق وما انطوى عليه باطنه من الخبث بإبداله هذه الأنواع من التعظيم بالازدراء وما فاه به من الفجور والافتراء كما ترى :

سل عن فضائله الزمان لتخبرا

فنظير مجدك يا محمد لا يرى

ولقد جمعت مناقبا ما استجمعت

ما استعجمت يا سيدي فتفسرا

ما بين مجدك والمحاول نيله

إلا كما بين الثريا والثرى

فمن ذلك : أنه سبحانه وتعالى تولى عصمته بنفسه فقال تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] وحقا عصمه عزوجل في ظاهره وباطنه حفظه في ظاهره من أن ينالوا ما همّوا به ورد كيدهم في نحورهم وحفظه في باطنه من الناس من أن يكون منه إليهم التفات أو يكون له بهم اشتغال صان سره عن موارد السكون إليهم وعن نزغات الشيطان وفلتات النفس.

ومنها : قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) [النّور : ٦٣] قيل : معناه لا تدعوه باسمه كما يدعو بعضكم بعضا يا محمد يا عبد الله ولكن فخّموه وعظّموه وشرّفوه وقولوا يا نبي الله يا رسول الله مع لين وتواضع ، قاله مجاهد وقتادة.

__________________

(١) قوله للتوصل بها إلى خبث طويته في الازدراء الخ والصواب أن تقدم في وتؤخر إلى ليظهر معنى الكلام ، اه مصححه.

٣٤٧

وقيل : معناه احذروا دعاء الرسول عليكم فإن دعاءه مستجاب لا يرد وليس كدعاء غيره ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

وقيل : معناه من ضيّع حرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد ضيّع حرمة الله عزوجل ومن ضيّع حرمة الله فقد دخل في ديوان الأشقياء ، وحرمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حرمة الله تعالى بل من ضيّع حرمة الأولياء فقد عرض نفسه للهلكة.

ومنها : قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) [الأحزاب : ٤٥] أي عليهم بالتوحيد (وَمُبَشِّراً) [الأحزاب : ٤٥] أي لهم بالتأييد والمغفرة (وَنَذِيراً) [البقرة : ١١٩] أي محذرا إياهم الزيغ والضلالات (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح : ٩] أي تعظموه تعظيما يليق به وبمرتبته.

قال الأئمة : لم يؤمن بالرسول من لم يعزه ويعز أوامره ويوقره ويوقر أصحابه رضي الله عنهم.

ومنها : قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) [الأعراف : ١٥٧] أي بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَعَزَّرُوهُ) [الأعراف : ١٥٧] أي وقروه (وَنَصَرُوهُ) [الأعراف : ١٥٧] بذلوا أنفسهم في نصرته وأموالهم (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الأعراف : ١٥٧] وهو القرآن (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف : ١٥٧] أي الفائزون حصر الفلاح فيهم ، فهذه الآيات موجبة لتوقيره وتعظيمه وتبجيله وتعريف قدره عند ربه.

ومنها : قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النّساء : ٨٠] قال عمر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أثناء كلام طويل : «بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عند الله أن جعل الله عزوجل طاعتك طاعته».

وقال جعفر الصادق : معناه من عرفك بالنبوة والرسالة فقد عرفني بالربوبية والألوهية ، وقيل بطاعتك يصل العبد إلى الحق وبمخالفتك يقطع عنه ، وقيل غير ذلك ، ومن أحسنها من ألزم نفسه طاعته وصحح الاقتداء به أوصله إلى مقامات الأنبياء والصديقين والشهداء ، ألا ترى قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ) [النّساء : ٦٩] الآية.

ومنها : وهو أبلغ مما تقدم قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) [الفتح : ١٠] أي يا محمد (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] نفى سبحانه وتعالى الواسطة في المبالغة وقد تنبّه لذلك أرباب المعالي والقلوب العارفون بمراتبه عليه الصلاة والسلام وما وهبه الله تعالى من سني الأوصاف التي لا تليق بغيره ولا يقدر على حملها إلا هو ،

٣٤٨

قالوا : (إن البشرية في نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارية (١) وأضافه دون الحقيقة) وهو كلام حكيم منوّر القلب.

وقال بعضهم : لم يظهر الحق سبحانه وتعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسمة وأشرفها وهو المصطفى فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] ومنها قوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)) [الشّرح : ٤] قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد الأذان والإقامة والتشهد والخطبة على المنابر ، فلو أن عبدا عبد الله وصدقه في كل شيء ولم يشهد أن محمدا رسول الله لم يسمع منه ولم ينتفع بشيء وكان كافرا.

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل جبريل عليه‌السلام عن هذه الآية فقال : «قال الله عزوجل إذا ذكرت ذكر معي» وقال قتادة رضي الله عنه : «رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة» وقيل : رفع ذكره بأخذ الميثاق على النبيين وألزمهم الإيمان به والإقرار به ، وقيل : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)) [الشرح : ٤] ليعرف المذنبون قدر رتبتك لدي ليتوسلوا بك إلي فلا أرد أحدا عن مسألته فأعطيه إياها إما عاجلا وإما آجلا ولا أخيب من توسل بك وإن كان كافرا ، ألا ترى قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] وسيأتي الكلام على هذه الآية ، وقيل غير ذلك.

ولما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة قيل : بكت مكة لفقده بدموع الحرقة على الخد وقالت : وا أسفاه على من أنزل عليه (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١)) [البلد : ١] وهو مكة لحلولك فيه ومن جعل لا أصلية فالمعنى (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١)) [البلد : ١] وأنت حال فيه بل أقسم بك وبحياتك وهذا يدل على علو قدره عند ربه ورفعته التي لم يفز بها غيره.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن جبريل عليه الصلاة والسلام قال : قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر رجلا أفضل من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما من رواية أبي الجوزاء رضي الله عنه : ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ

__________________

(١) قوله عارية وأضافه دون الحقيقة لفظ أضافه بالضمير هو إضافة بالتاء ومعنى هذا الكلام غامض وكأن قائليه يريدون أن يقولوا إن حقيقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملكية وإن كانت صورته بشرية وهو معنى يكون مدحا إن سلّم أن حقيقة الملكية أفضل من حقيقة البشرية وليس لنا قسم آخر يراد إلحاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم به إلا الإلهية ولا يتصور أن يكون مرادا للقائلين فليعلم ، اه مصححه.

٣٤٩

نفسا أكرم على الله من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا رأيت الله عزوجل أقسم بحياة أحد إلا بحياته فقال : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢)) [الحجر : ٧٢] والعمه في البصيرة والعمى في البصر.

وفي رواية عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما المعنى وعيشك يا محمد إنهم لفي سكرتهم يعمهون ، وقال بعضهم : أقسم بحياة محمد لأن حياته كانت به وهو في قبضة الحق وبساط القرب وشرف الانبساط ومقام الاتفاق الذي لا يقوم به غيره فبحياتك يكون القسم فإن الكل زاغوا وما زغت ومالوا وما ملت حتى برأناك ونزلناك منزلة ما نالها غيرك ولا ينالها أحد سواك وقيل المعنى وحياتك التي خصصت بها بين الخلق فحيوا بالأرواح وحييت بنا ولهذا تتمة مهمة ذكرتها في المولد يتعين الوقوف عليها.

وقيل : أقسم الله عزوجل في الأزل بحياته ليظهر شرفه وعلو قدره ودنو منزلته عنده ليتوسل المتوسلون به إليه قبل بروزه إلى الوجود وفي حياته وبعد وفاته وفي عرصات القيامة ولهذا وغيره لم يزل أهل الإيمان يتوسلون به في حياته وبعد وفاته من غير نكير ، وكان أهل الكتاب لهم علم من ذلك فكانوا يتوسلون به قبل وجوده فيستجاب لهم كما قال الله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩].

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كانت أهل خيبر تقاتل غطفان كلما التقوا هزمت غطفان يهود فعاذت يهود بهذا الدعاء : اللهم إنا نسألك بحق النبي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم ، فكانوا إذا التقوا ودعوا بهذا الدعاء هزمت يهود غطفان ويهود غير منصرف للعلمية والتأنيث علم على (١) قبيلة فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفروا به فأنزل الله عزوجل : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] أي يدعون بك يا محمد ، إلى قوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة : ٨٩].

وإذا كان عزوجل يستجيب لأعدائه بالتوسل به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه سبحانه مع علمه عزوجل بأنهم يكفرون به ويؤذونه ولا يتبعون النور الذي أنزل معه قبل وجوده وبروزه إلى الوجود وإرساله رحمة للعالمين فكيف لا يستجيب لأحبائه إذا توسلوا به بعد وجوده عليه الصلاة والسلام وبعثته رحمة للعالمين ، وإذا كان رحمة للعالمين فكيف لا يتوسل ولا يتشفع به.

__________________

(١) هي أمة موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، اه صاحب الفرعية.

٣٥٠

ومن أنكر التوسل به والتشفع به بعد موته وأن حرمته زالت بموته فقد أعلم الناس ونادى على نفسه أنه أسوأ حالا من اليهود الذين يتوسلون به قبل بروزه إلى الوجود وأن في قلبه نزغة هي أخبث النزغات وهذا آدم عليه‌السلام توسل به كما هو مشهور.

ورواه غير واحد من الأئمة منهم الحاكم في مستدركه على الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما اقترف آدم الخطيئة قال يا رب بحق محمد لما (١) غفرت لي فقال الله : يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال : يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسى فرأيت على قوائم العرش مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك ، فقال : يا آدم إنه لأحب الخلق إلي وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولو لا محمد لما خلقتك».

قال الحاكم : صحيح الإسناد (٢). ورواه الطبراني وزاد «وهو آخر الأنبياء من ذريتك» ورواه الحاكم أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بزيادة بلفظ «أوحى الله إلى عيسى يا عيسى آمن بمحمد ومر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولو لا محمد ما خلقت الجنة والنار ، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه لا إله إلا الله محمد رسول الله فسكن».

قال الحاكم في مستدركه : هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه ـ يعني البخاري ومسلم ـ فهذا الإمام الحافظ قد كفانا المئونة وصحح الحديث وقد رواه غير واحد من الحفاظ وأئمة الحديث بألفاظ ، منهم : أبو محمد مكي وأبو الليث السمرقندي وغيرهما أن آدم عليه‌السلام عند اقترافه قال : «اللهم بحق محمد عليك اغفر لي خطيئتي» ويروي نفيل «فقال الله : من أين عرفت محمدا؟ قال : رأيت في كل موضع من الجنة مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله».

__________________

(١) أي إلا ، اه صاحب الفرعية.

(٢) لا التفات بعد هذا التصحيح من الحاكم وهو الحاكم إلى طعن طاعن في هذا الحديث وقد رأينا من يطعن فيه وفي أمثاله من الأحاديث التي يصححها الحاكم وهي دالة على سمو شرفه عليه الصلاة والسلام وعلو منزلته عند ربه كأن هذا الطاعن أوذي ممن يستخفون بشأنه عليه الصلاة والسلام فصدر منه ذلك الطعن طاعة لشعوره وهو لا يشعر أو يشعر وكأن هذه المسألة مسألة عظم حرمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورفعة شأنه ـ موضع خلاف بيننا وبين هؤلاء الناس ونحن لا نسلم هذا الخلاف إلا بعد أن نسمع من هذه الشرذمة أن كلام الله تعالى مطعون في صدقه أيضا فإذا قالوها سكتنا عنهم ويكونون بذلك أراحوا واستراحوا وحسبنا الله ونعم الوكيل ، اه مصححه.

٣٥١

ويروي محمد عبدي ورسولي فعلمت أنه أكرم خلقك عليك فتاب الله عليه وغفر له.

وفي رواية الحافظ الآجري «فقال آدم : لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنه ليس أحد أعظم قدرا عندك ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه وعزتي وجلالي إنه لآخر النبيين من ذريتك ولولاه ما خلقتك» قال : وكان آدم عليه‌السلام يكنى أبا محمد.

بدا مجده من قبل نشأة آدم

وأسماؤه في العرش من قبل تكتب (١)

وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) [الكهف : ٨٢] قال : لوح من ذهب فيه مكتوب عجبا لمن أيقن بالقدر كيف ينصب عجبا لمن أيقن بالنار كيف يضحك عجبا لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضا قال : على باب الجنة مكتوب أني أنا الله لا إله إلا أنا محمد رسول الله لا أعذب من قالها.

وذكر السميطاري أنه شاهد في بعض بلاد خراسان مولودا ولد وعلى جبينه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله وذلك بقلم القدرة وذكر الأخباريون أن ببلاد الهند وردا أحمر مكتوب (٢) عليه بالأبيض لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وفي بعض البوادي حيوان مكتوب على شقه الأيمن لا إله إلا الله وعلى شقه الأيسر محمد رسول الله وذلك بقلم القدرة وهو مرئي ظاهر لكل من له بصر وذكر غير ذلك.

فسيد الأولين والآخرين عظيم عند ربه نوّه بذكره في الأزل وفي الكون العلوي والسفلي ليعلم أنه الفاضل الكامل وأنه أعظم الوسائل.

قال أبو حميد : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له ما لك : لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله عزوجل أدّب أقواما فقال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [الحجرات : ٢] الآية ، ومدح قوما فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) [الحجرات : ٣] الآية ، وذمّ قوما فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤)) [الحجرات : ٤] وإن حرمته

__________________

(١) أي كتبت والتعبير بالمضارع بحكاية الحال الماضية ، اه صاحب الفرعية.

(٢) يتعين نصب لفظ مكتوب لأنه وصف لمنصوب ، اه مصححه.

٣٥٢

ميتا كحرمته حيا فاستكان لها أبو جعفر فقال : يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى يوم القيامة بل استقبله واستشفع به فيشفعك (١) الله عزوجل.

قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النّساء : ٦٤] القصة معروفة مشهورة ذكرها غير واحد من المتقدمين والمتأخرين بأسانيد جيدة ومنهم القاضي عياض في أشهر كتبه وهو الشفاء المشهور بالحسن والإتقان في سائر البلدان ، ومنهم الإمامة العلامة هبة الله في كتابه (توثيق عرى الإيمان) وقد اشتملت هذه القصة على تعظيمه بعد وفاته وأنه حي والتوسل به وحسن الأدب في حقه كما في حياته وأن في الآية الحث على المجيء إليه ليستغفر له ، وليس في الآية تعرض لزمن حياته دون الوفاة وكذا فهم العلماء مالك وغيره كما يأتي إن شاء الله تعالى.

العموم واستحبوا لمن زار قبره المكرم أن يتلو هذه الآية ويستغفر ويتوسل به ويطلب الشفاعة منه ولم نعلم أن أحدا طعن في قصة مالك إلا هذا الفاجر ابن تيمية فإنه لما كان فيها هذه الفضائل طعن فيها وقال إنها مكذوبة فإن هذا شأنه إذا وجد شيئا لا مساس فيه لما ابتدعه قال به وقبله ولم يطعن.

وإذا وجد شيئا على خلاف بدعته طعن فيه وإن اتفق على صحته ولا يذكر شيئا على خلاف هواه وإن اتفق على صحته لا سيما إذا كان آية أو خبرا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو أمكنه أن يطعن في الآية لفعل (٢) إلا أنه تعرض لتخصيصها وهي دعوى مجردة وعلى خلاف ما فهمه العلماء من العموم ووقع العمل عليه فمن ادعى التخصيص بغير دليل سمعي ظاهر الدلالة قطعنا بخطئه واتهمناه واستدللنا بذلك على استنقاصه سيد الأولين والآخرين الكامل المكمل ، وهو كفر بإجماع أهل التوحيد.

__________________

(١) قوله : فيشفعك الله ، السياق يقضي أن يكون فيشفعك فيشفعه لأنه هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشافع ، اه مصححه.

(٢) هذا المبدأ عليه أتباعه المفتونون به إلى اليوم يعرف ذلك منهم من يلتفت لحالهم أدنى التفاتة فالواجب على المسلم أن لا يعتبر تصحيحهم لحديث ولا تضعيفهم فإنهم للهوى يصححون ويضعفون وأحب أن يأخذ القارئ قول الإمام الحصني (ولو أمكنه أن يطعن في الآية لفعل) على ظاهره دون أن يظن فيه أي مبالغة وليطرده في اتباعه كذلك ، اه مصححه.

٣٥٣

وذكر القرطبي في تفسيره عن علي رضي الله عنه أنه قال : قدم علينا أعرابي بعد ما دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحثا على رأسه من ترابه ثم قال : قلت يا رسول الله فسمعنا قولك ووعيت عن الله عزوجل فوعينا عنك وكان فيما أنزل عليك (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) [النّساء : ٦٤] الآية وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي فنودي من القبر قد غفر لك وهذه القصة غير قصة العتبى وقصة العتبى مشهورة في غاية الشهرة وقد ذكرها الأئمة في كتبهم قديما وحديثا وكنية العتبى أبو عبد الرّحمن واسمه محمد بن عبد الله بن عمرو وكان من أفصح الناس وصاحب أخبار وصاحب رواية للآثار. حدّث عن أبيه وعن ابن عيينة وقد ذكر قصته خلائق منهم ابن عساكر في تاريخه وذكرها الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في كتابه (مثير الغرام الساكن) وذكرها غيرهما بالأسانيد.

وممن ذكرها الإمام العلامة المتفق على علمه ودينه وزهده أبو زكريا يحيى بن شرف النووي قدّس الله روحه ونوّر ضريحه قال في زيارة قبره : إنها من أعظم القربات وأفضل المساعي والطلبات وإذا انتهى إلى قبره وقف قبالة وجهه ويتشفع به إلى ربه ومن أحسن ما يقوله ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له.

قال العتبي : كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) [النّساء : ٦٤] وقد جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

قال : فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم فقال : يا عتبى الحق الأعرابي فبشره بأن الله قد غفر له ، وفي رواية غيره : الحق الأعرابي وبشره بأن الله قد غفر له بشفاعتي فخرجت فلم أجده فأفاد النووي قدس الله تعالى روحه أن أصحاب الشافعي استحسنوا ذلك وحكوه عن غيرهم وأفاد شمول الآية للحياة والممات وأنه يستشفع به إلى ربه وساق ذلك مساق ما هو متفق عليه ولم يتعرض لذلك أحد بالإنكار في سائر الأعصار وزدت أنا هذين البيتين لعلي يلحقني نصيب من شفاعته وهما :

وفيه كل خصال الحمد قد جمعت

فلذ به فهو من ترعى له الذمم

وهو الذي يرتجى في كل معضلة

وفي المعاد إذا زلّت بنا القدم

٣٥٤

قصة الراهبين مع أبي عبد الله

وقال السيد الجليل قطاع المفاوز على قدم التوكل أبو عبد الله الفرحي قدّس الله سره ونوّر ضريحه : خرجت مرة أريد الزيارة من طريق المفاوز فوقعت في التيه فكنت فيه أياما حتى أشرفت على الموت فبينا أنا كذلك إذ رأيت راهبين (١) يسيران كأنهما خرجا من مكان قريب يريدان ديرا لهما بالقرب فملت إليهما فقلت : أين تريدان فقالا : لا ندري ، فقلت : من أين أتيتما ، قالا : لا ندري ، قلت : فتدريان أين أنتما؟ قالا : نعم نحن في ملكه وبين يديه ، قال : فأقبلت على نفسي أقول : لها راهبان يتحققان بالتوكل دونك ثم قلت : لهما أتأذنان لي في الصحبة؟ فقالا : ذاك إليك ، قال : فسرنا فلما أمسينا قاما إلى صلاتهما وقمت إلى صلاة المغرب فتيممت وصليت فنظرا إلي وقد تيممت فضحكا مني فلما فرغا من صلاتهما بحث أحدهما بيده فإذا بالماء قد ظهر إذا بطعام موضوع قال : فبقيت أتعجب من ذلك فقالا لي : ادن وكل واشرب ، قال : فأكلنا وتوضأت وقاما فلم يزالا في صلاتهما وأنا في صلاتي حتى أصبحنا فصليت الفجر ثم قاما يسيران فساروا (٢) إلى الليل فلما أمسينا تقدم الآخر فصلّى بصاحبه ثم دعا بدعوات ثم بحث الأرض بيده فنبع الماء وظهر الطعام فقالا لي ادن وكل واشرب ، قال : فأكلنا وشربنا وتوضأت للصلاة ثم نضب الماء وغار حتى لم يبق له أثر فلما كانت الليلة الثالثة قالا لي : يا مسلم الليلة توبتك ، قال : فاستحييت من قولهما وداخلني من ذلك هم شديد ، قال : فقلت في نفسي : اللهم إني أعلم أن ذنوبي لم تدع لي عندك جاها ولكني أسألك وأتوسل إليك بنبيك المكرم عندك إلا تفضحني عندهما ولا تشمت (٣) بنبيك محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فإذا بعين خرّارة وطعام كثير ، قال : فأكلنا وشربنا ولم نزل على حالنا حتى بلغت النوبة الثانية إلى أن قال : فدعوت بمثل ما دعوت أولا وتوسلت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا بطعام اثنين وشراب اثنين دون ما كان ، قال : فتقاصرت إلى نفسي وقصرت عن الأكل وأريتهما أني آكل فسكتا عني ، قال : وسرنا

__________________

(١) هذه القصة فيها خبئ خفي ولعل هذين الراهبين ملكان أو وليان لله تعالى أرسلهما سبحانه وتعالى للشيخ الفرحي لينتقل بحالهما من حاله إلى حال أرفع كما ترى في القصة ، وأما أنهما راهبان حقيقة فهذا ما لا يستطيع العقل فهمه فإنا لا نعرف أن الله تعالى يكرم إلا الصادقين من عباده المؤمنين فكيف يكرم بهذه الكرامة الباهرة التي تضمنتها القصة راهبين كافرين بسيد أنبيائه وهما يعرفانه حق المعرفة كما ترى من كلامهما ، فاعرف ذلك ، اه مصححه.

(٢) قوله : فساروا بالجمع ، هو : فسارا بالتثنية كما هو ظاهر ، اه مصححه.

(٣) أي تشمتهما ، اه مصححه.

٣٥٥

حتى بلغت النوبة الثالثة إلى أن قال : فدعوت بمثل ما دعوت وتوسلت بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوي حالي في أمر صدق توسلي به صلى‌الله‌عليه‌وسلم علمي بأنه وسيلة من قبلي فإذا بطعام اثنين والماء مثل ذلك فغمني ذلك ، قال : فغلبتني عيناي من الهم خوف الشماتة بديننا فإذا بقائل يقول لي : أدركناك بالإيثار الذي خصصنا به محمدا من دون الأنبياء (١) وهي علامته وكرامة أمته من بعد إلى يوم القيامة.

قال : فلما بلغت النوبة الرابعة إلي قالا : بلى يا مسلم ما هذا؟ إنا نرى في طعامك وشرابك نقصا فلم ذلك؟ فقلت لهما : أو لم تعلما أن هذا خصّ الله عزوجل نبيه نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين الأنبياء وخصّ أمته به من بعده إن الله عزوجل يريد لي الإيثار وقد آثرتكما اقتداء بنبي المكرم فقالا : صدقت ، ثم قالا : نشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ، صدقت في قولك هذا ، خلق محمد في كتب الله المنزلة إن الله عزوجل خصّ محمدا وأمته بذلك ، قال : وحسن إسلامهما ، قال : ثم قلت لهما في الجمعة والجماعة فقالا : ذلك واجب ، قلت : نعم فاسألا الله تعالى وادعوا أن يخرجنا من هذا التيه إلى أقرب الأماكن فدعوا ، فبينا نحن نسير إذا نحن ببيوت قد أشرفنا عليها فإذا هي بيت المقدس ، قال : فدخلنا المسجد وأقمنا أياما ثم تجدد لي سفر ففارقتهما وقد ملئ قلبي فرحا بإسلامهما وبصحبة توسلي (٢) بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه غيّاث الصادقين في محبة (٣) السالكين خلفه في صدقه مع ربه وصحة الاعتماد عليه. فانظر أرشدك الله كيف بصدق التوسل به جرى ما جرى من حصول الكرامات من نبع الماء وحصول الطعام والاهتداء لها ، فله عزوجل المنّة على ما أكرمنا به وعلى ما وهب الأولياء من آثار معجزاته.

وقال سفيان الثوري : بينا أنا أطوف بالبيت وإذا أنا برجل لا يرفع قدما ولا يضع أخرى إلا وهو يصلي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا هذا إنك تركت التسبيح والتهليل وأقبلت على الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهل عندك من هذا شيء؟ فقال لي : من أنت؟ قلت : سفيان الثوري ، فقال : لو لا أنك غريب في أهل زمانك لما أخبرتك عن حالي

__________________

(١) أي خصصنا به أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دون أمم الأنبياء وإلا فالأنبياء جميعا أوائل أهل الإيثار صلى الله وسلّم عليهم جميعا ، اه مصححه.

(٢) قوله : وبصحبة توسلي ، صوابه وبصحة توسلي الخ ، اه مصححه.

(٣) قوله : في محبة السالكين ، صوابه في محبته. السالكين ، الخ ، اه مصححه.

٣٥٦

ولما أطلعتك على سري ، ثم قال : خرجت أنا ووالدي حاجين إلى بيت الله الحرام وإلى زيارة سيد الأنام حتى إذا كنا ببعض المنازل مرض والدي فعالجته فمات فلما مات اسودّ وجهه فغلبتني عيناي من الهم فنمت فإذا أنا برجل لم أر أجمل منه ولا أنظف ثوبا ولا أطيب رائحة منه فدنا من والدي وكشف عن وجهه وأمرّ يده عليه فعاد وجهه أبيض ثم ذهب فتعلقت بثوبه وقلت له : يا عبد الله من أنت الذي منّ الله عزوجل علي وعلى والدي بك في دار الغربة لكشف هذه الكربة؟ فقال : أو ما تعرفني أنا محمد بن عبد الله صاحب القرآن ، أما إن والدك كان مسرفا على نفسه ولكنه يكثر الصلاة علي فلما نزل به ما نزل استغاث بي وأنا غيّاث من أكثر الصلاة علي ، قال : فانتبهت فإذا وجه والدي قد ابيضّ. فانظر أرشدك الله عزوجل إلى جلاله وتعظيمه في حياته وبعد وفاته كيف أغاث من استغاث به حتى في البرزخ فهو عليه الصلاة والسلام كما قيل :

غياث لملهوف وغيث لآمل

وعين لظمآن وعون لذي جهد

له فوق إيوان الزمان مراتب

يقصر عنها الأنبياء أول المجد

فموسى وعيسى والخليل ونوحهم

يقولون طه منتهى السئول والقصد

حوى قصبات السبق من قبل آدم

وكهلا وأيام الطفولة في المهد

به طيبة طابت ولا غرو قد حوت

طبيب قلوب الخلق من مرض الجحد

فلولاه ما اشتاقت قلوب نفيسة

إلى الشيخ من أرض الحجاز ولا الرند

ولا ذكرت سلع ونعمان والنقا

ولا استعذبت من شدة الوجد للوجد

فسبحان من قرّبه وبجّله وعظّمه ومنحه وتوجه خلع الفضائل وجعله أعظم ما يتوجه به إليه وأعظم الوسائل.

روى الترمذي من حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه أن رجلا ضرير البصر جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ادع لي أن يعافيني الله ، فقال : «إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك» قال : فادعه ، فأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء «اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم شفعه في» قال الترمذي : حديث حسن صحيح ورواه النسائي بنحوه ورواه البيهقي وزاد محمد بن يونس في روايته فقام وقد أبصر ، وفي رواية شعبة ففعل فبرئ ، وفي رواية : يا محمد إني توجهت بك إلى ربي فتجلى عن بصري ، اللهم شفعه في وشفعني في نفسي ، قال

٣٥٧

عثمان رضي الله عنه : فو الله ما انصرفنا ولا طال الحديث حتى جاء الرجل كأنه لم يكن به ضر (١). فهذا حديث صحيح صريح في التوسل والاستجابة وليس فيه أنه فعل ذلك في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس فيه التقييد بزمن حياته ولا أنه خاص بذلك الرجل بل إطلاقه عليه الصلاة والسلام يدل على أن هذا التوسل مستمر بعد وفاته شفقة عليهم لأنه بهم رءوف رحيم ، ولاحتياجهم إلى ذلك في حاجاتهم ، ويدل على ذلك أن عثمان بن حنيف راوي الحديث هو وغيره فهموا التعميم ولهذا استعمله هو وغيره بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمة عثمان بن حنيف رضي الله عنه ذكره في أول الجزء الخمسين من مسنده أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له فكان عثمان لا ينظر في حاجته ، فلقي الرجل عثمان بن حنيف وشكا (٢) إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف رضي الله عنه : ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصلّ ركعتين ثم قل : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي فتقضي (٣) حاجتك وتذكر حاجتك ، ورح حتى أرواح معك ، فذهب الرجل وفعل ما قاله عثمان بن حنيف له ثم إن الرجل أتى إلى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء البواب فأخذ بيده حتى أدخله إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه فأجلسه معه على الطنفسة فقال : حاجتك ، فأعلمه بها فقضاها له ، وقال : ما ذكرت حاجتك إلا الساعة ، ثم قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما كان لك من حاجة فاذكرها ، ثم إن الرجل خرج من عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فلقي عثمان بن حنيف رضي الله عنه فقال له : جزاك الله خيرا أما إنه ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلى حتى كلمته في ، فقال عثمان بن حنيف رضي الله عنه : ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه ضرير فشكى إليه ذهاب بصره فقال له عليه الصلاة والسلام : «أو تصبر؟» فقال : يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق عليّ ، فقال عليه الصلاة والسلام : «ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات» قال عثمان بن حنيف : فو الله ما انصرفنا ولا طال الزمان حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. ورواه البيهقي بإسناده من طريقين فهذا من

__________________

(١) وفي رواية أنه قال عليه الصلاة والسلام : «وإن كان لك حاجة» فمثل ذلك ، اه مستنسخ النسخة.

(٢) قوله وشكى يرسم شكا بالألف ، اه مصححه.

(٣) قوله : فتقضي حاجتك ، ليس بظاهر معناه وقد راجعت الأصل فرأيت النص فتقضى حاجتي وتذكر حاجتك ، الخ وبه يتضح المعنى ، اه مصححه.

٣٥٨

أوضح الأدلة على الاحتجاج بالتوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته كحياته كفعل (١) عثمان راوي الحديث ولفعل غيره في حياته وبعد وفاته وهم أعلم بالله عزوجل وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غيرهم وإليهم ترجع الأمور في القضايا التي شاهدوها في زمنه وأخذوها عنهم رضي الله عنه (٢) ومن عدل عن ذلك فقد أفهم عن نفسه أن عنده ضغينة لهم وهذا من الواضحات الجليات التي لا ينكرها إلا صاحب دسيسة أعاذنا الله تعالى من ذلك.

وقال القاضي عياض في أشهر كتبه المتداولة بين الناس وهو (الشفاء) الفصل الثاني في حرمته بعد وفاته : وأما حرمته (٣) النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وفاته وتوقيره وتعظيمه فهو لازم كما كان في حياته وذلك عند ذكره عليه الصلاة والسلام وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وتعظيم أهل بيته وصحابته واجب على كل مؤمن متى ذكر عنده أن يخضع ويخشع ويتوقر ويسكن من حركته فيأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ بعينه (٤) لو كان بين يديه ويتأدب بما أدّبنا الله عزوجل به.

وقال ابن حبيب : إذا دخلت مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلّ ركعتين بين الروضة والمنبر ثم اقصد القبر من تجاه القبلة وادن منه ثم سلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأثن عليه وعليك السكينة والوقار فإنه عليه الصلاة والسلام مسلم (٥) ويعلم وقوفك بين يديه وكذا قاله غيره من الأئمة.

قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي : (أما زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فأحضر قلبك لتعظيمه ولهيبته وأحضر عظيم رتبته في قلبك واعلم أنه عالم بحضورك وتسليمك) وهذا الذي قالاه معروف مشهور لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يغضون أصواتهم في مسجده تعظيما له وتوقيرا.

وفي البخاري أن عمر رضي الله عنه قال لرجلين من أهل الطائف : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت عائشة رضي الله عنها إذا سمعت دق الوتد أو المسمار يضرب في بعض الدور المطنبة لمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترسل إليهم لا تؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) الكاف في قوله كفعل لام ، اه مصححه.

(٢) قوله : وأخذوها عنهم رضي الله عنه تؤخر فيه عنهم وتقدم عنه كما هو ظاهر ، اه مصححه.

(٣) الصواب وحرمة ويحذف الضمير ، اه مصححه.

(٤) قوله بما كان يأخذ بعينه عبارة الشفاء بما كان يأخذ به نفسه الخ ، اه مصححه.

(٥) قوله مسلم بتشديد اللام أي راد عليك السلام الذي تسلمه عليه ، اه مصححه.

٣٥٩

وروي أن عليا رضي الله عنه لما عمل مصراعي داره ما عملهما إلا بالمناصع توقيا لذلك ، والآثار بمثل ذلك كثيرة جدا ، وكذا الأخبار بعرض الصلاة عليه وكذا برد (١) روحه الشريفة العظيمة الكريمة على الله عزوجل ، وإذا ثبت ردها ثبتت حياته وإذا ثبتت حياته وجب القطع بصحة التوسل به.

في ابن ماجه من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أكثروا عليّ من الصلاة يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لن يصلي علي إلا عرضت علي صلاته حتى يفر منها. قال : قلت : يا رسول الله وبعد الموت؟ قال : «وبعد الموت فإن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق».

وقال عليه الصلاة والسلام : «إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام» رواه النسائي وكذا الحاكم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وصحح : وقال عليه الصلاة والسلام : «ليس أحد يسلم علي إلا ردّ الله علي روحي حتى أرد عليه‌السلام» رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد جيد قال البيهقي : معنى قوله : إلا رد الله عليه روحه ، إلا وقد ردّ الله عليه روحه لأجل سلام من سلّم عليه واستمرت في جسده لأنه لا يبلى ولا تفتر صلاة المصلين عليه ولا سلام المسلّمين عليه من الثقلين وغيرهم.

وقال عليه الصلاة والسلام : «لا تجعلوا قبري عيدا وصلّوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما (٢) كنتم» رواه أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح ، والأحاديث في ذلك كثيرة.

وقال كعب الأحبار : ما من فجر يطلع إلا أنزل الله سبعين ألفا من الملائكة حتى يحفوا بالقبر الشريف يضربون بأجنحتهم ويصلّون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط مثلهم وصنعوا مثل ذلك حتى إذا انشقت الأرض خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سبعين ألفا من الملائكة يوقرونه.

__________________

(١) سيأتي للمصنف شرح الحديث الوارد بذلك وتوضيحه أن الوجود لا يخلو لحظة من مسلم عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو دائما يرد السلام فهو دائما مردودة عليه روحه فهو دائما حي وشرح الحديث بأن جملة رد الخ حالية تحل إشكال الحديث كذلك وهناك أحاديث أخرى كثيرة تدل على حياة الأنبياء في البرزخ بلا قيد ولا شرط وهو أمر مجمع عليه بين علماء الأمة فليعلم ، اه مصححه.

(٢) توصل حيث بما ، اه مصححه.

٣٦٠