العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

فهذان قولان الأول نص الفصوص وما بعده قول ابن سبعين وما القولان عند العفيف التلمساني الذي هو غاية في الكفر إلا من الأغلاط في حس وفي وهم وتلك طبيعة الإنسان والكل شيء واحد» وأطال في أقوالهم.

فصل

قال :

«وأتى فريق ثم قال وجدته

بالذات موجودا بكل (١) مكان

هو كالهواء بعينه لا عينه

ملأ الخلاء ولا يرى بعيان

والقوم ما صانوه عن بئر ولا

قبر ولا حش ولا أعطان

وعليهم رد الأئمة أحمد

وصحابه من كل ذي عرفان

فهم الخصوم لكل صاحب سنة

وهم الخصوم لمنزل القرآن»

هؤلاء أيضا ليس علينا منهم.

فصل

ثم قال :

«وأتى فريق (٢) ثم قارب وصفه

هذا ولكن جد في الكفران

فأسر قول معطل ومكذب

في قالب التنزيه للرحمن

__________________

(١) وهذا بظاهره قول بالتجسيم كقول من يقول إنه مستقر على العرش ، وإن كان مراده أنه لا يوصف بمكان دون مكان ، بل نسبته إلى الأمكنة على حد سواء لتعاليه عن الجهات ، فهو قول متكلمي أهل السنة والمعتزلة ، ولعل هذا اللفظ لفظ من حكى هذا المذهب تشنيعا ، وأما إن كان بيانا لمذهب جهم على خلل في اللفظ فهو داخل في الفريق القائل بوحدة الوجود ، فلا وجه لإفراده بكل حال. ونسبة كتاب (الرد على الجهمية) الذي فيه الرد على هؤلاء إلى أحمد نسبة كاذبة ، وراويه الخضر بن المثنى مجهول ، وقد أنصف الذهبي حيث قال : وفي النفس شيء من صحة هذه النسبة. ويقول الناظم في عزوه : إن الخضر المذكور عرفه الخلال. لكن لو كان بمثل هذا القول تزول الجهالة لما وجد بين الرواة مجهول أصلا ، على أن نظرنا إلى الخلال وغلامه ليس كنظر الناظم وشيخه إليهما فضلا عمن دونهما في السند من مقلدة الحشوية بل في متن (الرد على الجهمية) ما يجل مقدار أحمد عن أن يفوه بمثله جزما.

(٢) وهم أهل السنة خصوم كل مجسم وزائغ ، وهم يقولون إنه لا يقال إن الله في داخل العالم ، كما لا يقال إنه في خارج العالم ، ولا إنه مستقر على العرش لأن ذلك لم يرد في الكتاب ولا في السنة ، ولأن ذلك شأن الأجسام ، ومن جوّز في معبوده الدخول والخروج والاستقرار فهو عابد وثن ، ويؤيدهم البراهين والآيات الواردة في التنزيه. وليس للمشبهة شبه شبهة في ذلك كما سيأتي رغم أنف هذا الناظم الزائغ.

٤٤١

إذا قال ليس بداخل فينا ولا

هو خارج عن جملة الأكوان

بل قال ليس ببائن عنها ولا

فيها ولا هو عينها ببيان

كلا ولا فوق السماوات العلى

والعرش من رب ولا رحمان

والعرش ليس عليه معبود سوى

العدم الذي لا شيء في الأعيان

بل حظه من ربه حظ الثرى

منه وحظ قواعد البنيان

لو كان فوق العرش كان كهذه ال

أجسام سبحان العظيم الشأن»

يعني أن هذا من قولهم ، ثم قال :

«ولقد وجدت لفاضل منهم مقا

ما قامه في الناس منذ زمان»

في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على يونس» قد كان يونس في قرار البحر ومحمد صعد السماء وجاوز السبع الطباق ، وكلاهما في قربه من ربه سبحانه إذ ذاك مستويان.

فاحمد إلهك أيها السني إذ

عافاك من تحريف ذي بهتان

والله ما يرضى بهذا خائف

من ربه أمسى على الإيمان

هذا هو الإلحاد حقا بل

هو التحريف محضا أبرد الهذيان

والله ما بلى المجسم قط ذي ال

بلوى ولا أمسي بذي الخذلان

أمثال ذا التأويل أفسد هذه ال

أديان حين سرى إلى الأديان

والفاضل الذي أشار إليه (١) .... وتفسيره للحديث المذكور بما قاله صحيح ،

__________________

(١) وهنا بياض في أصل المؤلف والمراد بذلك الفاضل هو إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني ، وقد ذكر غير واحد من أهل العلم منهم ابن فرح القرطبي في تذكرته رواية عن القاضي أبي بكر بن العربي عن غير واحد من أصحاب إمام الحرمين عنه ما معناه : أن ذا حاجة حضر عنده وشكا من دين ركبه فأشار إليه بالمكث لعل الله يفرج عنه وفي أثناء ذلك حضر غني يسأله عن الحجة في تنزه الله سبحانه عن الجهة فقال إمام الحرمين : الأدلة على هذا كثيرة جدا ، منها نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفضيله على يونس عليه‌السلام. فصعب فهم وجه دلالة ذلك على الحضور ، فسأله السائل عن وجه الدلالة فقال إمام الحرمين : حتى تقضي حاجة هذا ـ مشيرا إلى صاحب الدين ـ فتولى قضاء دينه ، ثم أجاب الإمام قائلا : إن هذا الحديث يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عند سدرة المنتهى لم يكن بأقرب إلى الله من يونس عليه‌السلام وهو في بطن الحوت في قعر البحر ، فدل ذلك على أنه تعالى منزّه عن الجهات. وإلا لما صحّ النهي عن التفضيل ، فاستحسنه الحاضرون غاية الاستحسان ولفظ البخاري «لا يقولن أحدكم إني خير من يونس بن متى» والمعنى واحد وذكره القاضي عياض في الشفاء على لفظ المؤلف ، ومن أطلق الكفر على إثبات الجهة في غاية من الكثرة بين الأئمة ، ومن الدليل على تنزه الله سبحانه عن الجهة حديث «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» أخرجه النسائي وغيره.

٤٤٢

وقد سبقه إليه إمام دار الهجرة نجم العلماء أمير المؤمنين في الحديث ، عالم المدينة أبو عبد الله مالك بن أنس حكى ذلك الفقيه الإمام العلامة قاضي قضاة الإسكندرية ناصر الدين بن المنير المالكي (١) الفقيه المفسر النحوي الأصولي الخطيب الأديب البارع في علوم كثيرة في كتابه (المقتفي في شرف المصطفى) لما تكلم على الجهة وقرر نفيها ، قال : ولهذا المعنى أشار مالك رحمه‌الله في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تفضلوني على يونس بن متى» فقال مالك : إنما خص يونس للتنبيه على التنزيه لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفع إلى العرش ، ويونس عليه‌السلام هبط إلى قابوس البحر ، ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جلّ جلاله نسبة واحدة! ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه الصلاة والسلام أقرب من يونس بن متى وأفضل مكانا ، ولما نهى عن ذلك. ثم أخذ الفقيه ناصر الدين يبدي أن الفضل بالمكانة لأن العرش في الرفيق الأعلى ، فهو أفضل من السفل ، فالفضل بالمكانة لا بالمكان ، فانظر أن مالكا رضي الله عنه ـ وناهيك به ـ قد فسر الحديث بما قال هذا المتخلف النحس ، إنه إلحاد ، فهو الملحد عليه لعنة الله (٢) ما أوقحه وما أكثر تجرأه؟! أخزاه الله.

فصل

الفوقية الحسية ... إلخ

ثم قال :

وأتى فريق ثم قارب وصفه

هذا وزاد عليه في الميزان

قال اسمعوا يا قوم لا تلهيكم

هذي الأماني هن شر أماني

أتعبت راحلتي وفتشت ، ما دلني أحد عليه إلا طوائف بالحديث تمسكت تعزى

__________________

(١) صاحب «البحر الكبير في نخب التفسير» الذي يقول عنه بعض المحققين إنه لم يؤلف في التفسير مثله وهو من مفاخر المالكية في القرن السابع بل من مفاخر علماء الإسلام طرا ، ويوجد بدار الكتب المصرية جزء من هذا التفسير وكتابه المقتفي يتوسع في بيان الإسراء.

(٢) ترى المؤلف على ورعه البالغ يستنزل اللعنات على الناظم في كثير من مواضع هذا الكتاب ، وهو يستحق تلك اللعنات من حيث خروجه على معتقد المسلمين بتلك المخازي ، لكن الخاتمة مجهولة ، فالأولى كف اللسان الآن عن اللعن. وأما استنزل المؤلف اللعنة عليه فكان في حياة الناظم وهو يمضي على زيغه وإضلاله عامله الله بعدله.

٤٤٣

مذاهبها إلى القرآن ، قالوا : الذي تبغيه فوق عباده (١) فوق السماء وفوق كل مكان وهو الذي حقا على العرش استوى وإليه يصعد كل قول طيب وإليه يرفع سعي ذي الشكران ، والروح والأملاك منه تنزلت وإليه تعرج وإليه أيدي السائلين توجهت ، وإليه قد عرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإليك قد رفع المسيح حقيقة وإليه يصعد روح كل مصدق ، لكن أولو التعطيل منهم أصبحوا مرضى بداء الجهل والخذلان.

تسمية الناظم أهل الحق بحزب جنكز خان

فسألت عنهم رفقتي أصحاب جهم حزب (٢) جنكسخان. من هؤلاء؟ قال مشبهة

__________________

(١) والوارد في القرآن الكريم (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] ومن الخرق أن يظن من قوله تعالى عن القبط : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [الأعراف : ١٢٧] ركوب القبط على أكتاف بني إسرائيل مع إمكان ركوب جسم على جسم ، وكيف يتصور ذلك في الله تعالى المنزّه عن الجسم ولوازم الجسمية واعتبار ذات الله فوق عباده فوقية مكانية إلحاد ليس من مدلول الآية في شيء وكون ذاته جلّ جلاله فوق إحدى السماوات فوقية مكانية وفوق كل مكان فوقية مكانية مثل ما سبق في الزيغ ، وأين في القرآن ما يوهم ذلك؟ على أن القول الأخير موافقة منه لمن يقول إن ذاته جلّ شأنه بكل مكان وكفى هذا تهاترا. وإن كان يريد بالاستواء الاستقرار تبعا لمقاتل بن سليمان شيخ المجسمة فقد استعجمت عليه الآية الكريمة وتباعد عن بلاغتها أيما تباعد وقد أوضحت ذلك في (لفت اللحظ إلى ما في الاختلاف في اللفظ) ونسبة الصعود إلى الأعراض والمعاني من الدليل في أول نظر على أنه مجاز من القبول وما ذا من نزول الملائكة من السماوات وعروجهم إليها. وإليه تعالى قصد السائلين ، لكن رفعهم الأيدي إلى السماء ليس في شيء من الدلالة على استقرار وجود ذاته في السماء وإنما ذلك لمجرد أن السماء قبلة الدعاء ومنزل الأنوار والأمطار والخيرات والبركات (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) [الذّاريات : ٢٢] وسمت الرأس مما يتبدل آنا فآنا كما يعرف ذلك صغار التلاميذ في المدارس ، فهل ذات معبود الناظم في تنقل دائم لا يبرح سمت رأسه؟! وما حال سائر الداعين في أقطار الأرض؟ وهذا هو الجهل المطبق. لم يكن إسراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليغشى مكان الله ـ سبحانه عن المكان ـ بل أسرى به ربه ليريه من آياته الكبرى كما نصّ على ذلك القرآن ومقام عيسى عليه‌السلام يظهر من حديث المعراج ، فويح الناظم ما أجهله بالسنة ، نعم يوجد بين النصارى من يزعم أن الابن رفع إلى السماء وجلس في جنب أبيه ، تعالى الله عما يقول المجسمة وإخوانهم النصارى واليهود علوا كبيرا ، وصعود الأرواح إلى السماء من الذي يراه صالحا لاتخاذه دليلا على التجسيم؟.

(٢) انظر هذا الحشوي كيف يجعل أهل السنة المنزّهين لله عن الجسم والجسمانيات من حزب جنكزخان الذي اكتسح معالم الإسلام من بلاد الصين إلى حدود الشام غربا وإلى نهر ولجا وما والاها من بلاد البلغار القديم شمالا ذلك الكافر العريق في الكفر ، المسود لتاريخ البشرية بعظائمه الهمجية. ولم تزل أعين المسلمين تفيض دما على تلك الكوارث التي قضت على تلك العلوم الزاهرة وعلى هؤلاء العلماء النبهاء حرّاس الشريعة الغرّاء ، حتى أصبح مثل النظام يجد

٤٤٤

مجسمة (١) فلا تسمع ترابهم والعنهم واحكم بسفك دمائهم فهم أضل من اليهود والنصارى ، واحذر تجادلهم ب «قال الله وقال الرسول» وهم أولى به ، فإذا ابتليت بهم فغالطهم على التأويل للأخبار والقرآن ، وعلى التكذيب للآحاد.

هذان أصلان أوصى بهما أشياخنا أشياخهم ، وإذا اجتمعت بهم في مجلس فابدأ بإيراد وشغل زمان لا يملكوه عليك بالآثار وتفسير القرآن ، فإن وافقت صرت مثلهم ، وإن عارضت صرت زنديقا كافرا ، وإن سكت يقال جاهل ، فابدأ ولو بالفشر والهذيان

__________________

ـ مجالا للكلام ، بمثل هذه المخازي ، كأنه وشيخه كانا يحاولان القضاء على البقية الباقية من الإسلام ، ومن علوم الإسلام ، إتماما لما لم يتم بأيدي المغول ، لكنهما قضيا على أنفسهما ومداركهما قبل أن يقضيا على السنة باسم السنة وعلى عقول الناس باسم النظر عاملهما الله سبحانه بعدله.

(١) يسعى الناظم بكل قواه في تهوين أمر التجسيم أسوة بشيخه ، لكن القائلين بقدم الجسم طائفتان ليس بين طوائف البشر أسخف أحلاما من كلتا الطائفتين. إحداهما الطبيعيون وقد تسمى الملاحدة والزنادقة والدهرية والمعطلة وهم القائلون بنفي الصانع ، وهم كما يقول المطهر المقدسي أقل الناس عددا وأفيلهم رأيا ، وأشرهم حالا وأوضعهم منزلة ، يقولون بقدم أعيان العالم والأجسام وتولد النبات والحيوان من الطبائع باختلاف الأزمنة والثانية المجسمة وقد تسمى الحشوية والمشبهة على اختلاف بينهم فيما يختلقونه في الله من السخافات والحماقات ، تعالى الله عما يصفون ، وهم مشاركون لهؤلاء في القول بجسم قديم قدما ذاتيا إلا أنهم يؤلهونه ويتعبدونه بخلاف هؤلاء ، سواء أطلقوا لفظ الجسم عليه أم لم يطلقوا بعد أن قالوا بمعنى الجسم الشاغل للفراغ ، الذاهب في الجهات ، حيث خاضوا في ذات الله سبحانه بعقولهم الضئيلة التي تعجز عن اكتناه ذوات المخلوقات وإنما علمهم بالمخلوقات عبارة عما تخيلوه بشأنها من إحساسهم بأغراضها ، فكيف يجترءون على تخيل الحوم حول حمى الخالق جلّ وعلا.

قال ابن تيمية في التأسيس في رد أساس التقديس المحفوظ في ظاهرية دمشق في ضمن المجلد رقم ٢٥ من الكواكب الدراري ، وهذا الكتاب مخبأة ووكر لكتبهم في التجسيم وقد بينت ذلك فيما علقته على المصعد الأحمد (ص ٣١) : «فمن المعلوم أن الكتاب والسنة والإجماع لم ينطق بأن الأجسام كلها محدثة وأن الله ليس بجسم ولا قال ذلك إمام من أئمة المسلمين فليس في تركي لهذا القول خروج عن الفطرة ولا عن الشريعة اه».

وقال في موضع آخر منه : «قلتم ليس هو بجسم ، ولا جوهر ولا متحيز ولا في جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميز منه شيء وعبرتم عن ذلك بأنه تعالى ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حد له ولا غاية ، تريدون بذلك أنه يمتنع عليه أن يكون له حد وقدر أو يكون له قدر لا يتناهى ... فكيف ساغ لكم هذا النفي بلا كتاب ولا سنة اه». وفي ذلك عبر للمعتبر ، وهل يتصور لمارق أن يكون أصرح من هذا بين قوم مسلمين؟.

٤٤٥

هذا الذي ـ والله (١) ـ وصانا به أشياخنا فرجعت عن سفري وقلت لصاحبي : عطّل ركابك ما ثمّ شيء غير ذي الأكوان ، لو كان للأكوان رب خالق كان المجسم صاحب البرهان أو كان رب بائن عن ذا الورى ، كان المجسم صاحب الإيمان. فدع التكاليف واخلع عذارك ما ثم فوق العرش من رب ، ولم يتكلم الرّحمن بالقرآن لو كان فوق العرش رب لزم التحيز ولو كان القرآن عين كلامه حرفا وصوتا (٢) كان ذا جثمان ، فإذا

__________________

(١) ثم انظر كيف يحلف كذبا على هذه المحاورة الخيالية فهل يتصور أن يصدر منه مثل ذلك لو كان يخاف مقام ربه في ذلك اليوم الرهيب ، وسيأتي ما يقضي على مزاعمه في استقرار معبوده على العرش ـ جلّ إله المسلمين عن مثل هذه الوثنية ـ كما سيأتي القضاء على مزاعمه في الحرف والصوت قضاء لا نهوض لها بعده إن شاء الله تعالى.

(٢) واعتقاد الصوت في كلام الله خطر جدا ، وكان الإمام عز الدين بن عبد السلام ابتلي بالمبتدعة الصوتية في عهد الملك الأشرف موسى ابن الملك العادل الأيوبي ، وكان الملك الأشرف هذا يميل إليهم ويعتقد فيهم أنهم على صواب حيث كان يخالطهم منذ صغره حتى منع العز المذكور من الإفتاء بسبب هذه المسألة كما هو مشروح ، مفصّل في مطلب الأديب لأبي بكر بن علي الحسيني السيوطي ، وفي طبقات التاج ابن السبكي وطبقات التقي التميمي ، وفي خلاصة الكلام في مسألة الكلام للشيخ محمد عبد اللطيف بن العز المذكور ـ وقد نقلت الرسالة الأخيرة من خط المؤلف ـ واستمر منعه من الإفتاء إلى أن ركب الإمام الكبير جمال الدين الحصيري ـ شارح الجامع الكبير ، وشيخ الفقهاء في عصره ـ وتوجه إلى الملك الأشرف وأفهمه أن الحق مع العز وقال له إن ما في فتياه هو اعتقاد المسلمين وكل ما فيها صحيح ومن خالف ذلك فهو حمار. وكان الجمال الحصيري عظيم المنزلة عند الملك لجلالة قدره عند جماهير أهل العلم ، فأطلق الإفتاء للعز ومنع الصوتية من مزاعم الحرف والصوت في كلام الله سبحانه.

فتاوى في الرد على القائلين بالحرف والصوت

وأرى من النصح للمسلمين أن أنقل هنا أجوبة الإمام العز بن عبد السلام والإمام جمال الدين أبي عمرو عثمان بن الحاجب المالكي ، والإمام علم الدين أبي الحسن علي بن محمد السخاوي مؤلف «جمال القراء وكمال الإقراء» حينما استفتوا في هذه المسألة. ومكانتهم السامية في العلم معروفة.

ونص السؤال والأجوبة كما هو مدوّن في «نجم المهتدي ورجم المعتدي» للفخر بن المعلم القرشي ، كالآتي :

صورة السؤال : ما يقول السادة الفقهاء رضي الله عنهم في كلام الله القديم القائم بذاته؟ هل يجوز أن يقال إنه عين صوت القارئ وحروفه المقطعة ، وعين الأشكال التي يصورها الكاتب في المصحف؟ وهل يجوز أن يقال إن كلام الله القديم القائم بذاته حروف وأصوات على المعنى الظاهر فيها وإنه عين ما جعله الله معجزة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وما الذي يجب على من اعتقد جميع ذلك وأذاعه وغربه ضعفاء المسلمين وهل يحل للعلماء المعتبرين إذا علموا أن ذلك قد ـ

٤٤٦

__________________

ـ شاع أن يسكتوا عن بيان الحق في ذلك وإظهاره والرد على من أظهر ذلك واعتقده؟ أفتونا مأجورين.

صورة جواب الإمام عز الدين بن عبد السلام رحمه‌الله :

القرآن كلام الله صفة من صفاته قديم بقدمه ، ليس بحروف ولا أصوات ومن زعم أن الوصف القديم هو عين أصوت القارئين وكتابة الكاتبين فقد ألحد في الدين وخالف إجماع المسلمين ، بل إجماع العقلاء من غير أهل الدين ولا يحل للعلماء كتمان الحق ولا ترك البدع سارية في المسلمين ، ويجب على ولاة الأمر إعانة العلماء المنزهين الموحدين ، وقمع المبتدعة المشبهين المجسمين ، ومن زعم أن المعجزة قديمة فقد جهل حقيقتها ، ولا يحل لولاة الأمر تمكين أمثال هؤلاء من إفساد عقائد المسلمين ، ويجب عليهم أن يلزمهم بتصحيح عقائدهم بمباحثة العلماء المعتبرين ، فإن لم يفعلوا ألجئوا إلى ذلك بالحبس والضرب والتعزير ، والله أعلم.

كتبه عبد العزيز بن عبد السلام

وصورة جواب الإمام جمال الذين أبي عمرو عثمان بن الحاجب المالكي :

من زعم أن أصوات القارئ وحروفه المتقطعة والأشكال التي يصورها الكاتب في المصحف هي نفس كلام الله تعالى القديم فقد ارتكب بدعة عظيمة وخالف الضرورة وسقطت مكالمته في المناظرة فيه ، ولا يستقيم أن يقال إن كلام الله تعالى القديم القائم بذاته هو الذي جعله الله معجزة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ذلك يعلم بأدنى نظر ، وإذا شاع ذلك أو سئل عنه العلماء وجب عليهم بيان الحق في ذلك وإظهاره ويجب على من له الأمر وفقه الله أخذ من يعتقد ذلك ويغريه ضعفاء المسلمين وزجره وتأديبه وحبسه عن مخالطة من يخاف منه إضلاله إلى أن يظهر توبته عن اعتقاد مثل هذه الخرافات التي تأباها العقول السليمة ، والله أعلم.

كتبه عثمان بن أبي بكر الحاجب

وصورة جواب الإمام علم الدين أبي الحسن علي السخاوي :

كلام الله عزوجل قديم صفة من صفاته ليس بمخلوق ؛ وأصوات القراء وحروف المصاحف أمر خارج عن ذلك ، ولهذا يقال صوت قبيح وقراءة غير حسنة وخط قبيح غير جيد ، ولو كان ذلك كلام الله لم يجز ذمه على ما ذكر لأن أصوات القراء به تختلف باختلاف مخارجها والله تعالى منزّه عن ذلك ، والقرآن عندنا مكتوب في المصاحف متلو في المحاريب محفوظ في الصدور غير حالّ في شيء من ذلك ، والمصحف عندنا معظّم محترم لا يجوز للمحدث مسه ، ومن استخفّ به أو ازدراه فهو كافر مباح الدم ، والصفة القديمة القائمة بذاته سبحانه وتعالى ليست المعجزة ، لأن المعجزة ما تحدّى به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطالب بالإتيان بمثله ومعلوم أنه لم يتحدهم بصفة الباري القديمة ، ولا طالبهم بالإتيان بمثلها ، ومن اعتقد ذلك وصرّح به أو دعا إليه فهو ضال مبتدع ، بل خارج عما عليه العقلاء إلى تخليط المجانين ، والواجب على علماء المسلمين إذا ظهرت هذه البدعة إخمادها وتبيين الحق والله أعلم.

علي السخاوي

انظر يا رعاك الله كيف كان العلماء يتكاتفون في قمع البدع وإحقاق الحق على اختلاف مذاهبهم في تلك العصور الزاهرة بخلاف غالب أهل العلم في زماننا هذا فإن لهم منازع وراء اختلاف

٤٤٧

__________________

ـ المذاهب لا يهمهم ذيوع الباطل وقد خانوا دينهم الذي ائتمنهم الله عليه ، وبه يعيشون ، ويوم الخائنين يوم رهيب.

وكانت تلك الفتنة بالشام في النصف الأول من القرن السابع الهجري ، وقد وقع مثلها في النصف الأخير من القرن السادس بمصر ، وفتنة القاهرة معروفة بفتنة ابن مرزوق وابن الكيزاني وكلاهما من حشوية الحنابلة ، وظن التاج ابن السبكي بن الكيزاني من الشافعية فترجم له في طبقاته تبعا لابن خلكان ، فلا بأس في الإشارة هنا إلى فتاوى علماء ذلك العصر في حقهما.

وصورة الاستفتاء في شأنهما :

ما قولكم في الحشوية الذين على مذهب ابن مرزوق وابن الكيزاني اللذين يعتقدان أن الله سبحانه يتكلم بحرف وصوت ، تعالى الله عن ذلك ، وأن أفعال العباد قديمة ، هل تنفذ أحكامهم على أهل التوحيد وعامة المسلمين وهل تقبل شهاداتهم على المسلمين أم لا؟.

جواب الإمام شهاب الدين أبي الفتح محمد بن محمود الطوسي الشافعي (صاحب الوقائع مع ابن نجية الحنبلي):

تقبل شهادة عدولهم على أصحابهم ولا تسمع شهاداتهم على أهل الحق من الموحدين ولا ينفذ حكم قاضيهم على الموحدين فإنهم أعداء الحق ، والله أعلم.

كتبه محمد الطوسي

وجواب الإمام يوسف الأرموي :

ما نصّ عليهم أعلاه اقترفوا حوبة عظيمة يجب عليهم القفول عما اعتقدوه وهم كفار عند أكثر المتكلمين وكيف يسوغ قبول أقوالهم؟ ويجب على من إليه الأمر إحضارهم واستتابتهم عما هم عليه ، فإن تابوا وإلا قتلوا ، وحكمهم في الاستتابة حكم المرتد في إمهاله ثلاثة أيام ولا يقتل في الحال.

كتبه يوسف الأرموي

وجواب الخطيب أبي عبد الله محمد بن إبراهيم الحموي :

من اعتقد أن أفعال العباد قديمة فقد قال قولا يلزم منه القول بقدم العالم ومن قال بقدم العالم فهو كافر لا تصح ولايته ولا تقبل شهادته والله أعلم.

كتبه محمد بن إبراهيم الحموي

واستفتاء آخر صورته :

ما قول الفقهاء الأئمة قادة علماء هذه الأمة أدام الله إرشادهم ووفق إصدارهم وإيرادهم في الحشوية الذين على مذهب ابن مرزوق وابن الكيزاني. اللذين يعتقدان أن الله سبحانه متكلم بحرف وصوت ، وأن أفعال العباد قديمة ، هل تقبل شهاداتهم على أهل الحق الموحدين الأشعرية ، وهل تنفذ أحكام قضاتهم على الأشعرية أم لا؟

جواب الإمام أبي المنصور ظافر بن الحسين الأزدي المالكي :

لا تقبل شهادة من يقول إن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت لأنهم مرتكبون كبيرة هي أعظم من سائر المعاصي كالزنى وشرب الخمر لأنها كبيرة تتعلق بأصل من أصول الدين.

كتبه ظافر بن حسين الأزدي

٤٤٨

__________________

ـ وجواب شارح المهذب أبي إسحاق إبراهيم العراقي :

جوابي كذلك.

كتبه إبراهيم العراقي

وجواب الخطيب محمد بن إبراهيم الحموي :

من قال إن الله متكلم بحرف وصوت فقد قال قولا يلزم منه أن الله جسم ومن قال إنه جسم فقد قال بحدوثه ومن قال بحدوثه فقد كفر ، والكافر لا تصح ولا تقبل شهادته ، والله أعلم.

كتبه محمد بن إبراهيم الحموي

وجواب الشيخ جمال الدين بن رشيق المالكي :

لا تقبل شهادتهم ولا يجوز أن يولوا الحكم ولا غيره من المناصب الدينية لأنهم بين جاهل يصر على جهله بما يتعين عليه اعتقاده من صفات الله سبحانه وبين عالم معاند للحق ، ومن هذه صفته يتعين تأديبه وزجره عما صار إليه بأبلغ الأدب ، ومن جملته رد الشهادة وبالله التوفيق.

كتب حسين بن عتيق بن رشيق

وجواب الشيخ محيي الدين محمد بن أبي بكر الفارسي :

من قال إن الله سبحانه متكلم بالصوت والحرف فقد أثبت الجسمية وصار بقوله مجسما ، والمجسم كافر ، ومن قال إن أفعال العباد قديمة فقد كذب الله تعالى في قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصّافات : ٩٦] ومكذب الله بصفة الإصرار كافر ولا تثبت عدالتهم ولا تقبل شهادتهم ولا تجوز الصلاة خلفهم ، ويجب على الإمام وعلى نوابه في الأقاليم استتابتهم ، فإن لم يرجعوا عما هم فيه من الكفر يعاقبهم على كفرهم أو يقبل الجزية منهم أذلاء لا كاليهود والنصارى بل كفرهم أشنع وأبشع من مقالة النصارى واليهود ، أما اليهود فشبهوه بالحادث صفة ، وأما النصارى فقالوا إنه جوهر شريف والمجسمة يثبتون الجسم لله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وكتب محمد الفارسي :

وفي تلك الفتاوى ما ينزجر به من يخاف مقام ربه من تلك البدع الشنيعة وبها يعلم أيضا أن أبا عمرو عثمان بن مرزوق الحنبلي وأبا عبد الله الكيزاني الحنبلي مشتركان في إثارة البدع المذكورة بمصر ولا مانع من أن يكون بينهما بعض اختلاف في فرع من فروع تلك البدع ، ومن حاول تبرئة أحدهما منها فلا حجة عنده أصلا ، وقد تكلف ابن رجب في طبقاته تبرئة ابن مرزوق عن ذلك بدون جدوى بعد أن أقرّ بذلك الناصح الحنبلي وابن القطيعي الحنبلي ، ولو كان ابن رجب رأى تلك النصوص من فتاوى علماء عصر ابن مرزوق وابن الكيزاني المنقولة عن خطوطهم المحفوظة في خزانة الملك الظاهر بيبرس لما سعى في تبرئة ساحته من تلك البدعة الشنيعة.

ونسبة القول بتلك البدعة إلى ابن الكيزاني في مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي لا تبرئ ابن مرزوق منها على أن ابن رجب قال بعد ذلك : ثم وجدت لأبي عمرو بن مرزوق مصنفا في أصول الدين ، ورأيته يقول فيه إن الإيمان غير مخلوق ، أقواله وأفعاله وإن حركات العباد مخلوقة ، لكن القديم يظهر فيها كظهور الكلام في ألفاظ العباد اه.

٤٤٩

انتفيا ما الذي يبقى من إيمان؟ فدع الحلال مع الحرام لأهله ، فهما السياج فاخرقه ثم ادخل واقطع علائقك التي قد قيدت هذا الورى لتصير حرا (١) لست تحت

__________________

ـ هذا طراز آخر في التخريف يدل على أنه قائل بالحلول على مذهب السالمية ، ومثله لا يمكن ترقيع كلامه. ووقعت بين الفتنتين فتنة عبد الغني المقدسي الحنبلي في الصوت ونحوه كما في ذيل الروضتين لأبي شامة فليراجع هناك ، وما حدث في القرن الخامس ببغداد في عهد أبي نصر بن القشيري من فتنة الحشوية فمشهور جدا. والمحضر الذي رفعه أبو إسحاق الشيرازي والحسين بن محمد الطبري ومحمد بن أحمد الشاشي والحسين بن أحمد البغدادي وعزيزي بن عبد الملك شيذلة ، وغيرهم من أئمة ذلك العصر عن تلك الفتنة بخطوطهم إلى نظام الملك ، مسجل في تبيين كذب المفتري لابن عساكر (ص ٣١٠) فيراجع هناك ليعلم مبلغ سعي الحشوية في إثارة الفتن في كل قرن وذلك مما يعرق به جبين الدهر خجلا من تخريفاتهم التي يتبرأ منها العقلاء كلهم. وأما ما أحدثوه من الفتن في أوائل القرن الرابع من الدعوة إلى القول بإجلاس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العرش في جنبه تعالى فمدوّن في كتب التاريخ. والمرسوم الذي أصدره الراضي العباسي ضد البربهاري الداعي إلى تلك البدعة مسجل في تاريخ ابن الأثير بنصه وفصه فليراجع القارئ الكريم هذا وذاك ليعلم نصيب الحشوية من العقل والدين وكلا الكتابين بمتناول الأيدي فنستغني عن نقل نصوص عنهما ، وفي كل ما تقدم عبر ، ويا لها من عبر ، والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل.

رد حديث الأوعال

(١) انظر هذا الخبث المضاعف ، يصور الناظم أن القول بعدم استقرار الإله جلّ شأنه على العرش استقرار تمكن وبعدم كون كلام الله القائم بذاته حرفا وصوتا حادثين في ذاته تعالى يكون انحلالا عن الدين وانسلاخا من التكاليف ، ولست أشك أن من يجترئ على هذا التصوير ويدور في خلده مثل هذا التفكير أمام جماهير أهل الحق المعتقدين للتنزيه من فجر الإسلام إلى اليوم في مشارق الأرض ومغاربها على طول القرون لا يكون إلا منطويا على الانسلاخ الذي يرمي به أهل الحق ، قاتله الله ما أجرأه على الله وما أوقحه! فمن الذي نفى أن للعالم مدبرا وأن القرآن كلام الله أنزل به الروح الأمين على قلب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ ومن الذي يجهل أن الملء والتخلية من شأن الأجسام نفيا وإثباتا ولم يرد الملء في سنة صحيحة حتى يجوز إطلاقه عليه سبحانه ، على أن تنزهه سبحانه عن الجسمية ولوازم الجسمية مما أجمع عليه أهل الحق ، ولم يشك فيه سوى من عنده نزعة الوثنية ، ولفظ بائن من خلقه لم يرد في كتاب ولا سنة ، وإنما أطلق من أطلق من السلف بمعنى نفي الممازجة ردا على جهم لا بمعنى الابتعاد بالمسافة ، تعالى الله عن ذلك. كما صرح بذلك البيهقي في الأسماء والصفات ، وأما لفظ أنه فوق العرش فلم يرد مرفوعا إلا في بعض طرق حديث الأوعال ـ من رواية ابن منده من التوحيد ـ وعبد الله بن عميرة في سنده مجهول الحال ، ولم يدرك الأحنف فضلا عن العباس. وسماك انفرد به عن عبد الله هذا ، في جميع الطرق ، ويحيى بن العلاء في رواية عبد الرزاق عن سماك يقول عنه أحمد : كذاب يضع الحديث. وتصحيح بعض الحشوية لبعض طرق حديث الأوعال لا يزيل ما به سندا ومتنا ، بل خبر الأوعال ملفق من الإسرائيليات كما نصّ عليه أبو بكر بن

٤٥٠

أوامر ولا نهي ولا فرقانا ، لكن جعلت حجاب نفسك إذا تى ، فوق السماء من ديان ، لو قلت ما فوق السماء مدبر والعرش تخليه من الرّحمن ، والله ليس متكلما بالقرآن لحللت طلسمه وفزت بكنزه وعلمت أن الناس في هذيان ، لكن زعمت أن ربك بائن من خلقه وأنه فوق العرش والكرسي وفوقه القدمان وأنه يسمع خلقه ويراهم من فوق وأن كلامه منه بدا وإليه (١) يعود ووصفته بالسمع والبصر والإرادة والقدرة وكراهة ومحبة وحنان ، وأنه يعلم كل ما في الكون ، وأنه كلم موسى ، والنداء صوت بإجماع النحاة ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسرى به (ليلا إليه) فهو منه داني وأنه يدنيه يوم القيامة حتى يرى قاعدا معه على العرش وأن لعرشه أطيطا (٢) وأن الله أبدى بعضه للطور ، وأن له وجها وله يمين ، بل زعمت يدان ، وأن يديه للسبع العلى والأرض (يوم الحشر) قابضتان (٣) وأن يمينه ملأى من الخير ، وأن العدل في الأخرى وأن الخلق طرا عنده

__________________

ـ العربي في شرح سنن الترمذي وأنت تعرف مبلغ براعته في الحديث ونقده وتحسين الترمذي بالنظر إلى تعدد طرقه بعد سماك ، وهذا مصطلح له وقوله : غريب إشارة إلى انفراد سماك عن ذلك المجهول ولا شأن للمجاهيل والوحدان والمنقطعات في إثبات الصفات أصلا ولم يثبت عن القدمين حديث مرفوع ، وقول ابن عباس لإفادة أن الكرسي صغير بالنسبة إلى العرش ككرسي قد وضع لقدمي القاعد على السرير كما قال ابن الجوزي. ورواية من رواه بلفظ (قدميه) تحريف للرواية وتقييد الرؤية بلفظ (من فوق) من كيس المجسم بدون كتاب ولا سنة. ووصفه سبحانه بالصفات الواردة في الكتاب والسنة لم ينفه أحد من أهل الحق ، كما لم ينف أحد منهم كلام الله لموسى بلا كيف. والإقعاد معه على العرش يروى عن مجاهد بطريق ضعيفة وتفسير المقام المحمود بالشفاعة متواتر تواترا معنويا وأنى ما ينسب إلى مجاهد من ذاك؟ وقد صرح غير واحد من الأئمة ببطلان ما يروى عن مجاهد ، ويرى بعض النصارى رفع عيسى عليه‌السلام وإقعاده في جنب أبيه وهذا هو مصدر هذا التخريف.

(١) قال ابن المعلم القرشي : وهذا الحديث أوردوه بإسناد فيه محمد بن يحيى بن رزين ، قال أبو حاتم البستي كان كذابا دجالا يضع الأحاديث اه. وزيادة على ما سبق سيأتي الكلام على الصوت فانتظره ، ودعوى الإجماع في أن النداء صوت كذب كما سيأتي.

(٢) ويغنينا عن إبداء وجوه التخليط في حديث الأطيط ما ألفه الحافظ ابن عساكر في ذلك ، وإبداء بعضه للطور بمعنى إبداء بعض آيه على أنه مما أدخل على حماد بن سلمة ، تعالى الله سبحانه عن الأبعاض والأجزاء رغم أنف المجسمة. ويأتي الكلام على قبض السماوات.

قبض السماوات والأرض

(٣) قال البخاري في تفسير قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزّمر : ٦٧] إن أبا هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يقبض الله الأرض ويطوي السماوات بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض» اه. وهذا هو أصل الحديث وهو مروي بأسانيد كثيرة جدا وهو الموافق لكتاب الله سبحانه ، واليمين : القدرة كما هو مبسوط في أساس التقديس ، وحاشا

٤٥١

يهتز فوق أصابع (١) الرّحمن وأن قلب العبد بين اثنتين من أصابعه ، وأنه يضحك عند

__________________

ـ أن يكون قبض الله من قبيل احتواء الأنامل على شيء ، وما زاد على ذلك في الروايات من أنه يأخذ السماوات بيده اليمنى ويأخذ الأرض بشماله ـ وحاشا أن يكون له شمال وكلتا يديه يمين ـ فمن تصرفات الرواة أثناء النقل بالمعنى كما لا يخفى على أهل هذه الصناعة المستحضرين لأحاديث الباب ومبلغ اضطرابها سندا ومتنا.

وأما حديث الحبر اليهودي فيوضع أجزاء الكون على إصبع فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه لا يدل على تصديق ذلك وإن ظنه بعض الرواة تصديقا ـ في بعض الطرق ـ بل يدل على الإنكار والاستهجان. وقد برهن ابن الجوزي في دفع الشبه وابن حجر في الفتح على أن ذلك إنكار لا تصديق رغم توهم ابن خزيمة كونه تصديقا لزيغ مشهور في معتقده ، كما سيأتي بيانه ، بل نزول قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزّمر : ٦٧] أي تحت تصرف مالك يوم الدين لا يجري لأحد سواه حكم في ذلك اليوم (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزّمر : ٦٧] أي بقدرته لا حساب على سكانها بخلاف أهل الأرض فإنهم محاسبون (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : ١٨] عقب حديث حبر اليهود دليل واضح على الإنكار على أن إثباتهم الأصابع الحسية بالوجه السابق إشراك. قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] فمن الذي يظن أن ذلك بالمماسة؟ وكذلك القبض ، وإن هذى الشيخ محمد المنبجي الحنبلي تلميذ ، الناظم في جزء (إثبات المماسة) بما شاء من صنوف الهذيان ، وكل ذلك من بلايا ابن تيمية حيث لفق الروايات في هذا الصدد وقال ما شاء أن يقوله في الأجوبة المصرية وذكر ما ورد في بعض طرق الحديث وهو (قبض كفيه فجعل يقبضهما ويبسطهما) ثم قال : «وهنا شبه القبض والبسط بقبضه وبسطه» اه. وهذا تشبيه صريح من ابن تيمية (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) [النّحل : ١٧] ومغالطة مكشوفة ، واللفظ المذكور لم يقع إلا في بعض الروايات ، والاضطراب في الحديث سندا ومتنا زيادة ونقصا ظاهر جدا لمن اطلع على طرقه بحيث لا يصح الاستدلال به ولا سيما في مثل هذا المطلب وعلى فرض ثبوت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبض كفيه وبسطهما أثناء الخطبة لم ينسب إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث أنه قال : هكذا يقبض ويبسط حتى يصح كلام ابن تيمية ، بل البسط غير موجود فيما يروى عما يفعله سبحانه عند قيام الساعة حتى يظن به صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قبض كفيه وبسطهما أنه أراد تشبيههما بقبض الله وبسطه ، على أن الخطيب كثيرا ما تصدر منه حركات وإشارات أثناء الخطبة ، وحملها على معان لم ينطق هو بها تقويل للخطيب ما لم يقله ، ومن الظاهر جدا أن الأرض تحتوي على الأنجاس والأرجاس فكيف يتصور أن يكون قبض الله كقبض أحد من خلقه حقيقة بحيث يستلزم ذلك القبض على الأخباث والأرواث ، تعالى الله عن ذلك. وهذا مما لا يتصوره من يخاف مقام ربه ولو كان جاهلا باستحالة الجسمية على الله سبحانه. ولا نتعرض هنا لرواية كاتب الليث في الخبزة ولعل فيما ذكرنا كفاية.

الأصابع في كلام الجبر

(١) لم يرد في حديث وضع السماوات على إصبع إضافة الأصابع إلى الرّحمن أصلا وهذا كذب وتصرف في الحديث بالتحريف والتغيير قال القاضي أبو بكر بن العربي في القواصم والعواصم :

٤٥٢

تقابل الصفين من عبده يأتي فيبدي نحره لعدوه ، ويضحك عند ما يثب الفتى من فرشه لقراءة القرآن ، ومن قنوط عباده إذا جدبوا ، وأنه يرضى ويغضب ، وأنه يسمع صوته (١)

__________________

ـ وأما ذكر الأصابع فصحيح ولكن لم ترد مضافة إليه تعالى وإنما ورد أنه يضع السماوات على إصبع والأرضين على إصبع ثم يهزهن ... الحديث ، ومن أين لهم أن أصابع الوضع المطلقة هي أصابع التقليب المضافة إليه؟ اه على أن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن قال الحبر ذلك (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] يدل على إنكار ما قاله الحبر كما قال ابن حجر في شرح البخاري ردا على ابن خزيمة ـ وتوحيد ابن خزيمة من أهيف الكتب ، راجع تفسير (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] من تفسير الفخر الرازي ـ وما أخرجه الضياء الحنبلي من حديث الخنصر فباطل بالمرة وفيه من العلل ما بين في موضعه وليس في حديث الترمذي رفع حديث طرف الإبهام إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على انفراد حماد بن سلمة به ، بل نسبة ذلك إلى سليمان بن حرب أو حماد ، قال ابن العربي : وتمثيل سليمان بن حرب وأمثاله ما تجلّى للجبل بالأنملة لا ينظر إليه لأنه كلام غير معصوم ولا واجب الاتباع فالأمر هين والمخرج عنه سهل بيّن اه. فيا سبحان الله ما أجهل هذا الناظم بلسان قومه كيف يفهم من اليد معنى الجارحة ومن الضحك إبداء النواجذ ، راجع القواصم لابن العربي ، ودفع الشبه لابن الجوزي ، والأسماء والصفات للبيهقي ، وقد روى القاضي أبو بكر بن العربي في العارضة والقاضي عياض في الشفاء عن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه أنه كان يرى قطع يد من أشار بيده إلى عضو من أعضائه عند ذكر شيء ورد في الله سبحانه حيث إن الإشارة إلى عضو عند ذاك تشبيه ، تعالى الله عن ذلك ، وأما ما وقع في صحيح مسلم من حديث القبض باليمين والشمال فلم يخرجه البخاري لاضطراب عبد العزيز بن سلمة في سنده لأنه يرويه مرة عن أبيه عن ابن مقسم عن ابن عمر كما وقع في رواية سعيد بن منصور وأخرى عن أبيه عن عبيد بن عمير عن ابن عمر ، كما في رواية القعنبي ، وتارة أخرى عن أبيه عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن عمرو بن العاص كما في رواية يحيى بن بكير ، فدلت تلك الأسانيد المختلفة على أن عبد العزيز لم يضبط السند كما يجب ، وحال المتن توازي حال السند ومسلم حيث ترجح عنده روايته بطريق ابن مقسم بالنظر إلى متابعة يعقوب بن عبد الرّحمن القاري لعبد العزيز في روايته عن سلمة عن ابن مقسم خرجه في صحيحه ، لكن ما يحتاج إلى متابع يكون منحط الرتبة في الصحة بل من أحاط بأسانيد هذا الخبر في توحيد ابن خزيمة وحلية أبي نعيم يعده مضطرب السند والمتن معا. على أن ما يقع في المنبر أمام الجمهور تتوفر فيه الدواعي إلى روايته فكيف ينفرد برواية مثله راو واحد ، وإن صح الاحتجاج بمثل ذلك فإنما يصح عند ـ عدم المعارض ـ في الأعمال فقط دون الاعتقاد على أن تلاوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الأنعام : ٩١] عند ذكر حديث الحبر في الصحيح تعارضه إذا لم يحمل خبر مسلم على المجاز فيوجد بين أهل العلم من لا يستدل بمثله في الأعمال فضلا عن الاعتقاد ومع هذا كله لا يحتج بما دون المشهور من الأحاديث في ذات الله وصفاته عند جمهور أهل الحق فكيف يحتج بذلك الحديث في باب الاعتقاد وقد بيّنّا بعض ما فيه.

(١) وحديث جابر المعلق في صحيح البخاري مع ضعفه في سياق ما بعده من حديث أبي سعيد ما يدل على أن المنادي غير الله حيث يقول «... فينادي بصوت إن الله يأمرك ...» فيكون الإسناد مجازيا عل أن الناظم ساق في حادي الأرواح بطريق الدار قطني حديثا فيه «يبعث الله يوم

٤٥٣

ويشرق نوره يوم الفصل ويكشف ساقه (١) ويبسط كفه ويمينه تطوى السماء وينزل (٢) في الدجى في الثلث الأخير والثلث الثاني وأن له نزولا (٣) ثانيا يوم القيامة للقضاء وأنه يبدو جهرة لعباده حتى يرونه ويسمعون كلامه وأن له قدما (٤) وأنه واضعها على النيران وأن الناس كل منهم يخاصر (٥) ربه ، بالخاء والصاد والحاء والضاد وجهان محفوظان

__________________

ـ القيامة مناديا بصوت ...» وهذا نص من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن الإسناد في الحديث السابق مجازي وهكذا يخرب الناظم بيته بيده وبأيدي المسلمين وللحافظ أبي الحسن المقدسي جزء في تبيين وجوه الضعف في أحاديث الصوت فليراجع ثمت.

الكلام على الساق والنزول والمجيء ووضع القدم

(١) وفي القرآن (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] بدون ضمير وذلك استعارة عن الشدة كما ذكره الفراء وابن قتيبة وابن الجوزي ، وذكر الإسماعيلي في مستخرجه أن رواية حفص بن ميسرة «يكشف ربنا عن ساق» بدون ضمير وروايته بالضمير منكرة. راجع ما كتبناه على دفع الشبه لابن الجوزي ، ومن عادة الحشوية حمل المجاز المشهور على الحقيقة باختلاق رواية حول ذلك وإلقائها على ألسنة الرواة. وتصرفات المجسمة هنا من هذا القبيل.

وإني أنقل للقارئ بلية من بلايا المجسمة تفهمه إلى أي حد يصل جنون هؤلاء ، وقد رأينا في بعض كتب روافضهم أن فاطمة رضي الله عنها تحمل قميص حسين عليه‌السلام في يوم القيامة وتقول لله سبحانه وهو جالس على عرشه هذا ما فعلته الأمة بابني سبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكشف الله سبحانه إذ ذاك عن ساقه فإذا هي مربوطة برباط ويقول ما ذا أنا فاعل إزاء هذا وهم قد فعلوا بي ما ترونه؟ ويعللون هذا بما فعله نمروذ من توجيهه الرمي إلى السماء ليقتل إله إبراهيم عليه‌السلام فاهمين أن سهمه أصاب ساق الله فبقيت مربوطة من أثر الجرح في ذلك اليوم. فهل رأى القارئ كفرا أشنع من هذا وأبعد من هيبة الرب سبحانه وتقديره حق قدره وأدل على ذهاب العقول؟ قاتلهم الله.

(٢) قال ابن حزم في الفصل : إن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه فصحّ ضرورة أنه فعل يفعله ربنا في ذلك الوقت لأهل كل أفق وأما جعل ذلك نقلة فقد قدمنا بطلان قوله في إبطال القول بالتجسيم اه وفي بعض طرق الحديث ما يعين أنه إسناد مجازي ، ففي سنن النسائي «إن الله يأمر ملكا ينادي ...» وفي شرحي البدر العيني وابن حجر على البخاري بسط واف في المسألة.

(٣) ولفظ التنزيل (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] قال أحمد : أمره ، وقد بيّنه في قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النّحل : ٣٣] رواه ابن حزم وأبو يعلى وابن الجوزي. قال الخلال في السنة بسنده إلى حنبل عن عمه الإمام أحمد أنه سئل عن أحاديث النزول والرؤية ووضع القدم ونحوها فقال : «نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى».

(٤) وضع القدم مجاز مشهور عن التسكين وعن الردع والقمع. راجع أساس البلاغة والفائق ودفع شبه التشبيه وأساس التقديس. والأخيران مهمان جدا في الرد على الحشوية ، وهما مطبوعان يسهل تناولهما ففيهما غنية عن التوسع بأكثر مما ذكر.

(٥) قال ابن العربي : أما حديث المخاصرة فضعيف ، راجع العواصم ، فكم في سنن الترمذي ومسند ـ

٤٥٤

في الترمذي والمسند وغيرهما من كتب التجسيم ، ووصفته بصفات حي فاعل بالاختيار ، وذلك الأصلان أصل التفرق في الباري فكن في النفي غير جبان أو لا فلا تلعب بدينك تثبت بعض الصفات وتنفي بعضها فأنكر الجميع أو فرّق بين ما أثبته ونفيته ، فذروا المراء وصرحوا بمذاهب القدماء وانسلخوا من الإيمان أو قاتلوا مع أمة التشبيه والتجسيم تحت لواء ذي القرآن أو لا فلا تتلاعبوا بعقولكم وكتابكم وبسائر الأديان ، فجميعها قد صرحت بصفاته وكلامه وعلوه والناس بين مصدق أو جاحد أو بين ذلك أو حمار ، فنزّه وأنف الجميع ولقب مذهب الإثبات بالتجسيم وأحمل على الأقران ، فمتى سمحت لهم بوصف واحد حملوا عليك فصرعت فلذاك أنكرنا الجميع مخافة التجسيم إن صرنا إلى القرآن ولذا خلعنا ربقة الأديان من أعناقنا ولنا ملوك قاوموا الرسل في آل فرعون وقارون وهامان ونمروذ وجنكسخان ولنا الأئمة أرسطو وشيعته ما فيهم من قال : إن الله فوق العرش ، ولا إن الله يتكلم بالوحي ، ولهذا رد فرعون على موسى إذ قال موسى ربنا متكلم فوق السماء وأنه ناداني ، وكذا ابن سينا لم يكن منكم ولا الطوسي قتل الخليفة والقضاة والفقهاء إذ هم مجسمة ، ولنا الملاحدة الفحول أئمة التعطيل ولنا تصانيف مثل الشفاء ورسائل إخوان الصفاء والإشارات قد صرحت بالضد مما جاء في التوراة والإنجيل والفرقان ، وإذا تحاكمنا فإليهم لا إلى القرآن ، يا ويح جهم وابن درهم ومن قال بقولهما ، بقيت من التشبيه فيه بقية ينفي الصفات مخافة التجسيم ويقال : إن الله يسمع ويرى ويعلم ويشاء وإن الفعل مقدور له والكون ينسبه إلى الحدوث ويصرخ بنفي التجسيم والله ما هذان متفقان ، لكننا قلنا محال كل ذا حذرا من التجسيم والإمكان» اه.

تصوير الناظم أهل الحق أسوأ تصوير

انتهى كلام هذا الملحد تبا له وقطع الله دابر كلامه. انظر هذا الملعون كيف أقام طوائف الشافعية والمالكية والحنفية الذين هم قدوة الإسلام وهداة الأنام في صورة الملاحدة الزنادقة المقرين على أنفسهم باتباع فرعون وهامان وأرسطو وابن سينا ، المقدمين كلامهم على القرآن ، وأنهم أتباع أصحاب جنكسخان ، وأن رائده ، لعنه الله ولعنه ، سألهم عما يقوله أهل الحديث فنسبوهم إلى ما نسبوهم إليه ، وأنه لذلك انحلّ

__________________

ـ أحمد من أحاديث ضعيفة والناظم هو الذي يسميهما بالتجسيم ، قال ابن الجوزي هذا يرويه يوسف بن عبد الله وهو خطأ.

٤٥٥

عن الأديان وخلع ربقة الإيمان وأبرز ذلك في صورة مقامة وخيال ليرتسم به في ذهن من يقف عليه من العوام والجهّال أن الطوائف المذكورة ، على هذه الصفة.

وإذا كانت علماء الشريعة وقادة الأمة بهذه الصفة كيف يقبل قولهم في الدين؟ أو ما ذا تكون قيمة فتاويهم عند المسلمين؟ فما أراد هذا إلا أن يقرر عند العوام أنه لا مسلم إلا هو وطائفته التي ما برحت ذليلة حقيرة ، وما أدري ما يكون وراء ذلك من قصده الخبيث ، فإن الطعن في أئمة الدين طعن في الدين وقد يكون هذا فتح باب الزندقة ونقض الشريعة ويأبى الله ذلك والمؤمنون.

وجماعة من الزنادقة يكون مبدأ أمرهم خفيا حتى تنتشر ناره ويشتعل شناره ، نسأل الله العافية.

فينبغي لأئمة المسلمين وولاة أمورهم أن يأخذوا بالحزم ويحسموا مادة الشر في مبدئه قبل أن يستحكم فيصعب عليهم رفعه. ثم إن هذا الوقح لا يستحي من الله ولا من الناس ، ينسب إلى طوائف المسلمين ما لم يقولوه فيه وفي طائفته ، وأن شيوخهم وصوهم بذلك ، وهو يزعم بكذبه أنه متمسك بالقرآن وأين قال الله في القرآن (إنه فوق السماء) وأين قال (إنه بائن من خلقه) وأين قال (إنه فوق العرش) بهذا اللفظ وأين قال (إن القدمين فوق الكرسي) وأين قال (إنه يسمع خلقه ويراهم من فوق) وأين قال (إن محمدا قاعد معه على العرش) إلى بقية ما ذكره جميعه.

والمتبع للقرآن لا يغيره ولا يغير لفظه بل يتمسك به من غير زيادة ولا نقصان ، وكذلك الأحاديث الصحيحة يقف عند ألفاظها ولا يزيد في معناها ولا ينقص.

كذب الناظم على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وهكذا أكثر ما ذكره لم يجئ لفظه في قرآن ولا سنة ، بل هو زيادة من عنده قد كذب فيها على الله (١) وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفهمها على خلاف الحق ونسب إلى علماء

__________________

(١) جرت سنة العلماء في تصانيفهم أن أحدهم إذا نقل عن أحد العلماء نقلا ينص على أنه نقله بنصه أو مع شيء من التصرف بالزيادة فيه أو النقص منه ، يفعلون ذلك حرصا على صفة الأمانة التي يهوي إلى الدرك الأسفل من الحقارة والصغار من حفظ عنه أنه أخلّ بها في تافه من الأمور ، فهم يحرصون على تلك الصفة صفة الأمانة في النقل عن العلماء إخوانهم فاهمين أنهم لو خانوا في النقل عنهم (وهم ينقلون عنهم دينا يدين به العباد) لهووا في هاوية من النقص لا قرار لها ولا تقوم لهم قائمة بعدها ، وهم إذا حفظوا عن واحد مما ينتسب إلى العلم شيئا من

٤٥٦

المسلمين البرآء من السوء كل قبيح ، وجعل ذلك طريقا للخروج من الدين والانسلاخ من الإيمان وانتهاك الحرام ، وعدم اعتقاد شيء فهل وصلت الزنادقة والملاحدة والطاعنون في الشريعة إلى أكثر من هذا؟ بل هذا ، وإيهامه الجهال أنه هو المتمسك بالقرآن والسنة ، لينفق عندهم كلامه ويخفي عنهم سقامه.

__________________

ـ الإخلال بتلك الأمانة سقط من نظرهم وأكنّوا له في صدورهم من الازدراء به كعالم ما يجعله في نظرهم كأنه مسخت إنسانيته وأصبح مخلوقا آخر من المخلوقات التي لا يقع في النفوس أنها تكون في وقت من الأوقات مصدرا لأي معنى ينتفع به بنو الإنسان من الناحية الأدبية ، هذا نظرهم لمن يخون في النقل عن رجل مثلهم ما قال الله ولا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه معصوم.

وإذا كان الأمر كذلك في هذا فليقل لي حضرات إخواننا المساكين المغرورين بابن القيم كيف يدومون على غرورهم به وإمام عظيم من أئمة المسلمين يقول عنه بعبارة صريحة فصيحة بيّنة لا تحتمل التأويل ، لا يقولها فقط بلسانه بل يكتبها في كتاب تبقى فيه على ممر الدهور يقرؤها البعيد والقريب والصغير والكبير والعالم والجاهل والمؤمن والكافر يقول تلك الكلمة هذا الإمام النادر المثال في فضله وزهده وورعه وعلمه وهو يعلم أنه مسئول عنها عند ربه ولي أمره في دنياه وفي أخراه ، وأي كلمة هذه الكلمة هي قوله : إن ابن القيم كذب على الله ورسوله ـ ليقل لي حضرات المغرورين بابن القيم كيف يكون نظرهم إليه في الحقارة والصغار وهم يسمعون إماما كبيرا لا ينسب إمامهم إلى الخيانة في النقل عن فريق العلماء جميعا بل ينسبه إلى الخيانة في النقل عن الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عنه إنه يكذب عليهما ويسند إليهما ما لم يقله كتاب ولا سنة أمع هذا يبقون على غرورهم وإفراطهم في تعظيم ذلك الرجل الذي يقول عنه الإمام السبكي بحق : إنه ما زاد عنه الزنادقة والملاحدة والطاعنون في الشريعة في الخروج على الإسلام والمسلمين ، أنا لا أتوهم بعد اطلاع هؤلاء المساكين على حال هذا الرجل أن يبقى في قلوبهم مثقال ذرة من التعظيم له والعطف عليه ، كيف لا وهم مؤمنون والله يقول في كتابه الكريم عن كل من اتصف بالإيمان : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة : ٢٢] وإني أعيذهم بالله من احترام رجل لا يزيد عنه في الخروج على الإسلام والمسلمين لا الزنادقة ولا الملاحدة ولا الطاعنون في الشريعة ، إني أرجو إخواننا المغرورين بابن القيم أن يفهموا أن كذب صاحبهم على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أصول الإسلام ليعلموا هذا جيدا ثم ليوقنوا أن الذي يكذب في الأصول هين جدا عنده أن يكذب في الفروع وإذن ترتفع بكل معناها عن ابن القيم فلا يجوز لمسلم أن يعتمد عليه في نقل لا في أصول ديننا ولا في فروعه وهو على هذه الحالة سيئة واحدة من سيئات شيخه الكبير إمامكم العظيم لا في هذا ولا عشر نظركم ابن تيمية. ما ثبت له يثبت لشيخه بالأولى ثم بالأولى. وبناء على هذا أؤكد عليكم أن تنظروا إلى كل كتاب خطته براعة هذا الرجل وشيخه نظر من لا أثر للثقة في قلبه بهما وبما يكتبانه وإلا فمثلكم حينئذ مثل من يرى اللص بعينه يسرق العظائم من أموال الناس ثم في الوقت عينه يقول ما أصلحه وما أجله وما أوثق دينه.

٤٥٧

فصل

قال : «في قدوم ركب الإيمان وعسكر القرآن» قال :

«وأتى فريق ثم قال : ألا اسمعوا قد جئتكم من مطلع الإيمان :

من أرض طيبة ، من مهاجر أحمد. سافرت في طلب الإله فدلني الهادي عليه ، ومحكم القرآن مع فطرة الرّحمن وصريح عقل شهدوا بأن الله منفرد بالملك والسلطان وهو الإله الحق».

هذا صحيح.

ثم قال : «لا معبود إلا وجهه» هذا عندنا صحيح وأما عنده فالوجه غير الذات فكيف يصح؟

ثم قال : «والناس بعد فمشرك أو مبتدع وكذلك شهدوا بأن الله ذو سمع وذو بصر هما صفتان».

هذا نحن نقوله لكن لو طولب بالشهادة بأنه ذو سمع وذو بصر أين يجدها (١) في ألفاظ القرآن والسنة ولو كان كذلك لم يكن بيننا وبين المعتزلة نزاع فيه.

قال : «وعموم قدرته (٢) يدل بأنه هو خالق الأفعال للحيوان».

اعتقادنا أنه سبحانه خالق أفعال الحيوان ولكن كيف يدل عموم القدرة على ذلك بل لذلك أدلة أخر. واستدلال هذا القدم بعموم القدرة من عدم شعوره.

ثم قال : «هي خلقه حقا وأفعال لهم حقا ولا يتناقض الأمران!».

__________________

(١) بل الواجب على من يهاب مقام ربه أن لا يطلق عليه تعالى ما لم يرد إطلاقه عليه في الكتاب والسنة المشهورة مع الاقتصار على الوارد فعلا كان أو صفة أو مفردا أو مجموعا ، فلا يقال له عينان ولا هو مستو. فإبدال الفعل صفة ، والمجموع مثنى ، وإبدال اللفظ بما يظن مرادفا له مما يجب أن يتهيبه كل مسلم. بل قال إمام الحرمين : أجمع المسلمون على منع تقدير صفة مجتهد فيها لله عزوجل لا يتوصل فيها إلى قطع بعقل أو سمع وأجمع المحققون على أن الظواهر يصح تخصيصها أو تركها بما لا يقطع به من أخبار الآحاد والأقيسة وما يترك بما لا يقطع به كيف يقطع به؟ اه.

(٢) وكم من شيء مقدور عليه لم يدخل في حيز الوجود فمن أين يدل عموم القدرة على أنه خالق أفعال الحيوان؟ بل الدليل على ذلك قوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصّافات : ٩٦] وقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : ١٦] وكم لنا من براهين عقلية على ذلك لكن الناظم بالغ الجهل ظاهر البلادة حتى في مثل هذه المسائل الظاهرة لصغار المتعلمين وحق مثله أن يقرع إيقافا له عند حده فالمصنف معذور إذا قال عنه إنه حمار أو تيس.

٤٥٨

عجب قد تقدم إنكاره على جهم وشيعته قولهم : إن العبد ليس بفاعل فما هذا التناقض (١) ولعله نقل الكلامين تقليدا ولم يفهم معناهما فلذلك وقع التناقض بينهما ويكونان من كلامين.

ثم قال : فحقيقة القدر الذي حار الورى في شأنه هو قدرة الرّحمن ، واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد وقال شفى القلوب بلفظه».

وقال الناظم : «إن الجبرية والمكذبين بالقدر نظروا نظر الأعور» والكلام في ذلك يطول وليس هذا من أهله (٢) ولا هو متعلق به بل كلامه فيه فضول فيما لا يعنيه.

فصل

قال : «أيكون أعطي الكمال وما له ذاك الكمال أيكون (٣) إنسان سميع مبصر متكلم وله الحياة والقدرة والإرادة والعلم والله قد أعطاه ذاك وليس وصفه فأعجب من البهتان بخلاف نوم العبد وجماعه وأكله وحاجة بدنه إذ تلك ملزومات كون العبد محتاجا وتلك لوازم النقصان وكذا لوازم كونه جسدا نعم ، ولوازم الأحداث والإمكان يتقدس عنها وعن أعضاء ذي جثمان».

__________________

(١) نفى عن العبد كونه فاعلا في مذهب الجهمية يعني الأشاعرة فيما سبق وأثبته هنا مذهبا لهم ، وعدّ اعتبار العبد فاعلا مناقضا لاعتبار أن الله خالق لفعل العبد! مع أن التناقض في كلامه نفسه كما شرحنا حيث نفى عنهم سابقا ما أثبته لهم هنا ، وأين التناقض بين كون الله خالقا وبين كون العبد فاعلا؟ فتدبر.

(٢) نرجو حضرات المغترين بهذا الناظم ونلح في الرجاء أن يقفوا هنا طويلا ليفهموا مقدار قدوتهم الذي لا يرضون أن يكون بجانبه أحد من علماء الأمة في العلم ، فها هم أولاء يسمعون الشيخ السبكي وهو الإمام الجليل في تقواه وفضله يقرر بصراحة أن ابن القيم ليس بأهل للكلام معه في مسألة من المسائل العادية ، وإني أعود فأرجوهم أن يتأملوا طويلا في كلمة هذا الإمام الكبير رضي الله عنه.

(٣) دليل اتصاف الله سبحانه بصفات الكمال من الكتاب والسنة والمعقول معروف عند أهله ، وأما الطريق الذي سلكه الناظم في ذلك فليس في شيء من الأداء إلى ما يتوخاه ، وإنما سلك هذا الطريق الغير النافذ ليخيل إلى العامة أن صفات الله من قبيل صفات العبد فلا مانع من أن يكون الباري ينظر بعين ويسمع بأذن ... إلى آخر تلك المخازي كما هو مذهبه في إثبات الصورة له تعالى مع أن تلك الصفات في العبد بآلات وجوارح فهي في العبد مقرونة بالنقائص والاحتياج ، تعالى الله عن ذلك ، فليتنبه إلى دسائس الناظم.

٤٥٩

عدم تمييز الناظم بين اللازم والملزوم

الجسدية والحدوث والإمكان يلزم منها ثلاثتها الاحتياج والنقص ، فالنوم والجماع والأكل لوازم لذلك لا ملزومات (١) وتقديسه عن الأعضاء مع إثباته قدمين كيف يجتمعان.

تخبط الناظم في الصوت

قال : «والله ربي لم يزل متكلما ، هو قول ربي كله لا بعضه لفظا ومعنى ، ما هما خلقان».

أما كونه لم يزل متكلما وقوله مع ذلك إنه لفظ وإنه غير مخلوق فكلام من لا يدري ما يقول (٢).

قال : «لكن أصوات العباد مخلوقة ، فإذا انتفت الوساطة كتكلم الله لموسى فالمخلوق نفس السمع (٣) إلا المسموع ، هذي مقالة أحمد ـ يعني ابن حنبل ـ ومحمد ـ يعني البخاري ـ».

__________________

(١) يا حضرات المغترين بابن القيم ، اعملوا معروفا مع أنفسكم وانظروا كيف لا يميز صاحبكم اللازم من الملزوم ، أيكون حاله هكذا في الجهل ويصل غروركم به إلى أن تعتقدوا أنه الإمام الذي لا يساميه بل لا يدانيه إمام.

(٢) لأن اللفظ لا بد من أن يكون باعتبار وجوده الخارجي متعاقب الحروف فلا يتصور العاقل في مثله قدما ، نعم ليس للفظ باعتبار وجوده العلمي والنفسي تعاقب فيكون قديما كما قال بذلك أحمد وتابعه ابن حزم ، وهو الموافق لتحقيق القوم في الكلام النفسي ، إلا أن وجوده أصلي بخلاف العلم فإنه بالإضافة إلى المعلوم. والناظم ليس بقائل بما قال به أحمد كما يظهر من مواضع من نظمه فيكون قائلا بما هو غير معقول.

(٣) لا فرق بين موسى عليه‌السلام وبين غيره في خلق السمع فيهما ، وأما المسموع فإن كان يريد به الصوت المكيف فكذلك ، وإن كان يريد ما هو قائم بالله فجلّ الإله أن يقوم به عرض سيّال. والوارد في الكتاب أنه تعالى كلّم موسى ـ بدون ذكر الصوت أصلا ـ والتكلم لا يستلزم الصوت قال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) [الشورى : ٥١] إذ لا صوت في الوحي إلى القلب والصوت في الثالث صوت الرسول دون المكلم فليكن الكلام من وراء حجاب كذلك وهو الذي حصل لموسى ، فمهما كان النبي بسماعه صوت الرسول إليه يعد أن الله كلمه فلا يكون أي مانع من أن يعد موسى كلمه ربه إذ نودي من الشجرة ، فأي زائغ يتصور حلول الله في الشجرة حتى يقول : إن الذي سمعه صوت الله؟ تعالى الله أن يكون كلامه صوتا ، والآية قاضية على جميع الأوهام في هذا البحث لمن أحسن التدبر فيها.

٤٦٠