العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

الشرع فادّعى على إسماعيل بن كثير صاحب التاريخ أنه قال : إن التوراة والإنجيل ما بدلا وإنهما بحالهما كما أنزلا وشهدوا عليه بذلك وثبت في وجهه فعزر في المجلس بالدرة وأخرج وطيف به ونودي عليه بما قاله ثم أحضر ابن قيم الجوزية وادعى عليه بما قاله في القدس الشرف وفي نابلس فأنكر فقامت عليه البينة بما قاله فأدب وحمل على جمل ، ثم أعيدوا في السجن ، ولما كان يوم الأربعاء أحضر ابن قيم الجوزية إلى مجلس شمس الدين المالكي وأرادوا ضرب عنقه (١) فما كان جوابه إلا أن قال : إن القاضي الحنبلي حكم بحقن دمي وبإسلامي وقبول توبتي ، فأعيد إلى الحبس إلى أن أحضر الحنبلي فأخبر بما قاله فأحضر وعذر وضرب بالدرة وأركب حمارا وطيف به في البلد والصالحية وردوه إلى الحبس ولم يزل هذا في أتباعه.

وحضر شخص إلى دمشق يقال له أحمد الظاهري وكان قد حفظ آيات المتشابه وأحاديثه فكان يسردها على العوام وآحاد الناس من الفقهاء فعظّمه أتباع ابن تيمية وأكرموه. ثم إنه توجه إلى القاهرة فشرع يسرد الإياب والأحاديث لعلم به الإمام العلامة الشيخ سراج الدين البلقيني فطلبه وأعلم به برقوق فأخذوه وقيّدوه وكانوا يضربونه بالسياط أول النهار ثم يستعملونه في العمارة ، فإذا كان آخر النهار أعادوا عليه الضرب ، ثم بلغني أن آخر الأمر أن ضربوا عنقه.

وكان الشيخ زين الدين بن رجب الحنبلي ممن يعتقد كفر ابن تيمية وله عليه الرد ، وكان يقول بأعلى صوته في بعض المجالس : معذور السبكي ـ يعني في تكفيره ـ والحاصل أنه وأتباعه من الغلاة في التشبيه والتجسيم والازدراء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبغيض الشيخين وبإنكار الأبدال الذين هم خلفوا الأنبياء ولهم دواهي أخر لو نطقوا بها لأحرقهم الناس في لحظة واحدة ، فنسأل الله تعالى العافية ودوامها إنه على ما يشاء قدير ، وبالإجابة جدير.

(وجرسوا) ابن القيم وابن كثير وطيف بهما في البلد وعلى باب الجوزية لفتواهم في مسألة الطلاق ، والله أعلم.

واعلم أني اقتصرت على الكلام على هذه الفتوى لإشاعتها بين العوام وفيها

__________________

(١) هذه قيمة ابن قيمة يراها القارئ مجسمة أمامه في هذا السياق فليعرفها ولا يغتر ، اه مصححه.

٤٠١

التعرض لمنع الوسيلة ومنع شد الرحال إلى قبر سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستدلاله لما قاله بالتجسير والتمويهات التي بيّنّا بطلانها وفسادها ، وأن ذلك من أظهر الأمور على فجوره في النقل والإغراء ، وأن لا يحل أن يقلده ولا يأخذ عنه ولا ينظر في كلامه ولا يسمعه إلا من يكون له رتبة التمييز بين الحق والباطل وإلا هلك وهو لا يشعر (١).

ثم من الأمور المهمة المقرّبة إلى الله عزوجل وإلى رسوله وإلى وزيريه رضي الله عنهما بسط الألسن والأيدي فيهم جريا على ما درج عليه العلماء والسلاطين منذ أثار هذا الخبيث هذه الخبائث ، وأن يعلن بالتوسل بسيد الأولين والآخرين ، وأن يعتني بإظهار شد الرحال وإعمال المصلى والأقدام إلى خير خلقه وحبيب القلوب ، ومن بذكره تنجلي الكروب ، ويهتز الطروب ، وبالصلاة والسلام عليه تذهب الذنوب ، التي بسببها حصل الإبعاد عن المزار وبعد الدار.

روى زيد بن أسلم أن عمر خرج ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول :

على محمد صلاة الأبرار

صلّى عليه الطيبون الأخيار

قد كنت قوّاما بكّاء في الأسحار

يا ليت شعري والمنايا أطوار

هل تجمعني وحبيب (٢) الدار

تعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال : فجلس عمر رضي الله عنه يبكي شوقا إلى حبيبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتتصعد أنفاسه من نار الشوق لو لا دموع المحبين تطفئ نار الشوق لاحترقت أكبادهم بأنفاسهم.

__________________

(١) هذا حكم من هذا الإمام الكبير على كل من يتبع ابن تيمية بأنه هالك في دينه وانظر معنى الهلاك في مثل هذا المقام ومن هنا نحن نرثي لإخواننا الموجودين والغابرين الذين اغتروا بهذا الرجل المسكين ووراءه ساروا وكان بودنا أن يرى إخواننا الموجودون هذا الكتاب ليعرفوا منه قيمة هذا الرجل ثم بعد ذلك ينظروا لأنفسهم والحمد لله الذي عافانا مما ابتلي به كثيرا من خلقه ، اه مصححه.

(٢) وحبيبي ، اه مصححه.

٤٠٢

يا خليليّ قد بلغت القصدا

وعرفت الغرام هزلا وجدا

خلياني من ذكر سلمى ونجد

ودعاني من حب سلمى وسعدى

أنا لي في حشاشتي حب بدر

أقسم الدهر أنه لا يبدي

نار وجدي بحبه في ازدياد

وغرامي به تزايد جدا

كلما رمت أن نفسي عنه

نتسلى أبت ولا تتهدى

وتراها إذا ترنم حاد

برباها تذوب شوقا ووجدا

لا تلمها إذا بدت بحنين

وأنين يقد ذا القلب قدا

فلها معهد وأنس قديم

ليس يفنى وإن تطاول عهدا

كان الصديق رضي الله عنه من المشغوفين بمحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال سيف بن عمرو : كان سبب موت الصديق رضي الله عنه وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمدا عليه فما زال جسمه يتحرق حتى مات ، والكمد : الحزن المكتوم.

كنت (١) السواد لناظري

وعليك كنت أحاذر

من شاء بعدك فليمت

فعليك يبكي الناظر

والحمد لله أولا وآخرا ، وباطنا وظاهرا ، والحمد لله رب العالمين ، وصلّى الله على سيد الأولين والآخرين وأكرم السابقين واللاحقين ورضي الله عن الصديقين والصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، آمين آمين.

__________________

(١) أحفظ هذين البيتين هكذا :

كنت السواد لناظري

فعمي عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت

فعليك كنت أحاذر

وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد سيد العالمين وعلى آله خير أمة أخرجت للناس وعلى تابعيهم بإحسان إلى يوم الدين. انتهت هذه التعليقات في اليوم الثامن عشر من شهر رجب سنة ١٣٥٠ ه‍ على يد كاتبها الذي يرجو قارئها دعوة صالحة إن رأى فيها خيرا ونحن جميعا نبتهل إلى ربنا الغفور الرّحيم الشكور الكريم أن يفرغ غيوث رحماته وكراماته على جدث يضم هذا الرجل الغيور على دينه القائم في نصره كالأسد يذود عن عرينه الإمام أبي بكر تقي الدين الحصني وأن يجمعنا معه في دار كرامته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، آمين.

٤٠٣
٤٠٤

٤٠٥
٤٠٦

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ترجمة السبكي

هو : علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام السبكي الأنصاري الخزرجي أبو الحسن تقي الدين شيخ الإسلام في عصره ، وأحد الحفّاظ المفسرين المناظرين ، وهو والد التاج السبكي صاحب الطبقات.

مولده : ولد في «سبك من أعمال المنوفية» سنة ٦٨٣ ه‍ ـ ١٢٨٤ م.

رحلاته العلمية : انتقل من سبك إلى القاهرة ، ثم إلى الشام وولي قضاء الشام سنة ٧٣٩ ه‍ واعتل فعاد إلى القاهرة فتوفي فيها.

من تصانيفه : «الدر النظيم في التفسير ـ لم يكمله» ، «مختصر طبقات الفقهاء» ، «إحياء النفوس في صنعه إلقاء الدروس» ، «الإغريض في الحقيقة والمجاز والكنية والتعريض» ، «التمهيد فيما يجب فيه التحديد ـ ط. في المبايعات والمقاسمات والتمليكات وغيرها» ، «السيف الصقيل ـ ط. رأيته بخطه في ٢٥ ورقة في المكتبة الخالدية بالقدس في الرد على قصيدة نونية تسمى الكافية في الاعتقاد منسوبة إلى ابن القيم» ، «المسائل الحلبية وأجوبتها ـ خ. في فقه الشافعية» ، «السيف المسلول على من سبّ الرسول ـ خ» ، «مجموع فتاوى ـ ط» ، «شفاء السقام في زيارة خير الأنام ـ ط» ، و «الابتهاج في شرح المنهاج ـ فقه». ورأيت مجموعة ـ خ ـ بخطه في مجلد ضخم تشتمل على رسائل كثيرة له ، منها : الأدلة في إثبات الأهلة ، والاعتبار ببقاء الجنة والنار ، وفتاوى وغير ذلك. ورأيت مجموعة أخرى كلها بخطه «في الرباط ٦ ، ٣ أوقاف» تشتمل على تسع رسائل منها : المجاورة والنشاط في المجاورة والرباط .. الخ وقد استوفي ابنه تاج الدين أسماء كتبه ، وأورد ما قاله العلماء في وصف أخلاقه ، وسعة علمه.

وفاته : توفي بالقاهرة سنة ٥٦ / ١ ه‍ ـ ١٣٥٥ م (١).

__________________

(١) انظر : الأعلام للزركلي ٤ / ٢ ، ٣ طبعة : دار العلم للملايين ـ بيروت ، الخطط التوفيقية لابن المبارك ١٢ / ٧ طبعة : الأميرية ببولاق سنة ١٣٠٥ ه‍ ، غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري ١ / ٥٥١ طبعة : السعادة بمصر سنة ١٩٣٣ ، الدرر الكامنة ٣ / ٦٣ ـ ٦٤ الطبعة الأولى ـ الهند سنة ١٣٤٩ ه‍ ، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ٦ / ٤٢ ـ ٤٤ طبعة عيسى الحلبي الأولى سنة ١٣٨٦ ه‍ ـ سنة ١٩٦٧ م ، ٥ / ٣٦٦ ـ ٣٦٨ نفس الطبعة.

٤٠٧
٤٠٨

التعريف بكتاب

«السيف الصقيل»

في أثناء القرن السابع الهجري رحل من حران إلى الشام بيت علم وفضل ، خوفا على أنفسهم من التتر واستوطنوا دمشق. وكان منهم طفل صغير من مواليد حران حمله أبوه معه فيما حمل من أهله ، فألحقه بمدرسة من مدارس دمشق. ذلك الصغير ، هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام المعروف بابن تيمية. وعبد السلام كان من خيرة العلماء ، له في مذهب أحمد تصانيف ، وله منتقى الأخبار الذي شرحه الشوكاني وأسماه : نيل الأوطار. فأقبل ذلك الصغير على العلم وظهرت عليه مخايل الذكاء ، وتفقه في مذهب أحمد كأسرته الحنابلة ، وقرأ في كثير من الفنون والعلوم ، وظهرت عليه مخايل الذكاء ، واشتهر بجودة الحفظ وقوة الذاكرة ، وتصدّر للفتيا وإلقاء الدروس في سن مبكرة ، وظهرت عليه آثار النسك والعبادة ، فأحبته العامة وأثنت عليه الخاصة ، وبالغ في الدعاء إلى السنة ومجانبة البدعة. وقد آنس من نفسه قوة ذهن وشدة عارضة فلم يحفل بالرجوع إلى شيوخ الوقت وأكابره ، ورفعت إليه الأسئلة والاستفتاءات ، فأجاب وأفتى ، وهو مرموق في كل ذلك بعين التجلّة من الجميع. حتى إذا قارب سن الأربعين سن الكمال عادة ، بدأ النقص يظهر فيه ، فبدأ يسير على طريق الكرامية والحشوية (١) ، ويحيي بدعة القول بالجهة والمكان والأجزاء لله.

__________________

(١) وهناك صورة مجملة عن الكرامة والحشوية ، حتى تستبطن حقيقتها ، وتختبر عودها ، وتنظر في أصلهما فيحكي لنا الإيجي أنهما فرعان لشجرة حنظل واحدة ، هي شجرة التشبيه. تشبيه الخالق بالمخلوق. وإن اختلفوا في طريقته فمنهم مشبهة غلاة الشيعة ومنهم مشبهة الحشوية كمضر وكهمس والهجيمي ومنهم مشبهة الكرامية أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام. ويؤكد الرازي على أن اليهود أكثرهم مشبهة. وأن ظهور التشبيه في الإسلام قد بدأ من الروافض مثل بيان بن سمعان الذي كان يثبت لله تعالى الأعضاء والجوارح ، وهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي ، ويونس بن عبد الرّحمن القمي ، وأبو جعفر الأحوال الذي كان يدعى شيطان الطاق. وهؤلاء رؤساء علماء الروافض ، ثم تهافت في ذلك المحدثون ممن لم يكن لهم نصيب من علم المعقولات.

٤٠٩

وقيام الحوادث من الصوت وغيره بذاته تعالى. وأخذ يشيع أن القول بذلك هو الإسلام والإيمان والدين والتوحيد ، وأن ذلك هو مذهب أحمد بن حنبل (١) وأن من

__________________

ـ ويصور لنا الشهرستاني بعض معتقداتهم ، وبعد أن يورد أصولهم فيقول : إن جماعة من الشيعة الغالية ، وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية صرحوا بالتشبيه مثل : الهشاميين من الشيعة. ومثل مضر ، وكهمس ، وأحمد الهجمي وغيرهم من الحشوية. قالوا : معبودهم على صورة ذات أعضاء وأبعاض ويجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار والتمكن. وأما مشبهة الحشوية ، فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر ، وكهمس ، وأحمد الهجيمي : أنهم أجازوا على ربهم الملامسة والمصافحة. وأن المسلمين المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة. وحكى عن داود الجواربي أنه قال : اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك. وقد أورد كثيرا من هذه المعتقدات الفاسدة الأشعري في مقالاته ، وكذا البغدادي في فرقه ... ثم إن الإمام الرازي رتب فرقهم الخمسة هكذا : ١ ـ الحكمية : وهم أصحاب هشام بن الحكم. ٢ ـ الجواليقية : أتباع هشام بن سالم الجواليقي الرافضي. ٣ ـ اليونسية : أتباع يونس بن عبد الرّحمن القمي. ٤ ـ الشيطانية : أتباع شيطان الطاق. ٥ ـ الحوارية أصحاب داود الحواري. وكذا أورد طوائف الكرامية وقال : وأقربهم الهيصمية وفي الجملة ، فهم كلهم يعتقدون أن الله تعالى جسم وجوهر ومحل للحوادث ، ويثبتون له جهة ومكانا. ونقول : والحشوية ـ كما سبق ـ من أهل الحديث الذين تمسكوا بظواهر الأحاديث التي تشعر بالتشبيه ، وسبب تسميتهم بهذا الاسم كما يقول الكوثري ـ في مقدمته على تبين كذب المفتري ـ : أن الحسن البصري كان يلازم مجلسه نبلاء أهل العلم ، وقد حضر مجلسه يوما أناس من رعاع الرواة. ولما تكلموا بالسقط عنده قال : ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة أي جانبها ، فسموا الحشوية. ومنهم أصناف المجسمة والمشبهة. والحشوية بفتح الشين ويصح إسكانها ، لقولهم بالتجسيم ، لأن الجسم محشو.

انظر : مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ، الملل والنحل للشهرستاني ج ١ / ١٠٥ ، الفرق بين الفرق للبغدادي ص ٦٥ ، والموافق للإيجي ص ٤٢٩ ، اعتقاد فرق المسلمين والمشركين للفخر الرازي ص ٩٧ ـ ١٠١ ، تبين كذب المفتري لابن عساكر الدمشقي ص ١١.

(١) يقول الرازي : اعلم أن جماعة من المعتزلة ينسبون التشبيه إلى الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين. وهذا خطأ. فإنهم منزهون في اعتقادهم عن التشبيه والتعطيل ، ولكنهم كانوا لا يتكلمون في المتشابهان مع جزمهم بأن الله تعالى لا تشبيه له وليس كمثله شيء. وأقول بعد ذلك : فلا يخدعنك عن دينك قول من يقول : إن كل حنبلي مجسم ، فتظن أن الإمام أحمد كان هو أو فقهاء أتباعه كذلك ـ فالمجسمة إن كانوا حنابلة ففي الفروع لا في الأصول ـ وقد روى الإمام أبو الفضل التميمي شيخ الحنابلة ، والحافظ ابن الجوزي وغيرهما من أعيان المذهب عن الإمام أحمد ما عليه الجماعة من تنزه الحق عن الجسمية ولوازمها. روى البيهقي في مناقب الإمام أحمد بسنده عن أبي الفضل أنه قال : «أنكر أحمد على من قال بالجسم وقال : إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة. وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف. والله تعالى خارج عن ذلك كله فلم يجز أن يسمى جسما لخروجه عن معنى الجسمية. ولم يجيء في الشريعة ذلك فبطل».

٤١٠

خالف ذلك فهو معطل ملحد عدو للدين منابذ للإسلام والمسلمين ، فأحيا بذلك بدعة الحشو بعد ما ماتت أو كادت ، حتى لقد رآه ابن بطوطة ـ في بعض رحلاته ـ يخطب على المنبر ، وتلا حديث النزول ثم قال : ينزل كنزولي هذه ونزل درجة ، فأنكر عليه بعض الحاضرين ، فهاج العامة على المنكر وضربوه ضربا شديدا. بل لقد تعصب له بعض الحنابلة أولا ، حتى إذا استطار ، في الناس ضرره جعلوا يوجهون إليه النصائح بالمشافهة والمكاتبة. وحسبك نصحة الحافظ الذهبي له ـ وهي مثبتة في ذيل تكملة السيف الصقيل الذي بين يديك ـ وهو شيخ الحنابلة والحديث ـ وكان قبل ذلك يكثر الثناء عليه بل يطريه ـ فيقول : «كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما» ثم قال : إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد ... الخ وستأتيك بتمامها». ونقول : لقد برع في الاحتيال لنشر آرائه المخالفة للمعقول والمنقول ، وبرز في نصر بدع الكرامية ، وإحياء ما اندرس من شبههم وشبه غيرهم ، وترى ذلك في منهاجه الذي يرد به على الروافض وفي الحقيقة لقد خالف فيه منهاج السنة ، فأثبت بأنه لا أول للحوادث وأنه لا ابتداء لها ، وأن ذلك هو مذهب الصحابة والتابعين ، وتراه مع ذلك .. في تناقض واضح ـ ينقل خلاف الصحابة والتابعين في أول مخلوق ، هل هو العرش أو القلم أو الماء؟!! وفي صفحة واحدة دون خالجة من الخجل!!

وله في ثلب الكرام طريق غريبة ماكرة ، تجد ذلك في كيديه للانتصار للأئمة الأربعة وإن حفل نصفه الأول بالثناء عليهم فقد انسرب مكره بهم في النصف الثاني تمهيدا لجرأة العامة عليهم وكذلك كان صنيعه مع إمامي أهل السنة أبي الحسم الأشعري وأبي منصور الماتريدي. ولا عليك فإن جاءك خلاف بين الأشاعرة والحنابلة فلا تشك أنه هو وأتباعه فقط. ولم يسلم من لسانه إمام من أئمة أهل السنة فارجع إلى موافقة معقولة تجده قد وقع في إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي ووصفهما بأنهما أشد كفرا من اليهود والنصارى!! .. ولكن هل تركه علماء عصره على هذه الضلالات؟ ونبادر إلى القول بأن علماء عصره على اختلاف مذاهبهم قد تصدوا له ، فهذا هو علامة عصره تقي الدين الحصني في كتابه «دفع شبه من شبه وتمرد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد» يقول : أخبرنا أبو الحسن على الدمشقي عن أبيه قال : «كنا جلوسا في مجلس ابن تيمية ، فذكر ووعظ وتعرض لآيات الاستواء ثم قال : واستوى الله على عرشه كاستوائي هذا : قال : فوثب الناس عليه وثبة واحدة وأنزلوه من الكرسي ، وبادروا إليه ضربا باللكم والنعال .. حتى أوصلوا إلى بعض الحكام واجتمع

٤١١

في ذلك المجلس العلماء فشرع يناظرهم فقالوا : ما الدليل على ما صدر منك؟ فذكر آية الاستواء فضحكوا منه ، وعرفوا أنه جاهل ...» وكان الإمام العلامة شيخ الإسلام في زمانه أبو الحسن علي بن إسماعيل القونوي يصرح بأنه من الجهلة بحيث لا يعقل ما يقول. ونقل عن صلاح الدين الكتبي ويعرف بالتريكي في الجزء العشرين من تاريخه ما قام به العلماء في جهاد هذا الرجل. وذكر قبل ذلك صورة المرسوم الذي أصدره السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، وذكره أيضا العلامة الكوثري بنصه. ناقلا له مما رآه بنفسه من خط ابن طولون في تكملته للسيف الصقيل. ومع هذا فقد ترك بعد موته أئمة ابتداع عبّوا من حياضه الآسنة وعلى رأسهم الإمام ابن رفيل الشهير بابن القيم ـ وكان أبوه قيم المدرسة الجوزية ولذلك يقولون أحيانا : ابن قيم الجوزية ، يعنون بها تلك المدرسة ـ كان أتبع لشيخه ابن تيمية من ظله ، وقد أفنى عمره في خدمة بدع أستاذه بفنون من التلبيس ، فيؤلف في السيرة النبوية ، وفي الفوائد الصوفية وفي المواعظ ، ويدس في خلال ذلك من حشو شيخه وأضاليله ما استطاع ثم يعود إلى ما يعرفه العلماء ، وكثيرا ما يحكي المسألة المجمع عليها بين العلماء إجماعا ظاهرا فيذكر فيها خلافا فيقول : قالت طائفة بذلك ويحتج لها ويطيل الاحتجاج. وقالت طائفة أخرى ويطول الاحتجاج بما يظنه حجة من أوهام شيخه. كما وقوع الطلاق الثلاث المجموع ثلاثا وغيرهما كثير وقلما يسلم له كتاب من تشعيب ودس وتهويش ، وقد جمع شواذ شيخه في قصيدة سخيفة نونية بلغها ستة آلاف بيت تقريبا (١). وكان إخوانه وتلاميذه يخفونها خوفا من أهل العلم وأهله ، حتى وقعت في يد شيخ الإسلام تقي الدين أبي الحسن علي السبكي ، فكتب عليها كتابة سماها : السيف الصقيل في الرد على ابن رفيل ـ وقد وضع العلامة الكوثري تكملة لهذا السيف وأجاد كل الإجادة ـ وهو الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم ـ ومن قرأ هذه المنظومة النونية وقرأ كتب ابن تيمية ـ وهو من أهل العلم ـ لا يرتاب في أنه نسخة منه ، فإنه يرمي من تقدمه من محققي أهل العلم وأكابر العلماء بأنهم أعداء الإسلام ، وذلك لأنهم لم يقولوا بما قال به ابن تيمية من التجسيم والتشبيه ، وإن كان ابن الجوزي قد أثخن أهل التجسيم والتشبيه بالجراح في كتابه القيم : دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه في الرد على المجسمة والمشبهة بتحقيق : محمد زاهد الكوثري وتصدير العلامة محمد أبي زهرة وتقديم الدكتور : جمعه الخولي بما يشفي الصدر ويثلج

__________________

(١) وعدد أبياتها على التحقيق ستة آلاف بيت إلا واحدا وخمسين بيتا.

٤١٢

النفس. وكذلك فإن العلامة ابن زاهد الكوثري قد أنصف أهل السنة من هذا وشيخه ومن تبعهما في كتابه : التكملة وهو ضميمة للسيف الصقيل بما يبهج الخاطر ويرد الظلامة ويسفر بنور الإصباح. ولا يغرنك كتاب ابن القيم : «غزو الجيوش الإسلامية ، للمعطلة والجهمية» فإنه جمع فيه ما تشابه من الآيات والأحاديث ، لا فرق بين صحيحها وسقمها وموضوعها ليثبت بذلك ـ في زعمه ـ الجهة لله تعالى عما يقول. وقد عنى بالمعطلة والجهمية كل من نزّه الله تعالى عن الجهة وغيرها. من لوازم الأجسام!!

ولا يقع في وهمك أن ابن القيم قد رجع عن هذه الأباطيل ، كما تأكد لديك ثبات شيخه عليها إلى وفاته فإن ابن رجب ـ في طبقات الحنابلة ـ سمعها أي هذه المنظومة من لفظ ابن القيم عام وفاته أي أنه استمر على هذا العقد الباطل إلى أواخر عمره.

والله ولي التوفيق.

٤١٣
٤١٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

التقديم للكتاب

الحمد لله القدوس المتعال ، المنزّه عن النظير والمثال ، جلّت ذاته وعلت صفاته عن أن يحوم حول اكتناهها وهم أو خيال ، والعقول عن إدراك تلك المطالب في عقال ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث لتتميم مكارم الخلال ، منقذا لهذه الأمة من مخالب الوثنية وصنوف الضلال ، وهاديا إلى مراضي مولاه ذي الجلال والجمال ، وعلى آله خير الآل وأصحابه أصحاب كرائم الخصال.

انقشاع ظلمات الجاهلية بمبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وبعد ، فلا يخفى على من درس تاريخ الدين الإسلامي أن الله سبحانه بعث خاتم رسله في بيئة عريقة في الوثنية ، وقد أحدقت بتلك البيئة أمم يدينون بالإشراك والتشبيه وأنواع من التخريف والتمويه ، فبمبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم انقشعت تلك الظلمات الجاهلية ، واستنارت بصائر الذين آمنوا به بأنوار التعاليم الإسلامية ، حتى داسوا تحت أرجلهم تقاليد الوثنية ونبذوا تلك الأساطير الهمجية وخمدت عزائم أعداء الدين ، وفترت مواصلتهم العداء إلى حين.

تحين الأعداء الفرص للكيد بالمسلمين

لكنهم كانوا يتحينون الفرص لتفريق كلمة المسلمين ، وتشويه تعاليم هذا الدين في الأخلاق والعمل والاعتقاد ، حتى تذرعوا بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشتى الوسائل إلى بذر بذور الفساد كلما ظنوا أن الفرصة سانحة ، يلبسون في كل عصر ما يرونه أنجع في مخادعة الجمهور ، وأغشى على بصائر الخاصة والدهماء وأشد فتكا بهم في صميم دينهم. إلى أن تمكنوا من إضلال طوائف في الأطراف ورغم هذا بقيت بيضة الإسلام ـ بحمد الله جلّ شأنه ـ مصونة الجانب تحت كلاءة الله سبحانه ورعايته ، حيث لم يمكنهم من إبادة خضراء الملة ، ولا من إحداث أحداث جوهرية في صميم الدين

٤١٥

الإسلامي تشتت شمل الجماعة ، بل بقي الإسلام في جوهره ـ بفضل الله جلّ جلاله ـ وضّاء المنار واضح المنهاج ، نيّر الطريقة ، بادي المعالم لمن ألقى إلى تعاليمه السمع وهو شهيد.

وغاية ما تخيل الأعداء أن يتمكنوا منه أن يوقفوا نموه العظيم الذي كان ظهر في الصدر الأول ، ويعرقلوا رقى معتنقيه السريع بعد أن بهر أبصار أولي الأبصار في أوائل انتشاره ، لكن أبى الله إلا أن يتم نوره.

وكان أخطر هؤلاء الأعداء على الدهماء وأبعدهم غورا في الإغواء أناسا ظهروا بأزياء الصالحين بعيون دامعة كحيلة ، ولحي مسرحة طويلة ، وعمائم كالأبراج ، وأكمام كالأخراج ، يحملون سبحات كبيرة الحبات ، ويتظاهرون بمظهر الدعوة إلى سنة سيد السادات مع انطوائهم على مخاز ورثوها عن الأديان الباطلة ، والنحل الآفلة ، وكان من مكرهم الماكر أن خلطوا الكذب المباشر بالتزيد في تفسير مأثور أو في حديث صحّ أصله عند الجمهور ، باعتبارهم ذلك أنجع في إفساد دلالة كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أفهام أناس قرب عهدهم من الجاهلية ولم تتكامل بعد عقولهم ولا نضجت أفكارهم.

وكم أضلّ رواة من هذا القبيل طوائف من سذج المسلمين منذ عهد التابعين حيث اندسوا بين الصالحين من رواة الأعراب ومواليهم لإدخال ما اختلقوه من الأخبار بين مرويات هؤلاء الأخيار ، حتى يتم إفساد دين المسلمين عليهم ، ولكن أبى الله إلا أن يرد كيدهم في نحرهم حيث أقام جهابذة يسعون في إبعاد مختلقاتهم عن مرتبة الاعتداد في جميع الطبقات ، على أن في عقول الذين أسلموا إسلاما صحيحا من النور ما يشق لهم الطريق إلى تعرف دخائل المرويات من نفس تلك الروايات ، وإن لم تخل طبقة من طبقات الرواة من أغرار انخدعوا بها وتعصبوا لها ، لأن الفاتنين كانوا راعوا في رواياتهم عقول هؤلاء ومداركهم في جاهليتهم تيسيرا لزلل أقدامهم وتدهورهم في هاوية إغوائهم.

انخداع سذج الرواة

فالرواة السذج إذا انخدعوا بمثل هذا التمويه يكون عندهم بعض عذر ، ومن الذي لا ينخلع قلبه؟ إذا سمع السنة والدعوة إلى السنة من متقشف متظاهر بالورع الكاذب على تقدير جهل السامع بما وراء الأكمة؟ فيجب أخذ هؤلاء بالرفق لتدريجهم إلى الحق من باطل تورطوا فيه باسم السنة.

ومن محققي أهل السنة من يشير إلى أن العامي إذا بدر منه ما يوهم ظاهره التشبيه يرجي من فضل الله أن يسامحه حيث يعلو التنزيه من الجهة ونحوها عن

٤١٦

مداركه. وأما من جمع بين الرواية والدراية على زعمه وألف في ذات الله وصفاته ، وصدر منه مثل هذا فلا يوجد بين علماء أهل السنة من يعذر مثله بل أطبقت كلماتهم على إلزامه مقتضى كلامه ، وليس لعالم عذر في الميل إلى شيء من التشبيه والقرمطة لظهور سقوطهما لكل ناظر. قال القاضي أبو بكر بن العربي في القواصم والعواصم : «ما لقيت طائفة إلا وكانت لي معهم وقفة عصمني الله منها بالنظر ـ بتوفيقه ـ إلا الباطنية والمشبهة فإنهما زعنفة تحققت أنه ليس وراءهما معرفة فقذفت نفسي كلامهما من أول مرة» اه. بل لا يتصور أن يميل إلى أحدهما عاقل إلا إذا كان له غاية إلحادية ، وأنى يستعجم على عالم باللسان العربي المبين ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدلالة على تنزيه الله جلّ شأنه من الجسمية والجسمانيات والمادة والماديات ، بخلاف العامي الذي هو قريب العهد من الجاهلية.

فضل علماء أصول الدين في حراسة الدين

جزى الله علماء أصول الدين عن الإسلام خيرا ، فإن لهم فضلا جسيما في صيانة عقائد المسلمين بأدلة ناهضة مدى القرون أمام كل فرقة زائغة ، وإنما يكون التعويل في كل علم على أئمته دون من سواهم ، لأن من يكون إماما في علم كثيرا ما يكون بمنزلة العامي في علم آخر ، فإذا لا يعول في العقائد إلا على أئمة أصول الدين لا على الرواة البعيدين عن النظر ، وكم بينهم من يرثي لمداركه حيث يقل عقله عن عقول الأطفال وإن بلغ في السن مبلغ الرجال. ومن طالع ما ألفه بعض الرواة على طول القرون من كتب في التوحيد والصفات والسنة والردود على أهل النظر يشكر الله سبحانه على النور الذي أفاضه على عقله حتى نبذ مثل تلك الطامات بأول نظرة.

محاولة ابن تيمية بعث الحشوية من مرقدها

وقد استمرت فتن المخدوعين من الرواة على طول القرون مجلبة لسخط الله تعالى ولاستسخاف العقلاء من غير أن يخطر ببال عاقل أن يناضل عن سخافات هؤلاء ، إلى أن نبغ في أواخر القرن السابع بدمشق حراني تجرد للدعوة إلى مذهب هؤلاء الحشوية السخفاء متظاهرا بالجمع بين العقل والنقل على حسب فهمه من الكتب بدون أستاذ يرشده في مواطن الزلل ، وحاشا العقل الناهض والنقل الصحيح أن يتضافرا في الدفاع عن تخريف السخفاء إلا إذا كان العقل عقل صابئ والنقل نقل صبي ، وكم انخدع بخزعبلاته أناس ليسوا من التأهل للجمع بين الرواية والدراية في شيء وله مع خلطائه هؤلاء موقف في يوم القيامة لا يغبط عليه. ومن درس حياته

٤١٧

يجدها كلها فتنا لا يثيرها حاظ بعقله غير مصاب في دينه ، وأنّى يوجد نص صريح منقول أو برهان صحيح معقول يثبت الجهة والحركة والثقل والمكان ونحوها لله سبحانه؟ وسيمر بك سرد بعض مخازيه مع نقضها إن شاء الله تعالى.

وكل ما في الرجل أنه كان له لسان طلق ، وقلم سيّال ، وحافظة جيدة ، قلب ـ بنفسه بدون أستاذ رشيد ـ صفحات كتب كثيرة جدا من كتب النّحل التي كانت دمشق امتلأت بها بواسطة الجوافل من استيلاء المغول على بلاد الشرق ، فاغترّ بما فهمه من تلك الكتب من الوساوس والهواجس ، حتى طمحت نفسه إلى أن تكون قدوة في المعتقد والأحكام العملية فوفاه في القبيلين بما لم يفه به أحد من العالمين مما هو وصمة عار وأمارة مروق في نظر الناظرين فانفضّ من حوله أناس كانوا تعجلوا في اطرائه بادئ بدء قبل تجريبه وتخلوا عنه واحدا إثر واحد على تعاقب فتنه المدونة في كتب التاريخ ولم يبق (١) معه إلا أهل مذهبه في الحشو من جهلة المقلدة ، ومن ظن أن علماء عصره صاروا كلهم إلبا واحدا ضده حسدا من عند أنفسهم فليتهم عقله وإدراكه قبل اتهام الآخرين ، بعد أن درس مبلغ بشاعة شواذه في الاعتقاد والعمل وهو لم يزل يستتاب استتابة إثر استتابة ، وينقل من سجن إلى سجن إلى أن أفضى إلى ما عمل وهو مسجون فقبر هو وأهواؤه في البابين بموته وبردود العلماء عليه وما هي ببعيدة عن متناول رواد الحقائق.

مسايرة ابن القيم لابن تيمية في فتنته

وكان ابن زفيل الزرعي المعروف بابن القيم يسايره في شواذه كلها حيا وميتا ، ويقلده فيها تقليدا أعمى في الحق والباطل ، وإن كان يتظاهر بمظهر الاستدلال لكن لم يكن استدلاله المصطنع سوى ترديد منه لتشغيب قدوته دائبا على إذاعة شواذ شيخه ، متوخيا في غالب مؤلفاته تلطيف لهجة أستاذه في تلك الشواذ ، لتنطلي وتنفق على الضعفاء ، وعمله كله التلبيس والمخادعة والنضال عن تلك الأهواء المخزية حتى أفنى عمره بالدندنة حول مفردات الشيخ الحراني. تراه يثرثر في كل واد ، ويخطب بكل ناد بكلام لا محصل له عند أهل التحصيل ، ولم يكن له حظ من المعقول ، وإن كان كثير السرد لآراء أهل النظر. ويظهر مبلغ تهافته واضطرابه لمن طالع (شفاء العليل) له بتبصر ، ونونيته وعزوه من الدلائل على أنه لم يكن ممن له علم بالرجال ولا ينقد الحديث حيث

__________________

(١) وثناء بعض المتأخرين عليه لم يكن إلا عن جهل بمضلات الفتن في كلامه ووجوه الزيغ في مؤلفاته ومنهم من ظن أنه دام على توبته بعد ما استتيب فدام على الثناء ولا حجة في مثل تلك الأثنية ، وأقواله الماثلة أمامنا في كتبه لا يؤيدها إلا غاو غوى ، نسأل الله السلامة.

٤١٨

أثنى فيهما على أناس هلكى ، واستدل فيهما بأخبار غير صحيحة على صفات الله سبحانه. وقد ذكره الذهبي في المعجم المختص بما فيه عبرة ، ولم يترجم له الحسيني ولا ابن فهد ولا السيوطي في عداد الحفاظ في ذيولهم على طبقات الحفاظ ، وما يقع من القارئ بموقع الإعجاب من أبحاثه الحديثية في زاد المعاد وغيره فمختزل مأخوذ مما عنده من كتب قيمة لأهل العلم بالحديث «كالمورد الهني شرح سير عبد الغني للقطب الحلبي» ونحوه ولو لا محلى ابن حزم وإحكامه ومصنف ابن أبي شيبة وتمهيد ابن عبد البر لما تمكن من مغالطاته وتهويلاته في أعلام الموقعين. وكم استتيب وعزر مع شيخه وبعده على مخاز في الاعتقاد والعمل تستبين منها ما ينطوي عليه من المضي على صنوف الزيغ تقليدا لشيخه الزائغ وسيلقى جزاء عمله هذا في الآخرة ـ إن لم يكن ختم له بالتوبة والإنابة ـ كما لقي بعض ذلك في الدنيا.

نماذج من أقوال أصحاب

ابن القيم وأضداده والمتحايدين

قال الذهبي في المعجم المختص عن ابن القيم هذا : عنى بالحديث بمتونه وبعض رجاله وكان يشتغل في الفقه ويجيد تقريره ، وفي النحو ويدريه ، وفي الأصلين. وقد حبس مدة لإنكاره على شد الرحيل لزيارة قبر الخليل (إبراهيم عليه‌السلام) ثم تصدر للاشتغال ونشر العلم لكنه معجب برأيه جريء على الأمور اه.

قال ابن حجر في الدرر الكامنة : غلب عليه حب ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله بل ينتصر له في جميع ذلك ، وهو الذي هذّب كتبه ونشر علمه .. واعتقل مع ابن تيمية بالقلع بعد أن أهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرة ، فلما مات أفرج عنه وامتحن مرة أخرى بسبب فتاوى ابن تيمية وكان ينال من علماء عصره وينالون منه اه.

قال ابن كثير كان يقصد للإفتاء بمسألة الطلاق حتى جرت له بسببها أمور يطول بسطها مع ابن السبكي وغيره .. وكان جمّاعا للكتب فحصل منها ما لا يحصر حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرا طويلا سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم .. وهو طويل النفس في مصنفاته يتعانى الإيضاح جهده ، فيسهب (١) جدا ، ومعظمها من كلام شيخه يتصرف في ذلك ، وله في ذلك ملكة قوية ، ولا يزال يدندن حول مفرداته وينصرها ويحتج لها .. وجرت له محن مع القضاة منها في

__________________

(١) الإسهاب : الإطناب ، وهو عكس الإيجاز.

٤١٩

ربيع الأول طلبه السبكي بسبب فتواه بجواز المسابقة بغير محلل فأنكر عليه وآل الأمر إلى أنه رجع عما كان يفتي به من ذلك اه. وقال : التقى الحصني : كان ابن تيمية ممن يعتقد ويفتي بأن شد الرحال إلى قبور الأنبياء حرام لا تقصر فيه الصلاة ، ويصرح بقبر الخليل وقبر النبي صلى الله عليهما وسلم. وكان على هذا الاعتقاد تلميذه ابن قيم الجوزية الزرعي وإسماعيل بن كثير الشركويني ، فاتفق أن ابن قيم الجوزية سافر إلى القدس الشريف ورقى على منبر في الحرم ووعظ وقال في أثناء وعظه بعد أن ذكر المسألة : وها أنا راجع ولا أزور الخليل. ثم جاء إلى نابلس وعمل له مجلس وعظ وذكر المسألة بعينها حتى قال فلا يزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام إليه الناس وأرادوا قتله فحماه منهم والي نابلس ، وكتب أهل القدس وأهل نابلس إلى دمشق يعرفون صورة ما وقع منه فطلبه القاضي المالكي فتردد وصعد إلى الصالحية إلى القاضي شمس الدين بن مسلم الحنبلي وأسلم على يديه فقبل توبته وحكم بإسلامه وحقن دمه ولم يعزره لأجل ابن تيمية .. ثم أحضر ابن قيم الجوزية وادعى عليه بما قاله في القدس الشريف وفي نابلس فأنكر ، فقامت عليه البينة بما قاله فأدب وحمل على جمل ثم أعيد في السجن ثم أحضر إلى مجلس شمس الدين المالكي وأرادوا ضرب عنقه فما كان جوابه إلا أن قال إن القاضي الحنبلي حكم بحقن دمي وبإسلامي وقبول توبتي ، فأعيد إلى الحبس إلى أن أحضر الحنبلي فأخبر بما قاله فأحضر وعزر وضرب بالدرة وأركب حمارا وطيف به في البلد والصالحية وردوه إلى الحبس ـ وجرسوا ابن القيم وابن كثير وطيف بهما في البلد وعلى باب الجوزية لفتواهم في مسألة الطلاق اه.

قال ابن رجب : قد امتحن وأوذي مرات وحبس مع الشيخ تقي الدين في المدة الأخيرة بالقلعة منفردا ولم يفرج عنه إلا بعد موت الشيخ اه.

وقد سقت هنا نماذج من كلمات أصحابه وأضداده والمتحايدين في حقه في هذا الكتاب ، وأرجو أن الحق لا يتعدى ما دللت عليه في حقه فيما كتبناه.

أحق الناس بالرثاء

وأحق الناس بالرثاء وأجدرهم بالترحم من أفنى عمره في سبيل العلم منصاعا لمبتدع يرديه من غير أن يتخير أستاذا رشيدا يهديه ، ومثله إذا دوّن أسفارا لا يزداد بها إلا بعدا عن الله وأوزارا ، وهو الذي يصبح متفانيا في شيخه الزائغ بحيث لا يسمع إلا بسمعه ولا يبصر إلا ببصره في جميع شئونه ، ويبقى في أحط دركات الجهل من

٤٢٠