العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

جنازته على أعناق الأفاضل وكان يوم وفاته يوما مشهودا لم يتخلف عنه أحد من أهل دمشق حتى الحنابلة الذين كانت له عليهم حملات ثم حملات. ومع كونه وصّى أن يخرج بجنازته بغلس ذهب من غفل عن جنازته من الناس إلى قبره وصلوا عليه غير مرة ودفن عند والده وأقاربه بالجهة الجنوبية للجامع الأموي سقى الله روضة ضمته غيوث فضله وإحسانه وكرمه ورضوانه. وقد عنى بترجمته كثير منهم المقريزي في العقود وابن خطيب الناصرية في تاريخ حلب وابن حجر في أنباء الغمر ، والتقي ابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية والرضي القري في بهجة الناظرين والسخاوي في الضوء اللامع وغيرهم فمن أراد أن يعرف من هو الإمام التقي الحصني علما وعملا فليرجع إلى تلك التراجم رضي الله عنه وعن جميع العلماء العاملين خصوصا من أسهروا عيونهم وأتعبوا أبدانهم ووقفوا أفكارهم على نصر دين ربهم والذود عن حياضه : إن أحبوا فلله وإن أبغضوا فلله جعلنا الله من محبيهم السالكين سبيلهم اللهم آمين اللهم آمين.

قال حضرة صاحب الفضيلة العلامة صاحب النسخة الفرعية ما نصه :

سبب تأليف هذا الكتاب

قال العلامة التقي محب السنة والذاب عنها بكل ما استطاع في هذا العصر الشيخ محمد زاهر الكوثري : في ظهر الأصل المقابل به بخط الحافظ محمد بن طولون.

فائدة : سبب تكلم المؤلف رحمه‌الله تعالى في ابن تيمية وأتباعه ما نقل له عن الشيخ العلامة ناصر الدين التنكزي أنه اجتمع ببعض من ينتسب للحنابلة قال : فرأيته يقول بمسألة التناسخ ولا يقطع لأطفال المسلمين بالجنة وسمع منه هذا القول شخص آخر ونقل للشيخ المؤلف أيضا أن شخصا قال عند هذا المبتدع المشار إليه : يا جاه محمد ، فقال : لا تقل يا جاه محمد ، وكذا نقل له عن شخص آخر قال ذلك عنده فقال : لا تقل يا جاه محمد فإنه قد بقي قفة عظام نعوذ بالله العظيم من هذه الزلة الجسيمة وسمع هذا الكلام أيضا ابن أخي الشيخ المؤلف فاجتمع مع عمه فتذاكرا ما وقع فيه الجاهل المشار إليه ثم قال : يا عم لو تكلمت في ذلك فقال : أنا مشغول بنفسي فقال : ما يخلصك هذا عند الله عزوجل كيف يتعرض هذا الجاهل للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحط مرتبته ومراتب النبيين ويتكلم في الله بما لا يليق بجلاله وغير ذلك مما هو زندقة لا يخلصك هذا عند الله مع تمكنك من ردع هذا الزائغ عن تنزيه الله وتعظيم

٢٨١

رسول عليه الصلاة والسلام فقال المؤلف رحمه‌الله تعالى : ائتوني بشيء من كلام هذا الرجل انظر فيه فإذا تكلمت تكلمت على بصيرة ، فأتى بأشياء من كلامه فلما رأى كلامه تكلم بما تكلم رحمه‌الله : قال شيخنا النعيمي ومن خطه نقلت : نقلتها من خط شيخنا شهاب الدين بن قرا تلميذ المؤلف ملخصا (١) لها. انتهى ما وجدته بخط ابن طولون في ظهر الأصل المذكور. وترجمة المصنف مبسوطة في كتاب الضوء اللامع في القرن التاسع للحافظ محمد بن عبد الرّحمن السخاوي وفي طبقات الشافعية للتقي ابن قاضي شهبة وفي طبقات الرضى الغزي العامري وله مؤلفات ممتعة كشرحه على صحيح مسلم في ثلاث مجلدات وشرحه على التنبيه في خمس مجلدات وشرحه على المنهاج كذلك وطبع حديثا شرحه على مختصر أبي شجاع في مجلدين وكان من مفاخر الشافعية في عصره زهدا وعلما وسيرة وسنستوفي ترجمته إن شاء الله تعالى عند قيامنا بشرحه.

__________________

(١) فابن طولون هذا حافظ جليل له من المؤلفات ما يقرب من ستمائة مؤلّف وتوفي سنة ٩٥٣ سنة تسعمائة وثلاث وخمسين وشيخه عبد القادر النعيمي له مؤلفات جليلة وقد ترجم في الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة. وابن قرا هو الشهاب الخوارزمي المحدّث مترجم في الضوء اللامع ، قاله صاحب الأصل.

٢٨٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيد الأولين والآخرين ، وأكرم السابقين واللاحقين ، وسلّم ومجّد وكرم ، سبحان من بيده الضر والنفع ، والوصل والقطع ، والتفرقة والجمع ، والعطاء والمنع ، وفق من أحب لتنزيهه فحمى موضع نظره منه وكذا السمع ، وخذل من أبغض فجرى لشقاوته على ما اعتاده وألفه من رديء الطبع ، فهب على الأول نسيم إسعاده وعلى الثاني ريح إبعاده ، لصدع قلبه بتمويه العدو فيا له من صدع ، تقدس وتمجد بعز كبريائه وجلاله ، وتفرد بأوصاف عظمته وكماله ، كما عمّ بجوده وإفضاله ونواله ، تقدّس وتبارك عن مشابهة العبيد ، وتنزّه عن صفات الحدوث.

فمن شبه فقد شابه السامرة وأبا جهل والوليد ، ومن عطل ما ثبت له من صفاته بالأدلة القاطعة فهو عن الحق مائل ومحيد (١) ، وكلا القسمين سفيه وشقي وغير رشيد ، ومن ورائهما عذاب شديد.

ونال خلع الرضوان في دار الأمان من نزه مع تزايد الكرامات ولديه مزيد.

فشتان بين من هو راتع في رياض السلامة ونزل الكرامة في دار المقامة ، وبين المطرود المبعود (٢) وقد حق عليه الوعيد.

وبعد ، فإن سبب وضعي لهذه الأحرف اليسيرة ما دهمني من الحيرة من أقوام أخباث السريرة ، يظهرون الانتماء إلى مذهب السيد الجليل الإمام أحمد ، وهم على خلاف ذلك والفرد الصمد. والعجب أنهم يعظمونه في الملأ ويتكاتمون إضلاله مع بقية الأئمة وهم أكفر ممن تمرد وجحد ، ويضلون عقول العوام وضعفاء الطلبة بالتمويه الشيطاني وإظهار التعبد والتقشف وقراءة الأحاديث ويعتنون بالمسند ، كل ذلك

__________________

(١) كان ينبغي أن يقول حائد : ولعله اختار ذلك مراعاة للسجع ، اه مصححه.

(٢) اسم المفعول مبعد فيقال فيه كما قيل فيما قبله ، اه مصححه.

٢٨٣

خزعبلات منهم وتمويه وقد انكشف أمرهم حتى لبعض العوام وبهذه الأحرف يظهر الأمر إن شاء الله تعالى لكل أحد إلا لمن أراد عزوجل إضلاله وإبقاءه في العذاب السرمد. ومن قال بنفي ذلك أي بنفي خلود العذاب وسرمديته وهو ابن تيمية وأتباعه فقد تجرأ على كلام الغفور. قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦)) [فاطر : ٣٦] وعلى العليم الحكيم في قوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)) [المائدة : ٣٧] والآيات في ذلك كثيرة عموما وخصوصا ومنها قوله تعالى : (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) [الفرقان : ٦٥] والغرام المستمر الذي لا ينقطع فلو انقطع قدر نفس لا يسمى غراما.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] قال الإمام أحمد معناه جاء أمر ربك.

قال القاضي أبو يعلى : قال الإمام أحمد : المراد به قدرته وأمره وقد بيّنه في قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النّحل : ٣٣] يشير إلى حمل المطلق على المقيد وهو كثير في القرآن والسنة والإجماع وفي كلام علماء الأمة لأنه لا يجوز عليه الانتقال سبحانه وتعالى.

ومثله حديث النزول وممن صرح بذلك الإمام الأوزاعي والإمام مالك لأن الانتقال والحركة من صفات الحدث والله عزوجل قد نزّه نفسه عن ذلك ومن ذلك قوله تعالى : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] فإذا سأل العامي عن ذلك فيقال له الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى وإنما أجاب الإمام ربيعة بذلك وتبعه تلميذه مالك لأن الاستواء الذي يفهمه العوام من صفات الحدث وهو سبحانه وتعالى نزّه نفسه عن ذلك بقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] فمتى وقع التشبيه ولو بزنة ذرة جاء الكفر بالقرآن.

قال الأئمة : وإنما قيل السؤال بدعة لأن كثيرا ممن ينسب إلى الفقه والعلم لا يدركون الغوامض في غير المتشابه فكيف بالمتشابه فآيات المتشابه وأحاديثه لا يعلمها إلا الله سبحانه والقرآن والسنة طافحان بتنزيهه عزوجل ومن أسمائه القدوس وفي ذلك المبالغة في التنزيه ونفي خيال التشبيه وكذا في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١)) [الإخلاص : ١] إلخ ، لما فيها من نفي الجنسية والبعضية وغير ذلك مما فيه مبالغة في

٢٨٤

تنزيهه سبحانه وتعالى وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول : أمروا الأحاديث كما جاءت وعلى ما قال جرى كبار أصحابه كإبراهيم الحربي وأبي داود والأثرم ومن كبار أتباعه أبو الحسين المنادي وكان من المحققين وكذلك أبو الحسن التميمي وأبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب وغيرهم من أساطين الأئمة في مذهب الإمام أحمد وجروا على ما قاله في حالة العافية وفي حالة الابتلاء فقال تحت السياط فكيف أقول ما لم يقل وقال في آية الاستواء هو كما أراد فمن قال عنه إنه قال في الاستواء إنه من صفات الذات أو صفات الفعل أو أنه قال إن ظاهره مراد فقد افترى عليه وحسيبه الله تعالى فيما نسب إليه مما فيه إلحاقه عزوجل بخلقه الذي هو كفر صراح لمخالفته كلامه فيما نزّه نفسه به سبحانه وتعالى عما يقولون.

ومنهم ابن حامد والقاضي تلميذه وابن الزاغوني وهؤلاء ممن ينتمي إلى الإمام ويتبعهم على ذلك الجهلة بالإمام أحمد وبما هو معتمده مما ذكرت بعضه وبالغوا في الافتراء إما لجهلهم وإما لضغينة في قلوبهم كالمغيرة بن سعيد وأبي محمد الكرامي لأنهم أفراخ السامرة في التشبيه ويهود في التجسيم وحرف المغيرة ومعه خمسة من أتباعه كما أذكره من بعد.

قال ابن حامد في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرّحمن : ٢٧] وفي قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] نثبت لله وجها ولا نثبت له رأسا.

وقال غيره : يموت إلا وجهه ، وذكروا أشياء يقشعر الجسد من ذكر بعضها.

قال أبو الفرج بن الجوزي : رأيت من تكلم من أصحابنا في الأصول بما لا يصلح وانتدب للتصنيف وهم ثلاثة : ابن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني صنفوا كتبا شانوا بها المذهب وقد رأيتهم نزلوا إلى مرتبة فحملوا الصفات على مقتضى الحس فسمعوا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته فأثبتوا له صورة ووجها زائدا على الذات وعينين وفما ولهوات وأضراسا ويدين وأصابع وكفا وخنصرا وإبهاما وصدرا وفخذا وساقين ورجلين وقالوا : ما سمعنا بذكر الرأس وقالوا : يجوز أن يمس ويمس ويدني العبد من ذاته. وقال بعضهم ويتنفس ثم إنهم يرضون العوام بقولهم لا كما يعقل وقد أخذوا بالظواهر في الأسماء والإضافات فسموا الصفات تسمية مبتدعة لا دليل لهم في ذلك من النقل ولا من العقل ولم يلتفتوا إلى النصوص الصارفة عن الظواهر إلى المعاني الواجبة لله سبحانه وتعالى ولا إلى إلغاء ما توجبه الظواهر من سمات الحدث ولم يقنعوا أن يقولوا صفة فعل حتى قالوا صفة ذات ثم لما أثبتوا أنها

٢٨٥

صفات قالوا لا نحملها على ما توجبه اللغة مثل اليد على النعمة أو القدرة ولا المجيء على معنى البر واللطف ولا الساق على الشدة ونحو ذلك بل قالوا نحملها على ظواهرها المتعارفة والظاهر هو المعهود من نعوت الآدميين والشيء إنما يحمل على حقيقته إذا أمكن فإن صرف صارف حمل على المجاز وهم يتحرجون من التشبيه ويأنفون من إضافته إليهم ويقولون نحن أهل السنة وكلامهم صريح في التشبيه وقد تبعهم خلق من العوام على ذلك لجهلهم ونقص عقولهم وكفروا تقليدا وقد نصحت للتابع والمتبوع ثم أقول لهم على وجه التوبيخ : يا أصحابنا أنتم أصحاب نقل وأتباع وإمامكم الأكبر أحمد بن حنبل يقول : (أقول ما لم يقل) هل بلغكم أنه قال إن الاستواء من صفة الذات المقدسة أو صفة الفعل فمن أين أقدمتم على هذه الأشياء وهذا كله ابتداع قبيح بمن ينكر البدعة ثم قلتم إن الأحاديث تحمل على ظاهرها. وظاهر القدم الجارحة وإنما يقال تمر كما جاءت ولا تقاس بشيء فمن قال استوى بذاته فقد أجراه مجرى الحسيات وذلك عين التشبيه فاصرفوا بالعقول الصحيحة عنه سبحانه ما لا يليق به من تشبيه أو تجسيم وأمروا الأحاديث كما جاءت من غير زيادة ولا نقص فلو أنكم قلتم نقرأ الأحاديث ونسكت لما أنكر عليكم أحد ولا تدخلوا في مذهب هذا الرجل الصالح السلفي ـ أعني الإمام أحمد ـ ما ليس منه فلقد كسوتم هذا المذهب شيئا قبيحا حتى لا يقال عن حنبلي إلا مجسم ثم زينتم مذهبكم بالعصبية ليزيد وقد علمتم أن صاحب المذهب أجاز لعنته وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم : لقد شان المذهب شينا قبيحا لا يغسل إلى يوم القيامة.

فالحاصل من كلام ابن حامد والقاضي وابن الزاغوني من التشبيه والصفات التي لا تليق بجناب الحق سبحانه وتعالى هي نزعة سامرية في التجسيم ونزعة يهودية في التشبيه وكذا نزعة نصرانية فإنه لما قيل عن عيسى عليه‌السلام أنه روح الله سبحانه وتعالى اعتقدت النصارى أن لله صفة هي روح ولجت في مريم عليها‌السلام وهؤلاء وقع لهم الغلط من سوء فهمهم وما ذاك إلا أنهم سموا الأخبار أخبار صفات وإنما هي إضافات وليس كل مضاف صفة فإنه سبحانه وتعالى قال : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحجر : ٢٩] وليس لله صفة تسمى روحا فقد ابتدع من سمى المضاف صفة ونادى على نفسه بالجهل وسوء الفهم ثم إنهم في مواضع يؤولون بالتشهي وفي مواضع أغراضهم الفاسدة يجرون الأحاديث على مقتضى العرف والحس ويقولون ينزل بذاته وينتقل ويتحرك ويجلس على العرش بذاته ثم يقولون لا كما يعقل يغالطون بذلك من يسمع من عامي وسيئ الفهم وذلك عين التناقض ومكابرة في الحس والعقل لأنه

٢٨٦

كلام متهافت يدفع آخره أوله وأوله آخره ، وفي كلامهم (ننزهه غير أننا لا ننفي عنه حقيقة النزول) وهذا كلام من لا يعقل ما يقول ومثل قول بعضهم المفهوم من قوله : «هو الله الحي القيوم» في حقه هو المفهوم في حقنا إلا أنه ليس كمثله شيء فانظر أرشدك الله كيف حكم بالتشبيه المساوي ثم عقبه بهذا التناقض الصريح وهذا لا يرضى أن يقوله من له أدنى روية ولهم من مثل هذه التناقضات ما لا يحصى ومن التناقض الواضح في دعواهم في قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] أنه مستقر على العرش مع قولهم في قوله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الملك : ١٦] أن من قال إنه ليس في السماء فهو كافر ومن المحال أن يكون الشيء الواحد في حيزين في آن واحد وفي زمن واحد ومن المعلوم أن في للظرفية ويلزم أنه سبحانه وتعالى مظروف تعالى عن ذلك.

وفي البخاري من حديث أنس أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فشقّ ذلك عليه حتى رئي في وجهه فقام فحكها بيده فقال : «إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة» وفيه من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في جدار القبلة فحكها ثم أقبل على الناس فقال : «إذا كان أحدكم يصلي فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه إذا صلّى».

وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام رأى نخامة في القبلة فقال : «ما بال أحدكم يستقبل ربه فيتنخع أمامه أيحب أحدكم أن يستقبل فيتنخع في وجهه».

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم ليس تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم» وفي رواية «والذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» وفي الصحيح «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني» وحديث المريض «أما لو عدته لوجدتني عنده».

وقال تعالى : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [مريم : ٥٢] وقال تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠)) [القصص : ٣٠] وقال تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥].

٢٨٧

وفي الترمذي في حديث العنان وفيه ذكر الأرضين السبع وأن بين كل أرض والأخرى كما بين السماء والأرض ، ثم قال عليه الصلاة والسلام : «والذي نفسي بيده لو دلى أحدكم بحبل لوقع على الله سبحانه وتعالى» ومثل هذه الأدلة كثير وكلها قاضية بالكون السفلي دون العلوي.

واعلم أن الاستواء في الغلة على وجوه وأصله افتعال من السواء ومعناه أي السواء العدل والوسط وله وجوه في الاستعمال منها الاعتدال. قال بعض بني تميم : استوى ظالم العشيرة والمظلوم ، أي اعتدلا ، ومنها إتمام الشيء ، ومنه قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : ١٤] ومنها القصد إلى الشيء ، ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة : ٢٩] أي قصد خلقها ، ومنها الاستيلاء على الشيء ، ومنه قول الشاعر :

ثم استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

وقال آخر :

إذا ما غزا قوما أباح حريمهم

وأضحى على ما ملكوه قد استوى

ومنها بمعنى استقر ، ومنه قوله تعالى : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [هود : ٤٤] وهذه صفة المخلوق الحادث كقوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : ١٢ ، ١٣] وهو نزّه نفسه سبحانه عن ذلك في كتابه العزيز في غير ما موضع.

وقطع المادة في ذلك أن المسألة علمية وكفى الله المؤمنين القتال والجدال.

قال أبو الفرج بن الجوزي : وجميع السلف على إمرار هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل.

قال عبد الله بن وهب : كنا عند مالك بن أنس ودخل رجل فقال : يا أبا عبد الله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] كيف استواؤه؟ فأطرق مالك وأخذته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] كما وصف نفسه ولا يقال له كيف وكيف عنه مرفوع. وأنت رجل سوء صاحب بدعة أخرجوه. فأخرج.

كان ابن حامد يقول : المراد بالاستواء القعود. وزاد بعضهم : استوى على العرش بذاته فزاد هذه الزيادة وهي جرأة على الله بما لم يقل.

٢٨٨

قال أبو الفرج : وقد ذهب طائفة من أصحابنا إلى أن الله عزوجل على عرشه ما ملأه وأنه يقعد نبيه معه العرش ، ثم قال : والعجب من قول هذا ما نحن مجسمة وهو تشبيه محض تعالى الله عزوجل عن المحل والحيز لاستغنائه عنهما ولأن ذلك مستحيل في حقه عزوجل ولأن المحل والحيز من لوازم الأجرام ولا نزاع في ذلك وهو سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك لأن الأجرام من صفات الحدث وهو عزوجل منزّه عن ذلك شرعا وعقلا بل هو أزلي لم يسبق بعدم بخلاف الحادث.

ومن المعلوم أن الاستواء إذا كان بمعنى الاستقرار والقعود لا بد فيه من المماسة. والمماسة إنما تقع بين جسمين أو جرمين والقائل بهذا شبه وجسم وما أبقى في التجسيم والتشبيه بقية كما أبطل دلالة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] ومن المعلوم في قوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) [الزّخرف : ١٣] أنه الاستقرار على الأنعام والسفن وذلك من صفات الآدميين فمن جعل الاستواء على العرش بمعنى الاستقرار والتمكن فقد ساوى بينه عزوجل وبين خلقه وذلك من الأمور الواضحة التي لا يقف في تصورها بليد فضلا عمن هو حسن التصور جيد الفهم والذوق وحينئذ فلا يقف في تكذيبه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] وذلك كفر محقق.

ثم من المعلوم أن الاستواء من الألفاظ الموضوعة بالاشتراك وهو من قبيل المجمل فدعواه أنه بمعنى الاستقرار في غاية الجهل لجعله المشترك دليلا على أحد أقسامه خاصة فالحمار مع بلادته لا يرضى لنفسه أن يكون ضحكة لجعله القسم قسيما فمن تأمل هؤلاء الحمقى وجدهم على جهل مركب يحتجون بالأدلة المجملة التي لا دليل فيها قطعا عند أهل العلم ويتركون الأدلة التي ظاهرها في غاية الظهور في الدليل على خلاف دعواهم بل بعضها نصوص كما قدمته في حديث النخامة وغيرها فتنبه لذلك لتبقى على بصيرة من جهل أولئك.

ومن المعلوم أنه عزوجل واجب الوجود كان ولا زمان ولا مكان وهما أعني الزمان والمكان مخلوقان وبالضرورة أن من هو في مكان فهو مقهور محاط به ويكون مقدرا ومحدودا وهو سبحانه وتعالى منزّه عن التقدير والتحديد وعن أن يحويه شيء أو يحدث له صفة تعالى الله عما يصفون وعما يقولون علوا كبيرا.

فإن قيل ففي الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس رضي الله عنه أنه ذكر المعراج وفيه «فعلا بي الجبار تعالى فقال وهو في مكانه يا رب خفف عنا» .. الحديث ، فالجواب أن الحافظ أبا سليمان الخطابي قال : إن هذه لفظة تفرّد بها شريك

٢٨٩

ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ والمكان لا يضاف إلى الله سبحانه وتعالى إنما هو مكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومقامه الأول الذي أقيم فيه.

وفي الحديث «فأستأذن على ربي وهو في داره» يوهم مكانا وإنما المعنى في داره التي دورها لأوليائه. وقد قال القاضي أبو يعلى في كتابه (المعتمد) أن الله سبحانه وتعالى وتقدس لا يوصف بمكان فإن قيل يلزم من كلامكم نفي الجهات ونفيها يحيل وجوده فالجواب أن هذا السؤال ساقط فيه تمويه على الأغبياء يجرون الجهات المتعلقة بالآدميين بالنسبة إلى الله عزوجل عن ذلك. وأيضا إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فمسلم فأما إذا لم يقبلهما فليس خلوه من طرفي النقيض بمحال ويوضح هذا أنك لو قلت كل موجود لا يخلو أن يكون عالما أو جاهلا قلنا إن كان ذلك الموجود يقبل الضدين فنعم فأما إذا لم يقبلهما كالحائط مثلا فإنه لا يقبل العلم ولا الجهل ونحن ننزه الذي ليس كمثله شيء سبحانه وتعالى كما نزّه نفسه عن كل ما يدل على الحدث وما ليس كمثله شيء لا يتصوره وهم ولا يتخيله خيال والتصور والخيال إنما هما من نتائج المحسوسات والمخلوقات تعالى عن ذلك ، ومن هنا وقع الغلط واستدراج العدو فأهلك خلقا وقد تنبّه خلق لهذه الغائلة فسلّموا وصرفوا عنه عقولهم إلى تنزيهه سبحانه وتعالى فسلّموا.

ومن الأحاديث التي يحتجون بها حديث عبد الرّحمن بن عائش عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رأيت ربي في أحسن صورة فقال لي : فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت أنت أعلم يا رب ، فوضع كفيه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السماوات وما في الأرض» وهذا الحديث قال الإمام أحمد فيه أن طرقه مضطربة ، وقال الدارقطني كل أسانيده مضطربة ليس فيها صحيح ، وقال البيهقي روي من أوجه كلها ضعيفة وأحسن طرقه يدل على أن ذلك كان في النوم ويدل على ذلك أنه روي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «أتاني آت في أحسن صورة فقال : فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أدري ، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي فعرفت كل شيء يسألني عنه» وروي من حديث ثوبان رضي الله عنه قال : خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد صلاة الصبح فقال : «إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة فقال لي : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا أعلم يا رب ، فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري فتجلّى لي ما بين السماء والأرض» وروي من وجوه كثيرة فهي أحاديث مختلفة وليس فيها ما يثبت مع أن عبد الرّحمن لم يسمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى وجه التنزل فالمعنى راجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٩٠

فالمعنى رأيته على أحسن صفاته أي من الإقبال والرضا ونحو ذلك. لأن الصورة يعبر بها ويراد الصفة كما في حديث خلق الله آدم على صورته تقول : هذه صورة هذا الأمر أي صفته فيكون المعنى خلق الله آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصرة والإرادة مع أن أن هذا الحديث فيه علل منها أن الثوري والأعمش كان يدلس ولم يذكر أنه سمع الحديث من حبيب بن أبي ثابت ومنها أن حبيبا كان يدلس ولم يعلم أنه سمعه من عطاء وهذا كله يوجب وهنا في الحديث ومع ذلك فالضمير يصح عوده إلى آدم عليه‌السلام فالمعنى أن الله عزوجل خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تاما لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه.

قال الإمام أبو سليمان الخطابي : وذكره تغلب في أماليه وقيل إن الضمير يعود إلى بعض بني آدم وخلق من العلماء سكتوا عن تفسير هذا الحديث فالمشبه لا متمسك له بهذه الأحاديث لما ذكرناه وتمسكه بها يدل على جهله وزندقته عافانا الله عزوجل من ذلك.

ومن ذلك حديث القدم «لا تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه» الحديث ، وهذا يرجع إلى المحكم ، قال الله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس : ٢].

وقال الحسن البصري : القدم في الحديث هم الذين قدمهم الله من شرار خلقه وأثبتهم لها. وقال البيهقي عن النضر بن شميل : القدم هنا الكفار الذين سبق في علم الله أنهم من أهل النار. وقال الأهري : القدم الذين تقدم القول بتخليدهم في النار. وقال ابن الأعرابي : القدم المتقدم وكل قادم عليها يسمى قدما والقدم جمع قادم كما يقال عيب وعائب. وروى الدارقطني حتى يضع قدمه أو رجله وفي هذه دلالة على تغيير الرواية بالظن مع أن الرجل في اللغة هي الجماعة ألا تراهم يقولون رجل من جراد فيكون المعنى يدخلها جماعة يشبهون الجراد في الكثرة.

قال ابن عقيل : تعالى الله أن يكون له صفة تشغل الأمكنة وهذا عين التجسيم وليس الحق بذي أجزاء وأبعاض فما أسخف هذا الاعتقاد وأبعده عن المكون تعالى الله عن تخايل الجسمية ، وذكر كلاما مطولا بالغا في التنزيه وتعظم الله تعالى.

وقد تمسك بهذا الحديث ابن حامد المشبه فأثبت لله سبحانه وتعالى صفات ، وزاد فروى من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لما أسري بي رأيت الرّحمن على صورة شاب أمرد نور يتلألأ وقد نهيت عن صفته لكم فسألت ربي

٢٩١

أن يكرمني برؤيته فإذا كأنه عروس حين كشف عنه حجابه مستو على عرشه» وهذا من وضعه وافترائه وجرأته على الله عزوجل وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن أعظم فرية ممن شبه الله عزوجل بأمرد وعروس ، وكان بعض أئمة الحنابلة يتوجه ويقول : ليت ابن حامد هذا ومن ضاهاه لم ينسبوا إلى أنهم من أتباع الإمام أحمد فقد أدخلوا بأقوالهم المفتراة الشين على المذهب والتعرض إلى الإمام أحمد بالتشبيه والتجسيم وحاشاه من ذلك بل هو من أعظم المنزهة لله عزوجل وقد خاب من افترى.

وقال بعض أئمة الحنابلة المنزهين : من أثبت لله تعالى هذه الصفات بالمعنى المحسوس فما عنده من الإسلام خبر تقدس الله عزوجل عما يقولون علوا كبيرا ، وخوضهم في ذلك كلام من لا يعرف الله عزوجل وكذا خوضهم في الأحاديث خوض من لا يعرف كلام الله تعالى ولا كلام أهل اللغة فيجرونها على المتعارف عند الخلق فيقعون في الكفر ، ونوضح ذلك إيضاحا مبينا يدركه أبلد العوام فضلا عن أذكياء الطلبة والعلماء الأخيار الذين جعل الله عزوجل قلوبهم معادن المعاني المرادة وكنوزها.

فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الضيف وفيه «لقد عجب الله من صنيعكما الليلة» وفي أفراد البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه «عجب ربك من قوم جيء بهم في السلاسل حتى يدخلهم الجنة».

قال ابن الأنباري : معنى عجب ربك زادهم إنعاما وإحسانا فعبّر بالعجب عن ذلك.

قال الأئمة : لأن العجب إنما يكون من شيء يدهم الإنسان فيستعظمه مما لا يعلمه وذلك إنما يكون في المخلوق وأما الخالق فلا يليق به ذلك فمعناه عظم قدر ذلك الشيء عنده لأن المتعجب من الشيء يعظم قدره عنده ، فالمعنى في حديث الضيف عظم قدره وقدر زوجته عنده حتى نوّه بذكرهما في أعظم كتبه وعظّم قدر المجيء بهم في السلاسل حتى أدخلهم الجنة وجعلهم من أوليائه وأنصار دينه.

ومن ذلك حديث «لله أفرح بتوبة عبده» ومعناه أرضى بها ومنه (١) قوله : (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون : ٥٣] أي راضون ونحو ذلك مما هو كثير في القرآن

__________________

(١) أي من هذا الاستعمال ، اه مصححه.

٢٩٢

وكذا الأحاديث ومنها حديث النزول وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول من يدعوني فأستجيب له» إلى آخره ، وهذا الحديث رواه عشرون نفسا من الصحابة رضي الله عنهم وقد تقدم أنه يستحيل على الله عزوجل الحركة والتنقل والتغير لأن ذلك من صفات الحدث فمن قال ذلك في حقه تعالى فقد ألحقه بالمخلوق وذلك كفر صريح لمخالفة القرآن في تنزيهه لنفسه سبحانه وتعالى.

ومن العجب العجيب أن يقرأ أحدهم قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) [الحديد : ٢٥] مع أن معدنه في الأرض وقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزّمر : ٦] فيا لله العجب من شخص لم يعرف نزول الجمل كيف يتكلم في تفصيلها. وقد قال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة : ٤٨] وقال تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) [الطّلاق : ١٠] فنسب الإنزال إلى هاتين الغايتين إليه سبحانه وتعالى.

وقد قال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ) [الأعراف : ١٨٦] أي ببدعته (فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأعراف : ١٨٦] والعمه في البصيرة كما أن العمى في البصر والعمه في البصيرة منه الهلكة أعاذنا الله من ذلك.

وروى أبو عيسى الترمذي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وابن المبارك أنهم قالوا : أمروا هذه الأحاديث بلا كيف ، قال الأئمة : فواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة والحركة فإن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى آخر يفتقر إلى الجسمية والمكان العالي والمكان السافل ضرورة كما في قوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النّحل : ٥٠] فإن الفوقية باعتبار المكان لا تكون بالضرورة إلا في الأجرام والأجسام مركبة كانت أو بسيطة والرب سبحانه وتعالى منزّه عن ذلك إذ هو من صفات الحدث.

وقال ابن حامد الراسم نفسه بالحنبلي : هو فوق العرش بذاته وينزل من مكانه الذي هو فيه فينزل وينتقل ، ولما سمع تلميذه القاضي منه هذا استبشعه فقال : النزول صفة ذاتية ولا نقول نزوله انتقال ، أراد أن يغالط الأغبياء بذلك. وقال غيره : يتحرك إذا نزل ، وحكوا هذه المقالة عن الإمام أحمد فجورا منهم بل هو كذب محض على هذا السيد الجليل السلفي المنزّه فإن النزول إذا كان صفة لذاته لزم تجددها كل ليلة وتعددها ، والإجماع منعقد على أن صفاته قديمة فلا تجدد ولا تعدد تعالى الله عما يصفون.

٢٩٣

وقد بالغ في الكفر من الحق صفة الحق بالخلق وأدرج نفسه في جريدة السامرة واليهود الذين هم أشد عداوة للذين آمنوا.

ومنها حديث الأصابع وهو في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء حبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد إن الله يضع السماء على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والأنهار على إصبع وسائر الخلق على إصبع وفي لفظ : والماء والثرى على إصبع ثم يهزهن ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] وفي لفظ : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعجبا وتصديقا له.

قال الأئمة ومنهم أبو سليمان الخطابي : لا تثبت لله صفة إلا بالكتاب أو خبر مقطوع بصحته مستند إلى أصل في الكتاب أو السنة المقطوع بصحتها (١) وما كان بخلاف ذلك فالواجب التوقف عن إطلاق ذلك ويتأول على ما يليق بمعاني الأصول المتفق عليها من أقوال أهل العلم مع نفي التشبيه.

وقال غيره : قد نفى الله تعالى التشبيه عنه في قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١](وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى) [الزّمر : ٦٧] دفعا لما يتبادر إليه الفهم باعتبار المحسوسات.

قال الأئمة : معناه ما عرفوه حق معرفته. وقال المبرد : ما عظموه حق عظمته.

وقبضة الله عزوجل عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته ، واليمين في كلام العرب بمعنى الملك والقدرة كما قال تعالى : (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥)) [الحاقّة : ٤٥] أي بالقوة والقدرة. وأشعار العرب في ذلك أكثر جدا من أن تذكر وأشهر من أن تنشد وتبرز وتظهر.

وفي الحديث «الحجر الأسود يمين الله تعالى» وقال تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) [الفتح : ١٠] وقال أبو الوفاء بن عقيل من أصحاب الإمام أحمد : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الحجّ : ٧٤] إذ جعلوا صفاته تتساعد وتتعاضد على حمل مخلوقاته وإنما ذكر الشرك في الآية ردا عليهم. وفي معنى هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام «إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلبها كيف شاء» وفي ذلك إشارة إلى أن القلوب مقهورة لمقلبها.

__________________

(١) لو لاحظ المتكلمون في هذه المواضيع هذا الأصل لاستراحوا وأراحوا ، اه مصححه.

٢٩٤

قال الخطابي : واليهود مشبهة ونزول الآية دليل على إنكار الرسول عليهم ولهذا ضحك عليه الصلاة والسلام على وجه الإنكار وليس معنى الأصابع معنى الجارحة لعدم ثبوته بل يطلق الاسم في ذلك على ما جاء به الكتاب من غير تكييف ولا تشبيه. وقال غيره : من حمل الأصابع على الجارحة فقد رد على الله سبحانه وتعالى في قوله : (سُبْحانَهُ) [البقرة : ١١٦] وأدخل نفسه في أهل الشرك لقوله تعالى : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : ١٨] وهو عزوجل يذكر في كتابه المبين التحرس عما لا يليق دفعا وردا لأعدائه كقوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) [البقرة : ١١٦] وقال تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ) [الأنعام : ١٠٠] ونحو ذلك.

وآكد من ذلك قوله : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣)) [الجنّ : ٣] قدّم تنزيهه عزوجل أولا في هذه الآية والقرآن طافح بذلك ومنها ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال : «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي» وفي لفظ «سبقت» قال القاضي المشبه تلميذ ابن حامد : ظاهر قوله عنده القرب من الذات وما قاله يستدعي القرب والمساحة وذلك من صفات الأجسام وقد عمي عن قوله تعالى : (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ) [هود : ٨٣] ومن المعلوم أنك تقول عندي فوق الغرفة كتاب كذا وهو في موضع شاسع نازل عن الغرفة بمسافة بعيدة ثم إن هذا القاضي روى عن الشعبي أنه قال إن الله قد ملأ العرش حتى أن له أطيطا كأطيط الرحل وهو كذب على الشعبي.

وقال بعضهم : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] قعد عليه. وقال ابن الزاغوني : خرج عن الاستواء بأربع أصابع. ولهم ولأتباعهم مثل ذلك خبائث كلها صريحة في التشبيه والتجسيم لا سيما في مسألة الاستواء وهو سبحانه وتعالى متنزه عما لا يليق به من صفات الحدث ، ثم إن هؤلاء الجمادات وأعالي الجهلة يلزمهم أن يقولوا في الحديث الذي رواه مسلم وغيره ما لم يمكن القول به من أجهل الناس «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» إلخ ، وبالضرورة لا يكون سبحانه جارحة لعبده ومع هذا يلزم التعدد بحسب المتقربين والتجزئة والتفرقة وغير ذلك مما لا يقوله حمار بل ولا جماد تعالى الله وتقدس عن ذلك.

٢٩٥

قال ابن الجوزي : وهؤلاء وأتباعهم جهلوا معرفة ما يجوز على الله وما يستحيل عليه ، ومن أعجب ما رأيت لهم ما ذكروا عن ابن أبي شيبة أنه قال في كتاب العرش إن الله قد أخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش ، ثم قال : ونبرأ من أقوام شانوا مذهبنا فعابنا الناس بكلامهم ولو فهموا أن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بما يوصف به الخلق لما بنوا أمورهم وقواعدهم على المحسوسات التي بها المساواة بينه وبين خلقه. وفي ذلك تكذيبه في تنزيهه وتقديسه نفسه عزوجل.

وقال أبو الوفاء بن عقيل : تحسب الجهلة أن الكمال في نسبة النقائص إليه فيما نزّه نفسه عنه عزوجل ، والذي أوقعهم في ذلك القياس المظنون وكيف يكون له حكم الدليل وقد قضي عليه دليل العقل بالرد.

قال أبو الفرج ابن الجوزي : والناس في أخبار الصفات على ثلاث مراتب : أحدها : إمرارها على ما جاءت من غير تفسير ولا تأويل إلا أن تقع ضرورة كقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] أي جاء أمره وهذا مذهب السلف ، المرتبة الثانية : التأويل وهو مقام خطر ، المرتبة الثالثة : القول فيها بمقتضى الحس وقد عمّ جهله الناقلين إذ ليس لهم علوم المعقولات التي بها يعرف ما يجوز على الله عزوجل وما يستحيل فإن علم المعقولات يصرف ظواهر المنقولات عن التشبيه فإذا عدموها تصرفوا في النقل بمقتضى الحس ولو فهموا أن الله عزوجل لا يوصف بحركة ولا انتقال ولا جارحة ولا تغير لما بقوا على الحسيات التي فيها عين التشبيه وهو كفر بالقرآن أعاذنا الله من ذلك ، ولا شك أن مذهب السكوت أسلم وقد ندم خلق من أكابر المتكلمين على الخوض في ذلك.

قال أبو المعالي الجويني في آخر عمره : (خليت أهل الإسلام وعلومهم وركبت البحر الأعظم وغصت في الذي نهوا عنه والآن رجعت إلى قولهم عليكم بدين العجائز فإن لم يدركني الحق بلطفه وأموت على دين العجائز وإلا فالويل لابن الجويني).

قال أبو الوفاء بن عقيل : معنى دين العجائز أن المدققين بالغوا في البحث والنظر ولم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليل فوقفوا مع المراسم واستطرحوا وقالوا لا ندري.

٢٩٦

وسئل الإمام أحمد قدس الله روحه عن الاستواء فقال : (هو كما أخبر لا كما يخطر بالبشر).

فانظر وفقك الله وأرشدك إلى الحق إلى هذه العبارة ما أرشقها وعلى أتباعه ما أشققها (١) اعتقاد قويم ومنهاج سليم.

قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي واسمه عبد الرّحمن بن علي لما رأى الحساد للإمام أحمد ما حصل له من الرفعة ونفاسة مذهبه لتشييده بالكتاب والسنة انتموا إلى مذهبه ليدخلوا عليه النقص والخلل وصرف الناس عنه حسدا من أنفسهم فصرحوا بالتشبيه والتجسيم ولم يستحييوا من الخبير العليم. ونسبوه إليه افتراء عليه. ومن نظمه في ذلك :

ولما نظرت في المذاهب كلها

طلبت الأسد في الصواب وما أغلو

فألفيت عند السير قول ابن حنبل

يزيد على كل المذاهب بل يعلو

وكل الذي قد قاله فمشيد

بنقل صحيح والحديث هو الأصل

وكان بنقل العلم أعرف من روى

يقوم ......... (٢)

ومذهبه أن لا يشبه ربه

ويتبع في التسليم من قد مضى قبل

يشير إلى صاحبه الإمام الشافعي وغيره من علماء السلف كما أذكر :

فقام له الحساد من كل جانب

فقام على رجل الثبات وهم زلوا

وكان له أتباع صدق تتابعوا

فكم أرشدوا نحو الهدى ولكم دلوا

وجاءك قوم يدعون تمذهبا

بمذهبه ما كل زرع له أكل

ومالوا إلى التشبيه أخذا بصورة

الذي نقلوه في الصفات وهم غفل

وقالوا الذي قلناه مذهب أحمد

فمال إلى تصديقهم من به جهل

فصار الأعادي قائلين لكلنا

مشبهة قد ضرنا الصحب والخل

فقد فضحوا ذاك الإمام لجهلهم

ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا

لعمري لقد أدركت منهم مشايخا

وأكثر ما أدركته ما له عقل

__________________

(١) لعله ما أشقها بحذف إحدى القافين أو بإبدال إحداهما فاء ، اه مصححه.

(٢) هكذا بياض بالأصل ويصح أن يتمم بنحو قولنا : إذا نام السوي وبه يخلو ، اه مصححه.

٢٩٧

وحذفت أبياتا من هذه القصيدة لأني في هذه الورقات على سبيل الاقتصاد والرمز إلى منهج الحق والرشاد.

وسئل الإمام الشافعي قدس الله روحه عن الاستواء فقال : (آمنت بلا تشبيه وصدقت بلا تمثيل واتهمت نفسي في الإدراك وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك) وهذا شأن الأئمة يمسكون أعنّة الخوض في هذا الشأن مع أنهم أعلم الناس به ولا يخوض فيه إلا أجهل الناس به.

وسئل الإمام أبو حنيفة قدس الله روحه عن ذلك فقال : (من قال لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض فقد كفر لأن هذا القول يؤذن أن لله سبحانه وتعالى مكانا ومن توهم أن لله مكانا فهو مشبه).

وسئل الإمام مالك عن الاستواء فقال : (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) فنفى العلم بالكيف فمن استدل بكلامه على أنه سبحانه وتعالى فوق عرشه فهو لجهله وسوء فهمه.

وقال الإمام مالك عند قوله : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النّحل : ٧٤] من وصف شيئا من ذاته سبحانه وتعالى مثل قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : ٦٤] فأشار بيده إلى عنقه قطعت وكذا السمع والبصر يقطع ذلك منه لأنه شبّه الله بنفسه.

وقال مالك رضي الله عنه : (الاستواء معلوم) يعني عند أهل اللغة ، وقوله : (والكيف مجهول) أي بالنسبة إلى الله عزوجل لأن الكيف من صفات الحدث وكل ما كان من صفات الحدث فالله عزوجل منزّه عنه فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة ، وقوله : (والإيمان به واجب) أي على الوجه اللائق بعظمته وكبريائه ، وقوله : (والسؤال عنه بدعة) لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا عالمين به وبمعناه اللائق بحسب اللغة فلم يحتاجوا إلى السؤال عنه فلما ذهب العالمون به وحدث من لم يعلم أوضاع لغتهم ولا له نور كنورهم شرع يسأل الجهلة بما يجوز على الله عزوجل وفرح بذلك أهل الزيغ فشرعوا يدخلون الشبه على الناس ولذلك تعين على أهل العلم أن يبينوا للناس وأن لا يهملوا البيان لقوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] فهذه (١) الأئمة

__________________

(١) لعله فهؤلاء ، اه مصححه.

٢٩٨

التي (١) مدار الأمة عليهم في دينهم متفقون في العقيدة فمن زعم أن بينهم اختلافا في ذلك فقد افترى على أئمة الإسلام والمسلمين والله حسبه وسيجزي الله المفترين.

وفي الصحيحين : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية» وقال عليه الصلاة والسلام : «إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية والنافرة والشاذة إياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد» رواه الطبراني وغيره من حديث معاذ رضي الله عنه ورواه الإمام أحمد ورجاله ثقات.

وسئل الإمام أحمد عن الشافعي فقال : (ما الذي أقول فيه وهو الذي أخرج من قشور التشبيه لبابها ، وأطلع على معارفها أربابها ، وجمع مذهبه أكنافها وأطنابها ، فالمحدثون صيادلة والشافعي طبيبهم ، والفقهاء أكابر والشافعي كبيرهم ، وما وضع أحد قلمه في محبرة إلا وللشافعي عليه منّة) وكان كثير الدعاء للشافعي ، قال له ابنه عبد الله : أي شيء كان الشافعي فإني أسمعك تكثر الدعاء له؟ قال : (يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا ، وكالعافية للناس ، فانظر هل لهذين من خلف أو عوض).

وسئل بعض أئمة السلف عن قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] فقال : (الرّحمن جلّ وعلا لم يزل والعرش محدث بالرحمن استوى ثم قال كل ما ميزتموه بأذهانكم وأدركتموه في أتم عقولكم فهو مصروف إليكم ومردود عليكم محدث ومصنوع مثلكم لأن حقيقته عالية عن أن تلحقه عبارة أو يدركه وهم أو يحيط به علم كلا كيف يحيط به علم وقد اتفق فيه الأضداد بقوله سبحانه وتعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣] أي عبارة تخبر عنه ، حقيقة الألفاظ كلام ، قصرت عنه العبارات ، وخرست عنه الألسنة بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] تعالى الله وتقدّس عن المجانسة والمماثلة).

قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية : معناها ليس له نظير. وقال أهل التحقيق : ذكر العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته إذ الذات ممتنعة عن الإحاطة بها والوقوف عليها ، كما أشار إلى ذلك في قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)) [النّمل : ٢٦] فسبحانه هو المنزّه عن التشبيه القدوس المبرّأ عن الآفات ، والمسبح بجميع اللغات ، السلام السالم من نقائص المخلوقات ، الصمد

__________________

(١) لعله الذين ، اه مصححه.

٢٩٩

السيد الذي لا يشبهه شيء من المصنوعات والمخلوقات ، الغني عن الأغيار ، تبارك وتعالى عن أن تحويه الجهات ، الفرد الذي لا نظير له ، المنفرد بصفات الكمال والقدرة ، ومن بعض مقدوراته الكرسي والعرش والأرضون والسماوات ، شهد لنفسه بالوحدانية ونزهها بالآيات البينات فصفاته لا يوصف بها غيره ، ومن تعرض لذلك فقد طعن في كلامه ، وضاهى أهل العناد فاستوجب اللعن وأشد العقوبات.

قال البغداديون في قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)) [البقرة : ١١٧] كل صنع صنعه ولا علة لصنعته ليس لذاته مكان لأنه قبل الكون والمكان ، وأوجد الأكوان بقوله كن أزال العلل عن ذاته بالدرك (١) وبالعبارة عنه وبالإشارة فلا يبلغ أحد شيئا من كنه معرفته لأنه لا يعلم أحد ما هو إلا هو ، حي قيوم لا أول لحياته ، ولا أمد لبقائه ، احتجب عن العقول والأفهام كما احتجب عن الأبصار فعجز العقل عن الدرك ، والدرك عن الاستنباط ، وانتهى المخلوق إلى مثله ، وأسنده الطلب إلى شكله اه.

وقولهم : كل صنع ، عبّروا بالمصدر عن اسم المفعول كقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [لقمان : ١١] ومن الجهل البين أن يطلب العبد المقهور بكن درك ما لا يدرك ، كيف وقد تنزّه عن أن يدرك بالحواس أو يتصور بالعقل الحادث والقياس من لا يدركه العقل من جهة التمثيل ، ويدركه من جهة الدليل ، فكل ما يتوهمه العقل لنفسه فهو جسم وله نهاية في جسمه وجنسه ونوعه وحركته وسكونه مع ما يلزمه من الحدود والمساحة من الطول والعرض وغير ذلك من صفات الحدث تعالى عن ذلك فهو الكائن قبل الزمان والمكان ، وهو الأول قبل سوابق العدم ، الأبدي بعد لواحق القدم ، ليس كذاته ذات ، ولا كصفاته صفات. جلّت ذاته القديمة التي لم تسبق بعدم أن يكون لها صفة حادثة كما يستحيل أن يكون للذات الحادثة صفة قديمة ، قال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧)) [مريم : ٦٧].

وسأل بعض المخبثين (٢) الطوية للإمام العالم العلامة الجامع بين العلوم السنية ،

__________________

(١) قوله : بالدرك متعلق بمحذوف فيما يظهر تقديره وأعجز الخلق عن أن يحيطوا به بالدرك ، الخ ، والدرك الإدراك ، اه مصححه.

(٢) لعله خبيثي الخ ، وقوله للإمام : لعل اللام الأولى من تصرفات النسّاخ وهذا ظننا في كل ما تقدم أو يجيء في هذا الكتاب من الألفاظ التي تخالف اللغة ، لأن الإمام الحصني أجل من أن يخفى عليه مثل ذلك ، اه مصححه.

٣٠٠