العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

الصحيح والعقل الصريح فاشتد ذاك الحرب بين فريقنا وفريقكم وتأصلت تلك العداوة من يوم أمر إبليس بالسجود فأتى التلاميذ الوقاح فانظر إلى ميراثهم ذا الشيخ هذا الذي ألقى العداوة بيننا».

فصل

في أن التعطيل أساس الزندقة

قال : «من قال إن الله ليس بفاعل فعلا يقوم (١) به وليس أمره قائما به وليس فوق عباده ، فثلاثة لا تبقى من الإيمان حبة خردل وقد استراح من القرآن والرسول وشريعة الإسلام وتمام ذاك جحوده للصفات وتمامه الإرجاء وتمامه قوله في المعاد» (٢).

فصل

في بهت أهل الشرك والتعطيل

قال : «قالوا تنقصتم رسول الله ، وا عجبا ، ونظيره قول النصارى إنا تنقصنا المسيح».

هذه الفصول كلها كما ترى.

__________________

(١) كم يكرر النظام قيام الفعل به تعالى وهو الذي دعاه وشيخه إلى القول بحوادث لا أول لها وهذا من الخطورة بمكان ، قال الإمام أبو منصور عبد القاهر في أصول الدين : وأما جسمية خراسان من الكرامية فتكفيرهم واجب لقولهم بأن الله له حد ونهاية من جهة السفل ، ومنها يماس عرشه ولقولهم بأن الله محل للحوادث وإنما يرى الشيء برؤية تحدث فيه ويدرك ما يسمعه بإدراك يحدث فيه ولو لا حدوث الإدراك فيه لم يكن مدركا لصوت ولا مدركا لمرئي وقد أفسدوا بإجازة حلول الحوادث في ذات الله تعالى لأنفسهم دلالة الموحدين على حدوث الأجسام بحلول الحوادث اه. وأنت عرفت مذهب الناظم في تلك المسائل.

(٢) ثم قال :

وتمام هذا قولكم بفناء دا

ر الخلد فالداران فانيتان

مع أن الناظم يقول في كثير من كتبه بنفي الخلود للكفار في النار وبهذا حكم على نفسه بالكفر ، انظر كلامه فيمن لا يرى قيام الحوادث بالله والفوقية المكانية له تعالى. وجعل العمل جزءا من الإيمان حقيقة مؤد إلى تكفير مرتكبي الكبائر كما هو مذهب الخوارج. ونفي قيام الأفعال الحادثة به تعالى بعده نفي الصفات والله ينتقم منه.

٥٤١

فصل

قال : «ولنا الحقيقة من كلام إلهنا ونصيبكم منه المجاز الثاني وخيامنا مضروبة بمشاعر الوحيين وخيامكم (١) مضروبة في التيه فالمكان كل ملدد حيران ، هذه شهادتهم على محصولهم عند الممات والله يشهد أنهم أيضا كذا ولنا المسانيد والصحاح ولكم تصانيف الكلام ونقول : قال الله قال رسوله في كل تصنيف وكل مكان لكن تقولون : قال أرسطو وقال ابن الخطيب (٢) وقال ذو العرفان شيخ لكم يدعى ابن سينا ، وخيار ما تأتون قال : الأشعري وتشهدون (٣) عليه بالبهتان ، والكفر عندكم خلاف شيوخكم ووفاقهم فحقيقة الإيمان».

انتهى ، يكفيه أن ينسب القائلين عند موتهم بالعجز عن حقيقة الإدراك إلى الكفر وهي كلمة الصّدّيق الأكبر (إن العجز عن حقيقة الإدراك إدراك).

__________________

(١) بل أهل السنة هم الذين جمعوا بين الكتاب والسنة وآثار السلف والبراهين العقلية التي هي من حجج الله سبحانه ، من غير إهمال شيء منها ، مراعين مراتب الأدلة ووجوه الدلالة وإنما مذهب السلف عدم الخوض في الصفات مع التنزيه العام وهم من أبعد الناس عن حمل ما في كتاب الله وما صحّ في السنة على ما يوهم التشبيه فإذا تكلموا إنما يتكلمون بما يوافق التنزيه وهم الذين يقولون فيما صحّ لفظه : «أمروه كما جاء بدون تفسيره بل تفسيره قراءته بلا كيف ولا معنى» كما تواتر ذلك عن السلف ولا سيما عن أحمد وقد ذكرنا بعض نصوص لهم في ذلك ، وأما أصحاب الناظم فهم الذين جمعوا بين الإسرائيليات والجاهليات وأنواع الخرافات والأخبار الموضوعات كما يظهر من كتبهم في العلو والسنة والتوحيد والنحل أين في الصحاح والسنن (ينزل بذاته) و (يستوي على العرش استواء استقرار وجلوس) و (يتحرك) و (يتكلم بصوت)؟ فلو وقفوا حيث وقف الكتاب والسنة والبرهان العقلي وأبوا الخوض في الصفات بعقولهم الضئيلة لكانوا على الهدى لكنهم حادوا وزادوا ، قاتلهم الله ما أوقحهم وأشنع إفكهم على أهل الحق.

عظم شأن الفخر الرازي في الرد على الحشوية

(٢) هو الإمام فخر الدين الرازي ، سيف الله المسلول على المجسمة وهو من أبغض أهل العلم إليهم لأنه تمكن ببيانه الواضح وبرهانه الدامغ من إزالة شرور المجسمة من بلاد الشرق كما أجهز على المجسمة الذين أووا إلى الشام بكتابه (أساس التقديس) وهو كتاب يحق أن يكتب بماء الذهب وأن يجعل من كتب الدراسة في بلاد تشيع فيها مخازي المشبهة وهو كاف في قمعهم ، والله سبحانه يكافيه على ذلك ، وتفسيره الكبير من أهم الكتب في الرد على الحشوية وفي ذلك ما يكون كفارة لما بدر منه من بعض أغلاط ، سامحه الله وأعلى منزلته في الجنة.

(٣) ومذهبه هو ما في كتب أصحابه وأصحاب أصحابه كأبي منصور عبد القاهر البغدادي والقشيري وابن الجويني ونحوهم وقد أفنى الحشوية مؤلفات الإمام في فتن بغداد وتصرفوا فيما بالأيدي من كتبه ودسوا ما شاءوا ، قاتلهم الله.

٥٤٢

فصل

أنكر فيه على خصومه تكفيرهم إياه وقال : «اسمع إذن يا منصفا حكميهما وانظر إذن هل يستوي الحكمان ، هم عندنا قسمان أهل جهالة ومعاند فالمعاند كافر والجاهل نوعان أحدهما متمكن من العلم فهو فاسق وفي كفره قولان ، والوقف عندي فيهم لست الذي بالكفر أنعتهم ولا الإيمان ، والله أعلم بالبطانة منهم لكنهم مستوجبون عقابه قطعا لأجل البغي والعدوان ، النوع الثاني عاجز عن بلوغ الحق مع قصد وإيمان وهم ضربان أحدهما قوم دهاهم حسن ظنهم بشيوخهم فمعذورون إن لم يظلموا أو يكفروا والآخرون طالبون للحق لكن صدهم عن علمه شيئان أحدهما طلب الحقائق من سوى أبوابها فأولاء بين الذنب والأجرين فانظر إلى أحكامنا فيهم وأحكامهم فينا».

انتهى كلامه ، وهو كلام من يعتقد أن خصومه خارجون بتكفيره وخصومه يقولون لا تكفر أحدا من أهل القبلة.

فصل

في أذان أهل السنة بصريحها جهرا على رءوس منابر الإسلام

قال : «شبهتم الرّحمن بالأوثان (١) في عدم الكلام هم أهل تعطيل وتشبيه معا

__________________

(١) ناحت العجل بل من قال إن كلام معبوده حرف وصوت قائمان به فهو الذي نحت عجلا : «لا يحل لمسلم أن يعتقد أن كلام الله صوت وحرف لا من طريق العقل ولا من طريق الشرع ، فأما طريق العقل فلأنه الصوت والحرف مخلوقان محصوران ، وكلام الله يجل عن ذلك كله وأما من طريق الشرع فلأنه لم يرد في كلام الله صوت وحرف من طريق صحيحة ولهذا لم نجد طريقا صحيحة لحديث ابن أنيس وابن مسعود اه».

وأنت تعلم مبلغ استبحار ابن العربي في الحديث وجزء الصوت للحافظ أبي الحسن المقدسي لا يدع أي متمسك في الروايات في هذا الصدد لهؤلاء الزائغين ومن رأى نصوص فتاوى العز بن عبد السلام وابن الحاجب والجمال الحصيري والعلم السخاوي ومن قبلهم ومن بعدهم من أهل الحق كما هو مدوّن في نجم المهتدي ودفع الشبه وغيرهما يعلم مبلغ الخطورة في دعوى أن كلام الله حرف وصوت قائمان به تعالى وقد سبق نقل بعض النصوص منها ولا تصح نسبة الصوت إلى الله إلا نسبة ملك وخلق لكن هؤلاء السخفاء رغم تضافر البراهين ضدهم ودثور الآثار التي يريدون البناء عليها يعاندون الحق ويظنون أن كلام الله من قبيل كلام البشر الذي هو كيفية اهتزازية تحصل للهواء من ضغطه باللهاة واللسان ، تعالى الله عن ذلك ، ويدور أمرهم بين التشبيه بالصنم أو التشبيه بابن آدم (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩].

٥٤٣

بالجامدات تسعون وجها يبطل المعنى الذي قلتم هو النفس (١) للقرآن».

ولا وجه واحد. (وتسعون إلى آخره ساقطة من المطبوع).

قال : «وإليه قد عرج الرسول حقيقة».

__________________

الكلام النفسي

(١) وقد صحّ عن أحمد فيما جاوب به المتوكل وغيره كما هو مذكور في كتاب السنة وعيون التواريخ وغيرهما أنه كان يقول : القرآن من علم الله وعلم الله غير مخلوق فالقرآن غير مخلوق وهذا دليل على أنه كان يريد بالقرآن ما هو قائم بالله ، وتابعه ابن حزم في الفصل. فقوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) [يوسف : ٧٧] فقال : إما بدل من أسر أو استئناف بياني وعلى التقديرين تدل الآية على أن للنفس كلاما لقوله في نفسه ـ كما حكى القرآن الكريم ـ (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) [يوسف : ٧٧] وكذلك قوله تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) [الزّخرف : ٨٠] وفي الحديث السر ما أسرّه ابن آدم في نفسه وقوله تعالى (... يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤] أي يقولون في أنفسهم بدليل السياق وقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ) [الأعراف : ٢٠٥].

كل ذلك من أدلة الكلام النفسي وحديث أم سلمة في الطبراني في رجل سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلا :

إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يلقي ذلك الكلام إلا مؤمن» وما في الحديث القدسي «فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» من أدلة الكلام النفسي أيضا وقد أقرّ الذهبي بحجية الأخير في ذلك في كتاب العلو له ، ومن الدليل على ذلك أيضا قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) [المجادلة : ٨] فقوله تعالى (بِأَلْسِنَتِهِمْ) [النّساء : ٤٦] و (بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] في قوله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١١] و (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] لم يجعل القول باللسان مجازا حتى يظن المجازية في القول في النفس تمسكا بلفظ (فِي أَنْفُسِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤] كما توهم بعض أهل الأهواء وقول عمر الفاروق «زورت في نفسي كلاما» أشهر من نار على علم ، فمن ردّ أن يكون كلام في النفس رد على تلك الأدلة الصريحة والحامل لأهل الحق على القول بالكلام النفسي هو إجماع التابعين على القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق فخرّجوا إجماعهم هذا على هذا الوجه المعقول وإلا لما صحّ قولهم. وتسفيه أحلام التابعين جميعا لا يصدر إلا عن مجازف فالفرق بين ما هو قائم بالخلق والمعنى القائم بالله سبحانه هو المخلص الوحيد في هذه المسألة فاللفظي حديث والنفسي قديم كما أشار إلى هذا وإلى ذاك إمام الأئمة أبو حنيفة وتابعه أهل الحق. ويتضح بهذا البيان الواضح أن قول بعض زهّاد الحشوية في هذا البحث : «نحن نستدل في الحرف والصوت بقوله تعالى : (كهيعص (١)) [مريم : ١] ونحوه وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجمع الله الخلائق يوم القيامة ..» وخصومنا يستدلون بقول الأخطل النصراني «إن البيان لفي الفؤاد» بتحريف البائن إلى الكلام» هواء بعيد عن الحقيقة بعد الأرض عن السماء وهراء لا يصدر إلا من السفهاء ومثل هذا السفه حمل بعض الشافعية أن يشترط في مدرسة بناها بدمشق أن لا يطأ أرضها يهودي ولا نصراني ولا حشوي حنبلي كما في الدارس في تاريخ المدارس وقانا الله شر الغلو.

٥٤٤

جسدا له خوار يحمل أشياعه على تعبده ، قال أبو بكر ابن العربي في العارضة :

أين في القرآن إليه؟

«قال والله أكبر من أشار رسوله حقا إليه بإصبع وبنان».

أين في الحديث إليه؟

«قال والله فوق العرش والكرسي».

أين في القرآن إن الله فوق العرش؟.

فصل

في تلازم التعطيل والشرك

«قال : واعلم بأن الشرك والتعطيل مذ كانا هما لا شك مصطحبان أبدا فكل معطل هو مشرك».

سواء أراد بالتعطيل الإنكار للذات أو إنكار الصفات أو بعضها هو مباين للشرك.

قال : «والناس في ذا ثلاث طوائف : إحدى الطوائف مشرك بإلهه فإذا دعاه دعا إلها ثاني ، وثانيها : جاحد يدعو سوى الرّحمن ، هو جاحد للرب يدعو غيره شركا وتعطيلا له قدمان».

هذا ما يستقيم يا هذا.

قال : «وثالث هذه الأقسام خير الخلق فمعطل الأوصاف ذو شرك كذا ذو الشرك فهو معطل الرّحمن».

فصل

قال :

لكن أخو التعطيل شر من

أخي الإشراك بالمعقول والبرهان

والله لا معقول ولا برهان وأخذ يبينه بما لا يصح وإن كان فيه شيء كثير من الصحيح لا يحصل به مقصوده بل يلبس به.

ثم قال :

لكن أخو التعطيل ليس لدي

ه إلا النفي أين النفي من إيمان

٥٤٥

فصل

في مثل المشرك والمعطل

قال :

أين الذين قد قال في ملك عظي

م لست فينا قط ذا سلطان

فذكر ثمانية أبيات من هذا الخطاب الذي قد خرق حجاب الهيبة ثم قال : «هذا وثان قال أنت مليكنا إذ حزت أوصاف الكمال ولقد جلست على سرير الملك متصفا بتدبير عظيم الشأن».

هذا تصريح بالجلوس (١). (وفي المطبوع وقد استويت).

__________________

(١) يعجب المصنف كيف يصرح الناظم بالجلوس. ولأحد تلامذته الأخصاء جزء في إثبات المماسة ردا على من ينزه الله سبحانه عن ذلك وما ينطوي عليه هؤلاء أفظع بكثير من فلتات لسانهم فلو كانوا بين قوم على معتقدهم لكنت تراهم يصرحون بكل ما تكن صدورهم. قال ذلك التلميذ ـ أعني محمدا المنبجي ـ صاحب الفرج بعد الشدة في الجزء المذكور : قال الخلال في كتاب السنة : حدثنا أحمد بن الحسين الرقي حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا محمد بن فليح حدثني أي عن سعيد بن الحارث عن عبيد بن حنين قال : بينما أنا جالس في المسجد إذ جاءني قتادة بن النعمان يحدث وثاب إليه الناس ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله لما فرغ من خلقه استوى على عرشه واستلقى ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال إنها لا تصلح لبشر». قال الحافظ الذهبي. وغيره إسناده على شرط البخاري ومسلم اه.

ولعلك علمت بذلك قيمة كتاب السنة للخلال ، وفي ذلك الجزء من المخازي ما يضاهي ما نقلناه آنفا ، ولابن بدران الدشتي جزء في إثبات الحد والجلوس لله سبحانه ويسوق فيه الحديث المذكور بطرق كما ذكرت ذلك فيما علقت على ذيول طبقات الحفاظ قاتلهم الله ما أجرأهم على الله. ولعلك علمت بذلك أيضا قيمة تهويلهم بأنهم يتابعون السنة كما علمت قيمة تصحيحهم للروايات المطابقة لزيغهم.

تنبيه : الذهبي يبعد عن رشده ويفقد صوابه إذا جاء دور الكلام على أحاديث في الصفات أو في فضائل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أهل بيته عليهم‌السلام وكذلك حينما يترجم لشافعي من الأشاعرة أو حنفي مطلقا رغم تظاهره بالإنصاف والبعد عن التعصب في كثير من المواضع على سعة علمه في الحديث ورجاله. فهل يتصور من عالم يعقل ما يقول أن يصحح مثل هذا الحديث الذي بطلانه أظهر من الشمس في ضحوة النهار؟ فطالب الحق لا يعير سمعا لأقواله فيما ذكرناه. وهو شافعي الفروع إلا أنه مجسم اعتقادا رغم تبرّيه منه في كثير من المواضع وعنده نزعة خارجية وإن كان أهون شرا بكثير من الناظم وشيخه في ذلك كله ، ومن لا يكون متساهلا في أمر دينه ، لا يثق بكلام مثله فيما ذكرناه بعد أن عرف دخائله. والتاج ابن السبكي أطراه غاية الإطراء حيثما ترجم له في طبقات الشافعية الكبرى أداء لحق التلمذة عليه لكن لم يمنعه ذلك من ـ

٥٤٦

__________________

ـ الإشارة إلى ما ينطوي عليه من البدع والأهواء في مواضع من كتابه حيث قال في الكتاب المذكور (١ ـ ١٩٧) : وأما تاريخ شيخنا الذهبي فإنه على حسنه وجمعه مشحون بالتعصب المفرط ، لا آخذه الله فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين ـ أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق ـ واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين والحنفيين ومال فأفرط على الأشاعرة ومدح فزاد في المجسمة اه حتى عده لا يعول على تراجمه لهؤلاء ، وقال أيضا في حقه (٢ ـ ٢٤٩) من الكتاب المذكور : وتأتي أنت تتسكع. في ظلم التجسيم الذي تدعي أنك بريء منه وأنت من أعظم الدعاة إليه وتزعم أنك تعرف هذا الفن ـ يعني علم أصول الدين ـ وأنت لا تفهم منه نقيرا ولا قطميرا اه.

حال الذهبي ـ ما له وما عليه

وقال أيضا في ترجمة ابن جرير ناقلا عن الحافظ صلاح الدين العلائي أنه قال عن الذهبي ما نصه : «لا أشك في دينه وورعه وتحرّيه فيما يقوله عن الناس ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات ومنافرة التأويل والغفلة عن التنزيه حتى أثّر ذلك في طبعه انحرافا شديدا عن أهل التنزيه وميلا قويا إلى أهل الإثبات فإذا ترجم واحدا منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن ويبالغ في وصفه ويتغافل عن غلطاته ويتأول له ما أمكن ، وإذا أذكر أحدا من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه ويكثر من قول من طعن فيه ويعيد ذلك ويبديه ويعتقده دينا وهو لا يشعر ويعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها وإذا ظفر لأحد منهم بغلطة ذكرها وكذلك يفعل في أهل عصرنا إذا لم يقدر على أحد منهم بتصريح يقول في ترجمته والله يصلحه ... ونحو ذلك وسببه المخالفة في العقائد ، انتهى».

قال التاج ابن السبكي عقب ما تقدم ما نصه : «والحال في شيخنا الذهبي أزيد مما وصف وهو شيخنا ومعلمنا غير أن الحق أحق أن يتبع وقد وصل من التعصب المفرط إلى حد يسخر منه وأنا أخشى عليه يوم القيامة عند من لعل أدناه عنده أوجه منه فالله المسئول أن يخفف عنه وأن يلهمهم العفو عنه وأن يشفعهم فيه ، والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه وعدم اعتبار قوله ولم يكن يستجري أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أنه لا ينقل عنه ما يعاب عليه ، وأما قول العلائي عن دينه وورعه وتحرّيه فيما يقوله فقد كنت أعتقد ذلك وأقول عند هذه الأشياء ربما أعتقدها دينا ، ومنها أمور أقطع بأنه يعرف بأنها كذب وأقطع بأنه لا يختلقها وأقطع بأنه يحب وضعها في كتبه لتنشر وأقطع بأنه يحب أن يعتقد سامعها صحتها بغضا للمتحدث فيه وتنفيرا للناس عنه مع قلة معرفته بمدلولات الألفاظ ومع اعتقاده (أن ذلك) مما يوجب نصر العقيدة التي يعتقدها هو حقا ، ومع عدم ممارسته لعلوم الشريعة غير أني لما أكثرت بعد موته النظر في كلامه عند الاحتياج إلى النظر فيه توقفت في تحرّيه فيما يقوله ولا أزيد على هذا غير الإحالة على كلامه» ... إلى آخر ما قاله فليراجع باقي كلامه من أراد المزيد على ما نقلنا.

وقال التاج أيضا في طبقاته وهو يترجم لإمام الحرمين ما نصه : «وقد كان الذهبي لا يدري شرح البرهان ، ولا هذه الصناعة ، ولكنه يسمع خرافات من طلب الحنابلة فيعتقدها حقا

٥٤٧

__________________

ـ ويودعها تصانيفه» هذا قدر عقلية الذهبي وقدر تحرّيه عند صاحب الطبقات ، ولعل القارئ يرى هذه العقلية من أسخف العقليات كيف لا وهي عقلية ترى الخرافات حقا تودع في المصنفات ويبني عليها ما يتخذه عباد الله دينا ، ورجل هذا حاله أي قدر يكون قدره عند أولي النهي ، الذين عرفوا دخائله.

ولسنا نطيل النقل للقارئ في شأن سقوط كلام هذا الرجل في علماء الحنفية والمالكية والشافعية وهم قادة الأمة وأدلاؤها إذا ادلهم ليل المشكلات وكفى القارئ في هذا الرجل قول ابن السبكي السابق (والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه وعدم اعتبار قوله) فإن هذا معناه القضاء على الرجل وإسقاطه من عداد العلماء الذين يحترم قولهم ، ليتأمل القارئ طويلا في قول التاج ابن السبكي السابق أيضا (ولم يكن يستجري أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أن لا ينقل عنه ما يعاب عليه) فإن هذا معناه أن الرجل كان يعلم حق العلم أنه قال في تلك الكتب ما يوقن أنه ليس بحق ، ولذلك كان يحرص على أن لا يطلع الناس عليه لئلا يفتضح بأكاذيبه البعيدة عما عليه العلماء الذين يكتب عنهم ، وأرجو وألح في الرجاء أن لا يغفل القارئ عن قول صاحب الطبقات السابق في هذا الرجل من أنه (كان قليل المعرفة بمدلولات الألفاظ) ومن من العقلاء يرضى أن يسقط نفسه فيعد من زمرة العلماء رجلا يصل به الجهل إلى درجة قلة المعرفة بمدلولات الألفاظ؟ كما أرجو القارئ أيضا وأشدد في هذا الرجاء أن يلتفت لقول صاحب جمع الجوامع (إن الذهبي لم يمارس علوم الشريعة) ومن فقد رشده وضاع صوابه حتى يستطيع أن يعد من العلماء رجلا لم يمارس الشريعة فليعلم حق العلم ليراعي حق الرعاية. ولا ينسى القارئ أن ما تقدم شهادة تلميذ هو إمام فهو أعرف بشيخه ولعل هذا يكفي في دفع ما ربما يقوله بعض المغرورين بالذهبي أو ينقله عن بعض المغرورين.

وقد أشرت إلى حاله في مواضع مما علقت به على ذيول طبقات الحفاظ وزغل العلم.

ومما يزيدك بصيرة في هذا الباب اجتراء الذهبي على حذف لفظ «إن صحت الحكاية عنه» من كلام البيهقي في الأسماء والصفات (ص ٣٠٣) عند ما نقل كلامه في كتاب العلو (ص ١٢٦) في صدد نسبة القول بأن الله في السماء ، إلى أبي حنيفة ليخيل إلى السامع أن سند هذه الرواية لا مغمز فيه مع أن نوحا الجامع ربيب مقاتل بن سليمان المجسم ، في السند هالك مثل زوج أمه ، وكذلك نعيم حماد ربيب نوح ، وقد ذكره كثير من أئمة أصول الدين في عداد المجسمة فأين التعويل على رواية مجسم فيما يحتج به لمذهبه؟ وليس بقليل ما ذكره الذهبي في حقهما في ميزان الاعتدال على أنه لو سبق التفاف نحو عشرة آلاف شخص حول بدعه امرأة أتت من ترمذ إلى الكوفة للدعوة إلى مذهب جهم لكان لهذا النبأ شأن عظيم في كتب الأنباء والرواية ولما انفرد بمثل ذلك الخبر يحيى بن يعلى المجهول عن نعيم بن حماد الهالك عن نوح الجامع لكل شيء غير الصدق ولا كان انفرد أحمد بن جعفر بن نصر عن يحيى المذكور ولا أبو الشيخ بن حيان صاحب كتاب العظمة الذي يحوي كل هاتف وقد ضعفه بلديه الحافظ العسال ، وقد أشار البيهقي بقوله «إن صحت الحكاية» إلى ما في الرواية من وجوه الخلل. وعند ما حذف الذهبي هذا اللفظ يظن من لا خبرة عنده بالرجال أن الإله في السماء قول فقيه الملة إمام شطر هذه

٥٤٨

__________________

ـ الأمة بل ثلثيها في جميع القرون مع بطلان رواية ذلك عنه بالمرة. ولأبي حنيفة كلمة في الفقه الأبسط رواية أبي مطيع عنه وهي «من قال لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض كفر» وعلّل الأصحاب ذلك بأن هذا القائل جوّز المكان في حقه تعالى وهو كفر؟ وما طبع في الهند باسم شرح الفقه الأكبر للماتريدي إنما هو شرح أبي الليث على الفقه الأبسط مع سقم النسخة الهندية ، وبدار الكتب المصرية نسخة خطية جيدة من شرح أبي الليث. وقد زاد أبو إسماعيل الهروي في الفروق على تلك الكلمة ما شاء من كيسه مما يوافق مذهبه في التجسيم كذبا وزورا بسند مركب ، ونقل الذهبي في كتاب العلو جملة ذلك بدون أن يذكر سند الهروي في روايته تعمية وترويجا للباطل ، وكذا فعل الناظم في عزوه ـ راجع شرح أبي الليث وشرح البزدوي وإشارات المرام في عبارات الإمام للبياضي ، ودفع الشبه للتقي الحصني وشرح الفقه الأكبر لعلي القارئ فيما نقله عن ابن عبد السلام ولم يراقب الله من زاد على الكلمة السابقة ما أشرنا إليه كما وقع في بعض نسخ الكتاب المذكور من عهد ذلك الهروي. وقد روى الذهبي في كتاب العلو أيضا عن الدار قطني الأبيات المعروفة عند المجسمة بسند يقول فيه أنبأنا أحمد بن سلامة عن يحيى بن بوش أنبأنا ابن كادش أنشدنا أبو طالب العشاري أنشدنا الدار قطني : حديث الشفاعة في أحمد ، إلى أحمد المصطفى بسنده الأبيات (وآخرها كما في بدائع الفوائد لابن القيم ٤ ـ ٣٩) :

فلا تنكروا أنه قاعد

ولا تجحدوا أنه يقعد

فأحمد بن سلامة الحنبلي شيخ الذهبي مات سنة ٦٧٨ والذهبي ابن خمس ، ويحيى بن أسعد بن بوش الحنبلي الخباز المتوفى سنة ٥٩٣ وأحمد بن سلامة ابن أربع كان أميا لا يكتب ، وأبو العز بن كادش أحمد بن عبيد الله المتوفى سنة ٥٢٦ من أصحاب العشاري اعترف بالوضع ويقال ثم تاب ، راجع الميزان. وحكم مثله عند أهل النقد معروف ، وأبو طالب محمد بن علي العشاري الحنبلي المتوفى سنة ٤٥٢ مغفل يتقن ما يلقن ، وقد راجت عليه العقيدة المنسوبة إلى الشافعي كذبا ، وكل ذلك باعتراف الذهبي نفسه في الميزان وغيره ، فهل يصح عزو تلك الأبيات إلى الدار قطني بمثل هذا السند؟ وقال الذهبي أيضا في العبر في ترجمة أبي يعلى الحنبلي : (صاحب التصانيف وفقيه العصر كان إماما لا يدرك قراره ولا يشق غباره وجميع الطائفة معترفون بفضله ومغترفون من بحره). وأنت علمت حال أبي يعلى مما ذكره ابن الجوزي في دفع الشبه ، ومما نقلناه عن كتبه في هذا الكتاب ومما ذكره ابن الأثير في الكامل في حوادث سنة ٤٢٩ ، وترى الذهبي كثيرا ما يقول في رد ما أخرجه الحاكم في المستدرك في فضائله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام : أظنه باطلا. بدون ذكر أي حجة ، وقد ذكر ابن الوردي في تاريخه أنه آذى كثيرا من الأحياء بتدوين ما كان يسمعه من أحداث يجتمعون به.

وفيما ذكرنا كفاية في معرفة حال الذهبي نسأل الله السلامة ، ومع ذلك هو أهون شرا من الناظم وشيخه كما سبق ، وله رسالة إلى ابن تيمية ينصحه فيها ويمنعه من المغالاة ، وسبق نشرها مع زغل العلم له. وترى الذهبي مع ثنائه البالغ في حق ابن تيمية في كثير من كتبه يقول عنه : «وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده وأنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية اه كما في الدرر الكامنة ، ويقول عنه أيضا : إنه أطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها اه» نقله ابن رجب عنه في طبقاته. ويقول عنه أيضا في زغل العلم

٥٤٩

قال :

«إن المعطل بالعداوة معلن

والمشركون أخف في الكفران»

ما لمن يعتقد في المسلمين هذا إلا السيف (١).

فصل

في أسبق الناس دخولا إلى الجنة

قال : «وروى ابن ماجه أن أولهم يصافحه (٢) إله العرش ذو الإحسان فاروق دين الله».

__________________

ـ (ص ١٧) ... وقد تعبت في وزنه وتفتيشه حتى مللت في سنين متطاولة ، فما وجدت الذي أخره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رئاسة المشيخة والازدراء بالكبار ، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور ... وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر ، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقون فلا تكن في ريب من ذلك اه».

ويقول عنه أيضا في (ص ٢٣) من زغل العلم : «... وقد رأيت ما آل أمره إليه من الحط عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحق وبباطل فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة منورا مضيئا على محياه سيما السلف ثم صار مظلما مكسوفا عليه قتمة عند خلائق من الناس ، ودجالا أفّاكا كافرا عند أعدائه ، ومبتدعا مضلا محققا بارعا عند طوائف من عقلاء الفضلاء ، وحامل راية الإسلام ، وحامي حوزة الدين ومحيي السنة عند عموم عوام أصحابه اه». وهذه الكلمات نقلها السخاوي عنه أيضا في (الإعلان بالتوبيخ) ومن الخطأ الفاحش عزوها إلى (قمع المعارض) للسيوطي اغترارا بوضع رقم التعليق في (القول الجلي) غلطا عند كلمة (قمع المعارض) مع تصحيف (زغل العلم) إلى (رجل العلم) بعد أسطر في الطبعتين مع أن أصل التعليق كان على (زغل العلم) المصحف إلى (رجل العلم) كما نبهت على ذلك فيما علقته على الزغل المطبوع وإن لم ينفع تنبيهي عند أناس لا يوقظهم من سباتهم العميق غير نفخة الصور ونسبة (زغل العلم) إلى الذهبي ليست بموضع ريبة أصلا ، وهو من المخطوطات المحفوظة في التيمورية بدار الكتب المصرية وسنأتي إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب بصورة رسالة الذهبي التي بعث بها إلى ابن تيمية ينصحه في شواذه ويكفي ما ذكرناه هنا في تبيين نظر الذهبي لابن تيمية مع أنه من أهل مذهبه المنخدعين به فنسجل للذهبي هذه الحسنات كتسجيلنا لسيئاته المذكورة مراعاة للعدل فيما له وفيما عليه وإيقاظا للمغترين به ، والله ولي الهداية.

(١) لأن ذلك زندقة مكشوفة ومروق ظاهر وإصرار على اعتقاد الإيمان كفرا قبحه الله كيف يعتقد في المشركين أنهم أخف في الكفر من المؤمنين المنزّهين والشيخ الإمام المصنف رضي الله عنه رجل معروف بالورع البالغ واللسان العفيف والقول النزيه لا تكاد تسمع منه في مصنفاته كلمة تشم منها رائحة الشدة ، ولينظر القارئ حاله هذا مع قوله في ابن القيم «ما له إلا السيف» إنه إن فكر في هذا قليلا علم العلم القاطع أن هذا الناظم بلغ في كفره مبلغا لا يجوز السكوت عليه ولا يحسن لمؤمن أن يغضي عنه ولا أن يتساهل فيه.

(٢) قاتله الله ، حديث موضوع يستدل به وشأن هذا الخبر في السقوط فوق أن يقال بين رجاله

٥٥٠

فصل

في عدد الجنات

قال : «سبحان من غرست يداه (١) جنة الفردوس ويداه أيضا أتقنت لبنائها ، هي في الجنان كآدم لكنما الجهمي ليس لديه من ذا الفضل شيء فهو ذو نكران». إنما ينكر العضو والجارحة فإن كنت أنت تثبتها فاعرف.

قال : «ولد عقوق عقّ والده ولم يثبت بذا فضلا عن الشيطان».

ما يستحيي يكذب على الناس.

قال : «ولقد روى حقا أبو الدرداء ذاك عويمر أثرا عظيم الشأن يهتز قلب العبد عند سماعه طربا بقدر حلاوة الإيمان ما مثله أبدا يقال برأيه فيه النزول (٢). ثلاث ساعات : فإحداهن ينظر في الكتاب ، الثاني : يمحو ويثبت ما يشاء بحكمة ، والساعة الأخرى إلى عدن أهله هم صفوة الرّحمن والساعة الأخرى إلى هذه السماء يقول هل من تائب ندمان».

الظاهر أنه ما ساق أبوابا في صفة الجنة إلا ليذكر هذا الحديث وأيضا ليسكت الناس بسماع صفات الجنة فيقبلون على هذه القصيدة ويعكفون عليها فيفتنهم ، أسأل الله العافية ويحق له اسم الحشوي لأن الباطل محشو في هذه القصيدة اللحناء.

قال : «وروى ابن ماجه مسندا عن جابر بينا هم في عيشهم إذا بنور ساطع رفعوا رءوسهم فرأوه نور الواحد وإذا بربهم تعالى فوقهم (٣) قد جاء للتسليم وقال السلام

__________________

ـ ضعيف بل بينهم ضعيف ومنكر الحديث وآخر قدري خلا استحالة المتن وابن كثير أهون شرا من الناظم حيث أنكره جدا في جامع المسانيد (قال المنبجي الحنبلي في إثبات المماسة) : قال ابن تيمية والمعروف عند أئمة أهل السنة وعلماء أهل الحديث أنهم لا يمتنعون عن وصف الله أنه يمس ما شاء من خلقه بل يروون في ذلك الآثار ويردون على من نفاه. انتهى ذكره في الأجوبة المصرية). قاتله الله ، ما أجرأه على الله.

(١) خلق الله آدم بعناية خاصة وبدون سببية والد وأم هذا المعنى المجازي يعقله كل من عنده ذوق العربية وأما الخبر الذي يشير إليها الناظم ففي سنده ابن علي زيد بن جدعان لا يحتج به.

(٢) هذا الخبر الموقوف ليس بثابت عن أبي الدرداء فضلا عن ثبوت رفعه إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي سنده زيادة بن محمد الأنصاري ، قال البخاري : هو منكر الحديث وقال ابن حبان يروي المناكير عن المشاهير فاستحق الترك ، نقله ابن الجوزي ، ولعلك علمت بذلك مبلغ قيمة ما يحتج به هذا البجباج النفاج.

(٣) قال الذهبي : إسناده ضعيف ، وقال ابن الجوزي : موضوع ، وقال العقيلي : أبو عاصم العباداني ـ في سنده ـ منكر الحديث لا يتابع عليه. وأما فضل الرقاشي في السند فممن لا يكتب حديثه وبمثل هذا الخبر يحتج الناظم في تكييف الرؤية.

٥٥١

عليكم جهرا ومصداقه (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)) [يس : ٥٨] من رد ذا فعلى رسول الله رد». الذي يحمله على محمل صحيح لا يرده والذي يحمله على صفات الأجسام هو الذي يرد ما يجب.

فصل

في يوم المزيد (١)

قال : «فيرون ربهم تعالى جهرة ويحاضر الرّحمن واحدهم محاضرة الحبيب يقول يا ابن فلان ، هل تذكر اليوم الذي قد كنت فيه مبارزا بالذنب قالوا يحق لنا وقد كنا إذا جلساء رب العرش».

فصل

كله فيما للعبد عند ربه في الآخرة ولو كان مفردا بالتصنيف كان حسنا ، ولكن إدخاله في قصيدة انتصب فيها للحكم بين الحشوي وخصومه وإسعار الحرب بينهم لأي معنى؟.

فصل

رجع فيه إلى ما كان عليه مما في نفسه وذكر خصومه وفصول معه ذكر فيها فرق المعادين له.

فصل

ختم به الكتاب فيه شيء يسير ولكن هذا آخر كلامنا في ذلك والله المستعان.

قال المؤلف : شرعت فيه يوم السبت الرابع والعشرين من صفر سنة ٧٤٩ وفرغت منه يوم السبت مستهل ربيع الأول من السنة (٢) والحمد لله وحده

__________________

(١) جمع طرقه أبو بكر بن أبي داود ذلك الكذاب الزائغ وسبق بيان أن ابن عساكر ألّف جزءا في توهين طرقه فتذكر. ولفظ الجلساء لم يقع إلا في بعض الطرق الواهية لحديث يوم المزيد ، راجع جزء ابن عساكر.

خاتمة السيف الصقيل

(٢) فيكون تأليف السبكي لهذا الكتاب قبل وفاة ابن القيم بنحو سنتين. هذا وكنا وعدنا عند الكلام على الذهبي أن نأتي في آخر الكتاب بصورة رسالة بعث بها الذهبي إلى ابن تيمية يحذره فيها عواقب إصراره على الشذوذ عن جمهور العلماء في مسائل أصلية وفرعية وقد ظفرنا بها بخط

٥٥٢

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

حسبنا الله ونعم الوكيل.

تمّ السيف الصقيل

__________________

ـ التقي ابن قاضي شهبة منقولا عن خط البرهان ابن جماعة المنقول من خط الحافظ أبي سعيد الصلاح العلائي المنسوخ من خط الشمس الذهبي نفسه ، وخط التقي ابن قاضي شهبة معروف وتوجد كتب بخطه في دار الكتب المصرية والخزانة الظاهرية بدمشق منها قطعة من طبقات الشافعية بدار الكتب المصرية ، ومنها ما انتقاه من التاريخ الكبير للذهبي مما يتعلق بتراجم الشافعية بالخزانة الظاهرية ففي إمكان الباحث الذي لا يعرف خط ابن قاضي شهبة أن يتأكد من خطه المقارنة بين الصورة الزنكوغرافية المنشورة هنا ، المأخوذة عن الرسالة المذكورة المحفوظة بدار الكتب المصرية وبين خطه المحفوظ في الدار والخزانة المذكورتين وإلى تلك الرسالة أشار السخاوي حيث قال في الإعلان بالتوبيخ : «ورأيت له رسالة كتبها لابن تيمية هي في دفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة» وذلك في صدد الدفاع عن الذهبي ردا على من ينسبه لفرط التعصب كما ذكرت في صدر الرسالة عند نشرها مع الزغل قبل سنين.

مقدمة رسالة الذهبي إلى ابن تيمية

وقبل الرسالة لا بد من ذكر مقدمة هنا ليكون القارئ على بينة من أمر ابن تيمية وهي أن ابن تيمية هذا ولد بحران ببيت علم من الحنابلة وقد أتى به والده الشيخ عبد الحليم مع ذويه من هناك إلى الشام خوفا من المغول ، وكان أبوه رجلا هادئا أكرمه علماء الشام ورجال الحكومة حتى ولّوه عدة وظائف علمية مساعدة له ، وبعد أن مات والده ولّوا ابن تيمية هذا وظائف والده بل حضروا درسه تشجيعا له على المضي في وظائف والده وأثنوا عليه خيرا كما هو شأنهم مع كل ناشئ حقيق بالرعاية. وعطفهم هذا كان ناشئا من مهاجرة ذويه من وجه المغول يصحبهم أحد بني العباس ـ وهو الذي تولى الخلافة بمصر فيما بعد ـ ومن وفاة والده بدون مال ولا تراث بحيث لو عيّن الآخرون في وظائفه للقي عياله البؤس والشقاء ، وكان في جملة المثنين عليه التاج الفزاري المعروف بالفركاح وابنه البرهان والجلال القزويني والكمال الزملكاني ومحمد بن الجريري الأنصاري والعلاء القونوي وغيرهم ، لكن ثناء هؤلاء غرّ ابن تيمية ـ ولم ينتبه إلى الباعث على ثنائهم ـ فبدأ يذيع بدعا بين حين وآخر وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلتات لا ينطوي هو عليها ، لكن خاب ظنهم وعلموا أنه فاتن بالمعنى الصحيح فتخلوا عنه واحد إثر واحد على توالي فتنه ، كما سبق. والذهبي كان من أشياعه ومتابعيه إلا في مسائل ، لكنه لما وجد أن فتنه تأخذ كل مأخذ ولم يبق معه سوى مقلدة الحشوية والمنخدعين به وهم شباب بدأ يسعى في تهدئة الفتنة ، مرة يكتب إلى أضداده لأجل أن يخففوا لهجتهم معه ـ كما فعل مع السبكي على رواية ابن رجب ولم نطلع على غير صدر الجواب على تقدير صحة ذلك الصدر ـ ومرة يكتب هذه الرسالة إلى ابن تيمية نفسه.

٥٥٣
٥٥٤

نص رسالة الامام الذهبي

إلى شيخ الإسلام ابن تيمية

٥٥٥
٥٥٦

نص الرسالة

ولا تخلو قراءة هذا الخط من بعض صعوبة على بعض القراء فإليك الرسالة بالحروف المعتادة مع عنوانها :

رسالة كتب (١) بها الشيخ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي إلى الشيخ تقي الدين ابن تيمية كتبتها (٢) من خط قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة رحمه‌الله وكتبها هو من خط الشيخ الحافظ أبي سعيد بن العلائي وهو كتبها من خط مرسلها الشيخ شمس الدين.

الحمد لله على ذلتي ، يا رب ارحمني وأقلني عثرتي. واحفظ عليّ إيماني. وا حزناه على قلة حزني ، وا أسفاه على السنة وذهاب أهلها. وا شوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء. وا حزناه على فقد أناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى وكنوز الخيرات. آه على وجود درهم حلال وأخ مونس ، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. وتبا لمن شغله عيوب الناس عن عيبه. إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك! إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تذكروا موتاكم إلا بخير ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا» بلى أعرف أنك تقول لي لتنصر نفسك : إنما الوقيعة في هؤلاء الذين ما شمّوا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جهاد. بلى والله عرفوا خيرا كثيرا مما إذا عمل به العبد فقد فاز وجهلوا شيئا كثيرا مما لا يعنيهم ، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. يا رجل بالله عليك كف عنا فإنك محجاج عليم اللسان لا تقر ولا تنام. إياكم والغلوطات في الدين كره نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسائل وعابها ونهى عن كثرة السؤال وقال : «إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان» وكثرة

__________________

(١) بتضمين (بعث).

(٢) والكاتب هو التقي ابن قاضي شهبة وقد ذكر في طبقات الشافعية أنه اطلع على مجاميع وفوائد بخط البرهان ابن جماعة.

٥٥٧

الكلام بغير زلل تقسي القلوب إذا كان في الحلال والحرام ، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمي القلوب. والله قد صرنا ضحكة في الوجود فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد بعقولنا ، يا رجل قد بلعت (سموم) الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات. وكثرة استعمال السموم يدمن عليه الجسم وتكمن والله في البدن. وا شوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبر وخشية بتذكر وصمت بتفكر. وآها لمجلس يذكر فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. بلى عند ذكر الصالحين يذكرون بالازدراء واللعنة. كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما بالله خلونا من ذكر بدعة الخميس وأكل الحبوب وجدّوا في ذكر بدع كنا نعدها من أساس الضلال قد صارت هي محض السنة وأساس التوحيد ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار ، ومن لم يكفر فهو أكفر من فرعون. وتعد النصارى مثلنا ، والله في القلوب شكرك إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد. يا خيبة من اتبعك فإنه معرض للزندقة والانحلال لا سيما إذا كان قليل العلم والدين باطوليا شهوانيا. لكنه ينفعك ويجاهد عندك بيده ولسانه وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل أو عامي كذاب بليد الذهن أو غريب واجم قوي المكر أو ناشف صالح عديم الفهم ، فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل ، يا مسلم أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك. إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار. إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار. إلى كم تعظمها وتصغر العباد إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد. إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح ـ والله ـ بها أحاديث الصحيحين. يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك بل في كل وقت تغير عليها بالتضعيف والإهدار أو بالتأويل والإنكار. أما آن لك أن ترعوي؟ أما حان لك أن تتوب وتنيب؟ أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل. بلى ـ والله ـ ما أذكر أنك تذكر الموت بل يزدري بمن يذكر الموت فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي بل لك همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب الكلام ولا تزال تنتصر حتى أقول : والبتة سكت. فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد فكيف حالك عند أعدائك وأعداؤك ـ والله ـ فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور وبقر. قد رضيت منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرا (فرحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي) فإني كثير العيوب عزيز الذنوب. الويل لي إن أنا لا أتوب ، ووا فضيحتي من علّام الغيوب ودوائي عفو الله ومسامحته وتوفيقه وهدايته والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.

٥٥٨

وهنا انتهت صورة رسالة الذهبي إلى ابن تيمية وفيها عبر بالغة. وليكن هذا آخر تكملة الرد على نونية ابن القيم وبها يكون إن شاء الله تعالى (تبديد الظلام المخيم من نونية ابن القيم).

لما ذا يقال للناظم ابن القيم

وقد عرف الناظم بابن القيم حيث كان أبوه قيم المدرسة الجوزية الحنبلية التي أنشأها محيي الدين ابن الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي بسوق القمح المعروفة اليوم بالبزورية بدمشق ، والغالب أن يقال له ابن قيم الجوزية لئلا يلتبس بابن القيم الكبير المصري الراوي عن الفخر الفارسي فإنه معمر مقدم ، وبذلك يعلم أن من يقول عنه (ابن القيم الجوزي) واهم وهما قبيحا وإنما هو (ابن قيم الجوزية) كما قلنا ـ ويجد القارئ الكريم في كتابنا هذا الرد على ابن تيمية كما يجد فيه الرد على ابن القيم باعتبار أن الثاني إنما يردد صدى الأول في أبحاثه كلها دون أن تكون له شخصية خاصة بل هو ظل الأول في كل آرائه وجميع أهوائه فانتظمهما الرد ولعل فيما رددنا به عليهما كفاية للمنصف وقطعا لعذر كل متعسف. وأما من تعوّد أن يقول : (عنزة وإن طارت).

خاتمة تكملة الرد

فليس خطابي معه (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب : ٤] وكان فراغي من إعادة النظر في الكتاب بمنزلي في آخر العباسية بمصر القاهرة ـ حرسها الله تعالى ـ ضحوة يوم الخميس المصادف لليوم الثالث من رجب سنة ١٣٥٦ وأسأل الله سبحانه أن ينفع به المسلمين وأن يجعله ذخرا لي يوم الدين يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم إنه المجيب البر التوّاب الرّحيم ، وأنا الفقير إلى عفو الله ومسامحته «محمد زاهد بن الحسن بن علي الكوثري» خادم العلم بدار السلطنة العثمانية سابقا عفا الله عن سيئاته ورفع منزلته ومنازل ذويه في الآخرة وأغدق عليه وعلى قرابته ومشايخه سحب رحمته ورضوانه وغفر لهم ولسائر المسلمين أجمعين.

وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

٥٥٩
٥٦٠