العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

التقليد الأعمى ، ولو فكر قليلا لكان أدرك أن من السخف بمكان وضعه لشيخه في إحدى كفتي الميزان ليوازن به جميع العلماء والفقهاء من هذه الأمة في كفته الأخرى فيزنهم ويغالبهم به فيغلبهم في علومهم! وهذا ما لا يصدر من حاظ بعقله ، ولا سيما بعد التفكير في تلك المخازي من شواذه. نعم يمكن أن يكون عنده أو عند شيخه بعض تفوق في بعض العلوم على بعض مشايخ حارته أو أهل خطه أو قريته أو مضرب خيام عشيرته ، لكن لا يوجب هذا أن يصدق في ظنه في حق نفسه أن جو هذه الأرض يضيق عن واسع فهومه ، وعرض هذه البحار لا يتسع لزاخر علومه.

أخطر ما يطغى من صنوف الاستغناء

ومن الآفات المردية التي تعتري الإنسان وتقذف به إلى هاوية الخسران طغيانه حينما يرى نفسه على شيء من الاستغناء بمال أو جاه أو علم ، لكن المال عرض زائل ، والجاه الدنيوي قلما يدوم على حال ، وعلم الإنسان مهما اتسع فما أوتي من العلم إلا قليلا ، وتلك الخلال لو روعيت حدودها لكانت أكبر عون للمرء على إحراز مرضاة الله سبحانه ، وأما إذا اتخذها أداة طغيان فإذ ذاك تنقلب تلك النعم مجلبة لسخط الله عزوجل ومقت الخلق ، فيصبح ذلك الطاغي من الأخسرين أعمالا في الدارين ، وليعلم أن ضرر العلم ـ إذا زاغ صاحبه ـ دونه كل ضرر ، فإن الطاغي بالمال يزول ضرره بزوال ماله ، كصاحب الجاه الذي لا يدوم جاهه ، وأما صاحب العلم الذي لعب به الشيطان وخلّد كتبا فيما طغى به فهمه وطاش قلمه ، فيدوم ضرره ويتضاعف وزره ما دامت آثاره دارجة يضل بها أناس ، فإذا هي أخطر تلك الآفات ، ولا يخفف عن مؤلفها العذاب إلا بإعراض الناس عن كتبه المغوية بتنبيه أهل العلم المهتدين على ما حوته من صنوف الزيغ والضلال ، فيكون في الكشف عن مواطن الغواية من أمثال تلك الكتب تخفيف لعذاب مؤلفيها ، وصون للأمة عن الوقوع في مهاويها. وقد عنى الموفقون من علماء هذه الأمة بنقض أمثال تلك الكتب لتلك الغاية النبيلة قديما وحديثا ومن هلك بعد ذلك فلا يلومن إلا نفسه.

ردود السبكي على ابن تيمية

والكلام في رده على نونية ابن القيم

وللحافظ التقي السبكي فضل مشكور وعمل مبرور في الرد على ابن زفيل وشيخه في شواذهما المردية ، ومن جملة مؤلفاته في هذا الصدد «رده على نونية ابن القيم» وقد نقل السيد محمد المرتضى الزبيدي في شرح الإحياء عند الكلام على

٤٢١

إمامي أهل السنة عن هذا الرد المسمى «السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل» جملة نافعة من مقدمته. والتقي السبكي أوجز في رده مكتفيا بلفت النظر إلى كلمات الناظم الخطرة في الغالب بدون أن يناقشه فيها كثيرا ، باعتبار أن الاطلاع عليها يكفي بمجرده في نبذها وتضليل قائلها ، ولو كان السبكي يرى ابن القيم يستأهل المناقشة لأوسع في الرد عليه ، لأنه كان أنظر أهل عصره ـ كما قال الإسنوي وغيره من المحققين ـ لكنه كان يعده في غاية من الغباوة فاكتفى في غالب الأبحاث بلفت نظر عامة العلماء إلى أهوائه البشعة ، والتقي السبكي من ألطف أهل العلم لهجة وأنزههم لسانا مع من يرد عليهم. لكن حيث إن الناظم أسرف في ضلاله وإضلاله اضطر التقي في رده عليه إلى بعض إغلاظ في حقه صونا لمن عسى أن يندع بتلبيساته ، وقرعا للعبد بالعصا ، وهو معذور في ذلك بل إغلاظه ليس بشيء في جنب ما تقول به ابن القيم في حق جمهور أهل الحق.

ودونك نونيته التي ردّ عليها السبكي وهي أصدق شاهد لما قلنا.

ونونية ابن القيم هذه من أبشع كتبه وأبعدها غورا في الضلال وأشنعها إغراء للحشوية ضد أهل السنة ، وأوقحها في الكذب على العلماء كما ترى إيضاح ذلك في مقدمة «السيف الصقيل» فلا نزاحم السبكي في شرح بشاعة طريقته فيها إلا أنا نشير هنا إلى أن ابن القيم كلما تراه يزداد تهويلا وصراخا باسم السنة في كتابه هذا يجب أن تعلم أنه في تلك الحالة متلبس بجريمة خداع خبيث وأنه في تلك الحالة نفسها في صدد تلبيس ودس شنيعين ، وإنما تلك التهويلات منه لتخدير العقول عن الانتباه لما يريد أن يدسه في غضون كلامه من بدعه المخزية كما يظهر من مطالعة النونية بتبصر ويقظة.

وإنما اختار طريق النظم في ذلك ليسهل عليه أن يهيم في كل واد ، ولو لا أنها طبعت مرارا وتكرارا ممن لا بغية له من طبعها غير عدد من القرش يملأ به الكرش. قام بذلك الدين أم قعد ، بدون أن يقوم أحد من العلماء المعاصرين بالرد عليها ، لكان إهمال الرد عليها أنسب ، لكن لم يبق بعد تكرر طبعها مع تقاعس أهل العلم عن ردها مساغ للإهمال ، فوجب تقويض دعائهما بنشر كتاب السبكي مع تعليق كلمات عليه في مواضع رأيناها في حاجة إلى التعليق ، وقد سميت ما علقته «تكملة الرد على نونية ابن القيم».

والله سبحانه ولي النفع وعليه توكلت وإليه أنيب ..

محمد زاهد بن الحسن الكوثري

عفا عنهما

٤٢٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة الكتاب للمؤلف

قال الإمام الحجة أبو الحسن علي بن عبد الكافي السبكي رضي الله عنه :

يا عالما بكل شيء ، قادرا على كل شيء ، ارحم عبدا جاهلا بكل شيء ، عاجزا عن كل شيء ، خلق ضعيفا تنتوشه الآفات من جميع الجهات ويستغرقه احتياجه على ممر الأنفاس واللحظات ، مدته في الدنيا قصيرة لو صرفها كلها في طاعة ربه ، وعلم نافع به سلامة قلبه كان موفقا يقتصر على خويصة نفسه وهذا يحتاج إلى مدد إلهي في دنياه في صحة جسمه وكفايته وكفاية من يتعلق به في القوت وما يتعلق به ودفع الأذى عنه ، وفي دينه بسلامة قلبه من العقائد الفاسدة ، وإقباله على الله تعالى وسلامة جوارحه من المعاصي وقيامها بما افترض الله عليها ، وسلامته في قلبه وجسمه من شياطين الإنس والجن ونفسه وهواه وفي علمه فلا يشتغل من العلوم إلا بما ينفع وهو القرآن والسنة والفقه وأصول الفقه والنحو ويأخذها عن شيخ سالم العقيدة ويتجنب علم الكلام والحكمة اليونانية ، والاجتماع بمن هو فاسد العقيدة أو النظر في كلامه.

وليس على العقائد أضر من شيئين : علم الكلام والحكمة اليونانية ، وهما في الحقيقة علم واحد ، وهو العلم الإلهي لكن اليونان طلبوه بمجرد عقولهم ، والمتكلمون طلبوه بالعقل والنقل معا وافترقوا ثلاث فرق إحداها غلب عليها جانب العقل وهم المعتزلة (١) والثانية غلب عليها جانب النقل

__________________

قول أبي الحسن الطرائفي في المعتزلة :

(١) وعنهم يقول أبو الحسين محمد بن أحمد الطرائفي الشافعي المتوفى سنة ٣٧٧ ه‍ في كتاب الرد على أهل الأهواء والبدع : «وهم أرباب أنواع الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم ، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل والمنصفون في مناظرة الخصوم ، وهم عشرون فرقة يجتمعون على أصل واحد لا يفارقونه وعليه يتولون وبه يتعادون وإنما اختلفوا في الفروع وهم سمّوا أنفسهم معتزلة ، وذلك عند ما بايع الحسن بن علي

٤٢٣

وهم الحشوية (١) والثالثة ما غلب عليها أحدهما بل بقي الأمران مرعيين عندها على حد سواء وهم الأشعرية وجميع الفرق الثلاث في كلامها مخاطرة إما خطأ في بعضه وإما سقوط هيبة ، والسالم من ذلك كله ما كان عليه الصحابة والتابعون وعموم الناس

__________________

ـ عليه‌السلام معاوية وسلّم إليه الأمر اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس ـ وذلك أنهم كانوا من أصحاب علي ـ ولزموا منازلهم ومساجدهم ، وقالوا نشتغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك معتزلة» اه ثم ذكر أئمتهم من البصريين والبغداديين وسرد بعض آرائهم في عدة أوراق. وهو من محفوظات الظاهرية بدمشق تحت رقم ٥٩ في التوحيد ولتقديمهم فضل الدفاع عن الدين الإسلامي والرد على الزنادقة والنصارى واليهود ، لكن تحكيمهم للعقل وكثرة احتكاكهم بفرق الزيغ أديا بكثير منهم ولا سيما المتأخرين إلى صنوف من البدع الرديئة كما أشرت إلى ذلك في مقدمة ما كتبته على «تبيين كذب المفتري».

(١) ومنهم أصناف المشبهة والمجسمة ، وسبب تسميتهم حشوية أن طائفة منهم حضروا مجلس الحسن البصري بالبصرة وتكلموا بالسقط عنده فقال : ردوا هؤلاء إلى حشا الحلقة ـ أي جانبها ـ فتسامع الناس ذلك وسموهم الحشوية بفتح الشين ، ويصح إسكانها ـ لقولهم بالتجسيم لأن الجسم محشو ـ راجع شفاء الغليل للشهاب الخفاجي ، وذيل لب اللباب في تحرير الأنساب للشيخ المحدث أبي العباس أحمد العجمي ، ومقدمة ما كتبنا ، على تبيين كذب المفتري. والحشوية هم الذين حادوا عن التنزيه وتقوّلوا في الله بأفهامهم المعوجة وأوهامهم الممجوجة ، وهم مهما تظاهروا باتباع السلف إنما يتابعون السلف الطالح دون السلف الصالح ولا سبيل إلى استنكار ما كان عليه السلف الصالح من إجراء ما ورد في الكتاب والسنة المشهورة في صفات الله سبحانه على اللسان ، مع القول بتنزيه الله سبحانه تنزيها عاما بموجب قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشّورى : ١١] بدون خوض في المعنى ولا زيادة على الوارد ولا إبدال ما ورد بما لم يرد. وفي ذلك تأويل إجمالي بصرف الوارد في ذات الله سبحانه عن سمات الحدوث من غير تعيين المراد وهم لم يخالفوا في أصل التنزيه الخلف الذين يعينون معنى موافقا للتنزيه بما يرشدهم إليه استعمالات العرب وأدلة المقام وقرائن الحال على أن الخلف يفوضون علم ما لم يظهر لهم وجهه كوضح الصبح إلى الله سبحانه.

فالخلاف بين الفريقين هين يسير وكلاهما منزّه ، وإنما السبيل على الذين يحملون تلك الألفاظ على المعاني المتعارفة بينهم عند إطلاقها على الخلق ويستبدلون بها ألفاظا يظنونها مرادفة لها ويستدلون بالمفاريد والمناكير والشواذ والموضوعات من الروايات. ويزيدون في الكتاب والسنة أشياء من عند أنفسهم ويجعلون الفعل الوارد صفة إلى نحو ذلك فهؤلاء يلزمون مقتضى كلامهم وهم الحشوية. فمن قال إنه استقر بذاته على العرش وينزل بذاته من العرش ، ويقعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على العرش معه في جنبه وإن كلامه القائم بذاته صوت وإن نزوله بالحركة والنقلة وبالذات وإن له ثقلا يثقل على حملة العرش ، وأنه متمكن بالسماء أو العرش ، وأن له جهة وحدا وغاية ومكانا ، وأن الحوادث تقوم به وأنه يماس العرش أو أحدا من خلقه ونحو ذلك من المخازي فلا نشك في زيغه وخروجه وبعده عما يجوز في الله سبحانه. وهذا مكشوف جدا فلا يمكن ستر مثل تلك المخازي بدعوى السلفية ، والذين يدينون بها هم الذين نستنكر عقائدهم ونستسخف أحلامهم ، ونذكرهم بأنهم نوابت حشوية.

٤٢٤

الباقون على الفطرة السليمة. ولهذا كان الشافعي رضي الله عنه ينهى عن الاشتغال بعلم الكلام ويأمر بالاشتغال بالفقه فهو طريق السلامة ، ولو بقي الناس على ما كانوا عليه في زمن الصحابة كان الأولى للعلماء تجنب النظر في علم الكلام جملة ، لكن حدثت بدع أوجبت للعلماء النظر فيه لمقاومة المبتدعين ودفع شبههم حذرا من أن تزيغ بها قلوب المهتدين.

الأشعرية أعدل الفرق

والفرقة الأشعرية هم المتوسطون في ذلك وهم الغالبون من الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة وسائر الناس.

وأما المعتزلة فكانت لهم دولة في أوائل المائة الثالثة ساعدهم بعض الخلفاء ثم انخذلوا وكفى الله شرهم.

وهاتان الطائفتان الأشعرية والمعتزلة هما المتقاومتان وهما فحولة المتكلمين من أهل الإسلام ، والأشعرية أعدلهما لأنها بنت أصولها على الكتاب والسنة والعقل الصحيح.

وأما الحكمة اليونانية فالناس مكفيون شرها ، لأن أهل الإسلام كلهم يعرفون فسادها ومجانبتها للإسلام.

وأما الحشوية فهي طائفة رذيلة جهال (١) ينتسبون إلى أحمد وأحمد مبرّأ منهم. وسبب نسبتهم إليه أنه قام في دفع المعتزلة وثبت في المحنة رضي الله عنه ، نقلت عنه كليمات ما فهمها هؤلاء الجهال فاعتقدوا هذا الاعتقاد السيئ وصار المتأخر منهم يتبع المتقدم ، إلا من عصمه الله وما زالوا من حين نبغوا مستذلين ليس لهم رأس ولا من يناظر وإنما كانت لهم في كل وقت ثورات ويتعلقون ببعض أتباع الدول ويكفي الله شرهم ، وما تعلقوا بأحد إلا كانت عاقبته إلى سوء وأفسدوا اعتقاد جماعة شذوذ من الشافعية (٢) وغيرهم ولا سيما بعض المحدثين الذين نقصت عقولهم أو غلب عليها من

__________________

(١) وهم طوائف كالكرامية والبربهارية والسالمية ولابن الجوزي كتاب (منهاج الوصول إلى علم الأصول) وكتاب (دفع شبه التشبيه بكف التنزيه) أجاد الرد عليهم فيهما ، وسبق أن نشر الثاني ، ومن جملة ما يقوله ابن الجوزي فيه :

فقد فضحوا ذاك الإمام بجهلهم

ومذهبه التنزيه لكن هم اختلوا

وهو بديع في بابه حجة على من سايرهم من الحنابلة.

(٢) على طول القرون لكن كفى شرهم نظار أهل الحق من الشافعية ولسنا في صدد سرد أسمائهم هنا ونشير عرضا إلى بعضهم فيما نعلق على هذا الكتاب.

٤٢٥

أضلهم فاعتقدوا أنهم يقولون بالحديث. ولقد كان أفضل المحدثين في زمانه بدمشق ابن عساكر (١) يمتنع من تحديثهم ولا يمكنهم أن يحضروا مجلسه وكان ذلك أيام نور الدين الشهيد وكانوا مستذلين غاية الذلة.

ثم جاء في أواخر المائة السابعة رجل له فضل ذكاء واطلاع ولم يجد شيخا يهديه وهو على مذهبهم وهو جسور متجرد لتقرير مذهبه ويجد أمورا بعيدة فبجسارته يلتزمها فقال بقيام الحوادث بذات الرب سبحانه وتعالى (٢) وأن الله سبحانه ما زال فاعلا وأن التسلسل ليس بمحال فيما مضى كما هو فيما سيأتي وشق العصا ، وشوش عقائد المسلمين وأغرى بينهم ولم يقتصر ضرره على العقائد في علم الكلام حتى تعدى وقال إن السفر لزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصية (٣) وقال إن الطلاق الثلاث لا يقع وإن

__________________

(١) وقد سبق أن نشر «تبيين كذب المفتري في الذبّ عن الأشعري» له مع مقدمة لنا عليه في بيان الحالة العامة عند البعثة النبوية ولمعة في نشأة الفرق وتعليقات على مواضع من الكتاب كنت كتبتها ففيها وفي الكتاب كثير مما يتعلق بالحشوية ، ولابن عساكر أيضا مجلس في إثبات التنزيه وآخر في نفي التشبيه ، وكتاب في (بيان وجوه التخليط في حديث الأطيط) وكتاب في (سرد الأسانيد في حديث يوم المزيد) يبين فيها وجوه الضعف في أحاديث الأطيط وروايات يوم المزيد.

(٢) اتفقت فرق المسلمين سوى الكرامية وصنوف المجسمة على أن الله سبحانه منزّه من أن تقوم به الحوادث وأن تحل به الحوادث وأن يحل في شيء من الحوادث بل ذلك مما علم من الدين بالضرورة ، ودعوى أن الله لم يزل فاعلا متابعة منه للفلاسفة القائلين بسلب الاختيار عن الله سبحانه ، وبصدور العالم منه بالإيجاب ، ونسبة ذلك إلى أحمد والبخاري وغيرهما من السلف كذب صريح وتقوّل قبيح ، ودعوى أن تسلسل الحوادث في جانب الماضي غير محال لا تصدر ممن يعي ما يقول فمن تصور حوادث لا أول لها تصور أنه ما من حادث محقق ، وأن ما دخل بالفعل تحت العد والإحصاء غير متناه ، وأما من قال بحوادث لا آخر لها فهو قائل بأن حوادث المستقبل لا تنتهي إلى حادث محقق إلا وبعده حادث مقدر ، فأين دعوى عدم تناهي ما دخل تحت الوجود في جانب الماضي من دعوى عدم تناهي ما لم يدخل تحت الوجود في المستقبل؟ على أن القول بالقدم النوعي في العالم من لازمه البين عدم تناهي عدد الأرواح المكلفة فأنى يمكن حشر غير المتناهي من الأرواح وأشباحها في سطح متناه محدود على هذا التقدير؟ فيكون القائل بعدم تناهي عدد المكلّفين قائلا بنفي الحشر الجسماني بل بنفي الحشر الروحاني أيضا حيث إن هذا القائل لا يعترف بتجرد الروح فيكون أسوأ حالا من غلاة الفلاسفة النافين للحشر الجسماني وفي شواذ ذلك الزائغ كتب خاصة ترد عليه في بدعه الأصلية والفرعية ، ولاستقصاء ذلك موضع آخر.

(٣) وضبطت فتواه بخطه بهذا المعنى وثبت ذلك ثبوتا شرعيا وشهد بذلك الإمام جلال الدين القزويني صاحب التلخيص والإيضاح وألّف قاضي قضاة المالكية تقي الدين أبو عبد الله محمد الإخنائي في الرد عليه (المقالة المرضية في الرد على من ينكر الزيارة المحمدية) كما ألّف في

٤٢٦

من حلف بطلاق امرأته وحنث لا يقع عليه طلاق. واتفق العلماء على حبسه الحبس الطويل فحبسه السلطان (١) ومنع من الكتابة في الحبس وأن يدخل إليه أحد بدواة ومات في الحبس. ثم حدث من أصحابه من يشيع عقائده ويعلم مسائله ويلقي ذلك إلى الناس سرا ويكتمه (٢) جهرا فعمّ الضرر بذلك حتى وقفت في هذا الزمان على قصيدة نحو ستة آلاف بيت يذكر ناظمها فيها عقائده وعقائد غيره ويزعم بجهله أن عقائده عقائد أهل الحديث (٣). فوجدت هذه القصيدة تصنيفا في علم الكلام الذي نهى العلماء عن النظر فيه لو كان حقا ، فكيف وهي تقرير للعقائد الباطلة وبوح بها وزيادة على ذلك وهي حمل العوام على تكفير كل من سواه وسوى طائفته فهذه ثلاثة أمور هي مجامع ما تضمنته هذه القصيدة.

فالأول من الثلاثة حرام لأن النهي عن علم الكلام إن كان نهي تنزيه فيما تدعو

__________________

ـ الرد عليه مؤلف شفاء السقام في تلك المسألة بل جمع الحافظ الصلاح العلائي طرق حديث الزيارة في الرد عليه أيضا بطلب ابن الفركاح ولم يستمر على مشايعته بعد ذلك إلا مكسرو الحشوية تحت الخفاء ، وكم استتيب وأخذ خطه بالتوبة ثم نقض مواثيقه. راجع (نجم المهتدي) و (دفع الشبه) و (الدرر الكامنة).

(١) الملك الناصر محمد بن قلاوون ولم يكن له عداء شخصي نحو ابن تيمية أصلا كما اعترف بذلك أشياع ابن تيمية لكن لما رأى توالى فتنه واتفق علماء المذاهب ضده ومعهم قاضي قضاة الحنابلة لم يسعه إلا أن يصدر مرسوما لأهل دمشق ومرسوما لسائر البلدان أسوة بما أصدره بمصر ضد هذا الزائغ. ونصوص تلك المراسيم مدوّنة في (نجم المهتدي) و (عيون التواريخ) و (دفع الشبه) بألفاظ متقاربة في المعنى وفي الاطلاع عليها عبرة بالغة. وقد تليت تلك المراسيم على المنابر نصحا للأمة وإفهاما لها أن ذلك الرجل مجسم زائغ اعتقادا وعملا فلا يجوز الاغترار به.

(٢) ويظهر من ذلك أن نونية ابن القيم لم تكن تذاع في ذلك العهد إلا سرا وكفى هذا سعيا بالفساد ولا يحسبن القارئ أن ابن القيم ربما يكون تاب وأناب عن هذه العقيدة الزائغة التي احتوتها تلك القصيدة فإنه يرى في ترجمته من طبقات الحنابلة لابن رجب أن ابن رجب سمعها من لفظ ابن القيم عام وفاته وهذا من الدليل على أنه استمر على هذا المعتقد الباطل إلى أواخر عمره. وعدد أبياتها ستة آلاف بيت إلا واحدا وخمسين بيتا.

(٣) وبيّن أهل الحديث من القدرية والخوارج وصنوف الشيعة والمجسمة من كرامية وبربهارية وسالمية رجال لا يحصيهم العد كما لا يخفى على من له إلمام بعلم الرجال فليس لهم عقيدة جامعة فيكون عزو عقيدة إلى جماعة الحديث مخادعة وتمويها على العقول ، فإن كان يريد تخصيص هذا الاسم بصنوف المجسمة فهذه التسمية إنما تكون تسمية ما أنزل الله بها من سلطان ، وإنما التعويل على أهل الحديث في روايتهم الحديث فقط فيما لا يتهمون به ، وأما علم أصول الدين فله أئمة معروفون وبراهين مدوّنة في كتبهم ، وأهل الحديث المبرءون من البدع يسيرون سيرهم.

٤٢٧

الحاجة إلى الرد على المبتدعة فيه فهو نهي تحريم فيما لا تدعو الحاجة إليه فكيف فيما هو باطل.

والثاني من الثلاثة : العلماء مختلفون في التكفير به إذا لم ينته إلى هذا الحد أما مع هذه المبالغة ففي بقاء الخلاف فيه نظر.

وأما الثالث فنحن نعلم بالقطع أن هؤلاء الطوائف الثلاثة الشافعية والمالكية والحنفية وموافقيهم من الحنابلة مسلمون ليسوا بكافرين ، فالقول بأن جميعهم كفار وحمل الناس على ذلك كيف لا يكون كفرا وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قال المسلم لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما». فالضرورة أوجبت العلم بأن بعض من كفرهم مسلم والحديث اقتضى أن يبوء بها أحدهما فيكون القائل هو الذي باء بها.

مجامع الزيغ في نونية ابن القيم

وها أنا أذكر مجامع ما تضمنته القصيدة ملخصا من غير نظم وناظمها (١) أقل من أن أذكر كلامه لكني تأسيت في ذلك بإمام الحرمين في كتابه المسمى بنقض كتاب السجزي ، والسجزي هذا كان محدثا له كتاب مترجم بمختصر البيان وجده إمام الحرمين حين جاور بمكة شرّفها الله ، اشتمل كتاب السجزي هذا على أمور منها أن القرآن حروف وأصوات. قال إمام الحرمين : وأبدى من غمرات جهله فصولا وسوى على قصبة سخافة عقله نصولا ، ومخايل الحمق في تضاعيفها مصقولة وبعثات الحقائق دونها معقولة. وقال إمام الحرمين أيضا : وهذا الجاهل الغر المتمادي في الجهل المصر ، يتطلع إلى الرتب الرفيعة بالدأب في المطاعن في الأئمة والوقيعة. وقال إمام الحرمين أيضا : صدر هذا الأحمق الباب بالمعهود من شتمه فأفّ له ولخرقه فقد والله سئمت البحث عن عواره وإبداء شناره. وقال الإمام أيضا : وقد كسا هذا التيس الأئمة صفاته. وقال الإمام أيضا : أبدى هذا الأحمق كلاما ينقض آخره أوله في الصفات وما ينبغي لمثله أن يتكلم في صفات الله تعالى على جهله وسخافة عقله. وقال الإمام أيضا : قد ذكر هذا اللعين الطريد المهين الشريد ، فصولا وزعم أن الأشعرية يكفرون

__________________

(١) وهو ابن زفيل الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية كان بمتناول يده من كتب الفرق التي كانت دمشق امتلأت بها بعد نكبة بغداد ونكبة البلاد الشرقية باستيلاء المغول عليها ما يزداد به غواية إلى غوايته وقد حشر في مؤلفاته ما لم يفهمه ولم يهضمه من أقوال ارباب النحل شأن من خاض في المسائل النظرية الخطرة من غير أستاذ رشيد فحصل في تفكيره ما يحصل في معذة الشره المتخوم فأصبحت مؤلفاته محشر الأقوال المتناقضة ولم ينخدع بها إلا من ظن أن العلم هو حشد المصطلحات من غير نظام يربط بعضها ببعض وبدون تمحيص الحق من الباطل.

٤٢٨

بها فعليه لعائن الله تترى ، واحدة بعد أخرى ، وما رأيت جاهلا أجسر على التكفير وأسرع إلى التحكم على الأئمة من هذا الأخرق ، وتكلم السجزي في النزول والانتقال والزوال والانفصال والذهاب والمجيء فقال الإمام : ومن قال بذلك حلّ دمه وتبرّم الإمام كثيرا من كلامه معه (١).

تأسي السبكي بإمام الحرمين

في الرد على بعض جهلة أهل الحديث

وها أنا أيضا أقتدي بالإمام في كلامي مع هذا الجاهل متبرما لكن خشية على عقائد العوام تكلمت.

والسجزي الذي ردّ عليه الإمام أعرف ترجمته محدث (٢) لا يصل ناظم هذه القصيدة إلى عشرة في الحديث ولكن الإنسان يضطر إلى الكلام مع الجهّال والمبتدعين صيانة لعقائد المسلمين وليت كلامي كان مع عالم أو مع زاهد أو متحفظ في دينه صين في عرضه قاصد للحق ولكنها بلوى نسأل الله حسن عاقبتها وبعد أن كنت قصدت الاقتصار على اختصار مجامعها عنّ لي هنا أن أستوعب كلماتها لأطفئ جمراتها.

__________________

(١) وعن هذا السجزي يقول أبو جعفر اللبلي الأندلسي في فهرسته : وكذلك اللعين المعروف بالسجزي فإنه تصدّى أيضا للوقوع في أعيان الأئمة وسرج الأمة بتأليف تالف وهو على قلة مقداره وكثرة عواره ينسب أئمة الحقائق وأحبار الأمة وبحور العلوم إلى التلبيس والمراوغة والتدليس وهذا الرذل الخسيس أحقر من أن يكترث به ذما ولا يضر البحر الخضم ولغة كلب.

ما يضر البحر أمسى زاخرا

أن رمى فيه غلام بحجر

فمما ذكر هذا المنافق الحائد بجهله عن الحقائق أن من ذهب الأشعرية أن النبوة عرض من الأعراض والعرض لا يبقى زمانين وإذا مات النبي زالت نبوته وانقطعت دعوته ، وهذه من جملة حكاياته وتقولاته المستبعدة اه وسيأتي الرد على هذا الهذيان. وقد وفاه اللبلي الكيل صاعا بصاع.

(٢) ومن الغريب أن السجزيين مهما علت منزلتهم في الرواية يقل بينهم جدا من يكون طاهر الذيل ناصع الجبين من فحش التشبيه ووصمة التجسيم كما لا يخفى على من بحث مؤلفاتهم بتبصر وأرى ذلك من عدوى مرض شيخ المجسمة أبي عبد الله محمد بن كرام السجزي الذي بتقشفه كان سحر ألباب أهل سجستان وتاريخه في غاية من الشهرة. وهذا السجزي هو أبو نصر الوائلي. مؤلف الإبانة المتوفى سنة ٤٤٤ وصاحبه السعد الزنجاني بمكة مثله في التشبيه مع أنهما ينتحلان مذهب الشافعي. ومن هذا الطراز الآجري صاحب كتاب الشريعة قبلهما ويرثي لحال من يميل إلى التشبيه مع جلالة مقداره في الحديث ونحن لا نعول على الرجل إلا في العلم الذي يتقنه دون سائر العلوم فكم بين أهل الحديث من هو أنزل منزلة من العامي في علم أصول الدين والفقه وكذلك سائر العلماء في غير علومهم.

٤٢٩

فصل

مناظرة خيالية بين المشبه والمنزه ... إلخ

قال : «جمع مجلس المذاكرة بين مثبت للصفات والعلو ومعطل» إلى أن قال : «من كلام المثبت أن كهيعص وحمعسق وق ون كلام الله حقيقة وأن الله تكلم بالقرآن العربي الذي سمعه الصحابة».

مراده بذلك أن كلام الله حرف وصوت وهذا الجاهل لا يفرق بين كلام الله واللفظ الدال عليه (١).

ثم قال : «ومن قال ليس لله في الأرض كلام فقد جحد رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» هذا الكلام يحتمل وجهين (٢) لا نطول بهما ، ثم قال : «إن الله فوق سماواته». يقول له : أين قال الله أو رسوله إنه فوق سماواته؟ وأنت قلت في صدر كلامك

__________________

(١) بل بين الكلام اللفظي والكلام النفسي وفي أوائل تفسير (روح المعاني) بسط لطيف في الكلام النفسي بحيث لا يدع شكا لمرتاب. وبعد أن انتهى الألوسي فيه من الكلام في الكلام النفسي قال : ومن أحاط بذلك اندفع عنه كل إشكال في هذا الباب ورأى أن تشنيع ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة (الموفق) وابن قاضي الجبل والطوفي (سليمان بن عبد القوي) وأبي نصر (السجزي) وأمثالهم صرير باب أو طنين ذباب ... وقد انحرفت أفكارهم واختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمة وأكابر الأئمة وبالغوا في التعنيف والتشنيع وتجاوزوا في التسخيف والتفظيع ولو لا الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعا بصاع ولتقدمت إليهم بما قدموا باعا بباع ولعلمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء ولعرفتهم إلام ينتهي المراء بلا مراء :

ولي فرس للحلم بالحلم ملجم

ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

فمن رام تقويمي فإني مقوّم

ومن رام تعويجي فإني معوج

على أن العفو أقرب للتقوى والإغضاء مبنى الفتوة وعليه الفتوى والسادة الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراما وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما اه.

(٢) لعله يريد وجود الكلام النفسي ووجود الكلام اللفظي فنفي وجود الثاني في الأرض نفي لوجود كتاب الله وشرعه في الأرض وهو كفر صراح ولا قائل بذلك من فرق المسلمين. وأما زعم وجود الكلام النفسي القائم بالله في الأرض فقول بالحلول كقول النصارى في الكلمة ، وقد كفر غير واحد من أئمة السنة ، السالمية على قولهم بأنه تعالى يقرأ على لسان كل قارئ ، تعالى الله عما يأفكون. وقد ذكرنا ما يتعلق بذلك بنوع من البسط فيما علقناه على التبيين وفي (لفت اللحظ إلى ما في الاختلاف في اللفظ).

٤٣٠

«نقول ما قاله ربنا» وأين قال ربنا : إنه بائن من خلقه. ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته ، فقد نسبت إلى قول الله ما لم يقله ، ومن هو المعطل الذي عنيته فإنا لا نعرف اليوم أحدا معطلا يتظاهر بين المسلمين بل ولا معتزليا ولا فيلسوفا يتظاهر بقول الفلاسفة (١) فلعلك عنيت الأشعرية فإنهم القائمون اليوم من أكثر المذاهب ثم قال (٢) : «فلما سمع المعطل منه ذلك أمسك ثم أسرها في نفسه وخلا بشياطينه وبنى جنسه وأوحى بعضهم إلى بعض أصناف المكر والاحتيال وراموا أمرا يستحمدون به إلى نظرائهم من أهل البدع والضلال وعقدوا مجلسا بيتوا فيه ما لا يرضاه الله من القول وراموا استدعاء المثبت ليجعلوا نزله ما لفقوه من الكذب وتمموه فلم يتجاسروا وخذلهم المطاع فمزق ما كتبوه من المحاضر ، فسعى في عقد مجلس عند السلطان فلم يذعنوا فطالبهم بإحدى ثلاث : مناظرة فأبوا ، فدعاهم إلى مكاتبة فأبوا ، فدعاهم إلى المباهلة (٣) بين الركن والمقام فلم يجيبوا فحينئذ عقد المثبت لله مجلسا بينه وبين خصمه وما كان أهل التعطيل أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون».

هذا كله مقصوده به والله أعلم طوائف الأشعرية الشافعية والمالكية والحنفية الذين كانوا مقاومين لابن تيمية فهم الذين يسميهم المعطلة ، وكان مراده بالمثبت ابن تيمية والعاقد للمجلس فيما بينه وبين خصمه إما ابن تيمية وإما هذا النحس المتشبع بما لم يعط.

__________________

(١) هذا بالنظر إلى عهد المؤلف ، فإن العلماء كانوا قائمين بواجبهم إذ ذاك يوقفون المبتدعة الذين يحاولون الاعتداء على حريم قدس الدين عند حدهم وما ألف في الرد على هذا الزائغ وشيخه من الكتب في ذلك العصر يعد بالعشرات فضلا عن باقي أهل الضلالة. وأما اليوم فقلّما تجد بين العلماء من يسهر على السنة النقية البيضاء والدين الحنيف فاتسع المجال لتمويه الضلال. وأدعو الله سبحانه أن يوقظ أهل الشأن من سباتهم العميق ويرشدهم إلى حراسة الشرع من اعتداء المعتدين.

(٢) مما اختص به ناظم القصيدة من بين دعاة الحشوية تصوير مناظرات في مسائل يدس في غضون كلام الطرفين ما يشاء من وسائل استدراج الضعفاء إلى ضلاله وهذه طريقة الأقدمين من أعداء الدين بعثها من مرقدها هذا الناظم ليصل إلى إضلالهم بطريقة روائية خيالية فمن مشى على الاستسلام له فيما يراه من مناظراته الخيالية في هذا الكتاب وفي شفاء العليل وأعلام الموقعين ونحوها فإنه معرّض للانحلال وسنكشف الستار عن وجوه تضليله وتدجيله بحول الله وتوفيقه.

(٣) راجع الآية ٦١ من سورة آل عمران.

٤٣١

فصل

أمثال مضروبة للمعطل والمشبه والموحد

قال : «وهذه أمثال حسان مضروبة للمعطل والمشبه والموحد».

مقصوده بالمعطل الجماعة الأشعرية ، وبالموحد نفسه وطائفته ، والمشبه لا وجود له عنده. ومقصود غرمائه بالمشبه هو وطائفته وبالموحد أنفسهم ، والمعطل لا وجود له الآن عندهم ، لأن المعطل هو المنكر للصانع ، والمشبه هو الذي شبهه بخلقه وهذا على ظاهره لا يوجد من يقول به لكن بما يلزم عنه ، ولا شك أن لزوم التشبيه له أظهر من لزوم التعطيل لغرمائه ، وإذا امتحن الإنسان نفسه قطع بأن الأشعري ليس بمعطل وأن هذا النحس مشبه ولا ينجيه إنكاره باللسان وقد اعترف على نفسه بأن من شبه الله بخلقه فقد كفر. واندفع في ضرب الأمثلة بما لا نطول به.

فصل

من قصيدته النونية

قال في قصيدته التي أهدت الجري إليه وفرقت سهام النبال عليه :

«إن كنت كاذبة الذي حدثتني

فعليك إثم الكاذب الفتان

جهم بن (١) صفوان وشيعته الألى

جحدوا صفات الخالق الديان

بل عطلوا منه السماوات العلى

والعرش أخلوه من الرّحمن»

أما جهم فمضى من سنين كثيرة ولا يعرف اليوم أحد على مذهبه فعلم أن مراد هذا الناظم بالجهمية الأشعرية من الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة فليعلم

__________________

(١) جهم بن صفوان زائغ باتفاق بين أهل السنة والمعتزلة ، يقول بنفي الخلود في الجنة وفي النار ، وتابعه ناظم القصيدة في شطر هذا المعتقد حيث يقول : لا خلود للكفار في النار تبعا لشيخه وهو كفر عند جمهور أهل الحق. وكان جهم منبوذا لم يبق بعد قتله من تابعه أصلا ومن يقال فيه من المتكلمين إنه جهمي من قبيل النبز بالألقاب ، وقد توسعت في بيان ذلك بعض توسع فيما علقته على الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة وليس بين المعتزلة فضلا عن الأشاعرة من ينفي أن الله سبحانه عالم قدير سميع بصير ... إلى آخر تلك الصفات الواردة في الكتاب والسنة المشهورة حتى يصح رميهم بجحد الصفات وجل الإله سبحانه من أن يكون له مكان يحويه فلا يقال إن السماء ظرف له ولا إن العرش مستقر ذاته فأين في كتاب الله مثل ذلك أو تفسير الاستواء بالاستقرار إنما هو قول مقاتل بن سليمان شيخ المجسمة وقول الكلبي الزائغ.

٤٣٢

اصطلاحه وكل ما ينسبه إلى الجهمية فمراده بها هؤلاء ، والمعتزلة يشاركون الأشعرية في ذلك لكن ما منهم أحد موجود في هذه البلاد وإن كان موجودا فلا ظهور له ، فكل ما قال هذا الناظم عن جهم في هذه القصيدة فمراده ، الذي مذهبه مذهب الأشعري.

فصل

تخيل الناظم في أفعال العباد ... الخ

قال :

والعبد عندهم فليس بفاعل

بل فعله كتحرك الرجفان

كذب هذا الجاهل في قوله : إن العبد عندهم ليس بفاعل. ولكن مراده بذلك قولهم : إنه لا يخلق فعله. وليس بخالق والله سبحانه هو خالق أفعال العباد ، فاعتقد هذا الجاهل (١) بسبب ذلك أنهم يقولون إنه ليس بفاعل. وكون العبد ليس بخالق حق ، وكونه ليس بفاعل باطل ، والفاعل من قام به الفعل والفعل قائم بذات العبد ، والخالق من أوجد الفعل ولا يوجده إلا الله. وقوله : كتحرك الرجفان جهل منه فإنه لم يفرق بين الجبر ومذهب الأشعري ثم قال :

والله يصليه على ما ليس من

أفعاله حر الحميم الآن

استمر هذا الجاهل على جهله وكذبه. وكذلك قوله : «ولكن يعاقبه على أفعاله» ثم قال : «والظلم عندهم المحال لذاته» نعم إن الله لا يظلم مثقال ذرة (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصّلت : ٤٦] وكيف يتصور الظلم والكل ملكه ثم قال : «أنى ينزه عنه ويكون

__________________

(١) أقل ما يقال في هذا الناظم أنه جاهل ، فإذا طالعت ما ذكره في شفاء العليل عن كسب العبد تجده ينقل عن نظامية إمام الحرمين قوله في أفعال العباد فيسايره إلى أبعد حد ثم يتراجع فيقع في أحط دركات الجبر ثم يقع في المعتزلة وقيعة لا مزيد عليها ثم تجده يسبقهم في التجرؤ. والحاصل أنه جمّاع لآراء الناس من غير أن يعقلها على وجوهها فيتخبط تخبط من به مس ، وهو يصور مناظرات خيالية بين سني وجبري وأخرى بين سني وقدر ، في شفاء العليل يدس في خلالها أمورا ينقض بعضها بعضا وذلك كله من سوء فهمه وضغطه لذهنه بشتى الأنظار التي هو غير مستأهل لتحقيقها وتمحيص الحق من بينها فتتشوه الحقائق في ذهنه وتكتسي أسمج الصور كما هو شأن ما ينعكس في المرايا المحدبة والمقعرة وشأن من اختلت بصيرته ، نسأل الله العافية.

٤٣٣

مدحا ذلك التنزيه» قلنا : يا جاهل اجترأت على الله وعلى عباده فلم تفرق بين الفعل والخلق وظننت بجهلك أنهما سواء وأنه لا يعاقب على فعله ، وقلت : «ما هذا بمعقول لذي الأذهان» وأي ذهن لك حتى تعقل به وأنت عن تعقّل أحكام الربوبية بمعزل؟ وهل مثلك ومثل من هو أكبر منك إلا كمثل الخفاش بالنسبة إلى ضوء النهار؟.

فصل

قال :

وكذاك قالوا ما له من حكمة (١)

هي غاية للأمر والإتقان

انظر هذه الجراءة والكذب والبهت على العلماء وما قال إنهم نسبوه إلى الله ثم قال :

«ما ثم غير مشيئة قد رجحت

مثلا على مثل بلا رجحان»

أبصر هذا الفدم البليد الفهم ساء سمعا فساء إجابة كأنه سمع كلام الأشعرية فما فهمه وظن أنهم يقولون إن الأفعال كلها سواء بالنسبة إلى كل شيء وإن المشيئة رجحت بعضها على بعض مع تساويها وإنه ما ثم غير المشيئة وجعل المشيئة هي المرجحة ولم يذكر القدرة والتبس عليه الرجحان الحاصل في الفعل بالرجحان الذي هو موجب للفعل أو باعث عليه ، ومن لا يكون اشتغل بشيء من العلوم كيف يتكلم في هذه الحقائق؟ ثم قال :

«هذا وما تلك المشيئة وصفه

بل ذاته أو فعله قولان»

__________________

(١) ولا قائل بذلك مطلقا بين فرق المسلمين ، الذين علموا من الدين بالضرورة أن الله عزيز حكيم ، وأما كون أفعال الله سبحانه غير معلّلة بالأغراض فليس من نفي الحكمة في شيء بل من قبيل التهيب والاحتراز من القول بأن هناك غرضا يحمل الله سبحانه على الفعل استحصالا لذلك الغرض الذي لا يحصل إلا بذلك الفعل. ولا يخفى أن هذا مما يجب الاحتراز منه لعدم ورود إطلاق مثل ذلك في الكتاب والسنة ولما في ذلك من الاستكمال بالغير. وأما قول محققي أهل الفقه بوجود حكم ، مصالح فيها ترجع إلى العباد سواء عقلناها أو لم نعقلها فليس فيه ما يوجب التهيب بل هو محض الصواب هذا عند القائلين بأن الله فاعل بالاختيار كما هو الحق وأما الذين يعدونه فاعلا بالإيجاب كالفلاسفة فلا يتصورون هناك لا غرضا ولا حكمة وليس المراد هنا بالوجوب الضرورة بشرط المحمول. ومن الغريب أن ابن القيم قائل بالإيجاب حتى تراه يدافع عن أن الحوادث لا أول لها ومع ذلك يرى أنها معللة بالأغراض وما هذا إلا تهاتر.

٤٣٤

ليتني ما شرعت في الكلام مع هذا ... ينبغي أن يطالب بالقولين على هذه الصورة وبالقول بأنه ما تلك المشيئة وصفه وإنما سمع كلاما إمام من كلامهم وإما من شيخه فما فهمه هو أو ما فهمه شيخه وعبّر عنه بهذه العبارة الرديئة ، وإن أراد بهذا البيت المعتزلة فقد خلط كلام المعتزلة بكلام الأشعرية.

ثم قال :

وكلامه مذ كان غيرا كان مخلوقا له

هذا بالنسبة إلى المعتزلة ثم قال :

«قالوا وإقرار العباد بأنه

خلاقهم هو منتهى الإيمان»

لم يقولوا كذلك ، أما أولا فلأنه لا بد من الشهادتين ، وأما ثانيا فمنتهى الإيمان يشعر بالإيمان الكامل ولم يقل بهذا أحد ، وأما ثالثا فقوله «فالناس في الإيمان شيء واحد» ليس مما يحسن (١) وأما رابعا فكما ذكره عن أبي جهل وغيره (٢) أنه لم يكن فيهم منكر للخالق ، يكفي في الرد عليه أن كل من سمعه يتخذه ضحكة.

__________________

(١) لأنه إن أراد أن الناس متساوون في الإيمان فهذا باطل لأن من الناس من هو مؤمن ومن هو كافر وإن أراد أن المؤمنين متساوون في الإيمان فلا يصح ذلك أيضا فإن منهم من هو كامل الإيمان باستكمال العمل ومنهم من هو غير كامل الإيمان بإخلاله بالعمل وإن كانوا متساوين في المؤمن به وفي الجزم المنافي لتجويز النقيض ، على أن طريق حصول هذا الجزم مختلف في المؤمنين فيتفاوت إيمانهم باعتبار عدم قبوله الزوال أصلا أو قبوله الزوال ببطء أو بسرعة ، فالعامي الجازم معرّض لزوال الإيمان بأدنى تشكيك والعالم الجازم بالبراهين يمكن زوال إيمانه بطروء شبهة ، وإيمان الأنبياء لا يحتمل الزوال أصلا لأن طريق حصوله الوحي والمشاهدة.

(٢) من عبدة الأوثان واليهود والنصارى وفرعون وقارون وهامان ونحوهم. ولو تذكر ابن القيم قول يوسف عليه‌السلام ـ كما حكى القرآن الكريم ـ (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] وقول إبراهيم عليه‌السلام ـ كما حكى القرآن الكريم ـ : (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦)) [الصافات : ٨٦] وقول الكفار حينما دعاهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى كلمة التوحيد ـ كما حكى القرآن الكريم ـ : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] وقولهم في التلبية (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك) لا ستحيا أن يفوه بذلك وبقوله :

هل كان فيهم منكر للخالق ال

رب العظيم مكون الأكوان

فليبشروا ما فيهم من كافر

هم عند جهم كاملو الإيمان

فأين توحيد الربوبية والألوهية من توحيد الخالقية والرازقية؟ على تقدير تسليم شمول آية توحيد الخالقية لهم بل الضمير في (ولئن سألتهم) بعيد عن العموم. ومعتقد المؤمنين : أنه لا رب ولا إله ولا خالق ولا رازق سوى الله عزوجل. وهذا هو إيمان المؤمنين على رغم تقول الزائغين المائلين إلى الخوارج المستهجنين لمعتقد المؤمنين.

٤٣٥

فصل

قال : «وقضى ـ يعني جهما ـ وشيعته الذين هم الأشعرية بزعمه بأن الله كان معطلا ، والفعل ممتنع بلا إمكان ثم استحال وصار مقدورا له من غير أمر قام بالديان» مقصوده أن الله ما زال يفعل وهذا يستوجب (١) القول بقدم العالم وهو كفر.

فصل

استنكار الناظم إعادة المعدوم ... إلخ

قال : «وقضى الله بأن يجعل خلقه عدما ويقلبه وجودا ويعيد ذا المعدوم. هذا المعاد وذلك المبدأ لذي جهم وقد نسبوه للقرآن هذا الذي قاد ابن سينا والألى قالوا مقالته إلى الكفران لم تقبل الأذهان ذا ، وتوهموا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عناه بالإيمان ، هذا كتاب الله أنى قاله أو عبده أو صحبه أو تابع ، بل صرح الوحي بأنه مغير الأكوان وتحدث الأرض وتشهد أفيشهد العدم».

أجمع المسلمون على أن الله قادر على أن يعدم الخلق ثم يعيده وعلى أن إنكار ذلك كفر وجمهور المسلمين على أن الواقع ذلك لقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦)) [الرّحمن : ٢٦] و (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] وقيل إن الأجسام تتفرق ثم تعاد وقوله (أفيشهد العدم) أنحن قلنا تشهد وهي عدم إنما تشهد بعد الإعادة فانظر كلام هذا الجاهل وقوله (لم تقبل الأذهان ذا) إن كان ينكر إمكانه (وكونه مقدورا لله) فهو كافر وإن لم ينكر إلا وقوعه فهو مذهب ضعيف. ثم قال «هذا الذي جاء الكتاب وسنة الهادي به ، ما قال إن الله يعدم خلقه طرا كقول الجاهل الحيران» أقول : قد قال تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] ولو كانت الإعادة جمع الأجزاء بعد تفريقها أو الإتيان بغيرها لم تنطبق على الآية فإن الآية تقتضي أن جميع ما بدأ به الخلق يعيده وإنما يكون كذلك إذ أعدمه ثم أعاده بعينه ، والله قادر على ذلك. وقال تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الرّوم : ٢٧] وإنما كان أهون بالنسبة إلى الشاهد

__________________

(١) وهذا الاستلزام بيّن وما يقال من أن لازم المذهب ليس بمذهب إنما هو فيما إذا كان اللزوم غير بيّن ، فاللازم البيّن لمذهب العاقل مذهب له وأما من يقول بملزوم مع نفيه للازمه البيّن فلا يعد هذا اللازم مذهبا له لكن يسقطه هذا النفي من مرتبة العقلاء إلى درك الأنعام وهذا هو التحقيق في لازم المذهب فيدور أمر القائل بما يستلزم الكفر لزوما بيّنا بين أن يكون كافرا أو حمارا.

٤٣٦

لأن الإعادة في الشاهد فعل على مثال وهو أهون من الابتداء لأنه فعل على غير مثال مع اشتراكهما في الإخراج من العدم إلى الوجود. وعند هذا المتخلف ما أخرج المعاد من العدم إلى الوجود بل من صفة إلى صفة يتعالى الله عن قوله فهذا القول منه بما دلّ عليه من أن الإبراز من العدم إلى الوجود في الإعادة غير مقدور ، كفر إلا إذا تأول على الوقوع مع الموافقة على الإمكان وليس ظاهر الكلام ففي قبول قوله إذا ادعاه نظر لأن هذا يتكرر وتكرير هذه الأمور يشبه الزندقة.

فصل

زعم الناظم قيام الله بالحوادث

قال : «وقضى بأن الله ليس بفاعل فعلا يقوم (١) به بلا برهان» مقصود الناظم أن الله يفعل فعلا في ذاته فيكون محلا للحوادث ، تعالى الله عن قوله ، فنسب إلى جهم خلاف قوله وأنه قول بلا برهان. وهذا الناظم لا يعرف حقيقة البرهان ثم قال : «والجبر مذهبه» إن أراد نفس جهم فهو ليس بموجود والكلام معه ضياع ، وإن أراد الأشعري فقد كذب في قوله (إن الجبر مذهبه) ثم قال : «لكنهم حملوا ذنوبهم على رب العباد» هذا كذب أيضا عليهم فإن الجبرية يقولون إن الله تعالى يعذب من يشاء بذنب وبغير ذنب ، له ذلك (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) [الأنبياء : ٢٣] وقوله :

«وتبدءوا منها وقالوا إنها

أفعاله ما حيلة الإنسان»

__________________

(١) قال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر البغدادي في كتاب (الأسماء والصفات) : إن الأشعري وأكثر المتكلمين قالوا بتكفير كل مبتدع كانت بدعته كفرا أو أدّت إلى كفر ، كمن زعم أن لمعبوده صورة أو أن له حدّا ونهاية أو أنه يجوز عليه الحركة والسكون ... ولا إشكال لذي لب في تكفير الكرامية مجسمة خراسان في قولهم إنه تعالى جسم له حد ونهاية من تحته وأنه مماس لعرشه وأنه محل الحوادث وأنه يحدث فيه قوله وإرادته اه (راجع الفتاوى الحلبيات في أجوبة المؤلف عن ٦٤ مسألة سأله عنها الشهاب الأذرعي) وكثيرا ما ترى الناظم يلهج بقيام الأفعال الحادثة بالله تعالى وينطق بلوازم الجسمية والتشبيه بكل صراحة وفي مثله قال القائل :

كم تزرع التشبيه في

سنخ القلوب فما انزرع

فاهجر دمشق وأهلها

واسكن ببصرى أو زرع

فهناك يمكن أن يص

دق ما تقول ويستمع

وحق أمصار المسلمين أن لا تروج فيها أمثال تلك الأباطيل ، وإن ترج فإنما تروج في مثل بصرى بلد ابن زكنون أو زرع بلد الناظم أو تلك القفار التي لا يشع فيها نور غير نور الشمس.

٤٣٧

ما يتبرأ منها على هذه الصورة إلا ملحد ، والذي يعتقد ذلك يقول إنه تعالى يفعل ما يشاء وأطال الناظم في هذا كثيرا بجهل وصبية أو تقليد لمن هو مثله ثم قال :

«وكذاك أفعال المهيمن لم تقم

أيضا به خوفا من الحدثان

فإذا جمعت مقالتيه أنتجا

كذبا (وزورا واضح البهتان)»

يعني أن فعل العبد فعل الله وفعل الله ما هو في ذاته إنتاجا بجهله ما يقوله وهو قوله :

«فهناك لا خلق ولا أمر ولا

وحي ولا تكليف عبد فان»

ما هذه إلا قحة وبلادة يأخذ ما يتوهمه لازما فيستنتج وينكر على الناس إلزامه التجسيم اللازم ، ثم قال :

«فانظر إلى تعطيله الأوصاف (١) وال

أفعال والأسماء للرحمن»

يا جاهل من قال بحدوث الأفعال كيف يلزمه التعطيل؟ ثم قال :

«ما ذا الذي في ضمن ذا التعطيل

نفى ومن جحد ومن كفران»

إذا رجعنا إلى الخلاف بينك وبينه وجدناك كاذبا عليه ليس في القول بحدوث الأفعال لا نفي ولا جحود ولا كفران ، ثم قال :

«لكنه أبدى المقالة هكذا

في قالب التنزيه للرحمن»

«وأتى إلى الكفر العظيم فصاغه

عجلا ليفتن أمة الثيران»

الله عند لسان كل قائل. الرجل إنما قال ذلك في قالب التنزيه ولم نعلم نحن باطنه فمن أين لك أنه قصد خلافه وصاغ الكفر عجلا ثم قال :

«فرآه ثيران الورى فأصابهم

كمصاب إخوتهم قديم زمان»

__________________

(١) والناظم المسكين قائل بحوادث لا أول لها انخداعا منه بشبه أوردها الفلاسفة في بحث الحدوث غير متصور اتصاف الله سبحانه بصفاته العليا قبل صدور الأفعال منه تعالى. واستنكار شيخه «كان الله ولم يكن معه شيء» مما استبشعه ابن حجر في فتح الباري جد الاستبشاع. وحدوث الأفعال فيما لا يزال لا يلزم منه تعطيل الصفات أصلا لا في زمن حدوث الأفعال ولا في غيره وهو تعالى سريع الحساب وشديد العقاب قبل خلق الكون وقبل النشور وهل يتصور عاقل أن يحاسب الله خلقه أو يعاقبه قبل أن يخلقهم؟ وهذا يهد مزاعم الناظم الذي يجري الصفات على مجرى واحد ، فالله القادر مختار يفعل ما يشاء متى شاء.

٤٣٨

إن أراد طائفة لا وجود لها فما في ذكرها من فائدة ، وإن أراد خصماءه من الأشعرية ونحوهم فيا لها من مصيبة جعلهم ثيرانا إخوة اليهود ثم قال :

«عجلان قد فتنا العباد بصوته

إحداهما وبحرفه ذا الثاني»

وذكر أبياتا إلى آخرها ، والله أعلم أنه يقصد بها ربط قلوب الناس على أنه لا مسلم إلا هو وطائفته وسائر الناس كفار كاليهود الذين عبدوا العجل فيا ترى من أحق بشبه من عبد العجل؟ المجسم أم غيره؟

فصل

ثم قال :

«يا أيها الرجل المريد نجاته

(اسمع مقالة ناصح معوان)

واضرب بسيف الوحي كل معطل

ضرب المجاهد فوق كل بنان

«من ذا يبارز فليقدم نفسه

أو من يسابق يبد في الميدان»

ويلك من أنت؟ أو أنت تعرف المبارزة أو حضرت قط مبارزة أو ميدانا؟ ثم قال :

«لا تخش من كيد العدو ومكرهم

فقتالهم بالكذب والبهتان

فجنود أتباع الرسول ملائك

وجنودهم فعساكر الشيطان»

انظر كيف يقول عن خصومه وهم هداة العالم إنهم عساكر الشيطان وإن قتالهم بالكذب والبهتان ثم قال : «فإذا رأيت عصابة الإسلام قد وافت» يعني عصابة طائفته فانظر دلالته على كفر غيره «فإذا دعوك لغير حكمهما» يعني الكتاب والسنة «فلا سمعا لداعي الكفر والعصيان» فانظر إلى إيهامه العوام أن خصومه يدعون إلى غير الكتاب والسنة. ثم قال :

«واسمع نصيحة من له خبر بما

عند الورى من كثرة الجولان

ما عندهم والله خير غير ما

أخذوه عمن جاء بالقرآن»

نعم ولكنهم فهموه وأنت ما فهمته ثم قال :

«والكل بعد فبدعة أو فرية

أو بحث تشكيك ورأي فلان»

كأنه يصف طائفته.

٤٣٩

فصل

عقد مجلس خيالي .. كلامه في وحدة الوجود

وهذا أول عقد مجلس التحكيم. قال :

واحكم إذا في رفقة قد سافروا

يبغون فاطر هذه الأكوان

فترافقوا في سيرهم وتفارقوا

عند افتراق الطرق بالحيران

فأتى فريق ثم قال وجدته

هذا الوجود بعينه وعيان

فهو السماء بعينها وهو الغمام بعينه وهو الهواء بعينه ، هذي بسائطه ومنه تركبت هذي المظاهر (١) يلبسها ويخلعها وتكثر الموجود كالأعضاء في المحسوس أو كالقوى في النفس. هذه مقالة ، أو كتكثر الأنواع في جنس فيكون كليا وجزئياته هذا الوجود (٢)

__________________

(١) فتكون المظاهر على ما صوّره الناظم محلا له تعالى ، تعالى الله عن ذلك ، وأما كون الشيء مجلى لشيء فلا يفيد كونه محلا له ، فإن الظاهر في المرآة مثلا خارج عنها بذاته قطعا بخلاف الحال في محل ، فإنه حاصل فيه فالظهور غير الحلول فإن الظهور يجامع التنزيه بخلاف الحلول عند أشياع الشيخ الأكبر ، وأما كونه كلّا والكون جزءا له على ما ذكره الناظم فعلى خلاف ما اشتهر عنهم أن العالم أعراض مجتمعة في عين واحد كالثلج مع الماء ، تعالى الله عما يأفكون ، والواجب تعالى عندهم هو الوجود المحض المجرد عن الماهية القائم بذاته المتعين بذاته المطلق حتى عن قيد الإطلاق بمعنى أنه واحد شخصي موجود بوجود هو نفسه فلا يكون المطلق عندهم بمعنى الكلي حتى يرد على ذلك ما أورده السعد في شرح المقاصد من تسعة أوجه ، وأول من نطق بوحدة الوجود في الإسلام ـ فيما نعلم ـ هو جهم بن صفوان ، ولذلك ذهب إلى الجبر ، فكم فتح هذا الرأي من أبواب للإباحة والزندقة على شرار الخلق ، وإما القول بأن الممكن الوجود كلا موجود بالنظر إلى واجب الوجود لاحتياجه إليه بدءا ودواما فليس من الخطر في شيء كالقول بأن ذلك حالة خيالية تطرأ للسالك المقبل إلى الله بكليته ثم تنجلي كما ذكره السعد في شرح النسفية والناظم في كثير من كتبه ومن الصوفية من يتصور مسألة الوجود بحيث لا يخل بالتكليف والتنزيه ويقول إنه طور وراء طور العقل ولا كلام لنا فيما هو وراء طور العقل.

(٢) ولا وجود للكلي إلا في ضمن جزئياته فيكون الواجب هو العالم وهو عين مذهب الطبيعيين على تصوير الناظم خذلهم الله. على أن هذا التصوير يخالف ما قرره ابن سبعين في بدء العرف فليراجع. وترى شيخ الناظم ينسب إلى الصدر القونوي القول بأنه الموجود المطلق لا بشرط شيء وإلى ابن سينا القول بأنه الوجود المطلق بشرط الإطلاق فيعده نافيا للصانع باعتبار أن ما هو بشرط الإطلاق لا وجود له إلا في الأذهان ، لكن الفلاسفة ، ومنهم ابن سينا ، يرون أن الواجب هو الوجود المقيد بقيد التجرد ، بمعنى اللاعروض ، وهو مبدأ الكون كله ، فعلم أن شيخ الناظم لم يحك كلام ابن سينا على الوجه ، وتغابى عن فهمه كما سبق مثل ذلك. ورأى الصدر القونوي يظهر من مفتاحه. والحاصل أن بحث وحدة الوجود بحث خطر متشعب والموفق من وقاه الله شره ، وممن توسع في رد ذلك القاضي عضد الدين في المواقف.

٤٤٠