العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

فأنقذه الله بعزته وحكمته وخيّب مكر أعدائه. وهذا هو ما تضمنته الآيات (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٥٢] إلى آخرها ، بيّن الله فيها قوة مكره بالنسبة إلى مكرهم ، وأن مكرهم في اغتيال عيسى قد ضاع أمام مكر الله في حفظه وعصمته ، إذ قال : (يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] فهو يبشره بإنجائه من مكرهم ورد كيدهم في نحورهم وأنه سيستوفي أجله حتى يموت حتف أنفه من غير قتل ولا صلب ، ثم يرفعه الله إليه.

وهذا هو ما يفهمه القارئ للآيات الواردة في شأن نهاية عيسى مع قومه متى وقف على سنّة الله مع أنبيائه حين يتألب عليهم خصومهم ، ومتى خلا ذهنه من تلك الروايات التي لا ينبغي أن تحكم في القرآن ، ولست أدري كيف يكون إنقاذ عيسى بطريق انتزاعه من بينهم ورفعه بجسده إلى السماء مكرا؟ وكيف يوصف بأنه خير من مكرهم مع أنه شيء ليس في استطاعتهم أن يقاوموه ، شيء ليس في قدرة البشر.

ألا إنه لا يتحقق مكر في مقابلة مكر إلا إذا كان جاريا على أسلوبه ، غير خارج عن مقتضى العادة فيه. وقد جاء مثل هذا في شأن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)) [الأنفال : ٣٠].

رفع عيسى ليس عقيدة يكفر منكرها :

والخلاصة من هذا البحث :

١ ـ أنه ليس في القرآن الكريم ولا في السنّة المطهرة مستند يصلح لتكوين عقيدة يطمئن إليها القلب بأن عيسى رفع بجسمه إلى السماء وأنه حي إلى الآن فيها وأنه سينزل منها آخر الزمان إلى الأرض.

٢ ـ أن كل ما تفيده الآيات الواردة في هذا الشأن هو وعد الله عيسى بأنه متوفّيه أجله ورافعه إليه وعاصمه من الذين كفروا ، وأن هذا الوعد قد تحقق فلم يقتله أعداؤه ولم يصلبوه ولكن وفاه الله أجله ورفعه إليه.

٣ ـ أن من أنكر أنّ عيسى قد رفع بجسمه إلى السماء وأنه فيها حي إلى الآن وأنه سينزل منها آخر الزمان فإنه لا يكون بذلك منكرا لما ثبت بدليل قطعي ، فلا يخرج عن إسلامه وإيمانه ولا ينبغي أن يحكم عليه بالردة ، بل هو مسلم مؤمن ، إذا مات فهو من المؤمنين يصلّى عليه كما يصلّى على المؤمنين ويدفن في مقابر المؤمنين ، ولا شية في إيمانه عند الله والله بعباده خبير بصير.

٢١

مناقشة

بعد نشر هذه الفتوى في مجلة «الرسالة» السنة العاشرة العدد ٤٦٢ قامت ضجة أحدثها قوم جمدوا على القديم ، وادّعوا الغيرة على الدين.

وقد رددنا على شبهات هؤلاء بالحجج العلمية الدامغة ونشرت ذلك «الرسالة» في الأعداد ٥١٤ ، ٥١٦ ، ٥١٧ ، ٥١٨ ، ٥١٩ من السنة الحادية عشرة.

وفيما يلي خلاصة لهذا الرد :

مبادئ مسلمة عند العلماء :

١ ـ حدّد الشارع العقائد ، وطلب من الناس الإيمان بها ، والإيمان هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع عن دليل.

ومن الواضح أن هذا الاعتقاد لا يحصله كل ما يسمى دليلا ، وإنما يحصله الدليل القطعي الذي لا تعتريه شبهة.

٢ ـ وهذا الدليل القطعي يتمثل في شيئين :

الأول : الدليل العقلي الذي سلمت مقدماته ، وانتهت في أحكامها إلى الحس والضرورة ، فهذا ـ باتفاق ـ يفيد اليقين ، ويحقق ذلك الإيمان المطلوب.

الثاني : الدليل النقلي إذا كان قطعيا في وروده ، قطعيا في دلالته.

ومعنى كونه قطعيا في وروده : ألا يكون هناك أي شبهة في ثبوته عن الرسول ، وذلك كالقرآن الكريم الذي ثبت كله بالتواتر القطعي ، وكالأحاديث المتواترة عن الرسول ، إن ثبت تواترها.

ومعنى كونه قطعيا في دلالته ، أن يكون نصا محكما في معناه ، وذلك إنما يكون فيما لا يحتمل التأويل.

٣ ـ فإذا كان الدليل النقلي بهذه المثابة أفاد اليقين ، وصلح لأن تثبت به العقيدة.

٢٢

ومن هنا نستطيع أن نقرر أن العلميّات التي لم ترد بطريق قطعي أو وردت بطريق قطعي ، ولكن لابسها احتمال في الدلالة ، فاختلف فيها العلماء ، ليست من العقائد التي يكلفنا بها الدين ، والتي تعتبر حدا فاصلا بين الذين يؤمنون والذين لا يؤمنون.

٤ ـ هذه المبادئ التي ذكرنا تنير سبيل البحث لمن يريد معرفة الحق فيما هو من العقائد وما ليس منها ، وهي مبادئ مسلمة عند العلماء يعرف كل مطلع على كتبهم ومناقشاتهم أنه لا نزاع فيها (١).

وعلى ضوء هذه المبادئ نستقبل قول الذين زعموا «أن رفع عيسى ونزوله آخر الزمان ثابتان بالكتاب والسنّة والإجماع».

ولنا في ذلك نظرات ثلاث : نظرة فيما ذكروا من آيات ، ونظرة فيما ساقوا من أحاديث ، والنظرة الثالثة فيما ادّعوا في هذا المقام من إجماع.

نظرة فيما ساقوا من آيات :

فأما الآيات التي تذكر في هذا الشأن فنحن نرجعها إلى ثلاثة أنواع :

النوع الأول : آيات تذكر وفاة عيسى ورفعه ، وتدل بظاهرها على أن الوفاة قد وقعت ، وهذه الآيات هي :

١ ـ قوله تعالى في سورة آل عمران : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥].

٢ ـ قوله تعالى في سورة النساء : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) [النّساء : ١٥٧] إلى قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٧ ، ١٥٨].

٣ ـ قوله تعالى في سورة المائدة : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧].

وقد تناولنا هذه الآيات في الفتوى ودرسناها دراسة علمية واضحة ، وعرضنا إلى آراء المفسرين فيها ، وبينّا أنه ليس فيها دليل قاطع على أن عيسى رفع بجسمه إلى السماء ، بل هي ـ على الرغم مما يراه بعض المفسرين ـ ظاهرة بمجموعها في أن

__________________

(١) راجع فصل «طريق ثبوت العقيدة» من كتابنا «الإسلام عقيدة وشريعة».

٢٣

عيسى قد توفي لأجله ، وأن الله رفع مكانته حين عصمه منهم ، وصانه وطهّره من مكرهم. ولسنا في حاجة إلى أن نعيد شيئا مما ذكرناه (١).

النوع الثاني : آيات ما كان ليخطر بالبال أن لها صلة بموضوع البحث ، فلذا لم نفكر فيها ، وحسبنا الآن أن نمثل لهذا النوع بما قال أحدهم :

«ولك أن تضم إلى ما ذكرناه قوله تعالى عنه عليه‌السلام : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [آل عمران : ٤٥]. ففي قوله : (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) إشارة إلى رفعه إلى محل الملائكة المقربين».

والشيخ يريد السماء طبعا ، وهو لي للكتاب غريب ، فقد وردت كلمة «المقربين» في غير موضع من القرآن الكريم : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١)) [الواقعة : ١٠ ، ١١] ، (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩)) [الواقعة : ٨٨ ، ٨٩] ، (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)) [المطفّفين : ٢٨] ، وإذن فليس عيسى وحده هو الذي يعيش بجسمه في السماء ، بل معه أفواج من عباد الله يعيشون فيها ويزداد عددهم يوما بعد يوم. وهكذا فليكن المنطق!

ثم يقول : «بل في قوله تعالى : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [آل عمران : ٤٥] إشارة إلى ذلك ، لأن الوجيه بمعنى ذي الجاه ، ولا أدل على كونه ذا جاه في الدنيا من رفعه إلى السماء».

__________________

(١) غير أنهم تمسكوا بقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] بعد قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) [النّساء : ١٥٧] فقالوا : إن الرفع بعد نفي القتل هو رفع الجسم حتما ، وإلا لما تحققت المنافاة بين ما قبل «بل» وما بعدها ، ونحن نقول لهم إن المنافاة متحققة ، لأن الغرض من الرفع رفع المكانة والدرجة بالحيلولة بينهم وبين الإيقاع به كما يريدون. والمعنى : أن الله عصمه منهم فلم يمكنهم من قتله بل أحبط مكرهم وأنقذه وتوفاه لأجله فرفع بذلك مكانته. وقد قلنا في الفتوى : إن الآية بهذا تتفق تماما مع ظاهر قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] وهذا احتمال قوي في الآية يمنع الزعم بأنها نص أو ظاهر في رفعه بجسمه حيا. ويقول الإمام الرازي في تفسيره : «ومطهرك : مخرجك من بينهم ومفرق بينك وبينهم. وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير ، وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منزلته». ويقول في معنى قوله تعالى : (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] القول الثاني المراد من هذه الفوقية الفوقية بالحجة والبرهان» ثم يقول : واعلم أن هذه الآية تدل على أن رفعه في قوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] هو رفع الدرجة والمنقبة لا بالمكان والجهة ، كما أن الفوقية في هذه الآية ليست بالمكان بل بالدرجة والرفعة» اه.

٢٤

وهذا كلام لا يقال ، فإن وجاهة عيسى في الدنيا هي الرسالة المؤيدة بالمعجزات البينات (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [آل عمران : ٤٨ ، ٤٩] فكيف تذكر بجانب هذه الوجاهة قصة الرفع إلى السماء التي يرغمون هذه الآية على إفادتها أو الإشارة إليها؟ وكيف يكون وجيها في الدنيا من غادر الأرض وترك أهلها الذين يحسون وجاهته؟ وهكذا ينتزع القوم من كل عبارة إشارة أو تلميحا ليؤيدوا ما زعموا أنه عقيدة يكفر منكرها؟

النوع الثالث : آيتان قد اختلفت آراء المفسرين في بيان المراد منهما ، وجاء في بعض ما قيل : إنهما تدلان على نزول عيسى وهما :

١ ـ قوله تعالى في سورة النساء : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) [النّساء : ١٥١].

٢ ـ وقوله تعالى في سورة الزخرف : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزّخرف : ٦١].

ما غاب عنا ، وقت أن كتبنا الفتوى ، النظر في هاتين الآيتين وفي درجة دلالتهما على نزول عيسى ، وما غاب عنا ما ذكره المفسرون من الآراء والأفهام المختلفة فيهما ، وما كنا نحسب ـ ونحن بصدد البحث عن دليل قاطع يحكم بالكفر على مخالفه ـ أن أحدا يعرض لهاتين الآيتين وقد رأى فيهما ما رأينا من أقوال المفسرين المختلفة في ذاتها ، والمختلفة في ترجيحها ، فيقول إنهما نصّان قاطعان في نزول عيسى! ولذلك آثرنا إذ ذاك أن نترك الكلام عليهما اكتفاء بظهور درجتهما في الدلالة لكل من يقرأ شيئا من كتب التفسير. ولكنهم أبوا إلا أن يذكروا هاتين الآيتين ويزعموا أنهما تدلان دلالة قاطعة على نزول عيسى ، فلسنا نجد بدا من أن نضع بين يدي القراء خلاصة لآراء المفسرين فيهما. ثم نقفي على ذلك بما نرى ليتبين الحق واضحا :

الآية الأولى : للمفسرين في هذه الآية آراء مختلفة وأشهرها رأيان :

الأول : أن الضمير في (بِهِ) و (مَوْتِهِ) لعيسى. والمعنى : ما من أحد من أهل الكتاب يهوديهم ونصرانيهم إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. قالوا : أخبرت هذه الآية أن أهل الكتاب سيؤمنون بعيسى قبل موته ، وهم لم يؤمنوا به إلى الآن على الوجه الذي طلب منهم ، فلا بد أن يكون عيسى إلى الآن حيّا ، ولا بد أن يتحقق هذا الإيمان به قبل موته ، وذلك إنما يكون عند نزوله آخر الزمان.

٢٥

الثاني : أن الضمير في (بِهِ) لعيسى ، وفي (مَوْتِهِ) للكتابي. والمعنى أنه ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى. والإخبار بإيمان أهل الكتاب على هذا الوجه لا يتوقف على حياة عيسى الآن ، ولا على نزوله في المستقبل ، لأن المراد أنهم يؤمنون عند معاينتهم الموت بأنه نبي الله وابن أمته.

هذان رأيان مشهوران في الآية عند المفسرين. ولكل منهما من يرجحه. وقد ساقهما ابن جرير ، وذكر الآثار التي تدل لكل منهما ثم قال : «وأولى الأقوال بالصحة والصواب قول من قال : تأويل ذلك ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل أن يموت عيسى. وإنما قلنا ذلك لأن الله جلّ ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحكم أهل الإيمان في الموارثة والصلاة عليه وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة ، فلو كان كل كتابي يؤمن بعيسى قبل موته لوجب ألا يرث الكتابيّ إذا مات إلا أولاده الصغار أو البالغون منهم من أهل الإسلام .. وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغسله وتقبيره. لأن من مات مؤمنا بعيسى فقد مات مؤمنا بمحمد ..

وقد أجمع أهل الإسلام على أن كل كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله عليه ، وما جاء به من عند الله فمحكوم له بحكم ما كان عليه أيام حياته غير منقول شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته عما كان عليه في حياته ، فدلّ هذا على أن المعنى : إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وإن ذلك عند نزوله» (١).

ويريد ابن جرير بهذه العبارة أن الإيمان بعيسى يلزمه الإيمان بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما ، لأن رسالة محمد مما جاء به عيسى ، وعليه يكون من آمن بعيسى مؤمنا بمحمد فيكون مسلما له أحكام المسلمين في التوارث والصلاة عليه وغسله ودفنه في مقابر المسلمين .. الخ وهذا يخالف إجماع المسلمين على عدم ثبوت شيء من هذه الأحكام للكتابي الذي يموت ، وإذا كان هذا يخالف الإجماع فقد بطل أن يكون معنى الآية ما ذكر ، وكان «أولى الأقوال بالصحة والصواب» في نظر ابن جرير هو الرأي الأول الذي لا يترتب عليه مصادمة الإجماع.

إلى هنا ، وقبل مناقشة ابن جرير فيما رجح به ، ليس في الأمر أكثر من أن مفسرا من بين المفسرين قد اختار رأيا من رأيين حكاهما عن أهل المأثور ورجح ما اختاره بما رأى ، ولكن القوم تلقّفوا هذا عن ابن جرير دليلا قاطعا على ما يزعمون من نزول عيسى. ونحن نلخص ردنا عليهم في النقط الآتية التي غفلوا أو تغافلوا عنها.

__________________

(١) عن ابن جرير ببعض تصرف.

٢٦

١ ـ أن ابن جرير يذكر احتمالين في الآية ، ويذكر الآثار الدالة لكل منهما ويصل بالرأي الثاني إلى ابن عباس ومجاهد وغيرهما ، فكيف يعد نصا قاطعا غير محتمل لأكثر من معنى ما خالف فيه ابن عباس ومجاهد وغيرهما؟

٢ ـ أن ابن جرير كما وجه الرأي الذي اختاره وجه الرأي الثاني أيضا «بأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه» وهذا فيما أرى هو الذي جعل ابن جرير يقتصد في التعبير عن ترجيح ما اختاره فيقول : «وأولى الأقوال» بدل أن يقول مثلا : والرأي الصحيح.

٣ ـ إن يكن ابن جرير قد رجح أحد المعنيين فقد رجح غيره من العلماء المعنى الآخر ومنهم الإمامان : النووي والزمخشري وغيرهما. قال ابن حجر في فتح الباري :

«ورجح جماعة هذا المذهب ـ يريد الثاني ـ بقراءة أبي بن كعب : «إلا ليؤمننّ به قبل موتهم» أي أهل الكتاب ، قال النووي : معنى الآية على هذا ليس من أهل الكتاب أحد يحضره الموت إلا آمن عند المعاينة قبل خروج روحه بعيسى وأنه عبد الله وابن أمته ، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان في تلك الحالة كما قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النّساء : ١٨] ثم قال : وهذا المذهب أظهر ، لأن الأول يخص الكتابي الذي يدرك نزول عيسى ، وظاهر القرآن عمومه في كل كتابي في زمن نزول عيسى وقبله».

وقد ذكر صاحب الكشاف قريبا من هذا وأطال فيه ونقله عنه الإمام الرازي في تفسيره فليرجع إليهما من شاء.

بهذا يتبين :

١ ـ أن هذه الآية ليست نصّا في معنى واحد حتى تكون دليلا قاطعا فيه.

٢ ـ أن ما تمسك به ابن جرير في ترجيحه للرأي الأول غير مسلم له ، فقد بناه على أن المراد بالإيمان في الآية هو الإيمان المعتبر الذي ينفع صاحبه وتترتب عليه الأحكام ، مع أنه إيمان ـ كما قرره العلماء ، ومنهم ابن جرير نفسه ـ لا يعتد به ولا يقام له وزن ولا تترتب عليه أحكام لأنه إيمان جاء في غير وقته.

٣ ـ أن من ينظر فيما تمسك به أصحاب المذهب الثاني : من العموم الواضح في قوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [آل عمران : ١٩٩] ومن قراءة أبي «إلا ليؤمنن به قبل موتهم» ومن أن إيمان المعاينة لا ينفع صاحبه عند الجميع ، لا يسعه إلا أن

٢٧

يخالف ابن جرير فيما ذهب إليه وأن يقول مع النووي عن المذهب الثاني : «وهذا المذهب أظهر».

والنتيجة الحتمية لهذا كله أن الآية ليست ظاهرة فيما يقتضي نزول عيسى فضلا عن أن تكون قاطعة فيه!

الآية الثانية :

للمفسرين في هذه الآية أيضا آراء مختلفة ، ومن هذه الآراء أن الضمير في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : ٦١] راجع إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو إلى القرآن ، ولكننا نستبعد هذا ونرى أن الضمير راجع إلى عيسى كما يراه كثير من المفسرين ، وذلك لأن الحديث في الآيات السابقة كان عن عيسى. ومع ذلك نجد خلافا آخر يصوّره لنا بعض المفسرين بقوله : (وَإِنَّهُ) [البقرة : ١٣٠] أي عيسى (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : ٦١] أي إنه بنزوله شرط من أشراطها ، أو بحدوثه بغير أب ، أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث» (١).

ومن ذلك يتبين أن في توجيه كون عيسى علما للساعة ثلاثة أقوال :

الأول : أنه بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة.

الثاني : أنه بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة.

الثالث : أنه بإحيائه الموتى دليل على إمكان البعث والنشور.

ولقد كان في احتمال الآية لهذه المعاني التي يقررها المفسرون كفاية في أنها ليست نصا قاطعا في نزول عيسى ، ولكننا لا نكتفي بهذا بل نرجح القول الثاني (وهو أن عيسى بحدوثه من غير أب دليل على إمكان الساعة) معتمدين في هذا الترجيح على ما يأتي :

١ ـ أن الكلام مسوق لأهل مكة الذين ينكرون البعث ويعجبون من حديثه ، وقد عنى القرآن الكريم في كثير من آياته وسوره بالرد عليهم ، واقتلاع الشك من قلوبهم. وطريقته في ذلك أن يلفت أنظارهم إلى الأشياء التي يشاهدونها فعلا أو يؤمنون بها (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الحجّ : ٥] ، (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) [الحجّ : ٥] ، (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ)

__________________

(١) تفسير أبي السعود.

٢٨

(اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى) [الرّوم : ٥٠] وقد عرضت سورة الزخرف التي وردت فيها هذه الآية إلى هذا المعنى في أولها : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١)) [الزّخرف : ١١].

وهذه هي الطريقة المستقيمة المنتجة في الاستدلال المقتلعة للشك. أما أن يلفت أنظارهم إلى أشياء يخبرهم هو بها كنزول عيسى ، وهي أيضا في موضع الشك عندهم ، ويطلب منهم أن يقتلعوا بهذه الأشياء ما في قلوبهم من شك فذلك طريق غير مستقيم ، لأنه استدلال على شيء في موضع الإنكار بشيء هو كذلك في موضع الإنكار!

٢ ـ ومما يؤيد هذا قول الله تعالى تفريعا على أن عيسى علم للساعة : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزّخرف : ٦١] فإنه يدل على أن الكلام مع قوم يشكون في نفس الساعة ، والعلامة إنما تكون لمن آمن بها وصدق أنها آتية لا ريب فيها ، أما الذي ينكر وقوعها أو يشك فيها فهو ليس بحاجة إلى أن يتحدث معه عن علامتها ، بل لا يصح أن يتحدث في ذلك معه ، وإنما هو بحاجة إلى دليل يحمله على الإيمان بها أولا ليمكن أن يقال له بعد ذلك : هذا الذي آمنت به علامته كذا.

٣ ـ ثم إنه من الأصول المقررة في فهم أساليب اللغة العربية أن الحكم إذا أسند في اللفظ إلى الذات ، ولم تصح إرادتها معنى ، قدر في الكلام ما كان أقرب إلى الذات وأشد اتصالا بها. فإذا طبّقنا هذه القاعدة على قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) [الزّخرف : ٦١] وعلمنا أن ذات عيسى من حيث هي لا يصح أن تكون مرادة هنا ، وأنه لا بد من تقدير في الكلام ، ثم وازنا بين النزول ، والخلق من غير أب ، وإحياء الموتى ، فلا شك أننا نجد الخلق من غير أب أقرب هذه الثلاثة إلى الذات ، لأنه راجع إلى إنشائه وتكوينه لا إلى شيء عارض له ، وحينئذ يتعين الحمل عليه ويكون معنى الآية الكريمة : (لا تشكّوا في الساعة ، فإن الذي قدر على خلق عيسى عن غير أب قادر عليها).

وبهذا يتبين :

أولا : أن الإخبار بنزول عيسى لا يصلح دليلا على الساعة يقتلع به ما في نفوس المنكرين لها من شك ويصح أن يقال عقبه : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) [الزّخرف : ٦١].

٢٩

وثانيا : أن جعل عيسى بنزوله آخر الزمان علامة من علامات الساعة لا يستقيم هنا ، لأن الحديث مع قوم منكرين للساعة فهم بحاجة إلى دليل عليها ، لا مع قوم مؤمنين بها حتى تذكر لهم علاماتها.

وثالثا : أن أقرب ما تحمل عليه الآية هو المعنى الثاني الذي بيّنّا.

* * *

أما بعد فهذه هي الآيات التي أوردوها في شأن عيسى من رفعه أو نزوله. ولا شك أن القارئ المنصف بعد عرضها على هذا النحو وتطبيقها على المبادئ التي ذكرنا لا يخامره شك في أنه (ليس في القرآن الكريم ما يفيد بظاهره غلبة ظن بنزول عيسى أو رفعه فضلا عما يفيد القطع الذي يكوّن العقيدة ، ويكفّر منكره كما يزعمون).

النظرة الثانية في الأحاديث :

والنظرة الثانية فيما ساقوا من أحاديث :

وموجز ما نقول فيها : أنها لا تخرج عن كونها أحاديث آحاد ، وأحاديث الآحاد مهما صحت لا تفيد يقينا يثبت عقيدة يكفر منكرها.

وإنه ليؤسفني أن أرى قوما تظاهروا بالانتساب إلى الدين والغيرة على أحاديث الرسول استباحوا لأنفسهم ـ في سبيل أغراضهم الدّنيا ـ أن يصطنعوا كل أساليب التلبيس والتمويه في شأن أحاديث عيسى التي لا يمكن أن يكون منها متواتر حتى على أوسع الآراء في تحققه ، وهي مع آحاديتها يكثر ويشتد في معظمها ضعف الرواة واضطراب المتون ونكارة المعاني ، فتراهم يقولون هي متواترة قد رواها فلان وفلان من الصحابة والتابعين ، وذكرت في كتاب كذا وكتاب كذا من كتب المتقدمين ، فإذا رأوا في بعضها ضعفا أو اضطرابا أو نكارة حاولوا التخلص من ذلك فقالوا : إن الضعيف فيها منجبر بالقوي ، وإن العدالة لا تشترط في رواة المتواتر. وهكذا يخلعون عليها ثوبا مهلهلا من القداسة لا رغبة في علم ولا غيرة على حق ، ولكن مكابرة وعنادا ، وإصرارا على التضليل ، وليقال على ألسنة العامة وأشباه العامة إنهم حفّاظ وإنهم محدثون!

* * *

٣٠

بقي بعد هذا أمر لا بد من تقريره : وهو أن تلك الأحاديث كيفما كانت ليست من قبيل المحكم الذي لا يحتمل التأويل حتى تكون قطعية الدلالة ، فقد تناولتها أفهام العلماء قديما وحديثا ولم يجدوا مانعا من تأويلها : وقد جاء في شرح المقاصد بعد أن قرر مؤلفها أن جميع أحاديث أشراط الساعة آحادية ما نصه : ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة ... وأوّل بعض العلماء النار الخارجة من الحجاز بالعلم والهداية سيما الفقه الحجازي ، والنار الحاشرة للناس بفتنة الأتراك ، وفتنة الدجال بظهور الشر والفساد ، ونزول عيسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم باندفاع ذلك وبدوّ الخير والصلاح .. الخ».

ومن ذلك نرى أن السعد ـ صاحب المقاصد ـ لا يقرر وجوب حملها على ظواهرها حتى تكون من قطعي الدلالة الذي يمتنع تأويله ، وإنما يقرر بصريح العبارة «أنه لا مانع من حملها على ظواهرها» فيعطي بذلك حق التأويل لمن انقدح في قلبه سبب للتأويل. ثم يحدث عن بعض العلماء أنهم سلكوا سبيل التأويل في هذه الأحاديث فعلا ، ويبين المعنى الذي حملوها عليه ، ولا شك أن هذا لم يكن منه إلا لأنه يعتقد ـ كما يعتقد سائر العلماء الذين يعرفون الفرق بين ما يقبل التأويل وما لا يقبله ـ أن ما تدل عليه ألفاظ تلك الأحاديث ليس عقيدة يجب الإيمان بها فمن أدّاه نظره إلى أن يؤمن بظاهرها فله ذلك ، ومن أدّاه نظره إلى تأويلها فله ذلك شأن كل ظني في دلالته.

ومما تقدم يتبين جليا «أنه ليس في الأحاديث التي أوردوها في شأن نزول عيسى آخر الزمان قطعية ما ، لا من ناحية ورودها ولا من ناحية دلالتها».

النظرة الثالثة في الإجماع :

بقي أن ننظر النظرة الثالثة فيما زعموا من إجماع في هذا المقام.

وأحب أن أشير هنا إلى أن «الإجماع» الذي اشتهر بين الناس أنه أصل من أصول التشريع في الإسلام قد اختلفت فيه المذاهب والآراء اختلافا بعيدا :

اختلفوا في حقيقته ، واختلفوا في إمكانه ، وتصور وقوعه.

ثم اختلفوا في حجيته. الخ مما يتبين لنا به أن حجيّة الإجماع في ذاتها غير معلومة بدليل قطعي فضلا عن أن يكون الحكم الذي أثبت به معلوما بدليل قطعي فيكفر منكره.

٣١

ثم نقول : إن الذين ذهبوا إلى حجية الإجماع لم يتفقوا على شيء يحتج به فيه سوى الأحكام الشرعية العملية ، أما الحسيات المستقبلة من أشراط الساعة وأمور الآخرة فقد قالوا : «إن الإجماع عليها لا يعتبر من حيث هو إجماع لأن المجمعين لا يعلمون الغيب ، بل يعتبر من حيث هو منقول عمن يطلعه الله على الغيب ، فهو راجع إلى الإخبارات فيأخذ حكمها ، وليس من الإجماع المخصوص بأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الحسي المستقبل لا مدخل للاجتهاد فيه ، فإن ورد به نص فهو ثابت به ولا احتياج إلى الإجماع ، وإن لم يرد به نص فلا مساغ للاجتهاد فيه» (١) وعلى هذا تخضع جميع الأخبار التي تتحدث عن أشراط الساعة ومن بينها نزول عيسى إلى مبدأ قطعية النصوص وظنيها في الورود والدلالة.

خلاف قديم وحديث في المسألة :

وعلى فرض أن أشراط الساعة مما يخضع للإجماع الذي اصطلحوا عليه نقول :

إن نزول عيسى قد استقرّ فيه الخلاف قديما وحديثا :

أما قديما فقد نصّ على ذلك ابن حزم في كتابه «مراتب الإجماع» حيث يقول : «واتفقوا على أنه لا نبي مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بعده أبدا ، إلا أنهم اختلفوا في عيسى عليه‌السلام : أيأتي قبل يوم القيامة أم لا؟ وهو عيسى ابن مريم المبعوث إلى بني إسرائيل قبل مبعث محمد عليه‌السلام» ، كما نصّ عليه أيضا القاضي عياض في شرح مسلم ، والسعد في شرح المقاصد ، وقد سقنا عباراته قريبا وهي واضحة جلية في أن المسألة ظنية في ورودها ودلالتها!

وأما حديثا فقد قرر ذلك كل من الأستاذين المغفور لهم : الشيخ محمد عبده والسيد رشيد رضا ، والأستاذ الأكبر الشيخ المراغي.

فالشيخ محمد عبده رضي الله عنه يذكر وهو بصدد تفسير آية آل عمران : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] «أن للعلماء هنا طريقتين : إحداهما وهي المشهورة أنه رفع بجسمه حيّا وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله تعالى ... والطريقة الثانية أن الآية على ظاهرها ، وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر منه وهو الإماتة العادية وأن الرفع يكون بعده وهو

__________________

(١) التحرير.

٣٢

رفع الروح ... الخ» ثم يذكر «أن لأهل هذه الطريقة في أحاديث الرفع والنزول تخريجين : أحدهما أنها آحاد تتعلق بأمر اعتقادي ، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي وليس في الباب حديث متواتر ، وثانيهما تأويل النزول» بنحو ما سبق نقله عن شرح المقاصد (١).

وقد ورد على المغفور له السيد رشيد رضا سؤال من «تونس» وفيه «ما حالة سيدنا عيسى الآن؟ وأين جسمه من روحه؟ وما قولكم في الآية : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ) [آل عمران : ٥٥] وإن كان حيا يرزق كما كان في الدنيا فمم يأتيه الغذاء الذي يحتاج إليه كل جسم حيواني كما هي سنّة الله في خلقه؟» فأجابه السيد رشيد إجابة مفصّلة عما سأل عنه نقتطف منها ما يأتي :

قال بعد أن عرض للآيات وآراء المفسرين فيها «وجملة القول إنه ليس في القرآن نص صريح في أن عيسى رفع بروحه وجسده إلى السماء حيّا حياة دنيوية بهما بحيث يحتاج بحسب سنن الله تعالى إلى غذاء فيتوجه سؤال السائل عن غذائه ، وليس فيه نص صريح بأنه ينزل من السماء وإنما هي عقيدة أكثر النصارى ، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام بثها في المسلمين» ثم تكلم عن الأحاديث وقال : «إن هذه المسألة من المسائل الخلافية حتى بين المنقول عنهم رفع المسيح بروحه وجسده إلى السماء» (٢).

أما المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي فقد كتب بمناسبة السؤال الذي رفع إليه وكان سببا في فتوانا ، إجابة جاء فيها : «ليس في القرآن الكريم نص صريح قاطع على أن عيسى عليه‌السلام رفع بجسمه وروحه ، وعلى أنه حي الآن بجسمه وروحه. وقول الله سبحانه : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] الظاهر منه أنه توفاه وأماته ثم رفعه ، والظاهر من الرفع بعد الوفاة أنه رفع درجات عند الله كما قال في إدريس عليه‌السلام : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧)) [مريم : ٥٧] وهذا الظاهر ذهب إليه بعض

__________________

(١) الجزء الثالث من تفسير المنار.

(٢) الجزء العاشر من المجلد الثامن والعشرين للمنار.

٣٣

علماء المسلمين فهو عند هؤلاء توفاه الله وفاة عادية ثم رفع درجاته عنده ، فهو حي حياة روحية كحياة الشهداء وحياة غيره من الأنبياء. لكن جمهور العلماء على أنه رفعه بجسمه وروحه فهو حي الآن بجسمه وروحه ، وفسروا الآية بهذا بناء على أحاديث وردت كان لها عندهم المقام الذي يسوغ تفسير القرآن بها» ثم قال : «لكن هذه الأحاديث لم تبلغ درجة الأحاديث المتواترة التي توجب على المسلم عقيدة ، والعقيدة لا تجب إلا بنص من القرآن أو بحديث متواتر» ثم قال : وعلى ذلك فلا يجب على المسلم أن يعتقد أن عيسى عليه‌السلام حي بجسمه وبروحه ، والذي يخالف في ذلك لا يعد كافرا في نظر الشريعة الإسلامية».

هذه نصوص صحيحة يقرر بها هؤلاء العلماء قديما وحديثا أن مسألة عيسى مسألة خلافية ، وأن الآيات المتصلة بها ظاهرة في موته عليه‌السلام موتا عاديا ، وأن الأحاديث الواردة فيها أحاديث آحاد لا تثبت عقيدة ، وهي مع هذا تحتمل التأويل وأنه لا يكفر المسلم بإنكار رفع المسيح أو نزوله ، فأين مع هذا كله ما يدعونه من إجماع (١)؟!

انتهت فتوى الشيخ محمود شلتوت

__________________

(١) من المهم مراجعة ما كتبناه عن ثبوت العقيدة بالقرآن والسنة والإجماع في فصل «طريق ثبوت العقيدة» من كتابنا «الإسلام عقيدة وشريعة».

٣٤

مجمل ما تضمنته فتوى الشيخ

محمود شلتوت من آراء

تضمنت :

١ ـ أنّ توفية الله لسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران : ٥٥] توفية موت وانتهاء حياة.

٢ ـ أنّ رفع سيدنا عيسى عليه‌السلام (وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] معناه رفع المكانة لا رفع الجسد إلى السماء.

٣ ـ أنّ الأحاديث الواردة في رفع سيدنا عيسى عليه‌السلام إلى السماء : (روايات مضطربة ، مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافا لا مجال فيه للجمع بينها ، وقد نصّ على ذلك علماء الحديث ، وهي فوق ذلك : من رواية وهب بن منبّه ، وكعب الأحبار ، وهما من أهل الكتاب ...).

٤ ـ أنّ علماء المسلمين القائلين بالرفع الذاتي لسيدنا عيسى عليه‌السلام : (اعتمدوا على حديث مرويّ عن أبي هريرة ، اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى ، وإذا صحّ هذا الحديث فهو حديث آحاد ، وقد أجمع العلماء على أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ، ولا يصحّ الاعتماد عليها في شأن المغيّبات).

٥ ـ أنهم اعتمدوا (على ما جاء في حديث المعراج من أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حينما صعد إلى السماء ، وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة ، فتفتح له ويدخل ، رأى عيسى عليه‌السلام هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المستند ما قرّره كثير من شرّاح الحديث في شأن المعراج ، وفي شأن اجتماع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأنبياء ، وأنه كان اجتماعا روحيّا لا جسمانيّا).

٦ ـ أنّ الإجماع في الشريعة الإسلامية غير واقع ولا حاصل ...

٧ ـ أنّ (إجماع العلماء على أنّ أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ، ولا يصحّ الاعتماد عليها في شأن المغيّبات).

٨ ـ وغير هذا من التناقض والتهاتر والآراء الزائفة ...

وإليك من بعد هذا

كتاب الإمام الكوثري ردا على هذه الفتوى

٣٥
٣٦

نظرة عابرة

في مزاعم من ينكر نزول عيسى عليه‌السلام قبل الآخرة

وهو كتاب الإمام الكوثري

ردّا على فتوى الشيخ محمود شلتوت

التي وردت في الصفحات السابقة

٣٧
٣٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد فإن مما يحزّ في نفس كل غيور على الدين الإسلامي أن يرى من تغدق عليه الأمة كلّ خير ، ليقوم بحراسة الدين وجمع كلمة المسلمين ، يسعى بكل ما أوتي من قوة البيان ، في التشكيك فيما توارثته الأمة في المسائل الاعتقادية والعملية والخلقية من صدر الإسلام إلى اليوم ، وتشتيت كلمتهم بمفاجأتهم بما يدعهم حيارى بين الأخذ بالجديد والاستمرار على القديم ، متهامسين فيما بينهم بما لا يرضي الله ورسوله.

وهو يحسب أنه في سبيل التجديد ، ظنا منه أن كلّ تجديد يرفع شأن الأمة ، مع أن التجديد النافع هو اكتشاف أمور جديدة من أسرار الكون واستخدامها في مرافق الحياة ، وإصلاح شئون المجتمع بإزالة أسباب الانحلال الخلقي والتذبذب الديني.

وهذا هو الذي يعلي شأن الأمة حقا ، ويغنيها عن أن تكون عالة على أمة سوى نفسها ، فيجعلها تقطع شوطا بعيدا في سبيل استعادة مجد الأجداد ، فلا تجد من يعاكس مثل هذا النهوض ، بل يلقى كلّ تشجيع وتقدير وثناء في كل ناد. وأما مساس دين الأمة والأحكام العملية والاعتقادية المستقرة من صدر الإسلام إلى اليوم ، بتحوير وتغيير ، باسم الإصلاح أو التجديد بين حين وآخر ، فلا يكون وسيلة خير أصلا.

وكتاب الله محفوظ كما أنزل ، وسنّة رسوله محوطة بسياج من عناية الحفّاظ في كل قرن ، ومسائل الوفاق والخلاف مدوّنة في كتب خالدة في جميع الطبقات ، لا يحوج شيء إلى شيء ، غير بعض عناية بالاطّلاع ، وهكذا جميع العلوم المتصلة بالقرآن الحكيم.

فدين يكون كتابه ، وسنّة رسوله ، ومسائله ، ومؤلّفاته كما وصفناه لا يحتاج إلى «لوثرية» ، ومن ظنّ خلاف هذا فقد جهل تاريخ دين الإسلام وتاريخ الدين النصراني ،

٣٩

وأساء المقارنة بينهما ، وليس التلاعب بالمعتقد والأحكام العملية مما يرفع رأس الأمة عاليا ، بل ينكّس رأسها ، ويجعلها تذوق مرارة الانحلال في الاعتقاد والعمل والخلق.

فليعمل دعاة التجديد في الدين (معروفا) مع أنفسهم ، ومع الأمة ، وليقلعوا عن المساس بأحكام الدين ، وكفاهم أن يتوسّعوا في العلوم الإسلامية ، ويحافظوا على التراث كما هو ، غير ملموس بالتحوير والتغيير ، فينالون بذلك كلّ الثناء وكلّ الشكر.

وليس الدين مما يبدّل كل يوم ، وإن أبوا إلا تبديل الشّعار ، وتغيير الأحكام العملية والاعتقادية ، بشتى الوسائل ، تبعا لأهواء المتهوّسين ، فلا تتأخّر عنهم نقمة الله ومقت المسلمين.

وقد سبق أن تطاول بعض المشايخ على كثير من الأسس القويمة قبل عام (١) فردّ عليه أهل العلم بما يرجع الحقّ إلى نصابه ، والآن يعيد الكرّة! ويصرّ على إنكار رفع عيسى عليه‌السلام حيّا ونزوله في آخر الزمان ، على خلاف معتقد المسلمين ، بمقالات ينشرها في مجلة الرسالة ، يزداد فيها بعدا عن الجادة ، وعن أسس العلم ، وتشكيكا للعامة في العمل والاعتقاد.

ولا أدري أيّ حاجة كانت تدعوه إلى ذلك الإنكار ، أم أيّ فائدة كان يتصور أن تجنيها الأمة من وراء جنايته على اعتقادهم؟! فإن كانت بيّت مخالفتهم رغم قيام الأدلة ضدّ رأيه ، كان في إمكانه الإسرار بفتياه إلى المستفتي كما فعل شيخه (٢) ، وأما بعد أن جاهر بها وأعلن وأصرّ واستكبر ، فلا نوعد أن نبقى في عداد الشياطين الخرس عن إبطال الباطل ، فنردّ في فصول على تلبيساته وتشكيكاته بإذن الله سبحانه ، وهو ولي التوفيق.

__________________

(١) هو الشيخ محمود شلتوت ، المردود عليه بهذا الكتاب ، فقد كتب أكثر من مقال في مجلة الرسالة بعنوان (شخصيات الرسول) ، خلط فيه وبلط! فردّ عليه الإمام الشيخ الخضر حسين ، شيخ الأزهر فيما بعد ، وغيره من العلماء ، فيشير الإمام الكوثري هنا إلى مزالق الشيخ شلتوت في تلك المقالات وأمثالها.

(٢) هو الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر آنذاك.

٤٠