العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

قال العالم رحمه‌الله : نعم قد يحب الولد والده وربما عصاه ، وهذا المؤمن : الله أحب إليه مما سواه وإن عصاه ، وإنما يعصيه لأنّ الشهوة ظاهرة غالبة ، وإنما تغلب عليه الشهوات فإنه ربما كان الرجل عاملا لسلطان فينزع عن عمله فيعذب بأنواع من العذاب ثم إذا ترك رجع إلى عمله إن قدر عليه ، والمرأة تلقى ما تلقى في نفسها ثم إذا قامت طلبت الولد.

قال المتعلم : قلت ما يعرف من غلبة الشهوة لأنه كم من عابد صرعته الشهوة وآدم وداود عليهما‌السلام منهم (١) ولكن أخبرني عن هذا المؤمن أيركب المعصية وهو يعلم أنه يعذب عليها؟.

قال العالم رحمه‌الله : ما يركبها وهو يعلم أنه يعذب عليها لكنه يركبها لخصلتين أما إحداهما فإنه يرجو المغفرة ، وأما الأخرى فإنه يأمل التوبة قبل المرض والموت. قال المتعلم : أو يقدم الرجل على ما يخاف أن يعذب عليه؟

قال العالم رحمه‌الله : نعم ربما يقدم الرجل على ما يخاف أن يضره من طعام أو شراب أو قتال أو ركوب بحر ، ولو لا ما يرجوه من النجاة من الغرق إذا ركب البحر ، والظفر إذا قاتل ما أقدم على القتال ولا ركب البحر.

قال المتعلم : قد صدقت لأني أعرف من نفسي أني ربما أكلت الطعام يؤذيني فإذا فرغت ندمت ووطنت نفسي على أن لا أعود إليه. فإذا رأيته لم أصبر عنه ، ولكن أخبرني عن الكفر ، فإنّ الكفر له اسم وله تفسير.

قال العالم رحمه‌الله : إن الكفر له اسم وله تفسير وتفسيره الإنكار والجحود والتكذيب. وذلك أن الكفر بالعربية ، والعرب وضعوا اسم الكفر على الإنكار ، والله تعالى إنما أنزل الكتاب بلسان عربي ، ومثل ذلك أنه إذا كان للرجل على آخر دراهم وقد حلّت فتقاضاها فإن أقرّ بالحق ولم يقضه قال صاحبه ماطلني ولا يقول كافرني ، وإن هو أنكرها وجحدها قال كافرني ولم يقل ماطلني ، وكذلك المؤمن إذا ترك فريضة من غير أن يكفر بها سمي مسيئا ؛ وإن تركها كفرا بها سمي كافرا جاحدا بفرائض الله تعالى.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذا عدل معروف أن يسمى الرجل جاحدا بما يجحد ومصدقا بما يصدق ، ومسيئا بما يسيء ، ومحسنا بما يحسن. ولكن أخبرني عمن يصف التوحيد غير أنه يقول أنا كافر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) هكذا في الأصل ولو كان المتعلم أرعى للأدب لكان أنسب (ز).

٥٨١

قال العالم رضي الله عنه : هذا لا يكون (١) وإن كان سميناه كافرا بالله كاذبا بما يقول أنه يعرف الله تعالى ويستدل على كفره بالله بكفره بمحمد لأن من كفر بالله كفر بمحمد. وليس من قبل كفره بمحمد كفره بالله كما أن النصارى من كفرهم بالواحد الذي ليس له ولد زعموا أن الله تعالى ثالث ثلاثة. وكذلك اليهود من كفرهم بالغني الذي لا يفتقر والجواد الذي لا يبخل والرب الذي ليس له ولد والملك الذي ليس له شبيه زعموا أنّ الله فقير ويد الله مغلولة وعزير ابن الله والله تعالى على مثال صورة ابن آدم ؛ وكذلك الذين اتخذوا النيران وسجدوا للشمس والقمر. وقد قال الله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) [العنكبوت : ٤٧] وقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥)) [النّساء : ٦٥] فمن زعم أنه يعرف الله ويكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم استدللنا على إنكاره للرب بكفره بمحمد. ومثل ذلك لو أن رجلا زعم أنه يطيق أن يحمل عشرين قفيزا. ونحن نراه يعجز عن حمل القفيزين عرفنا أنه إذا عجز عن حمل القفيزين فهو في العشرين أعجز ومثل هذا لو أن رجلا قال : إني أعرف أن الله تعالى حق غير أني لا أقر بأن هذا الإنسان مخلوقه لعرفنا أنه كاذب فيما يزعم لأنه لو كان يعرف الله لعرف أن كل شيء سواه مخلوقه. ومثل ذلك رجل بحضرته السراج ونار ضخمة وهما عنده بمنزلة واحدة في الدنو فزعم أنه يبصر السراج ولا يبصر النار المشتعلة في الحطب الضخم لعرفت أنه كاذب لأنه لو كان يبصر السراج لكان لتلك النار الضخمة أبصر.

قال المتعلم رحمه‌الله : قد فرجت عني ولكن أخبرني عمن يزعم لرسول الله أنا أعرف أنك رسول الله ولكن أشتهي أن أقتلك.

قال العالم رضي الله عنه : هذه من مسائل المتعنتين. وهذا محال لو كان يعرف أنه رسول الله لم يشته قتله ولا موته ولا أذاه. ومثل ذلك كالرجل الذي يزعم لآخر أنك أحب إلي من جميع الناس. ولكن أشتهي أن أقتلك بيدي وآكل لحمك. وليس أحد من الناس يزعم أنه يوحد الله تعالى ويؤمن بمحمد ويتناول رسول الله بمنقصة كأن يزعم أنه كان أعرابيا وكان فقيرا يريد به عيبه وانتقاصه فلو كان يعرف الله ويعرف أن محمدا رسوله لكان الله ورسوله أجل في عينيه من أن يتناول رسوله بذكر شيء يريد به عيبه وانتقاصه. وقد قال الله عزوجل في تعظيم منزلة الرسول : (مَنْ يُطِعِ

__________________

(١) يعني هذا لا يقع ، وإن وقع سميناه كافرا (ز).

٥٨٢

الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النّساء : ٨٠] لأنه جعل الرسول قائدا لجميع خلقه من الجنّ. والإنس. وأمينا على فرائضه وسننه. ولذلك قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧].

قال المتعلم رحمه‌الله : لقد أتيتني بالنور فنوّر الله طريقك يوم القيامة ولكن أخبرني عمن يزعم أنه يعرف الله ويقول أنا أشتهي أن أزعم أن لله ولدا.

قال العالم رضي الله عنه : سبحان الله فهل كان هذا وذا إلا واحدا. هذا رأسا ما سألت من قبل من مسائل المتعنتين. ولكن كيف تقول في ميت إنه يحتلم فكم لا يكون ميت يحتلم. فكذلك لا يكون موحد يشتهي أن يقول لله ولد.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذا لعمري كما قلت إنه من مسائل المتعنتين. وهذا محال من الكلام. ولكن أخبرني عن النفاق اليوم. أليس هو النفاق الأول والكفر اليوم هو الكفر الأول. وكيف النفاق الأول؟.

قال العالم رضي الله عنه : نعم النفاق اليوم هو النفاق الأول والكفر اليوم هو الكفر الأول. كما أن الإسلام اليوم هو الإسلام الأول. فأخبرك عن ذلك النفاق الأول إنما كان التكذيب والجحود بالقلب وإظهار التصديق والإقرار باللسان. وكذلك هو اليوم فيمن كان وقد نعتهم عزوجل في كتابه فقال : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ١] فقال الله عزوجل ردا عليهم وتكذيبا لهم : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) [المنافقون : ١] وليس تكذيبهم بأن ما قالوا كذب. ولكن إنما كذبهم بأنهم ليسوا في الإقرار والتصديق كما يظهرون بألسنتهم.

وفيهم قال الله عزوجل : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤)) [البقرة : ١٤] أي بمحمد وأصحابه بما نظهر لهم بألسنتنا من الإقرار والتصديق.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذا لعمري عدل معروف ولكن أخبرني من أين سمى الله الناس مؤمنين وكفارا. ومن أين نحن نسميهم مؤمنين وكفارا؟.

قال العالم رضي الله عنه : سماهم مؤمنين وكفارا بما في القلوب لأنه تعالى يعلم ما في القلوب ، ونحن نسميهم مؤمنين وكفارا بما يظهر لنا من ألسنتهم من التصديق والتكذيب والزي والعبادة ، وذلك بأنا لو انتهينا إلى قوم لا نعرفهم غير أنهم في المساجد ، مستقبلين إلى القبلة يصلون سميناهم مؤمنين ، وسلمنا عليهم وعسى أن

٥٨٣

يكونوا يهودا أو نصارى ، وكذلك كان المنافقون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان المسلمون يسمونهم مؤمنين بما يظهرون لهم من الإقرار ، وهم عند الله كفار بما في القلوب من التكذيب ، فمن هاهنا أنا نسمي أناسا مؤمنين بما يظهر لنا منهم ، وعسى أن يكونوا عند الله كفارا ، وآخرين نسميهم كفارا بما يظهرون لنا من زي الكفار من غير أن يكون فيهم شيء من زي المؤمنين وعسى أن يكونوا عند الله تعالى مؤمنين من قبل إيمانهم بالله ، ويصلون من غير أن نعلم ذلك منهم. فلا يؤاخذنا الله سبحانه وتعالى بذلك ؛ لأنه لم يكلفنا علم القلوب والسرائر ، وإنما كلفنا ربنا أن نسمي الناس مؤمنين ونحبهم ونبغضهم على ما يظهر لنا منهم ، والله أعلم بالسرائر ، وهكذا أمر الكرام الكاتبين أن يكتبوا ما يظهر لهم من الناس ، وليسوا من القلوب بسبيل لأن ما في القلوب لا يعلمه أحد إلا الله أو رسول يوحى إليه فمن ادعى علم ما في القلوب بغير وحي فقد ادعى علم رب العالمين ، ومن زعم أنه يعلم بما في القلوب وغير القلوب ما يعلم رب العالمين فقد أتى بعظيمة واستوجب النار والكفر.

قال المتعلم رحمه‌الله : قد وصفت العدل. ولكن أخبرني من أين جاء أصل الإرجاء وما تفسيره ومن الذي يؤخر ويرجأ أمره؟.

قال العالم رضي الله عنه : جاء أصل الإرجاء من قبل الملائكة حيث عرض الله عليهم الأسماء ثم قال لهم : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) [البقرة : ٣١] فخافت الملائكة الخطأ إن تكلموا بغير علم تعسفا فوقفت وقالت : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) [البقرة : ٣٢] ولم يبتدعوا. كالرجل الذي يسأل عن الأمر الذي هو به جاهل ، فيتكلم فيه ولا يبالي ، فإن لم يصب فهو مخطئ ، وإن أصاب فهو غير محمود ، لأنه قال تعسفا بغير علم. ولذلك قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦]. أي لا تقل ما لم تعلمه يقينا وقال : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) [الإسراء : ٣٦]. فلم يرخص لرسوله أن يتكلم أو يعادي أو يقذف إنسانا بالبهتان بالظن من غير يقين. فكيف يصنع أناس يعادون ويعيبون آخرين ، بالظن من غير يقين ، وتفسير الوقوف أنه إذا سئلت عن أمر لا تعلمه من حرام أو حلال أو أنباء من كان قبلنا قلت : الله أعلم به. إذا جاء ثلاثة نفر بحديث لا نعلمه ولا نطيق علم ذلك بالتجارب والمقاييس ترد علم ذلك إلى الله تعالى وتقف. ومن تفسير الإرجاء أنه إذا كنت في قوم على أمر حسن جميل وفارقتهم على ذلك ثم بلغك أنهم صاروا فريقين يقاتل بعضهم بعضا فانتهيت إليهم ، وهم على الأصل الذي فارقتهم عليه وقتل بعضهم بعضا فتسألهم فيقول كل واحد من الفريقين إنه هو المظلوم ، وليس

٥٨٤

عليهم ولا لهم شهود من غيرهم ، وقد ترى القتل بينهم وليس المظلوم والظالم منهم يبين ، وهما خصمان لا تجوز شهادة بعضهم على بعض فينبغي لك أن تعلم أنهما ليسا كلاهما بمصيبين ، وقد قتل بعضهم بعضا ، فإما أن يكونا مخطئين أو أحدهما مخطئ والآخر مصيب ، ومن الإرجاء أن ترجئ أهل الذنوب ولا تقول إنهم من أهل النار أو من أهل الجنة فإنّ الناس عندنا على ثلاثة منازل : الأنبياء من أهل الجنة ومن قالت الأنبياء إنه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة ، والمنزلة الأخرى للمشركين نشهد عليهم أنهم من أهل النار ، والمنزلة الثالثة للموحدين نقف عليهم فلا نشهد أنهم من أهل النار ولا من أهل الجنة ، ولكنا نرجو لهم ونخاف عليهم ونقول كما قال الله تعالى : (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) [التّوبة : ١٠٢] فنرجو لهم لأن الله تعالى قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النّساء : ٤٨] ونخاف عليهم بذنوبهم وخطاياهم.

قال المتعلم رحمه‌الله : ما أعدل هذا القول وأبينه وأقربه من الحق ولكن أخبرني هل أحد من الناس توجب له الجنة إن رأيته صوّاما قوّاما غير الأنبياء صلوات الله على نبينا وعليهم ومن قالت له الأنبياء؟.

قال العالم رضي الله عنه : لا أوجب الجنة إلا لمن أوجبه النص ، وكذلك النار.

قال المتعلم رحمه‌الله : فما قولك في أناس رووا : (إن المؤمن إذا زنى خلع الإيمان من رأسه كما يخلع القميص ثم إذا تاب أعيد إليه إيمانه (١) أتشك في قولهم أو تصدقهم. فإن صدقت قولهم دخلت في قول الخوارج وإن شككت في قولهم شككت

__________________

(١) أخرجه الحاكم بلفظ قريب من هذا لكن في سنده عبد الله بن الوليد التجيبي وقد ضعفه الدار قطني وقال لا يعتبر بحديثه ، وليّنه ابن حجر ، ولم يدرك ابن حجيرة الكبير ففيه انقطاع ، ولم يشر إلى ذلك الذهبي ، وليس التجيبي ولا ابن حجيرة الصغير بشاميين كما توهم الحاكم على أن حديث أبي ذر «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق» وحديث عبادة في المبايعة. وآخره «... ومن فعل شيئا من ذلك ـ أي الزنى والسرقة ـ فعوقب به في الدنيا فهو كفارة ومن لم يعاقب فهو إلى الله إن شاء عفا وإن شاء عذّبه) في غاية الصحة فلا يناهضهما حديث الحاكم وأما حديث «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» عن أبي هريرة فمؤول عند الجمهور لمخالفة ظاهر معناه للإجماع والكتاب والسنة على ما في فتح الباري (١٢ ـ ٤٧) على أن في سنده يحيى بن عبد الله بن بكير وهو ممن لا يحتج به أبو حاتم وقد ضعفه النسائي فلا يناهض ما سبق بل أنكر بعض أهل العلم من السلف أن يكون صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاله كما حكى ابن حجر رواية عن ابن جرير الطبري. وأما حديث عكرمة فحديث خارجي فلا يقبل فيما يؤيد به مذهبه (ز).

٥٨٥

في أمر الخوارج ، ورجعت عن العدل الذي وصفت وإن كذبت قولهم قالوا أنت تكذب بقول نبي الله عليه الصلاة والسلام فإنهم رووا ذلك عن رجال حتى ينتهي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.

قال العالم رضي الله عنه : أكذب هؤلاء ولا يكون تكذيبي لهؤلاء ردي عليهم تكذيبا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إنما يكون التكذيب لقول النبي عليه‌السلام أن يقول الرجل أنا مكذب لقول نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأما إذا قال الرجل : أنا مؤمن بكلّ شيء تكلم به النبي عليه الصلاة والسلام غير أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يتكلم بالجور ولم يخالف القرآن ، فإن هذا القول منه هو التصديق بالنبي وبالقرآن وتنزيه له من الخلاف على القرآن ، ولو خالف النبي القرآن ، وتقول على الله غير الحق لم يدعه الله حتى يأخذه باليمين ، ويقطع منه الوتين ، كما قال الله عزوجل في القرآن : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧)) [الحاقّة : ٤٤ ـ ٤٧] ونبي الله لا يخالف كتاب الله تعالى ، ومخالف كتاب الله لا يكون نبي الله.

وهذا الذي رووه خلاف القرآن (١) لأنه قال الله تعالى في القرآن : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) [النّور : ٢] ولم ينف عنهما اسم الإيمان. وقال الله تعالى : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) [النّساء : ١٦]. فقوله منكم لم يعن به اليهود ولا النصارى وإنما عنى به المسلمين. فرد كل رجل يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف القرآن ليس ردا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تكذيبا له. ولكن رد على من يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالباطل. والتهمة دخلت عليه ليس على نبي الله عليه‌السلام وكذلك كل شيء تكلم به نبي الله عليه الصلاة والسلام سمعناه أو لم نسمعه فعلى الرأس والعينين. قد آمنا به ونشهد أنه كما قال نبي الله. ونشهد أيضا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لم يأمر بشيء نهى الله عنه ، ولم يقطع شيئا وصله الله. ولا وصف أمرا وصف الله ذلك الأمر بغير ما وصف به النبيّ. ونشهد أنه كان موافقا لله في جميع الأمور. لم يبتدع ولم يتقول على الله غير ما قال تعالى ولا كان من المتكلفين. ولذا قال الله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النّساء : ٨٠].

__________________

(١) قال الخطيب في (الفقيه والمتفقه) : إذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رد بأمور. أحدها أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول وأما خلاف العقول فلا. والثاني أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ والثالث ... (ز).

٥٨٦

قال المتعلم رحمه‌الله : لحسن ما فسرت. ولكن أخبرني عمن يزعم أن شارب الخمر لا يقبل منه صلاة أربعين ليلة أو أربعين يوما. وبيّن لي ما هذا الذي يبطل الحسنات ويهدمها؟.

قال العالم رضي الله عنه : إني لست أدري تفسير الذي يقولون إنّ الله لا يقبل من شارب الخمر صلاة أربعين ليلة أو يوما ، فلست أكذبهم ما داموا لا يفسرونه تفسيرا لا نعرفه مخالفا للعدل. لأنا قد نعرف أن من عدل الله أن يأخذ العبد بما ركب من الذنب أو يعفو عنه. ولا يأخذه بما لم يرتكب من الذنب ، وأن يحسب له ما أدى إليه من الفرائض ويكتب عليه ذنبه. ومثل ذلك لو أن رجلا أدّى من زكاة ماله خمسين درهما. وقد كان عليه أكثر من ذلك فإنما يؤاخذه الله بما لم يؤد ويحسب له ما قد أدى. وكذلك إذا صام وصلّى وحجّ وقتل فإنه يحسب له حسناته ويكتب عليه سيئاته ولذلك قال الله عزوجل : (لَها ما كَسَبَتْ) [البقرة : ١٣٤] يعني من الخبر (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] يعني من الشر. وقال : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [آل عمران : ١٩٥] وقال : (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) [الكهف : ٣٠] وقال : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس : ٥٤] وقال : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الطّور : ١٦] وقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزّلزلة : ٧ ، ٨] وقال : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣)) [القمر : ٥٣]. فهو تبارك وتعالى يكتب الصغير من الحسنات والسيئات ، وقال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)) [الأنبياء : ٤٧]. فمن قال لا ، بهذا القول فإنه يصف الله تبارك وتعالى بالجور وقد أمن الله الناس من الظلم حيث قال : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [الأنبياء : ٤٧](وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس : ٥٤] وقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) [الزّلزلة : ٧ ، ٨] ، وقد سمّى نفسه شكورا لأنه يشكر الحسنة. وهو أرحم الراحمين. وأما الحسنات فإنه لا يهدمها شيء غير ثلاث خصال. أما الواحد فالشرك بالله لأن الله تعالى قال : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [المائدة : ٥] والأخرى أن يعمل الإنسان فيعتق نسما أو يصل رحما أو يتصدق بمال يريد بهذا كله وجه الله. ثم إذا غضب أو قال في غير الغضب امتنانا على صاحبه الذي كان المعروف منه إليه : ألم أعتق رقبتك؟ أو يقول لمن وصله : ألم أصلك؟ وفي أشباه هذا يضرب به على رأسه. ولذلك قال الله عزوجل : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] والثالثة ما

٥٨٧

كان من عمل يرائي به الناس فإن ذلك العمل الصالح الذي راءى به لا يتقبله الله منه فما كان سوى هذا من السيئات فإنه لا يهدم الحسنات.

قال المتعلم رحمه‌الله : لقد وصفت الذي هو العدل ولكن أخبرني عمن يشهد عليك بالكفر ما شهادتك عليه؟

فقال العالم رضي الله عنه : شهادتي عليه أنه كاذب : ولا أسميه بذلك كافرا ؛ ولكن أسميه كاذبا ؛ لأن الحرمة حرمتان حرمة تنتهك من الله تعالى ؛ وحرمة تنتهك من عبيد الله سبحانه : فالحرمة التي تنتهك من الله عزوجل هي الإشراك بالله والتكذيب والكفر ؛ والحرمة التي تنتهك من عبيد الله ؛ فذلك ما يكون بينهم من المظالم. ولا ينبغي أن يكون الذي يكذب على الله وعلى رسوله كالذي يكذب عليّ لأن الذي يكذب على الله وعلى رسوله ذنبه أعظم من أن لو كذب على جميع الناس ، فالذي شهد علي بالكفر ، فهو عندي كاذب ، ولا يحل لي أن أكذب عليه لكذبه علي ؛ لأن الله تعالى قال : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] قال لا يحملنكم عداوة قوم أن تتركوا العدل فيهم.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذه صفة معروفة ولكن كيف تقول في رجل يشهد على نفسه بالكفر؟.

قال العالم رضي الله عنه : إني أقول ليس ينبغي لي أن أحقق كذبه على نفسه وذلك لأنه لو قال لنفسه إنه حمار لا ينبغي لي أن أقول صدق غير أنه إن قال : إنه بريء من الله أو قال : لا أومن بالله ولا برسوله سميته كافرا وإن سمّى نفسه مؤمنا.

وكذلك إذا وحّد الله وآمن بما جاء من عند الله سميته مؤمنا وإن سمّى نفسه كافرا.

قال المتعلم رحمه‌الله : أراك فيه أحسن قولا منه في نفسه. وأنت أحق بذلك ولكن أخبرني أرأيت إن قال لي : إني بريء من دينك أو مما تعبد؟.

قال العالم رضي الله عنه : إن قال لي هذا لم أعجل ولكني أسأله عند ذلك أتبرأ من دين الله؟ أو تبرأ من الله فأي القولين قاله سميته كافرا مشركا. فإن قال : لا أبرأ من الله ولا أبرأ من دين الله ولكن أبرأ من دينك لأن دينك هو الكفر بالله وأبرأ مما تعبد لأنك تعبد الشيطان. فإني لا أسميه كافرا. لأنه إنما يكذب علي.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذا لعمري هو قول أهل الورع والتثبت. ولكن أخبرني أليس من أطاع الشيطان وطلب مرضاته فهو كافر وعابد الشيطان؟.

٥٨٨

قال العالم رضي الله عنه : أو علمت ما أردت بهذه المسألة أن المؤمن إذا عصى الله تعالى ليس يكون بمعصيته تلك مطيعا للشيطان طالبا لمرضاته يتعمد ذلك وإن وافق عمله للشيطان طاعة ورضا.

قال المتعلم رحمه‌الله : أخبرني عن العبادة ما تفسيرها؟

قال العالم رضي الله عنه : اسم العبادة اسم جامع يجتمع فيه الطاعة والرغبة والإقرار بالربوبية. وذلك أنه إذا أطاع الله العبد في الإيمان به دخل عليه الرجاء والخوف من الله فإذا دخل عليه هذه الخصال الثلاث فقد عبده ولا يكون مؤمنا بغير رجاء ولا خوف ولكنه رب مؤمن يكون خوفه من الله أشد وآخر يكون خوفه أقل. وكذلك من أطاع أحدا رجاء ثوابه أو مخافة عقابه من دون الله فقد عبده. ولو كان العمل بالطاعة وحدها في كل شيء عبادة لكان كل من أطاع غير الله تعالى فقد عبده.

قال المتعلم رحمه‌الله : ما أحسن ما قلت ولكن أخبرني أرأيت من خاف شيئا أو رجا منفعة شيء هل يدخل عليه الكفر؟.

قال العالم رضي الله عنه : الخوف والرجاء على منزلتين وإحدى المنزلتين من كان يرجو أحدا أو يخافه يرى أنه يملك له من دون الله ضرا أو نفعا فهو كافر. والمنزلة الأخرى من كان يرجو أحدا أو يخافه لرجائه الخير أو مخافة البلاء من الله تعالى عسى الله أن ينزل به على يدي آخر أو من سبب شيء فإن هذا لا يكون كافرا لأن الوالد يرجو ولده أن ينفعه ويرجو الرجل دابته أن تحمل له. ويرجو جاره أن يحسن إليه ويرجو السلطان أن يدفع عنه ، فلا يدخل عليه الكفر. لأنه إنما رجاؤه من الله عسى أن يرزقه من ولده أو من جاره ويشرب الدواء عسى الله أن ينفعه به فلا يكون كافرا ، وقد يخاف الشر ويفر منه مخافة أن يبتليه الله به. والقياس في ذلك موسى عليه الصلاة والسلام الذي اصطفاه الله تعالى برسالته وخصه بكلامه إياه حيث لم يجعل بينه وبين موسى رسولا قال : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشّعراء : ١٤] وسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث فرّ إلى الغار فلم يدخل عليهم الكفر. وكذلك أيضا يخاف الرجل من السبع أو الحية أو العقرب أو هدم بيت أو سيل أو أذى طعام يأكله ، أو شراب يشربه ، فلا يدخل عليه الكفر ولا الشك ولكن إنما يدخل الجبن.

قال المتعلم رحمه‌الله : لقد قلت ما نعرف ، ولكن أخبرني عن المؤمن ما شأنه يهاب هذا المخلوق ما لا يهاب الله؟.

٥٨٩

قال العالم رضي الله عنه : ليس شيء أهيب إلى المؤمن من الله ، وذلك لأنه ينزل به المرض الشديد في جسمه أو تنزل به المصيبة الموجعة من الله تعالى ، فلا يقول في سر وعلانية بئس ما صنعت يا رب ، ولا يحدث نفسه بذلك ولا يزداد له إلا ذكرا ، ولو نزل عشر عشير ذلك ، من بعض ملوك الدنيا لتناوله وجوّره بقلبه ولسانه عند أهل ثقته ، حيث لا يسمع ذلك الملك كلامه ، فالمؤمن يراقب الله تعالى في السر والعلانية وفي الحر والبرد ، وملوك الدنيا لا يراقبون في السر والعلانية ، ولا في الكره والرضا ، ولأنه ربما أصابته الجنابة في ليلة باردة فهو يقوم على كره منه حيث لا يعلم أحد ما نزل به غير الله تعالى فيغتسل مخافة من الله أو يصوم في الحر الشديد وقد أصابه الجهد الشديد من العطش وليس بحضرته أحد فهو يراقب الله تعالى ويتصبر ولا يجزع لمخالفته ، والرجل إنما يهاب الملك ما دام بحضرته ، فإذا توارى عنه لم يهبه فمن هاهنا عرفنا بأنه ليس شيء بأهيب إلى المؤمن من الله تعالى.

قال المتعلم رحمه‌الله : قلت لعمري هذا ما نعرفه من أنفسنا. ولكن أخبرني عمن جهل الإيمان والكفر ما هو؟.

قال العالم رضي الله عنه : إن الناس إنما يكونون مؤمنين بمعرفتهم وتصديقهم بالرب جلّ وعلا. ويكونون كفارا بإنكارهم بالرب تعالى. فأما إذا أقروا للرب بالعبودية وصدقوا بوحدانيته وبما جاء منه ولم يعلموا ما اسم الإيمان واسم الكفر لا يكونون بهذا كفارا بعد أن علموا أن الإيمان خير ، والكفر شر ، كالرجل الذي يؤتى بالعسل والصبر. فيذوق منهما ويعلم أن العسل حلو. والصبر مر من غير أن يعلم ما اسم العسل؟ وما اسم الصبر؟ ولا يقال له جاهل بالحلاوة والمرارة. ولكن يقال له جاهل باسمهما. كذلك الذي لا يعلم ما اسم الإيمان والكفر. غير أنه يعلم أن الإيمان خير والكفر شر. فلا يقال له : إنه جاهل بالله ولكن يقال له : إنه جاهل باسم الإيمان والكفر.

قال المتعلم رحمه‌الله : أخبرني عن المؤمن إن عذّب هل ينفعه إيمانه؟ وهل يعذّب بعد إيمانه وفيه الإيمان؟.

قال العالم رضي الله عنه : سألت عن مسائل لم تسأل مثلهن في مسألتك. وأنا أفتيك فيهن إن شاء الله. أما قولك إن عذّب المؤمن فهل ينفعه إيمانه وفيه الإيمان إن عذّب؟ نعم ينفعه إيمانه لأنه يرفع عنه أشد العذاب. وأشد العذاب إنما يكون على الكافر. لأنه لا ذنب أعظم من الكفر. وهذا المؤمن لم يكفر بالله ولكن عصاه في

٥٩٠

بعض ما أمر به فيعذّب إن عذّب على ما عمل. ولا يعذّب على ما لم يعمل كالرجل الذي قتل ولم يسرق إنما يؤاخذ بالقتل. ولا يؤاخذ بالسرقة. وكذلك قال الله تعالى : (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [يس : ٥٤]. والمريض ما كان مرضه أقل كان أهون عليه. والذي يعذّب في الدنيا ويرفع عنه أشد العذاب ويعذّب بلون واحد فهو أهون عليه من أن يعذّب بلونين. وكذلك المؤمن إن عذّب على ذنب واحد فهو أهون من أن يعذّب على ذنبين.

قال المتعلم رحمه‌الله : هذا لعمري ما نعرف من العدل ولكن أخبرني من أين صار كفر الكفار واحدا وعبادتهم كثيرة مختلفة من حيث صار إيمان أهل السماء ومن آمن من أهل الأرض إيمانا واحدا وفرائضهم كثيرة مختلفة.

قال العالم رضي الله عنه : وذلك لأن فرائض الملائكة غير فرائضنا. وفرائضهم وفرائض الأولين غير فرائضنا. وإيمان أهل السماء وإيمان الأولين وإيماننا واحد لأننا آمنا وعبدنا الرب عزوجل وحده وصدقنا جميعا ، فكذلك الكفار كفرهم وإنكارهم واحد وعبادتهم مختلفة ، وذلك لأنك لو سألت اليهودي من تعبد؟ يقول الله أعبد وإذا سألته عن الله قال هو الذي عزير ولده وهو الذي على مثال البشر ، ومن كان بهذه الصفة لم يكن مؤمنا بالله. وإذا سألت النصراني من تعبد؟ قال الله الله أعبد. وإذا سألته عن الله قال هو الذي في جسد عيسى وفي بطن مريم. يجتن في شيء ويحيط به شيء ، ويلج في شيء ، ومن كان بهذه الصفة لم يكن مؤمنا بالله. وإذا سألت المجوسي من تعبد؟ يقول الله أعبد فإذا سألته عن الله؟ قال هو الذي له الشريك والولد والصاحبة ومن كان بهذه الصفة لم يكن مؤمنا بالله فجهالة هؤلاء كلهم بالرب جلّ وعز وإنكارهم واحد. ونعوتهم وصفاتهم وعبادتهم كثيرة مختلفة. كمثل ثلاثة نفر قال أحدهم : إن عندي لؤلؤة بيضاء ليس في العالم مثلها ، فأخرج حبة من عنب سوداء فحلف أنها لؤلؤة. وخاصم الناس في ذلك. وقال آخر : عندي اللؤلؤة المرتفعة التي ليس في العالم مثلها ، فأخرج سفر جلة فحلف على ذلك وخاصم الناس أنها لؤلؤة. وقال الثالث : اللؤلؤة اليتيمة هي التي عندي ، وأخرج قطعة من مدر فجعل يحلف على ذلك ، ويخاصم الناس عليها أنها لؤلؤة ، وكل هؤلاء اجتمعت جهالتهم باللؤلؤة لأنه ليس أحد منهم يعرف اللؤلؤة ، وصفاتهم كثيرة مختلفة ، فتعرف بذلك أنك لا تعبد موصوفهم ولا معبودهم لأنهم يصفون الثلاثة والاثنين وإنما يعبدون الذي يصفونه ، وأنت تصف الواحد فمعبودك غير معبودهم ، ومعبودهم غير معبودك ولذلك قال الله عزوجل : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣)) [الكافرون : ١ ـ ٣].

٥٩١

قال المتعلم رحمه‌الله : لقد عرفت الذي وصفت أنه كما وصفت ولكن أخبرني من أين يكون هؤلاء جهّالا بالرب لا يعرفونه وهم يقولون الله ربنا؟.

قال العالم رضي الله عنه : قد أعرف الذي يقولون ، إنهم يقولون إن الله ربنا وهم في ذلك لا يعرفونه لقوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥)) [لقمان : ٢٥] يقول تعالى : أكثرهم يقول هذا القول بغير علم كالصبي الذي ولدته أمه أعمى فيذكر الليل والنهار والصفرة والحمرة من غير أن يعرف شيئا من ذلك. وكذلك الكفار قد سمعوا اسم الله تعالى من المؤمنين وهم يقولون ما سمعوا من غير أن يعرفوه ، ولذلك قال الله تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [النّحل : ٢٢].

قال المتعلم رحمه‌الله : هو كما وصفت لكن أخبرني عن الرسول أمن قبل الله تعالى عرفته. أو تعرف الله من قبل الرسول. فإن زعمت أنك إنما تعرف الرسول من قبل الله فكيف يكون ذلك؟ والرسول هو الذي يدعوك إلى الله تعالى.

قال العالم رضي الله عنه : نعم نعرف الرسول من الله تعالى لأن الرسول وإن كان يدعو إلى الله تعالى ، ولم يكن أحد يعلم بأن الذي يقول الرسول حق يقذف الله في قلبه التصديق والعلم بالرسول ، ولذلك قال الله عزوجل : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] ولو كانت معرفة الله من قبل الرسول لكانت المنّة على الناس في معرفة الله من قبل الرسول لا من قبل الله ولكن المنّة من الله على الرسول في معرفة الرب عزوجل والمنّة لله على الناس بما عرفهم الله من التصديق بالرسول بل ينبغي أن نقول إن العبد لا يعرف شيئا من الخير إلا من قبل الله.

قال المتعلم رحمه‌الله : قد فرجت عني ولكن أخبرني عن تفسير الولاية والبراءة هل يجتمعان في إنسان واحد.

قال العالم رضي الله عنه : الولاية هي الرضا بالعمل الحسن ، والبراءة هي الكراهية على العمل السيئ ، وربما اجتمعا في إنسان واحد ، وربما لم يجتمعا فيه فهو المؤمن الذي يعمل صالحا وسيئا ، وأنت تجامعه وتوافقه على العمل الصالح وتحبه عليه وتخالفه وتفارقه على ما يعمل من السيئ وتكره له ذلك ، فهذا ما سألت عن الولاية والبراءة يجتمعان في إنسان واحد. والذي فيه الكفر ليس فيه شيء من الصالحات ، وأنك تبغضه وتفارقه في جميع ذلك والذي تحبه ولا تكره منه شيئا فهو الرجل المؤمن الذي قد عمل بجميع الصالحات واجتنب القبيح فأنت تحب كل شيء منه ، ولا تكره منه شيئا.

٥٩٢

قال المتعلم رحمه‌الله : ما أحسن ما قلت. ولكن أخبرني عن كفر النعم ما هو.

قال العالم رضي الله عنه : كفر النعم أن ينكر الرجل أن تكون النعم من الله ، فإن أنكر شيئا من النعم فزعم أنها ليست من الله فهو كافر بالله ، لأن من كفر بالله كفر بالنعم ، قال الله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) [النّحل : ٨٣] يقول إن الكفار يعرفون أن الليل ليل ، والنهار نهار ، ويعرفون الصحة والغنى ، وجميع ما يتقلبون فيه من السعة والراحة أنها نعمة غير أنهم ينسبون ذلك إلى معبودهم الذي يعبدونه ، ولا ينسبونه إلى الله الذي منه النعم ، ولذلك قال الله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) [النّحل : ٨٣] أي ينكرون أن تكون من الله الواحد الذي ليس كمثله شيء.

والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

تمّ العالم والمتعلم ولله الحمد

٥٩٣
٥٩٤

٥٩٥
٥٩٦

رواية أبي مطيع عن أبي حنيفة

رضي الله عنهما

هو الفقه الأكبر رواية أبي مطيع عرف بالفقه الأبسط تمييزا له عن الفقه الأكبر رواية حماد بن أبي حنيفة عن أبيه ، وراويه أبو مطيع هو الحكم بن عبد الله البلخي صاحب أبي حنيفة حدّث عن ابن عون وهشام بن حسان وعنه أحمد بن منيع وخالد بن سالم الصفار وجماعة تفقه به أهل تلك الديار ، قال الذهبي : كان بصيرا بالرأي علامة كبير الشأن ولكنه واه في ضبط الأثر وكان ابن المبارك يعظمه ويجله لدينه وعلمه اه. وطال كلام النقلة فيه يرمونه بالإرجاء والتجهم والرأي راجع الميزان.

توفي سنة ١٩٩ ه‍ عن أربع وثمانين سنة تغمده الله برضوانه (ز).

٥٩٧
٥٩٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. روى الإمام أبو بكر محمد بن محمد الكاساني. عن أبي بكر علاء الدين محمد بن أحمد السمرقندي. قال : أخبرنا أبو المعين ميمون بن محمد المكحولي النسفي أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن علي الكاشغري الملقب بالفضل. قال : أخبرنا أبو مالك نصران بن نصر الختلي عن علي بن الحسن بن محمد الغزالي عن أبي الحسن علي بن أحمد الفارسي حدثنا نصير بن يحيى الفقيه. قال : سمعت أبا مطيع الحكم بن عبد الله البلخي يقول :

سألت أبا حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله تعالى عنه وعنهم عن الفقه الأكبر (١) فقال : أن لا تكفر أحدا من أهل القبلة بذنب. ولا تنفي أحدا من الإيمان. وأن تأمر بالمعروف. وتنهى عن المنكر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وأنّ ما أخطأك لم يكن ليصيبك. ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا توالي أحدا دون أحد ، وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله تعالى.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : الفقه في الدين أفضل من الفقه في الأحكام ولأن يتفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير.

قال أبو مطيع : قلت : فأخبرني عن أفضل الفقه. قال أبو حنيفة : أن يتعلم الرجل الإيمان بالله تعالى والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأمة واتفاقها. قال : فأخبرني عن الإيمان. فقال (٢) : حدثني علقمة بن مرثد عن يحيى بن يعمر قال : قلت

__________________

(١) يريد به العلم المتعلق بتصحيح الاعتقاد. وهو أفضل الفقه عنده ، والفقه على إطلاقه يشمل ما يقوّم الاعتقاد والعمل والخلق عند أبي حنيفة ، ولذا يعرف الفقه بأنه معرفة النفس ما لها وما عليها (ز).

(٢) ولأبي حنيفة أسانيد في هذا الحديث منها روايته عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود (ز).

٥٩٩

لابن عمر رضي الله عنهما أخبرني عن الدين ما هو؟ قال : عليك بالإيمان فتعلمه. قلت : فأخبرني عن الإيمان ما هو؟ قال : فأخذ بيدي فانطلق بي إلى شيخ فأقعدني إلى جنبه فقال : إن هذا يسألني عن الإيمان كيف هو؟ فقال : والشيخ كان ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن عمر : كنت إلى جنب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا الشيخ معي إذ دخل علينا رجل حسن اللمة متعمما نحسبه من رجال البادية فتخطى رقاب الناس فوقف بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ما الإيمان؟ قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وتؤمن بملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى. فقال : صدقت ، فتعجبنا من تصديقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع جهل أهل البادية. فقال : يا رسول الله ، ما شرائع الإسلام؟ فقال : إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا والاغتسال من الجنابة. فقال : صدقت. فتعجبنا لقوله بتصديقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه يعلمه. فقال : يا رسول الله وما الإحسان؟ قال : أن تعمل لله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فقال : صدقت. فقال : يا رسول الله متى الساعة؟ فقال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل. ثم مضى فلما توسط الناس لم نره.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن هذا جبريل أتاكم ليعلمكم معالم دينكم» (١).

قال أبو مطيع : قلت لأبي حنيفة رحمه‌الله : فإذا استيقن بهذا وأقرّ به فهو مؤمن؟ قال : نعم إذا أقرّ بهذا فقد أقرّ بجملة الإسلام وهو مؤمن. فقلت : إذا أنكر بشيء من خلقه فقال : لا أدري من خالق هذا؟ قال : فإنه كفر لقوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام : ١٠٢]. فكأنه قال : له خالق غير الله ، وكذلك لو قال : لا أعلم أن الله فرض علي الصلاة والصيام والزكاة فإنه قد كفر. لقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [البقرة : ٤٣] ولقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] ولقوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨)) [الرّوم : ١٧ ، ١٨] فإن قال : أؤمن بهذه الآية ، ولا أعلم تأويلها ولا أعلم تفسيرها فإنه لا يكفر ، لأنه مؤمن بالتنزيل ومخطئ في التفسير. قلت له : لو أقرّ بجملة الإسلام في أرض الشرك ولا يعلم شيئا من الفرائض والشرائع ولا يقر بالكتاب ولا بشيء من شرائع الإسلام إلا أنه مقر بالله تعالى

__________________

(١) ورد حديث جبريل على ألفاظ مختلفة متقاربة في المعنى وليس هذا.

٦٠٠