العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

الجنة ، وخبره حق لا يدفع بالشبهة ، ولا يمكن الجمع إلا بما قلناه من وجود حاسة يرى بها الله تعالى ، دون هذه الحواس. والله أعلم بالصواب.

جواب آخر : وهو أن يحمل (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] [على أنها لا تدركه] في جهة ، ولا تدركه جسما ولا صورة ولا متحيزا ولا حالا في شيء (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] على جميع هذه الصفات ، وتكون الحكمة فيه الرد على النصارى وأهل التشبيه ومن يقول بالجهة والحيز والصورة ، وغير ذلك مما لا يليق به سبحانه وتعالى.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النّساء : ١٥٣] فأكبر الله هذا السؤال فأنكره.

قيل لهم : لا حجة لكم في ذلك ، لأن الله تعالى ما أكبر ذلك لكونه مستحيلا ، وإنما أنكره لأنهم سألوه ذلك على وجه التعنت ، ألا ترى أنه أنكر عليهم سؤالهم تنزيل الكتاب من السماء ، وليس ذلك بمستحيل ، وإنما أنكروا استكبارا وتعنتا منهم لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشكيكا للناس في نبوته ؛ لأن عندهم التوراة ، والإنجيل ، والفرقان ، وكل ذلك منزل من عند الله ، وإنما أرادوا بذلك التلبيس على العوام ، حتى لا يصدقوا بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتركوا ما أوجب الله عليهم من الإيمان به في التوراة والإنجيل ، كما قال تعالى : (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] فإكباره تعالى سؤالهم ذلك لأجل هذه المعاني لا يكون ذلك مستحيلا. وهذا كما أنكر تعالى سؤال قريش لما قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ) [الإسراء : ٩٠ ، ٩١](أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) [الإسراء : ٩٣] وكل ذلك جائز غير مستحيل ، لكن أنكره عليهم وأكبره لما كان [ذلك] على وجه التعنت والتكذيب ، لما قد وضح من آياته وحججه ، وكذلك أنكر سؤالهم الرؤية لموسى عليه‌السلام على وجه التعنت ، لا لكونها مستحيلة.

فإن احتجوا بالخبر المروي عن عائشة رضي الله عنها لما قال لها ابن الزبير ـ وهو ابن أختها ـ يا أماه : هل رأى محمد ربه؟ فقالت : يا ابن أختي لقد قفّ شعر بدني ، والله تعالى يقول : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشّورى : ٥١] قالوا : فموضع الدليل من الخبر أنها أكبرت ذلك ونفت الرؤية عن الله تعالى ؛ فدلّ أن ذلك مستحيل في حقه سبحانه وتعالى. الجواب من أوجه :

٢٢١

أحدها : أن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من الصحابة قد صرحوا بأن محمدا رأى ربه ليلة أسري به بعيني رأسه ، ولو كان ذلك مستحيلا لم يقع الخلاف فيه بين الصحابة ، كما لم يقع بينهم الخلاف في ما هو مستحيل على الله تعالى من الولد والزوجة والشريك ونحو ذلك. فلما وقع بينهم الخلاف في ذلك وانقرض عصرهم على ذلك ، دلّ على أن الرؤية جائزة غير مستحيلة. فبطل ما ذكر.

وجواب آخر : وهو أن عائشة رضي الله عنها إنما خالفت فيما رأى به محمد ربه ، فعندها رآه بالقلب دون العين ، وعند غيرها من الصحابة رآه بالقلب والعين معا ، فقد وقع الإجماع منهم على جواز الرؤية عليه تعالى ، وإنما اختلفوا فيما به رآه ، لا أصل جواز الرؤية عليه ، لأن رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤية حقيقية لا رؤية مجاز ، بخلاف الواحد منا ، لأن رؤيته بالقلب قد تكون حقيقة وقد تكون تخيلا ومجازا ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تنام عيناي ، ولا ينام قلبي» وقال عليه‌السلام : «إني أراكم من وراء ظهري» ورؤية الأنبياء عليهم‌السلام حقيقة بالقلب والعين.

دليلة : قصة إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) [الصّافات : ١٠٢] فصحّ أن الإجماع قد وقع من الصحابة رضي الله عنهم في جواز الرؤية على الله تعالى ، وإن وقع الخلاف بما رآه الرسول الله تعالى ليلة الإسراء ، فصار ذلك حجة على المخالف لا له.

جواب آخر : وهو أن عائشة رضي الله عنها إنما أنكرت رؤية الباري بأبصار العيون في دار الدنيا ، لا على الإطلاق ، ولهذا روي عن أبيها وعنها رضي الله عنهما وعن جميع الصحابة أنهم فسروا قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] قالوا : الزيادة النظر إلى الله تعالى في الجنة ، وقد روي هذا مرفوعا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فصحّ مذهب أهل السنة والجماعة بحمد الله تعالى ، وبطل شبه المخالف واندحض مكره. ولله المنّة والحجة البالغة (١).

__________________

(١) رؤية أهل الجنة لله سبحانه مجردة عند أهل الحق من المقابلة والمسافة ونحوهما من لوازم الجسمية ، على خلاف الرؤية في الشاهد ، بأدلة تنزه الله سبحانه من أن يكون جسما أو جسمانيا ، وهذا موضع اتفاق بين الفريقين سوى الحشوية ، فيجب أن يكونا متفقين أيضا على حصول معرفة ضرورية بالله سبحانه لهم في الجنة فوق معرفتهم الاستدلالية الغيبية به تعالى في دار الدنيا ، كما هو الفرق بين الإيمان بالغيب والإيمان بالشهود. وما عدا ذلك شغب يأباه المحصلون. نسأل الله الصون من معاندة الحق ونسأله التوفيق وجمع الكلمة حول الصدق (ز).

٢٢٢

فإن احتجوا فقالوا : لو جاز عليه سبحانه وتعالى الرؤية بالأبصار لوجب أن يكون جسما ، أو جوهرا ، أو عرضا ، أو محدودا ، أو حالا في مكان ، أو مقابلا أو خلفا ، أو عن يمين ، أو عن شمال ، أو يكون من جنس المرئيات ؛ لأننا لم نعقل مرئيا بالبصر إلا كذلك ، فلما استحال عليه جميع هذه الوجوه بطل أن يكون مرئيا ، أو يجوز عليه الرؤية ، وهذا في تصورهم الفاسد من أعظم الحجج عندهم في نفي الرؤية عنه سبحانه وتعالى ، وهي عند أهل السنة والجماعة [من أسقط الحجج] فليس هو اليوم مرئيا لخلقه ومدركا لهم ، ولا تجوز الإشارة في وصفه تعالى.

فالجواب أن نقول لهم : هذه الحجة الباطلة تؤدي إلى إبطال الربوبية أصلا ورأسا ، أو تؤدي إلى إيجاب كون ربنا تعالى يشبه المخلوقات ، لأن من أنكر الصانع القديم يقول لنا : لو كان لنا صانعا لوجب أن يكون جسما ، أو جوهرا ، أو عرضا ، أو ذا علة وطبع وآلة ، وغير ذلك ؛ لأنا لم نعقل صانعا إلا على هذه الأوصاف ، وأنتم تنفون عنه جميع هذه الأوصاف ، فبطل أن يكون ثم صانع ، بل تصنع نفسها أو يصنعها من هو على هذه الأوصاف ، وكذلك نقول : في العلم والحياة ، لأن العالم ، والحي ، لا يعقل إلا جسما ، أو جوهرا ، أو عرضا ، أو ذا علة أو فكر ، أو روية وغير ذلك. وقد وقع الإجماع منا ومنكم أنه عالم ، وأنه حي ، وأنه معلوم بالقلب ، وأنه موجود ؛ ثم كونه عالما ومعلوما ، وموجودا يصح وصفه بجميع ذلك ، وإن لم يكن جسما ، ولا جوهرا ، ولا عرضا ، ولا ذا علة ، ولا محدودا ولا حالا في مكان ، بخلاف العالم منا ، والمعلوم منا ، والموجود منا ، فكذلك لا يستحيل أن يكون مرئيا وليس ذا جسم ولا جوهر ولا عرض ، فبطل زعمكم وصحّ الحق وظهر أمر الله وأنتم كارهون.

فإن احتجوا فقالوا : لو كان تعالى مرئيا ، أو تجوز عليه الرؤية لرأيناه الساعة لأن الموانع من الرؤية يستحيل وصفه بها ؛ لأنه لا يوصف بالدقة والرقة ، والحجاب والبعد ، وكل مانع من الرؤية ، فلو جاز أن يكون مرئيا لرأيناه الساعة لانعدام هذه الموانع في حقه.

فالجواب : أن جميع ما ذكرتم لا يمنع من الرؤية ، لأن الملائكة فيهم من الدقة ، واللطافة ، ما ليس في غيرهم ، وبعضهم يرى بعضا ، والميت يراهم عند النزع ، والرسول كان يرى جبريل عليه‌السلام ، فبطل أن تكون الدقة ، والرقة ، واللطافة ،

٢٢٣

مانعة من الرؤية. وكذلك البعد لا يمنع الرؤية ، لأن السماء أبعد الأشياء منا والكواكب فيها ، لأن بيننا وبينها خمسمائة عام ، ونحن نراها ، ولم يمنعنا بعدها من رؤيتها ، وكذلك الحجاب لا يمنع من الرؤية ؛ لأن الله تعالى يرى ما تحت التحت ، ودونه ألف ألف حجاب [عند الخلق] وكذلك الهدهد يرى الماء من تحت الأرض ودونه حجاب وحجاب ، فبطل أن يكون جميع ما ذكرتم هو المانع من الرؤية ، حتى يجب أن نراه الساعة.

فإن قيل : فما المانع من الرؤية الساعة له تعالى؟ قلنا : إن المانع هو ما خلقه في أبصارنا من قلة الإدراك لبعض المرئيات دون بعض ، فإذا خلق فينا إدراكا رأينا مرئيا لم نكن نراه من قبل ؛ ألا ترى أن الواحد منا لا يرى اليوم ملك الموت إذا نزل بأخيه وأبيه ، ويراه إذا نزل به ، وليس ذلك إلا لأنه لم يخلق الله في بصره إدراكا له عند موت غيره ، وخلق في بصره إدراكا له عند موته. وكذلك الفرس ، والهر وكثير من الحيوان يرون الصورة والشخص في ظلام الليل وسواده ، ونحن لا نرى ذلك ؛ وما ذلك إلا لأن الله تعالى خلق في بصرها إدراكا حتى رأت ، ولم يخلق في أبصارنا إدراكا حتى نرى ، كما ترى ؛ فكذلك لم يخلق في أبصارنا إدراكا له في الدنيا حتى نراه ، ويخلق لنا إن شاء الله في جنته إدراكا حتى نراه ، كما وعدنا ووعده الحق الصدق الذي لا يخلف.

فإن قالوا : وإذا كان الأمر كذلك ، فجوّزوا أن يخلق الله لكم إدراكا ترون به ذرة ، ويخلق فيكم عدم إدراك فيل إلى جنبها. قلنا : هذا جائز في قدرته سبحانه وتعالى ، ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلفه في الصلاة لما عرضت عليه الجنة ، والنار ، ونظر إلى كل واحدة منهما في عرض الحائط ، وهما من أعظم المخلوقات ، وأصحابه كانوا يدركون الذرة على ثوبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولون ثوبه مع صغر ذلك ، ولم يدركوا ما أدرك. ولم يروا ما رأى ، ولا يقدح في هذا إنكار من أنكر من المعتزلة ، أن الجنة والنار لم تخلقا بعد ، لأن الكل منهم سلم إلى الرسول عليه‌السلام أنه قد رأى في هذه الحالة شيئا من الجنة والنار ، أو ما هو على صورهما ، يخلق منهما إذا خلقنا ، واختص هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم برؤية ما لم يره أصحابه ، وإن كانوا يرون الذرة لو دبّت على قميصه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن لم يروا ما هو أكبر منها وأعظم. وأبين من هذا : أن بعض الخلق يدرك صوتا خفيا جدا ، ولا يدرك صوتا عاليا جدا ، وإن وجد الصوتان في وقت واحد ، ومسافة واحدة ، وقد رأينا ذلك عيانا ؛ فإن بعض الطرش إذا تكلم عنده رجل

٢٢٤

فأخفى صوته غاية الإخفاء ، وتكلم آخر عنده بصوت من أعلى الأصوات أدرك الصوت الخفي ، ولم يدرك الصوت العالي ؛ وليس ذلك إلا لما ذكرناه ، وهو أن الله تعالى خلق في سمعه إدراك الصوت الخفي ، ولم يخلق في سمعه إدراك الصوت العالي ، فكذلك يجوز أن يخلق في بصرنا إدراك الذرة الصغيرة ، ويخلق فيه مانعا من إدراك الفيل الكبير (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٨٤].

فإن قيل : فإذا كان كذلك فيجب أن يجوز أن يكون بحضرتنا ذرة ننظر إليها وندركها ، ويجوز أن يكون إلى جنبها فيلة وأجمال وأنهار جارية ، لأن ذلك جائز في المقدور ، أو نشك في ذلك ، ولعله يكون بحضرتنا ونحن لا نراه.

الجواب : أن هذا تخبط وجهل وقلة فهم ؛ لأنه لا يلزمنا أن يجوز أن يكون بحضرتنا كل ما هو جائز في مقدور الله تعالى ، ولا نشك فيه ، لأن ذلك لو لزم للزمنا أن نجوز أن يكون بحضرتنا وعندنا في الدنيا جنة ونار ، ونشك في ذلك ؛ لأن الله تعالى قادر على ذلك ، ولما لم يلزم ذلك لم يلزم ما ذكرتم ، وكذلك أيضا من الجائز في قدرته تعالى أن يخلق اليوم رجلا لا من ذكر ولا من أنثى ، ثم لا يجب علينا أن نجوّز أنه الآن عندنا موجود أو نشك فيه ، فكذلك ما قلتم ، وكذلك أيضا يجوز في مقدوره تعالى أن يميت أهل بلدة نحن فيها كلهم ، ثم لا يلزم أن يجوز ذلك الآن أو نشك فيه ، فكذلك ما قلتم ؛ فليس كل جائز يجب أن يكون بحضرتنا ، أو نشك فيه ؛ فبطل ما قلتم ، وصحّ الحق.

فإن احتجوا فقالوا : لو جاز أن يكون مرئيا لجاز أن يقال : يرى كله أو بعضه.

فالجواب : أن هذا محال من القول ؛ لأن إطلاق الكل والبعض إنما يجوز على من كان ذا كل أو بعض ، والله تعالى منزّه عن الوصف بالكل والبعض ، وهذا بمنزلة قائل يقول لنا : لو كان معلوما لجاز أن نقول : نعلم كله أو بعضه ، فنقول له : لا نقول نعلم كلّا ولا بعضا ، بل نقول نعلم واحدا أحدا فردا صمدا : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] فكذلك نقول : نرى واحدا أحدا فردا صمدا (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشّورى : ١١].

فإن قيل : لو كان أهل الجنة يرون ربهم تعالى ثم لا يرونه لكانت أحوالهم قد تناقصت وعادت من منزلة أعظم إلى منزلة أدون ، ولا يجوز أن تتناقض أحوال أهل الجنة.

٢٢٥

فالجواب : أن الأمر ليس على ما يقع لكم ، لأن تناقص الأحوال أن يريد المرء حالة عالية فيبقى في حالة ناقصة ، أو يريد ملاذا فلا يصل إليها ، عالية كانت أو دون ذلك ، فأهل الجنة ـ بحمد الله تعالى ـ قد تكاملت حالتهم ، إذ كانوا بحيث إذا شاءوا رأوا ربهم ، وإذا شاءوا اشتغلوا بملاذهم ، ولا يكون ذلك نقصا في أحوالهم ولا يلزم على هذا التقرير أن يقال : فهذا نقص في حق أهل الجنة إذا شاءوا الخلوة بالتلذذ عن رؤية ربهم تعالى. قيل هذا يلزمكم أنتم دوننا ، لأنا نحن نقول : هم (لا يشاءون إلا ما شاء الله لهم) فهم به وله في كل أحوالهم ، فإذا شاء لهم الرؤية شاءوها وتلذذوا بها ، وإذا شاء لهم الخلوة شاءوها وتلذذوا بها ، ولا نقص عليهم في ذلك ، ولا يلزم ما قلتم.

جواب آخر : وهو أن أهل الجنة يجتمعون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينظرون إليه ، والاجتماع به والنظر إليه أعلى من الاجتماع بالحور والقصور ، والنظر إلى الحور والقصور ، ثم يشتغلون بالحور والقصور بعد نظره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن عادوا إلى قصورهم ونعيمهم ، وإن كان نظره أعظم وأعلى من ذلك ، فجاز مثل ذلك أيضا في جواز رؤية الباري ، وإن كانت أعلى الأشياء وأجلها ، فثبت ما قلناه ، وبطل التمويه بحمد الله.

فإن قيل : إذا كان مرئيا فخبّرونا ما هو؟ قيل لهم إن أردتم بقولكم : ما هو : أي ما صورته ، وجنسه ، وطوله ، وعرضه إلى غير ذلك مما لا يجوز عليه ، فليس بذي صورة ولا جنس ولا طول ولا عرض ، وقد قدّمنا الأدلة على أنه لا يشبه خلقه ولا يشبهونه. وإن أردتم بقولكم ما هو؟ ما اسمه؟ فاسمه : الله ، الرّحمن ، الرّحيم ، الحي ، القيوم ، وإن أردتم بقولكم ما هو صنعه؟ فصنعه : العدل ، الإحسان ، والإنعام ، والسموات والأرض وجميع ما بينهما ، وإن أردتم بقولكم ما هو؟ ما الدلالة على وجوده؟ فالدلالة على وجوده جميع ما نراه ونشاهده من محكم فعله وعجيب تدبيره ، وإن أردتم بقولكم ما هو؟ أي أشيروا لنا إليه حتى نراه ، ولم أنها لا تصح إلا في المسجد؟ .....؟

جواب آخر : وهو أن هذه الأخبار تحمل عليه على وجه التغليظ والمبالغة في الزجر ، حتى يقف الناس عن هذه الأمور ولا يقدموا عليها ، وهذا كقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد والإخوة. ولم يرد عليه‌السلام الإعراض عن الحكم أصلا بين الجد والإخوة ، فإنه قد حكم عدة نوب بقضايا مختلفة بين الجد والإخوة.

٢٢٦

فإن قيل : فإذا كان مرئيا فكيف هو؟ قيل لهم : إن أردتم بقولكم كيف هو؟ على أي تركيب ، أو على أي صورة هو ، أو على أي جنس هو؟ فلا تركيب له ، ولا صورة ولا جنس فنخبركم عن ذلك ، وإن أردتم بقولكم كيف هو وعلى أي صفة هو؟ فهو قديم ، حي ، علام قادر ، متكلم ، سميع بصير ، مريد ، وإن أردتم بقولكم كيف هو؟ كيف صنعه إلى خلقه؟ فصنعه إليهم الإحسان ، والعدل ، والتفضل ، والامتنان ، فإن قيل إذا كان مرئيا فأين هو؟ قيل لهم : إن أردتم أين هو في وصف المنزلة والرفعة والجلال فهو كما وصف نفسه بقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) [الأنعام : ١٨] وبقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] وبقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) [الزّخرف : ٨٤] وبقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)) [الفجر : ١٤] قيل لهم : الأين سؤال عن مكان وليس هو مما يحويه مكان ، لما قدّمنا من الحجج والبراهين بحمد الله الملك المنّان. وحسبي الله ونعم الوكيل.

تمّ الكتاب بعون الله

٢٢٧
٢٢٨

٢٢٩
٢٣٠

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

باب ما جاء في القرآن العظيم من ذلك

قال اللّه سبحانه وتعالى: و (يَبْقىٰ‌ وَجْهُ‌ رَبِّكَ)‌ [الرّحمن: ٢٧](١). قال المفسرون: يبقى ربك، وكذا قالوا في قوله تعالى: (يُرِيدُونَ‌ وَجْهَهُ‌) [الأنعام: ٥٢] أي يريدونه، وقال الضحاك وأبو عبيدة: (كُلُّ‌ شَيْ‌ءٍ هٰالِكٌ‌ إِلاّٰ وَجْهَهُ)‌ [القصص: ٨٨] أي إلا هو.

وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة يختص باسم زائد على الذات. فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات، وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه، وقال ابن حامد: أثبتنا اللّه تعالى وجها ولا يجوز إثبات رأس. قال: ولقد اقشعر بدني من جراءته على ذكر هذا، فما أعوزه في التشبيه غير الرأس.

ومنها قوله تعالى: و (لِتُصْنَعَ‌ عَلىٰ‌ عَيْنِي) [طه: ٣٩]، (وَاصْنَعِ‌ الْفُلْكَ‌ بِأَعْيُنِنٰا) [هود: ٣٧] (٢). أي بمرأى منا، وإنما جمع لأن عادة الملك أن يقول أمرنا ونهينا.

وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن العين صفة زائدة على الذات وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة (٣). فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما، وقال ابن حامد: يجب الإيمان أن له عينين.

__________________

(١) قال الزمخشري في الكشاف: (وَجْهُ‌ رَبِّكَ)‌ [الرّحمن: ٢٧] ذاته، والوجه يعبّر به عن الجملة والذات، ومساكين مكة يقولون: أين وجه عربي كريم ينقذني من الهوان.

(٢) يقول الزمخشري: بِأَعْيُنِنٰا [هود: ٣٧] في موضع الحال بمعنى اصنعها محفوظا وحقيقته ملتبسا بأعيننا كأن للّه معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه. ه‍‌ ويقول الرازي في أساس التقديس عند الكلام على العين: لا بد من المصير إلى التأويل وذلك هو أن يحمل هذه الألفاظ‍‌ على شدة العناية والحراسة، والوجه في حسن هذا المجاز أن من عظمت عنايته بشيء وميله إليه ورغبته فيه كان كثير النظر إليه فجعل لفظ‍‌ العين التي هي آلة لذلك النظر كناية عن شدة العناية.

(٣) هو محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري توفي عام أحد عشر وثلاثمائة، يعد في أكابر المحدثين، كان يورع نفسه عن الخوض في مسائل الكلام وينهي أصحابه عنه، ثم اضطره بعض أهل النظر إلى الدخول في هذه المآزم فزلّت قدمه وخرج إلى وجوه غير معقولة سامحه اللّه (ز).

٢٣١

وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبوا عينين من دليل الخطاب في قوله صلى اللّه عليه وسلم: «ليس بأعور» (١) وإنما أريد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ لم يكن لما يتخايل من الصفات وجه.

ومنها قوله تعالى: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ)‌ [ص: ٧٥] (٢) اليد في اللغة بمعنى النعمة والإحسان، ومعنى قول اليهود لعنهم اللّه تعالى: (يَدُ اللّٰهِ‌ مَغْلُولَةٌ‌) [المائدة: ٦٤] أي محبوسة عن النفقة؛ واليد القوة يقولون: له بهذا الأمر يد.

وقوله: (بَلْ‌ يَدٰاهُ‌ مَبْسُوطَتٰانِ) [المائدة: ٦٤] أي نعمته وقدرته(٣). وقوله: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ)‌ [ص: ٧٥] أي بقدرتي ونعمتي. وقال الحسن: (يدُ اللّٰهِ‌ فَوْقَ‌ أَيْدِيهِمْ)‌ [الفتح: ١٠] أي منته وإحسانه، هذا كلام المحققين.

وقال القاضي (أبو يعلى) اليدان صفتان ذاتيتان تسميان باليدين. وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه، وقال: لو لم يكن لآدم عليه الصلاة والسلام مزية على سائر الحيوانات بخلقه باليد التي هي صفة لما عظمه بذكرها وأجله فقال: (بِيَدَيَّ‌) [ص: ٧٥] ولو كانت القدرة لما كانت له مزية، ولو كانت القدرة لم تثن.

قلنا: بلى قالت العرب ليس لي بهذا الأمر يدان أي ليس لي به قدرة، قال عروة بن حزام:

فقالا شفاك اللّه واللّه ما لنا

بما ضمنت منك الضلوع يدان

__________________

(١) طالع الحديث الخمسين الآتي ترى مزيد تفصيل عن هذا الخبر.

(٢) يقول الزمخشري: أن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه، فغلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغيرهما، حتى قيل في عمل القلب: هو مما عملت يداك، وحتى قيل لمن لا يدي له: يداك أوكتا وفوك نفخ، وحتى لم يبق فرق بين قولك: هذا مما عملته وهذا مما عملته يداك ا. ه‍‌ وقال الراغب الأصبهاني في مفرداته: قوله تعالى: (مِمّٰا عَمِلَتْ‌ أَيْدِينٰا) [يس: ٧١] وقوله: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ‌) [ص: ٧٥] عبارة عن توليه لخلقه باختراعه الذي ليس إلا له عزّ وجل، وخصّ‌ لفظ‍‌ اليد ليتصور لنا المعنى إذ هو أجل الجوارح التي يتولى بها الفعل فيما بيننا ليتصور لنا اختصاص المعنى لا لنتصور منه تشبيها، وقيل معناه بنعمتي التي رشحتها لهم، والباء فيه ليس كالباء في قولهم: قطعته بالسكين بل هو كقولهم: خرج بسيفه أي معه سيفه، معناه خلقته ومعه نعمتاي الدنيوية والأخروية اللتان إذا رعاهما بلغ بهما السعادة الكبرى.

وقال العلامة الشيخ جمال الدين القاسمي في تفسيره محاسن التأويل: (لِمٰا خَلَقْتُ‌ بِيَدَيَّ‌) [ص: ٧٥] أي بنفسي من غير توسط‍‌ كأب وأم.

(٣) في أساس التقديس لمجدد القرن السادس الفخر الرازي: والسبب في حسن هذا المجاز أن كمال حال هذا العضو إنما يظهر بالصفة المسماة بالقدرة فلما كان المقصود من اليد حصول القدرة أطلق اسم القدرة على اليد، ولأن آلة إعطاء النعمة اليد فإطلاق اسم اليد على النعمة إطلاق لاسم السبب على المسبب.

٢٣٢

وقولهم: ميّزه بذلك عن الحيوان فقد قال تعالى: (خَلَقْنٰا لَهُمْ‌ مِمّٰا عَمِلَتْ‌ أَيْدِينٰا أَنْعٰاماً) [يس: ٧١] ولم يدل على تمييز الأنعام على بقية الحيوان.

قال تعالى: و (السَّمٰاءَ بَنَيْنٰاهٰا بِأَيْدٍ) [الذّاريات: ٤٧] أي بقوة ثم قد أخبر أنه قد نفخ فيه من روحه ولم يرد الوضع بالفعل والتكوين، والمعنى نفخت أنا، ويكفي شرف الإضافة إذ لا يليق بالخالق جلّ‌ جلاله سوى ذلك لأنه لا يحتاج أن يفعل بواسطة، ولا له أعضاء وجوارح يفعل بها لأنه تعالى الغني بذاته؛ فلا ينبغي أن يتشاغل بطلب تعظيم آدم عليه الصلاة والسلام مع الغفلة عما يستحقه الباري سبحانه من التعظيم بنفي الأبعاض والآلات في الأفعال، لأن هذه الأشياء صفة الأجسام.

وقد ظنّ‌ بعض الثلاثة أن اللّه تعالى يمسّ‌ حتى توهموا أنه مس طينة آدم بيد هي بعض ذاته، وما فطنوا أن من جملة مخلوقاته جسما يقابل جسما فيتحد به ويفعل فيه، أفتراه سبحانه وتعالى جعل أفعال الأشخاص والأجسام تتعدى إلى أجسام بعيدة ثم يحتاج هو في أفعاله إلى معاناة الطين‌؟ وقد ردّ قول من قال هذا بقوله تعالى: (إِنَّ‌ مَثَلَ‌ عِيسىٰ‌ عِنْدَ اللّٰهِ‌ كَمَثَلِ‌ آدَمَ‌ خَلَقَهُ‌ مِنْ‌ تُرٰابٍ‌ ثُمَّ‌ قٰالَ‌ لَهُ‌ كُنْ‌ فَيَكُونُ) (٥٩) [آل عمران: ٥٩].

ومنها قوله تعالى: (وَيُحَذِّرُكُمُ‌ اللّٰهُ‌ نَفْسَهُ‌) [آل عمران: ٢٨] وقوله تعالى: (تَعْلَمُ‌ مٰا فِي نَفْسِي وَلاٰ أَعْلَمُ‌ مٰا فِي نَفْسِكَ‌) [المائدة: ١١٦] قال المفسرون: ويحذركم اللّه إياه، وقالوا: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، وقال المحققون: المراد بالنفس هاهنا الذات، ونفس الشيء ذاته.

وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن للّه تعالى نفسا وهي صفة زائدة على ذاته، وهذا قول لا يستند إلا إلى التشبيه لأنه يوجب أن الذات شيء والنفس غيرها. ومنها قوله تعالى: (لَيْسَ‌ كَمِثْلِهِ‌ شَيْ‌ءٌ) [الشّورى: ١١](١). ظاهر الكلام أن

__________________

(١) يقول الزمخشري في الكشاف: قالوا مثلك لا يبخل فنفوا البخل عن مثله وهم يريدون نفيه عن ذاته قصدوا المبالغة في ذلك فسلكوا به طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمن يسدّ مسدّه وعمن هو على أخص أوصافه فقد نفوه عنه، ونظيره: قولك للعربي العرب لا تخفر الذمم كان أبلغ من قولك: أنت لا تخفر ومنه قولهم: قد أيفعت لذاته وبلغت أترابه يريدون إيفاعه وبلوغه اه‍‌.

وقال الراغب: إن الندّ يقال فيما يشارك في الجوهر فقط‍‌ والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط‍‌ والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط‍‌ والشكل يقال فيما يشاركه في القدر والمساحة فقط‍‌ والمثل عام في جميع ذلك ولهذا لما أراد اللّه نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال: (لَيْسَ‌ كَمِثْلِهِ‌ شَيْ‌ءٌ) [الشّورى: ١١] وأما الجمع بين الكاف والمثل فقد قيل ذلك لتأكيد النفي تنبيها على أنه لا يصح استعمال المثل ولا الكاف فنفى بليس الأمرين جميعا وقيل المثل هاهنا بمعنى الصفة ومعناه: ليس كصفته صفة تنبيها على أنه وإن وصف بكثير مما يوصف به البشر فليس تلك الصفات له على حسب ما يستعمل في البشر.

٢٣٣

له مثلا فليس كمثله شيء وليس كذلك، إنما معناه عند أهل اللغة أن يقام المثل مقام الشيء نفسه يقول الرجل مثلي لا يكلم مثلك، وإنما المعنى ليس كهو شيء.

ومنها قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ‌) [القلم: ٤٢](١). قال جمهور العلماء: يكشف عن شدة وأنشدوا: وقامت الحرب على ساق(٢). وقال آخر: وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا، قال ابن قتيبة: وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناة الجدّ فيه شمّر عن ساقه فاستعيرت الساق في موضع الشدة وهذا قول الفراء وأبي عبيدة وثعلب واللغويين، وروى البخاري ومسلم في الصحيحين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم «أن اللّه عزّ وجل يكشف عن ساقه»(٣). وهذه إضافة إليه معناها يكشف عن شدته وأفعاله المضافة إليه، ومعنى يكشف عنها يزيلها، وقال عاصم بن كليب: رأيت سعيد بن جبير غضب وقال: يقولون يكشف عن ساقه وإنما ذلك من أمر شديد.

وقد ذكر أبو عمر الزاهد: أن الساق بمعنى النفس، قال: ومنه قول علي رضي اللّه عنه لما قالت الشراة لا حكم إلا للّه تعالى فقال: لا بد من محاربتهم ولو

__________________

(١) ومما قاله الرازي في تفسير هذه الآية: يوم يكشف عن ساق جهنم أو عن ساق العرش أو عن ساق ملك مهيب عظيم واللفظ‍‌ لا يدل إلا على ساق فأما إن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ‍‌ ما يدل عليه.

وفي محاسن التأويل للعلامة الجمال القاسمي رحمه اللّه: وقال أبو سعيد الضرير: أي يوم يكشف عن أصل الأمر، وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان، أي تظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها فالساق بمعنى أصل الأمر وحقيقته استعارة من ساق الشجر.

(٢) قال البيهقي في كتابه (الأسماء والصفات) عند الاستشهاد بهذا الكلام من الشعر: عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ)‌ [القلم: ٤٢] فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب.

(٣) في صحيح البخاري: ثنا آدم ثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة» الحديث، وقال الحافظ‍‌ ابن حجر: ووقع في هذا الموضع «يكشف ربنا عن ساقه» وهو من رواية سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم فأخرجها الإسماعيلي كذلك ثم قال: في قوله عن ساقه نكرة، ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة بن زيد بن أسلم بلفظ‍‌ (يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ)‌ [القلم: ٤٢] قال الإسماعيلي: هذه أصح لموافقتها لفظ‍‌ القرآن في الجملة اه‍‌.

وقد أخذ ابن شاقلا على البخاري إخراجه حديث الساق في صحيحه لأنه من رواية ابن أبي هلال ويراه ليس من شرطه لضعفه. وقال ابن حزم أيضا: ابن أبي هلال ليس بالقوي قد ذكره بالتخليط‍‌ يحيى وأحمد بن حنبل (ز).

٢٣٤

تلفت ساقي، فعلى هذا يكون المعنى يتجلى لهم. وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: «يكشف لهم الحجاب فينظرون إلى اللّه عزّ وجل فيخرون للّه سجّدا ويبقى أقوام في ظهورهم مثل صياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون فذلك قوله تعالى: (يَوْمَ‌ يُكْشَفُ‌ عَنْ‌ سٰاقٍ‌ وَيُدْعَوْنَ‌ إِلَى السُّجُودِ فَلاٰ يَسْتَطِيعُونَ‌ (٤٢)) [القلم: ٤٢]».

وقد ذهب القاضي (أبو يعلى) إلى أن الساق صفة ذاتية وقال: مثله يضع قدمه في النار. وحكي عن ابن مسعود قال: يكشف عن ساقه اليمنى فتضيء من نور ساقه الأرض، قلت: وذكره الساق مع القدم تشبيه محض، وما ذكره عن ابن مسعود محال ولا يثبت للّه تعالى صفة بمثل هذه الخرافات، ولا توصف ذاته بنور شعاعي تضيء به الأرض، واحتجاجه بالإضافة ليس بشيء لأنه إذا كشف عن شدته فقد كشف عن ساقه، وهؤلاء وقع لهم أن معنى يكشف يظهر وإنما المعنى يزيل ويرفع.

وقال ابن حامد: يجب الإيمان بأن للّه سبحانه وتعالى ساقا صفة لذاته فمن جحد ذلك كفر. قلت: لو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحا فكيف من ينسب إلى العلم فإن المتأولين أعذر منهم لأنهم يردون الأمر إلى اللغة وهؤلاء أثبتوا ساقا للذات وقدما حتى يتحقق التجسيم والصورة.

ومنها قوله تعالى: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ عَلَى الْعَرْشِ)‌ [الحديد: ٤](١). قال الخليل بن

__________________

(١) يقول الآلوسي في تفسيره: والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون، فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور وفسر الاستواء بالاستقرار وروي ذلك عن الكلبي ومقاتل ورواه البيهقي في (الأسماء والصفات) بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها، وما روي عن مالك رضي اللّه عنه أنه سئل كيف استوى فأطرق رأسه مليا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل: وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج ليس نصا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله: «غير مجهول» أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه الاستقرار وهو غير مجهول. وقال في موضع آخر: وإلى نحو هذا ذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال في بعض فتاويه: طريقة التأويل بشرطه وهو قرب التأويل أقرب إلى الحق لأن اللّه تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه، وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه لأنه سبحانه قال: (ثُمَّ‌ إِنَّ‌ عَلَيْنٰا بَيٰانَهُ‌ (١٩)) [القيامة: ١٩] ولنبين للناس ما نزل إليهم، وهذا عام في جميع آيات القرآن فمن وقف على الدليل أفهمه اللّه مراده من كتابه وهو أكمل ممن لم يقف على ذلك إذ لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون اه‍‌. وفيه توسط‍‌ في المسألة، وقد توسط‍‌ ابن الهمام في (المسايرة) وقد بلغ رتبة الاجتهاد كما قال عصر بنا ابن عابدين الشامي في (رد المحتار) توسطا أخص من هذا التوسط‍‌ فذكر ما حاصله: وجواب الإيمان بأنه تعالى استوى على العرش مع نفي التشبيه، وأما كون المراد استولى فأمر جائز الإرادة لا واجبها إذ لا دليل عليه، وإذا خيف

٢٣٥

أحمد: العرش السرير وكل سرير لملك يسمى عرشا، والعرش مشهور عند العرب في الجاهلية والإسلام، قال تعالى: (وَرَفَعَ‌ أَبَوَيْهِ‌ عَلَى الْعَرْشِ‌) [يوسف: ١٠٠] وقال تعالى: (أَيُّكُمْ‌ يَأْتِينِي بِعَرْشِهٰا) [النّمل: ٣٨]، اعلم أن الاستواء في اللغة على وجوه: منها الاعتدال. قال بعض بني تميم: «فاستوى ظالم العشيرة والمظلوم» أي اعتدلا، والاستواء تمام الشيء. قال اللّه تعالى: (وَلَمّٰا بَلَغَ‌ أَشُدَّهُ‌ وَاسْتَوىٰ)‌ [القصص: ١٤]، والاستواء القصد إلى الشيء. قال اللّه تعالى: (ثُمَّ‌ اسْتَوىٰ‌ إِلَى السَّمٰاءِ) [البقرة: ٢٩] أي قصد خلقها، والاستواء الاستيلاء على الشيء. قال الشاعر:

إذا ما غزا قوما أباح حريمهم

وأضحى على ما ملكوه قد استوى

وروى إسماعيل بن أبي خالد الطائي قال: العرش ياقوتة حمراء، وجميع السلف على إيراد هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل.

وقد حمل قوم من المتأخرين هذه الصفة على مقتضى الحس فقالوا: استوى على العرش بذاته. وهذه زيادة لم ينقلوها إنما فهموها من إحساسهم وهو أن المستوي على الشيء إنما يستوي عليه ذاته. قال ابن حامد: الاستواء مماسة وصفة لذاته والمراد به القعود(١). قال: وقد ذهبت طائفة من أصحابنا إلى أن اللّه تعالى على عرشه ما ملأه وأنه يقعد نبيه معه على العرش، وقال: والنزول انتقال.

__________________

ـ على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء فإنه قد ثبت إطلاقه عليه لغة في قوله:

فلما علونا واستوينا عليهم

جعلناهم مرعى لنسر وطائر

وقوله:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق (ز)

(١) قال الجلال الدواني في شرح العضدية: وقد رأيت في بعض تصانيف (ابن تيمية) القول به (أي بالقدم النوعي) في العرش اه‍‌ وقال الشيخ محمد عبده فيما علقه عليه: وذلك أن ابن تيمية كان من الحنابلة الآخذين بظواهر الآيات والأحاديث القائلين بأن اللّه استوى على العرش جلوسا، فلما أورد عليه أنه يلزم أن يكون العرش أزليا لما أن اللّه أزلي فمكانه أزلي، وأزلية العرش خلاف مذهبه قال إنه قديم بالنوع أي أن اللّه لا يزال يعدم عرشا ويحدث آخر من الأزل إلى الأبد حتى يكون له الاستواء أزلا وأبدا ولننظر أين يكون اللّه بين الإعدام والإيجاد هل يزول عن الاستواء فليقل به أزلا، فسبحان اللّه ما أجهل الإنسان وما أشنع ما يرضى لنفسه، ولست أعرف هل قال ابن تيمية بشيء من ذلك على التحقيق، وكثيرا ما نقل عنه ما لم يقله اه‍‌ (ز).

٢٣٦

وعلى ما حكي تكون ذاته أصغر من العرش، فالعجب من قول هذا ما نحن مجسمة.

وقيل لابن الزاغوني: هل تجددت له صفة لم تكن بعد خلق العرش‌؟ قال: لا، إنما خلق العالم بصفة التحت فصار العالم بالإضافة إليه أسفل، فإذا ثبتت لإحدى الذاتين صفة التحت ثبت للآخر استحقاق صفة الفوق، قال: وقد ثبت أن الأماكن ليست في ذاته ولا ذاته فيها فثبت انفصاله عنها ولا بد من بدء يحصل به الفصل فلما قال: (اِسْتَوىٰ) [البقرة: ٢٩] علمنا اختصاصه بتلك الجهة، قال: ولا بد أن يكون لذاته نهاية وغاية يعلمها.

قلت: هذا رجل لا يدري ما يقول، لأنه إذا قدر غاية وفصلا بين الخالق والمخلوق فقد حدده وأقرّ بأنه جسم، وهو يقول في كتابه: إنه ليس بجوهر لأن الجوهر ما تحيز، ثم يثبت له مكانا يتحيز فيه، قلت: وهذا كلام جهل من قائله وتشبيه محض، فما عرف هذا الشيخ ما يجب للخالق تعالى وما يستحيل عليه.

فإن وجوده تعالى ليس كوجود الجواهر والأجسام التي لا بد لها من حيز، والتحت والفوق إنما يكون فيما يقابل ويحاذي، ومن ضرورة المحاذي أن يكون أكبر من المحاذى أو أصغر أو مثله، وأن هذا ومثله إنما يكون في الأجسام، وكل ما يحاذي الأجسام يجوز أن يمسها، وما جاز عليه مماسة الأجسام ومباينتها فهو حادث، إذ قد ثبت أن الدليل على حدوث الجواهر قبولها المماسة والمباينة، فإن أجازوا هذا عليه قالوا بجواز حدثه، وإن منعوا جواز هذا عليه لم يبق لنا طريق لإثبات حدث الجواهر، ومتى قدرنا مستغنيا عن المحل والحيز ومحتاجا إلى الحيز ثم قلنا: إما أن يكونا متجاورين أو متباينين كان ذلك محالا فإن التجاور والتباين من لوازم التحيز في المتحيزات.

وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم التحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز لأنه لو كان متحيزا لم يخل إما أن يكون ساكنا في حيزه أو متحركا عنه، ولا يجوز أن يوصف بحركة ولا سكون ولا اجتماع ولا افتراق، ومن جاور أو باين فقد تناهى ذاتا، والتناهي إذا اختص بمقدار استدعى مخصصا، وكذا ينبغي أن يقال ليس بداخل في العالم وليس بخارج منه لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات، فهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تحس بالأجرام.

٢٣٧

وأما قولهم: «خلق الأماكن لا في ذاته فثبت انفصاله عنها» قلنا: ذاته المقدسة لا تقبل أن يخلق فيها شيء ولا أن يحل فيها شيء، وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط‍‌ حتى قال بعضهم: إنما ذكر الاستواء على العرش لأنه أقرب الموجودات إليه، وهذا جهل أيضا لأن قرب المسافة لا يتصور إلا في جسم، ويعز علينا كيف ينسب هذا القائل إلى مذهبنا.

واحتج بعضهم بأنه على العرش بقوله تعالى: (إِلَيْهِ‌ يَصْعَدُ الْكَلِمُ‌ الطَّيِّبُ‌ وَالْعَمَلُ‌ الصّٰالِحُ‌ يَرْفَعُهُ)‌ [فاطر: ١٠] وبقوله تعالى: (وَهُوَ الْقٰاهِرُ فَوْقَ‌ عِبٰادِهِ‌) [الأنعام: ١٨] وجعلوا ذلك فوقية حسية، ونسوا أن الفوقية الحسية إما أن تكون لجسم أو جوهر، وأن الفوقية قد تطلق لعلو المرتبة فيقال: فلان فوق فلان(١). ثم إنه كما قال تعالى: (فَوْقَ‌ عِبٰادِهِ‌) [الأنعام: ١٨] قال تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ‌) [الحديد: ٤] فمن حملها على العلم حمل خصمه الاستواء على القهر(٢).

وذهبت طائفة إلى أن اللّه تعالى على عرشه قد ملأه، والأشبه أنه مماس للعرش، والكرسي موضع قدميه. قلت: المماسة إنما تقع بين جسمين، وما أبقى هذا في التجسيم بقية.

* * *

فصل: فإن قيل فقد أخرج في الصحيحين من حديث شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك رضي اللّه تعالى عنه أنه ذكر المعراج فقال فيه: فعلا به إلى الجبار تعالى فقال وهو في مكانه: «يا رب خفّف عنا».

الجواب: أن أبا سليمان الخطابي قال: هذه لفظة انفرد بها شريك ولم يذكرها غيره وهو كثير التفرد بمناكير الألفاظ‍‌ والمكان لا يضاف إلى اللّه تعالى إنما هو مكان النبي صلى اللّه عليه وسلم ومقامه الأول الذي أقيم فيه وفي هذا الحديث «فاستأذنت على ربي وهو في

__________________

(١) في التفسير الكبير للفخر الرازي: العالم كرة وإذا كان الأمر كذلك امتنع أن يكون إله العالم حاصلا في جهة فوق، إذا فرضنا إنسانين وقف أحدهما على نقطة المشرق والآخر على نقطة المغرب صار أخمص قدميهما متقابلين، والذي هو فوق بالنسبة لأحدهما يكون تحت بالنسبة إلى الثاني، وكونه تعالى تحت أهل الدنيا محال بالاتفاق فوجب أن لا يكون في حيز معين (ز).

(٢) يقول الفخر الرازي في أساس التقديس: إن ظاهر قوله تعالى: (وَنَحْنُ‌ أَقْرَبُ‌ إِلَيْهِ‌ مِنْ‌ حَبْلِ‌ الْوَرِيدِ) [ق: ١٦] وقوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ‌ أَيْنَ‌ مٰا كُنْتُمْ‌) [الحديد: ٤] وقوله: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمٰاءِ إِلٰهٌ‌ وَفِي الْأَرْضِ‌ إِلٰهٌ)‌ [الزّخرف: ٨٤] ينفي كونه مستقرا على العرش، وليس تأويل هذه الآيات لتبقى الآيات التي تمسكوا بها على ظاهرها أولى من العكس اه‍‌ (ز).

٢٣٨

داره» يوهم مكانا وإنما المعنى في داره التي دورها لأوليائه(١) ؛ وقد قال القاضي (أبو يعلى) في كتابه المعتمد: إن اللّه عزج وجل لا يوصف بالمكان.

ومن الآيات قوله تعالى: (أَأَمِنْتُمْ‌ مَنْ‌ فِي السَّمٰاءِ) [الملك: ١٦](٢). قد ثبت قطعا أن الآية ليست على ظاهرها لأن لفظة (في) للظرفية، والحق سبحانه وتعالى غير مظروف وإذا منع الحس أن ينصرف إلى مثل هذا بقي وصف العظيم بما هو عظيم عند الخلق.

ومنها قوله تعالى: (يٰحَسْرَتىٰ‌ عَلىٰ‌ مٰا فَرَّطْتُ‌ فِي جَنْبِ‌ اللّٰهِ) [الزّمر: ٥٦] (٣). أي في طاعته وأمره لأن التفريط‍‌ لا يقع إلا في ذاته وأما الجنب المعهود من ذي الجوارح فلا يقع فيه تفريط‍‌.

__________________

(١) زاد البيهقي في كتابه الأسماء والصفات: (وهي الجنة).

(٢) قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: إن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطا به من جميع الجوانب فيكون أصغر من السماء والسماء أصغر من العرش بكثير فيلزم أن يكون اللّه تعالى شيئا حقيرا بالنسبة إلى العرش، وذلك باتفاق أهل الإسلام محال. وقال الزمخشري ووافقه الفخر: (من في السماء) في وجهان أحدهما من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ‍‌ ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه، والثاني أنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه وكانوا يدعونه من جهتها فقيل لهم على حسب اعتقادهم: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان أن يعذبكم بخسف أو بحاصب كما تقول لبعض المشبهة: أما تخاف من فوق العرش أن يعاقبك بما تفعل إذا رأيته يركب بعض المعاصي، وقال الرازي أيضا: والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان اللّه وتعظيم قدرته كما قال: (وَهُوَ اللّٰهُ‌ فِي السَّمٰاوٰاتِ‌ وَفِي الْأَرْضِ‌) [الأنعام: ٣] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين، وقال أيضا: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله (من في السماء) هو الملك الموكل بالعذاب وهو جبريل عليه السلام (ز).

(٣) يقول الزمخشري في كشافه: والجنب الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرط‍‌ في جنبه وفي جانبه يريدون في حقه، قال سابق البربري:

أما تتقين اللّه في جنب وامق

له كبد حرّى عليك تقطع

وقال السيد محمود الآلوسي في تفسيره (روح المعاني): وبالجملة لا يمكن إبقاء الكلام على حقيقته لتنزهه عزّ وجل من الجنب بالمعنى الحقيقي، ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية، ولا أعوّل على ما في المواقف، وعلى فرض العد كلامهم فيها شهير وكلهم مجمعون على التنزيه وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وفي حرف عبد اللّه وحفصة (في ذكر اللّه) ه‍‌. وقال العلامة القاسمي في تفسيرها: أي في جانب أمره ونهيه إذ لم أتبع أحسن ما أنزل.

٢٣٩

وقال ابن حامد: نؤمن بأن للّه سبحانه وتعالى جنبا بهذه الآية.

فوا عجبا من عدم العقول، إذا لم يتهيأ التفريط‍‌ في جنب مخلوق فكيف يتهيأ في صفة الخالق جلّ‌ جلاله، وأنشد ثعلبة:

«خليليّ‌ كفا واذكرا اللّه في جنبي» أي في أمري.

ومنها قوله تعالى: (فَنَفَخْنٰا فِيهِ‌ مِنْ‌ رُوحِنٰا) [التّحريم: ١٢](١). قال المفسرون: أي من رحمتنا، وإنما نسب الروح إليه لأنه بأمره كان.

ومنها قوله تعالى: (يُؤْذُونَ‌ اللّٰهَ‌) [الأحزاب: ٥٧] (٢). أي يؤذون أولياءه كقوله تعالى: (وَسْئَلِ‌ الْقَرْيَةَ‌) [يوسف: ٨٢] أي أهلها. وقال صلى اللّه عليه وسلم: «أحد جبل يحبنا ونحبه» وقال الشاعر:

أنبئت أن النار بعدل أوقدت

واستبّ‌ بعدك يا كليب المجلس

ومنها قوله تعالى: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌ فِي ظُلَلٍ‌ مِنَ‌ الْغَمٰامِ‌) [البقرة: ٢١٠] (٣). أي بظلل وكذلك قوله تعالى: (وَجٰاءَ رَبُّكَ‌) [الفجر: ٢٢] ذكر القاضي

__________________

(١) قال الشهاب الآلوسي: (وَنَفَخْتُ‌ فِيهِ‌ مِنْ‌ رُوحِي) [الحجر: ٢٩] تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فليس ثمة نفخ ولا منفوخ، أي فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الظاهرة التي هي أمري.

(٢) قال الآلوسي: (إِنَّ‌ الَّذِينَ‌ يُؤْذُونَ‌ اللّٰهَ‌ وَرَسُولَهُ‌) [الأحزاب: ٥٧] أريد بالإيذاء إما ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر وكبائر المعاصي مجازا لأنه سبب أو لازم له، وإن كان ذلك بالنظر إليه تعالى بالنسبة إلى غيره سبحانه فإنه كاف في العلاقة، وقيل في إيذائه تعالى هو قول اليهود والنصارى والمشركين: يد اللّه مغلولة، والمسيح ابن اللّه، والملائكة بنات اللّه، والأصنام شركاؤه، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

(٣) ومما قاله جار اللّه الزمخشري: ويجوز أن يكون المأتي به محذوفا بمعنى أن يأتيهم اللّه ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله: (فإن اللّه عزيز)، فإن قلت: لم يأتيهم العذاب في الغمام‌؟ قلت: لأن الغمام مظنة الرحمة فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أغم كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أسرّ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يحتسب الخير، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث، ومن ثمة اشتد على المتفكرين في كتاب اللّه قوله تعالى: (وَبَدٰا لَهُمْ‌ مِنَ‌ اللّٰهِ‌ مٰا لَمْ‌ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ‌) [الزّمر: ٤٧] اه‍‌ وساق الفخر الرازي في هذا المعنى فصلا مشبعا ـ شأنه في تفسير آيات الصفات ـ إلى أن قال: إن قوله: (يَأْتِيَهُمُ‌ اللّٰهُ‌) [البقرة: ٢١٠] وقوله: (وَجٰاءَ رَبُّكَ‌) [الفجر: ٢٢] إخبار عن حال القيامة، ثم ذكر هذه الواقعة بعينها في سورة النحل فقال: (هَلْ‌ يَنْظُرُونَ‌ إِلاّٰ أَنْ‌ تَأْتِيَهُمُ‌ الْمَلاٰئِكَةُ‌ أَوْ يَأْتِيَ‌ أَمْرُ رَبِّكَ‌) [النّحل: ٣٣] فصار هذا المحكم مفسرا لذلك

٢٤٠