العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

«القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار». وقد قال تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] ، والغدو والعشي إنما يكون في الدنيا ، وأيضا ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول : «أعوذ بالله من عذاب القبر».

والدليل على سؤال منكر ونكير قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم : ٢٧] يعني وفي الآخرة عند سؤال منكر ونكير. وأيضا : فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دفن ابنه إبراهيم جلس عند رأس القبر ، فتكلم بكلام ، ثم قال : «ابني قل أبي» ، وروي عنه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر رضي الله عنه : «كيف بك يا عمر إذا جاءك فتانا القبر؟ فقال : أكون كما أنا الآن؟ فقال له : نعم. فقال له : إذا أكفيكهما». وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : رأيت أبي في النوم ، فقلت له يا أبت ؛ منكر ونكير حق؟ فقال : إي والله الذي لا إله إلا هو ، لقد جاءاني فقالا لي : من ربك؟ فأخذت عليهما وقلت لهما : لا أخلي عنكما حتى تعرفاني من ربكما ، فقال أحدهما للآخر : دعه فإنه عمر الفاروق سراج أهل الجنة.

ويدل على نصب الصراط : قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١)) [مريم : ٧١] قيل في التفسير : هو العبور على الصراط. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينصب الصراط على متن جهنم دحض مزلة والأنبياء يقولون : سلّم. سلّم. والناس يمرون عليه ، فمنهم من يمر عليه كالبرق الخاطف ومنهم من يمر عليه كالجواد من الخيل. إلى آخره».

والدليل على نصب الميزان : قوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] وقوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) [الكهف : ١٠٥] وأيضا فإن عائشة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله هل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال لها : «أما عند مواطن ثلاثة فلا : الكتاب ، والميزان ، والصراط».

واعلم أن الموزون في الميزان هو صحائف الأعمال. وقيل في بعض الآثار : يشخص رجل يوم القيامة على رءوس الخلائق ، فيعرض عليه تسعة وتسعون سجلا مملوءة سيئات ، فيقال له احضر وزنك ، قيل : فيوضع في كفة قال : فيحار العبد ، فيقال له : هل تعلم لك خبيئة أو حسنة؟ قال : فيدهش ، فيقول : يا رب لا أعلم شيئا. فيقول تعالى : بل لك عندي خبيئة ، فيخرج له بقدر الإصبع ، فيقول : ما تغني هذه في جنب هذه السجلات ، فإذا فيها «لا إله إلا الله». اللهم ثبّتنا عليها بحولك وقوتك.

١٢١

والدليل على الحوض : قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١)) [الكوثر : ١] قيل في التفسير : هو الحوض. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حوضي كما بين أيلة إلى مكة ، له ميزابان من الجنة أكاويبه (١) كعدد نجوم السماء ، شرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل ، وأطيب رائحة من المسك ، من كذب به اليوم لم يصبه الشرب يومئذ».

والدليل على ثبوت الشفاعة : قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] يدل على ثبوت الشفاعة لمن أراد سبحانه وتعالى ، ويدل عليه قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيرت بين أن يدخل شطر أمتي [الجنة] وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة ؛ لأنها أعم وأكفأ ، أترونها للمؤمنين المتقين ، لا ، ولكنها للمؤمنين الخاطئين» وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقال للعابد يوم القيامة ادخل الجنة ، ويقال للعالم قف أنت فاشفع لمن شئت».

والدليل على أن الجنة والنار مخلوقتان : قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] والمعدّ لا يكون إلا موجودا مهيئا. وأيضا قوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٢] إلى غير ذلك من الآيات. وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عرضت عليّ ليلة الإسراء الجنة والنار» إلى غير ذلك من الأخبار.

والدليل على تخليد النعيم لأهل الجنة والعذاب لأهل النار : قوله تعالى في أهل الجنة : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البيّنة : ٨] والآي في ذلك كثير ، وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش فيوقف بين الجنة والنار ، فينظرون إليه فيقال لهم : هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم ، هذا الموت ، فيذبح ، ثم ينادي مناد يا أهل الجنة : خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت».

والدليل على أنه لا يخلد في النار أحد من المؤمنين بذنب : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النّساء : ٤٨] وقوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزّمر : ٥٣] وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يبقى في النار من في قلبه ذرة من إيمان» فإن الكفار لا ينفعهم إحسان مع الكفر ، ولا يخرجون من النار ، وكذلك الموحد : لا

__________________

(١) جمع الجمع لأكواب ، هكذا في بعض الروايات ، وفي بعضها أكوابه. وفي بعضها : آنيته (ز).

١٢٢

تضره سيئة مع إثبات التوحيد ، ولا يخلد في النار. قيل : وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك ـ وهو التوحيد ، وقول لا إله إلا الله ـ ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك ـ وهو الشرك ـ فاغفر لي ما بين ذلك.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الإيمان على ضربين : إيمان قديم ، وإيمان محدث ، فالقديم إيمان الحق سبحانه وتعالى ؛ لأنه سمّى نفسه مؤمنا ، فقال : (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) [الحشر : ٢٣] وإيمانه سبحانه وتعالى تصديقه لنفسه ، لقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران : ١٨] وكذلك تصديقه لأنبيائه بكلامه ، وكلامه قديم ، صفة من صفات ذاته.

والإيمان المحدث : إيمان الخلق ؛ لأن الله تعالى خلقه في قلوبهم ، بدليل قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) [المجادلة : ٢٢] وقوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ٧] ولأن إيمان العبد صفة للعبد ، وصفة المخلوق مخلوقة ، كما أن صفة الخالق قديمة ، أعني صفة ذاته ، وأيضا : فإن حدّ القديم هو : الذي لا حد لوجوده ، ولا آخر لدوامه ، وحدّ المحدث : ما لم يكن ثم كان ، فكما لم يجز أن تكون صفة القديم محدثة ، فكذلك لا تكون صفة المحدث قديمة ، وكيف تكون صفة المحدث قديمة ، وهي عرض لا يستقل إلا بحامل ، ولا يمكن قيامها بنفسها ، لأنه يستحيل وجود حركة من غير متحرك. وسكون من غير ساكن ، وعلم من غير عالم. وسواد من غير أسود إلى غير ذلك من صفات المحدثين.

واعلم أن حقيقة الإيمان هو : التصديق. والدليل عليه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف عليه‌السلام : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [يوسف : ١٧] أي بمصدق لنا وأيضا : أن الرسول عليه‌السلام لما أخبر عن كلام البقرة والذئب ، فقال : «أنا أومن به وأبو بكر وعمر» يريد أصدّق. أيضا : قول أهل اللغة : فلان يؤمن بالبعث والجنة والنار ؛ أي يصدّق به. وفلان لا يؤمن بعذاب الآخرة ، أي لا يصدق به.

واعلم : أن محل التصديق القلب ، وهو : أن يصدق القلب بأن الله إله واحد ، وأن الرسول حق ، وأن جميع ما جاء به الرسول حق ، وما يوجد من اللسان وهو الإقرار وما يوجد من الجوارح وهو العمل ، فإنما ذلك عبارة عما في القلب ، ودليل

١٢٣

عليه. ويجوز أن يسمى إيمانا حقيقة على وجه ، ومجازا على وجه : ومعنى ذلك : أن العبد إذا صدق قلبه بما قلنا وأقر بلسانه ، وعملت جوارحه فهو المؤمن الحقيقي عند الله وعندنا. وأما من كذب بقلبه وأقرّ بالوحدانية بلسانه وعمل الطاعات بجوارحه فهذا ليس بمؤمن حقيقة ، وإنما هو مؤمن مجازا ، لأن ذلك يمنع دمه وماله في أحكام الدنيا ، لأنه مؤمن من حيث الظاهر ، وهو عند الله غير مؤمن.

والدليل على صحة ذلك : قوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١)) [المنافقون : ١] فأخبر سبحانه بكذبهم ، ونحن نعلم وكل عاقل أنه ما كذب إقرار ألسنتهم ، وإنما كذب قلوبهم ، حيث أبطنوا خلاف ما أظهروا ، لأن الأخرس المصدق بقلبه إيمانه صحيح ، وإن كان لا يقدر على النطق والإقرار بلسانه ، وكذلك بالعكس من هذا ، فإن المؤمن المصدق بقلبه مؤمن عند الله تعالى ، وإن نطق بالكفر. يدلك على صحة ذلك : قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) [النّحل : ١٠٦] فأخبر أن نطق اللسان بالإيمان لا ينفع مع إصرار القلب على الكفر ، وإقرار اللسان بالكفر لا يضر مع تصديق القلب.

واعلم : أنا لا ننكر أن نطلق القول بأن الإيمان عقد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان ، وعلى ما جاء في الأثر (١) لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أراد بذلك أن يخبر عن حقيقة الإيمان الذي ينفع في الدنيا والآخرة ، لأن من أقر بلسانه ، وصدق بقلبه ، وعمل أركانه حكمنا له بالإيمان وأحكامه في الدنيا من غير توقف ولا شرط ، وحكمنا له أيضا بالثواب في الآخرة وحسن المنقلب ، من حيث شاهد الحال ، وقطعنا له بذلك في الآخرة ، بشرط أن يكون في معلوم الله تعالى أنه يحييه على ذلك ، ويميته عليه. ولو أقرّ بلسانه ، وعمل بأركانه ، ولم يصدق بقلبه ، نفعه ذلك في أحكام الدنيا ولم ينفعه في الآخرة ، وقد بيّن ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «يا معشر من آمن بلسانه ولمّا يدخل الإيمان في قلبه» وإذا تأملت هذا التحقيق وتدبرته وجدت بحمد الله تعالى. ومنه : أن الكتاب والسنة ليس فيهما اضطراب ولا اختلاف ، وإنما الاضطراب ، والاختلال ، والاختلاف في فهم من سمع ذلك ، وليس له فهم صحيح ، نعوذ بالله من ذلك.

وكذلك أيضا : لا ننكر أن نطلق أن الإيمان يزيد وينقص. كما جاء في الكتاب والسنة ؛ لكن النقصان والزيادة يرجع في الإيمان إلى أحد أمرين : إما أن يكون ذلك

__________________

(١) لم يصح مرفوعا ، وفي صحيح مسلم الإيمان أن تؤمن بالله الحديث ... (ز).

١٢٤

راجعا إلى القول والعمل ، دون التصديق ؛ لأن ذلك يتصور فيهما مع بقاء الإيمان ، فأما التصديق فمتى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان. وبيان ذلك : أن المصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه‌السلام إذا ترك صلاة أو صياما أو زكاة أو قراءة في موضع تجب فيه القراءة ، أو غير ذلك من الواجبات لا يوصف بالكفر بمجرد الترك مع كمال التصديق وثباته عليه. وبالضد من ذلك لو فعل جميع الطاعات. وأقر بجميع الواجبات ، وصدق بجميع ما جاء به الرسول إلا تحريم الخمر أو نكاح الأم ، ولم يفعل واحدا منهما ، فإنه يوصف بالكفر ، وانسلخ من الإيمان ، ولا ينفع جميع ذلك مع انخرام تصديقه في هذا الحكم الواحد ، فيجوز نقص الإيمان وزيادته من طريق الأقوال والأفعال ، ولا يجوز من طريق التصديق ، وقد بيّن ذلك صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «لا يكمل إيمان العبد حتى يحب لأخيه المسلم الخير» وكذلك قوله «حتى يأمن جاره بوائقه» وأراد بذلك الكف عن الأذى ، ولم يرد التصديق ، لأنه لو استحل أذاه لم يكن له إيمان لا زائد ولا ناقص. فافهم ذلك.

والأمر الثاني : في جواز إطلاق الزيادة والنقصان على الإيمان ، يتصور أيضا أن يكون من حديث الحكم لا من حيث الصورة ، فيكون ذلك أيضا في الجميع من التصديق والإقرار والعمل ، ويكون المراد بذلك في الزيادة والنقصان راجعا إلى الجزاء والثواب ، والمدح والثناء ، دون نقص وزيادة في تصديق ، من حيث الصورة. وقد دلّ على ذلك الكتاب والسنة.

أما الكتاب : فقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد : ١٠] ولم يرد أن تصديق من آمن قبل الفتح يزيد على تصديق من آمن بعد الفتح ؛ لأن كل واحد منهما من حيث الصورة مصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه‌السلام ، لكن تصديق أولئك أكمل في الحكم والثواب ، والدرجة ، لأن هذا يصدق بشيء لا يصدق به الآخر.

وأما السنة : فقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسبّوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» ومعلوم أن إنفاق مثل أحد ذهبا ما أنفقه أحد من الصحابة ، لكن إيمانهم ونفقتهم في الحكم والثواب ، والجزاء ، والدرجة أزيد وأكمل من نفقة غيرهم ، [فهي] وإن كانت في الصورة أكثر ، لكنها أنقص من حيث الحكم ، لا من حيث العين ، فاعلم حكم ذلك وتحققه ، ووازن هذا من أفعالنا اليوم ، وأنها تتصف بالزيادة من حيث الحكم دون العين. أن من صلى صلاة الظهر في بلد من البلاد غير

١٢٥

مكة والمدينة ، وأتى بجميع شرائطها ، وآخر صلى بمكة والمدينة على الوجه الذي صلّى عليه الآخر ، لا يقال : إن أحد الصلاتين أزيد من الأخرى من طريق الصورة والعين ، ولكن أحدهما أزيد من طريق الحكم ؛ في تحصيل الفضل والثواب ، ولهذا نظائر يطول تعدادها ، وقد تكون الزيادة بكثرة دلائل التصديق لا في التصديق.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن كل إيمان إسلام وليس كل إسلام إيمانا ، لأن معنى الإسلام الانقياد ، ومعنى الإيمان التصديق ، ويستحيل أن يكون مصدق غير منقاد ، ولا يستحيل أن يكون منقاد غير مصدق ؛ وهذا كما يقال : كل نبي صالح ، وليس كل صالح نبيا.

ويدل على صحة هذه الجملة قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤] فنفى عنهم الإيمان وأثبت أن ذلك منهم إسلام لا إيمان. وأيضا : قوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)) [الحجرات : ١٧] فغاير بين الإسلام والإيمان.

ويدل على صحة هذا القول أيضا أن الرسول عليه‌السلام فرق هو وجبريل بين الإسلام والإيمان حين سأله ، فقال له ما الإيمان؟ فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره» فقال جبريل عليه‌السلام : صدقت. والمراد بجميع ذلك أن : تصدق بالله ورسوله ، إلى آخر ما ذكر ، ثم قال له : فما الإسلام؟ فقال : «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج البيت وتغتسل من الجنابة» وهذا واضح في كونهما غيرين ، وأن محل الإيمان القلب ، وهو التصديق ، ومحل الإسلام الجوارح ، وهذا الحديث يقوي لك جميع ما ذكرت لك. وأن التصديق متى اختل منه شيء انخرم الإيمان ، والقول والعمل يزيد وينقص ، ولا ينخرم الإيمان مع التصديق بجميع ما جاء به الرسل عليهم‌السلام ، فعلى ما قررت لك لا يجوز أن نطلق. فنقول : إيمان أحدنا كإيمان جبريل ، ولا كإيمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا كإيمان الصدّيق رضي الله عنه (١) ، بل نمنع من ذلك ، ونريد به أن إيمان هؤلاء أفضل وأكمل

__________________

(١) ومن يجعلهم سواسية في الإيمان ، يريد تساويهم في الاعتقاد الجازم فقط (ز).

١٢٦

وأرفع ، من طريق الحكم الذي بينت لك ، ومن طريق آخر ، وهو أنه قد بان لهؤلاء من دلائل الوحدانية أكثر مما بان لنا ، فلا نطلق التسوية بين إيمانهم وإيماننا ، ولا نريد بذلك أنا نصدق بعض ما جاء به الرسل عليهم‌السلام والصديق يصدق بالجميع ، بل لا يصح لأحد إيمان حتى يصدق بالجميع ، لكن إيمان الصدّيق أكمل وأفضل من الوجوه التي بينت لك.

مسألة

ويجب أن يعلم : أنه لا يجوز أن يقول العبد «أنا مؤمن حقا» ويعني به في الحال ، ويجوز أن يقول «أنا مؤمن إن شاء الله» لأن ذلك يكون شكا في الإيمان ، ولأن الاستثناء إنما يصح في المستقبل ، ولا يصح في الماضي ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى في قوله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤] وكذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا غدا إن شاء الله نازلون بخفيف بني كنانة» ولأن المشيئة لله تعالى سابقة لكل موجود ، فلو لا المشيئة لما وجد الموجود ، فكما لا يجوز أن يستثنى في الحال فلا يجوز أن يقطع في المستقبل. فاعلم ذلك وتحققه.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الاسم هو المسمى بعينه وذاته ، والتسمية الدالة عليه تسمى اسما على سبيل المجاز.

والدليل عليه قوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) [الرّحمن : ٧٨] ومعناه : تبارك ربك ، وأيضا قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) [الأعلى : ١] ولا يشك عاقل أن المسبّح هو الله تعالى ، لا قول من يقول التسبيح ، ويدل عليه قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)) [يوسف : ٤٠] وقد علمنا أنهم ما كانوا يعبدون الأقوال والتسميات ، وإنما كانوا يعبدون الأصنام. فأما قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف : ١٨٠] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» ، فالعدد في ذلك راجع إلى التسميات التي هي عبارات الاسم ، فالتسمية تدل على الذات حسب دلالة الكتابة على المكتوب ، فمن لا يميز

١٢٧

بين الاسم والتسمية وبين الكتابة والمكتوب وما جرى هذا المجرى فلا يحل الله له أن يفتي في دين الله تعالى ، نعوذ بالله من الجهل بالله تعالى وصفاته.

مسألة

ويجب أن يعلم : أنه يجوز لله تعالى إرسال الرسل وبعث الأنبياء ، خلافا لما تدّعيه البراهمة.

والدليل عليه أيضا : أنه مالك الملك يفعل ما يشاء ، مع ما سبق من أنه ليس في إرسال الرسل استحالة ، ولا خروج عن حقائق العقول ، فدل على جواز ذلك.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن صدق مدعي النبوة لم يثبت بمجرد دعواه ، وإنما يثبت بالمعجزات ، وهي أفعال الله تعالى الخارقة للعادة المطابقة لدعوى الأنبياء ، وتحديهم للأمم بالإتيان بمثل ذلك.

يبين لك ذلك : أن موسى عليه‌السلام جاء في زمان سحرة وسحر ، فتحداهم بقلب العصا حية ، فعلم المحققون منهم في السحر ، أن ذلك خارج عن قبيل السحر ؛ لعجزهم عن ذلك ، وخرقه لعادة السحر ، فسارعوا إلى الإيمان ، وهذا يدل على فضل العلم من أي نوع كان : فإنه أول من سارع إلى الإيمان السحرة ، لعلمهم بالسحر ، فكان في علمهم ذلك ـ وإن كان باطلا ـ فضل كبير على غيرهم من قومهم ممن لا يعلم السحر.

وكذلك عيسى عليه‌السلام : جاء في زمان قوم طبّ ومداواة ، فأحيا الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، فأتى بما هو خارج عن قبيل الطب. خارقا للعادة فيه ، لا يقدر عليه مخلوق.

وكذلك : نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جاء في وقت فصاحة وشعر وخطب ونظم ونثر ، فأتاهم بما هو خارج عن عاداتهم في النظم والنثر ، وهو أفصح وأجزل وأوجز ، وتحداهم بالإتيان بمثله ، فوجدوا ذلك خارجا عن نظمهم ونثرهم وخارقا لعادتهم ، فعجزوا عنه فسارع من هداه الله إلى الإيمان به ، ولله الحمد والمنّة ، على الهداية والتوفيق.

١٢٨

مسألة

ويجب أن يعلم : أن نبينا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوث إلى كافة الخلق ، وأن شرعه لا ينسخ ، بل هو ناسخ لجميع من خالفه من الملل.

والدليل على ذلك : ثبوت نبوته ، وصدق مقاله ، وقد أخبر بجميع ذلك.

واعلم أن أكبر معجزاته القرآن العربي ، وفيه وجوه من الإعجاز :

أحدها : ما اختص به من الجزالة ، والنظم والفصاحة الخارجة عن أساليب الكلام ، وتحدى به فصحاء العرب بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عن الإتيان بمثله ، وهم أهل الفصاحة والبلاغة ، ولم يتأت لهم ذلك في مدة ثلاث وعشرين سنة.

ومن وجوه الإعجاز في القرآن : اشتماله على قصص الأولين ، وما كان من أخبار الماضين ، مع القطع بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أميا لا يكتب ولا يقرأ ، ولم يعهد منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع زمانه تعاط لدراسة كتب ولا تعلّمها ، وقد نفى عنه سبحانه وتعالى ذلك بقوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)) [العنكبوت : ٤٨].

ومن وجود الإعجاز : [أن] اشتمال القرآن على [ما لا يحصى من] علم غيوب متعلقة بالمستقبل ظاهر جلي ، مثل قوله تعالى : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] وقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [الفتح : ٢٧] ومثل قوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] إلى غير ذلك ، من وجوه الإعجاز في القرآن كثير جدا.

وله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات ومعجزات سوى القرآن : كانشقاق القمر ، واستنزال المطر ، وإزالة الضرر من الأمراض ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وتسبيح الحصى في يده ، ونطق البهائم ، إلى غير ذلك من المعجزات والآيات الخارقة للعادة ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ رزقنا الله شفاعته ، وحشرنا في زمرته.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن نبوات الأنبياء صلوات الله عليهم لا تبطل ، ولا تنخرم ، بخروجهم عن الدنيا وانتقالهم إلى دار الآخرة ، بل حكمهم في حال خروجهم من الدنيا كحكمهم في حالة نومهم ، وحالة اشتغالهم ، إما بأكل أو شرب ، أو قضاء وطر. والدليل عليه : أن حقيقة النبوة : لو كانت ثابتة لهم في حالة اشتغالهم بأداء الرسالة دون غيرها من الحالات ، لكانوا في غيرها من الأحوال غير موصوفين بذلك.

١٢٩

وقد غلط من نسب [إلى مذهب] المحققين من الموحدين إبطال نبوة الأنبياء عليهم‌السلام بخروجهم من دار الدنيا. وليس ذلك بصحيح ، لأن مذهب المحققين : أن الرسول ما استحق شرف الرسالة بتأدية الرسالة ، وإنما صار رسولا واستحق شرف الرسالة والنبوة بقول مرسله : وهو الله تعالى : أنت رسولي ونبيي. وقول الله تعالى قديم لا يزول ولا يتغير.

والدليل على صحة هذا أيضا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل ، فقيل له : متى كنت نبيا؟ فقال : «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فحاصل الجواب في هذا : أن شرف النبوة وكمال المنصب ثابت للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين الآن ، حسب ما كان ثابتا لهم في حال الحياة ، لم ينثلم ولم ينتقص ، سواء نسخت شرائعهم أو لم تنسخ ، ومن راجع نفسه ولم يغالط حسه عرف وتحقق أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآن لم يخاطب شفاها ، ولا يأمرهم ولا يكلمهم من غير واسطة ، لكن حكم شريعته وصحة نبوته ثابت لم ينتقض ، لأجل خروجه من الدنيا ، ولم تزل مرتبته ، ولا انخرمت رسالته ، ولا بطلت معجزته فاعلم ذلك وتحققه.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن إمام المسلمين وأمير المؤمنين ومقدّم خلق الله أجمعين ، من الأنصار والمهاجرين ، بعد الأنبياء والمرسلين : أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، لقوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) [التّوبة : ٤٠] ولا أفضل من اثنين ثالثهما الله تعالى لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة : ٥٤] وهو الصدّيق وأصحابه ، لما قاتل أهل الردة ، ولقوله تعالى : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزّمر : ٣٣] قيل في أصح التفاسير : الذي جاء بالصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصدق أبو بكر الصديق ؛ يؤكد صحة هذا التفسير قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الناس لي كذبت ، وقال أبو بكر صدقت» ويدل عليه قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الحديد : ١٠] والصديق رضي الله عنه أول من أنفق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يؤكد هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أمنّ الناس عليّ في نفس ومال أبو بكر الصديق ، ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر».

ويدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي الدرداء «أتمشي أمام من هو خير منك ، والله ما طلعت الشمس ولا غربت على رجل بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر ،

١٣٠

وليس في السماء ولا في الأرض بعد النبيين أو المرسلين خير من أبي بكر». وكان رضي الله عنه مفروض الطاعة ، لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته ، وانقيادهم له ، حتى قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام مجيبا لقوله رضي الله عنه لما قال : أقيلوني ، فلست بخيركم. فقال : لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لديننا ألا نرضاك لدنيانا. يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره ، واستنابته في إمارة الحج فأمرك علينا. وكان رضي الله عنه أفضل الأمة ، وأرجحهم إيمانا ، وأكملهم فهما ، وأوفرهم علما ، وأكثرهم حلما ، وبه نطق قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر على إيمان أهل الأرض».

ثم من بعده على هذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، لاستخلافه إياه ، وقد ورد في فضائله رضي الله عنه من الأحاديث ما لا يحصى ، ومن جملة ذلك : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان بعدي نبي لكان عمر ، إن الله ربط الحق بلسان عمر وقلبه» وأيضا : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كادت أنفاس عمر تسبق الوحي» لأنه كلمه في أسارى بدر ، وأن تضرب أعناقهم ، فنزل قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)) [الأنفال : ٦٧] فقال : «لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر» حين نزل قوله تعالى : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨)) [الأنفال : ٦٨] وقال : لو حجبت نساءك فإنه يدخل عليك البر والفاجر ، فنزلت آية الحجاب وقال : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) [التّحريم : ٥] فنزلت الآية في ذلك ، وفضله أكثر من أن يحصى.

وبعده : أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ، لإجماع المسلمين أنه من جملة الستة الذين نص عمر عليهم. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عثمان أخي ورفيقي في الجنة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان لنا ثالثة زوجناكها يا عثمان» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوت الله تعالى أن يرفع الحساب عن عثمان ففعل» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يزيد في المسجد أضمن له الجنة؟» فزاد فيه عثمان وقال : «من يشتري رومة أضمن له الجنة» فاشتراها عثمان وجعلها للمسلمين. وقال : «من يجهز جيش العسرة فله الجنة» فجهزه عثمان : تسعمائة وخمسين بعيرا ، وأتمها ألفا بخمسين فرسا.

وبعده أمير المؤمنين : علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ، وقد ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فضائله أحاديث كثيرة منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أدر الحق مع علي حيث ما دار» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» فأعطاها لعلي عليه‌السلام.

١٣١

مسألة

والدليل على إثبات الإمامة للخلفاء الأربعة رضي الله عنهم على الترتيب الذي بيّنّاه : أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أعلام الدين ، ومصابيح أهل اليقين ، شاهدوا التنزيل ، وعرفوا التأويل ، وشهد لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنهم خير القرون ، فقال : «خير القرون قرني» فلما قدّموا هؤلاء الأربعة على غيرهم ورتبوهم على الترتيب المذكور ، علمنا أنهم رضي الله عنهم لم يقدموا أحدا تشهيا منهم ، وإنما قدموا من قدموه لاعتقادهم كونه أفضل وأصلح للإمامة من غيره في وقت توليه.

قال الشريف الأجل الإمام جمال الإسلام : ووقع لي أنا دليل من نص الكتاب في ترتيبهم على هذه الرتبة : أنه لا يجوز أن يكون غير ذلك [هو] قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)) [النّور : ٥٥] ووعده حق ، وخبره صدق ، لا يقع بخلاف مخبره ، فلا بد من أن يتم ما وعدهم به ، وأخبر أن يكون لهم ، ولا يصح إلا على هذا الترتيب : لأنه لو قدم عليّ عليه‌السلام لم تصر الخلافة فيها إلى أحد من الثلاثة ، لأن عليّا عليه‌السلام مات بعد الثلاثة. وكذلك لو قدم عثمان رضي الله عنه لم تصر الخلافة إلى أبي بكر وعمر ، لأن عثمان مات بعد موتهما ، ولو قدم عمر لم تصر الخلافة إلى أبي بكر لأن عمر مات بعده ، والله تعالى أخبر ووعد أنها تصير إليهم فلم يصح أن تقع إلا على الوجه الذي وقعت. ولله الحمد على الهداية والتوفيق.

مسألة

ويجب أن يعلم : أن ما جرى بين أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورضي عنهم من المشاجرة نكف عنه ، ونترحم على الجميع ، ونثني عليهم ، ونسأل الله تعالى لهم الرضوان ، والأمان ، والفوز ، والجنان. ونعتقد أن عليّا عليه‌السلام أصاب فيما فعل وله أجران. وأن الصحابة رضي الله عنهم إنما صدر منهم ما كان باجتهاد فلهم الأجر ، ولا يفسّقون ولا يبدّعون.

والدليل عليه قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [المائدة : ١١٩] وقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ)

١٣٢

(فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨)) [الفتح : ١٨] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» فإذا كان الحاكم في وقتنا له أجران [على] اجتهاده فما ظنك باجتهاد من رضي الله عنهم ورضوا عنه.

ويدل على صحة هذا القول : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحسن عليه‌السلام : «إن ابني سيّد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فأثبت العظم لكل واحدة من الطائفتين ، وحكم لهم بصحة الإسلام. وأيضا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يكون بين أصحابي هنات ونزغات يكفرها الله تعالى لهم ويشقى فيها من شقي». وقد وعد الله هؤلاء القوم بنزع الغل من صدورهم بقوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧)) [الحجر : ٤٧].

مسألة

ويجب أن يعلم أن خير الأمة أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأفضل الصحابة العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة رضي الله عن الجميع وأرضاهم ، ونقر بفضل أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك نعترف بفضل أزواجه رضي الله عنهن ، وأنهن أمهات المؤمنين ، كما وصفهن الله تعالى ورسوله ، ونقول في الجميع : خيرا ، ونبدّع ، ونضلّل ، ونفسّق من طعن فيهن أو في واحدة منهن ، لنصوص الكتاب والسنة في فضلهم ومدحهم والثناء عليهم ، فمن ذكر خلاف ذلك كان فاسقا مخالفا للكتاب والسنة نعوذ بالله من ذلك.

مسألة

ويجب الكف عن ذكر ما شجر بينهم ، والسكوت عنه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم وما شجر بين أصحابي» وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قيل له : ما تقول فيما شجر بين الصدر الأول؟ فقال : أقول كما قال الله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر : ١٠] وسئل عن ذلك جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام فقال : أقول ما قال الله : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢]. وسئل بعضهم عن ذلك فقال : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)) [البقرة : ١٣٤]. وسئل عمر بن عبد العزيز عن ذلك فقال : «تلك دماء طهّر الله يدي منها أفلا أطهّر منها لساني ؛ مثل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل العيون ودواء العيون ترك مسها».

١٣٣

مسألة

ويجب أن يعلم : أن الإمامة لا تصلح إلا لمن تجتمع فيه شرائط.

منها : أن يكون قرشيا ؛ لقوله عليه‌السلام : «الأئمة من قريش».

والثاني : أن يكون مجتهدا من أهل الفتوى ؛ لأن القاضي الذي يكون من قبله يفتقر إلى ذلك ، فالإمام أولى.

والثالث : أن يكون ذا نجدة وكفاية وتهد لسياسة الأمور ، ويكون حرا ورعا في دينه. وهذه الشرائط كانت موجودة في خلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال عليه‌السلام :

«الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا» وكانت أيام الخلفاء الأربعة هذا القدر ، وفقنا الله للصواب ، وعصمنا من الخطأ والزلل بمنّه ورحمته.

* * *

فصل

اعلموا رحمنا الله وإياكم : أن أهل البدع والضلال من الخوارج ، والروافض والمعتزلة قد اجتهدوا أن يدخلوا على أهل السنة والجماعة شيئا من بدعهم وضلالهم فلم يقدروا على ذلك ، لذب أهل العلم ودفع الباطل ، حتى ظفروا بقوم في آخر الوقت ممن تصدى للعلم ولا علم له ولا فهم ، ويستنكف ويتكبر أن يتفهم وأن يتعلم ؛ لأنه قد صار متصدرا معلما بزعمه ، فيرى بجهله أن عليه في ذلك عارا وغضاضة ، وكان ذلك منه سببا إلى ضلاله وضلال جماعته من الأمة.

واعلم : أن أخبث من ذكرنا من المبتدعة ، وأكثرهم شبها وأعظمهم استجلابا لقلوب العوام : المعتزلة ، فجعلوا يتطلبون أن يضلوا من ذكرنا في مسألة القدر ، فلم يقدروا ، وكذلك في مسألة الرؤية ، فلم يقدروا ، وكذلك في مسألة الشفاعة والصراط والميزان ، وعذاب القبر ، وجميع ما أنكروه مما صحت فيه الآثار فلم يقدروا عليهم في شيء من ذلك ، ولم يظفروا به ، فجاءوا إلى مسألة القرآن وعقدهم فيه أنه مخلوق محدث موصوف بصفات المخلوقين ، فما قدروا أن يصرحوا بكونه مخلوقا ، فما زالوا يحسنوا لهم أمورا حتى قالوا : بأن القرآن يتصف بصفات الخلق ، وذلك أكبر عمدة لهم في كونه مخلوقا ، فرضوا منهم بأن يقولوا بخلق القرآن معنى وإن لم يصرحوا به نطقا. وكان أكبر غرض هؤلاء الجهلة ممن يتصدى للعلم وليس من أهل ذلك ، أن ينفروا العوام من أهل التحقيق والذين يعرفون مغزاهم في ذلك ، حتى لا يسمع

١٣٤

كلامهم ولا يتعلم منهم حتى ينقرضوا شيئا فشيئا ويتم لهم ما أرادوا في الجهال والعوام.

وأنا بحمد الله وعونه وحسن توفيقه أبين لك ذلك مسألة مسألة ، وأذكر لك شبههم في كل مسألة ، وهي أربع مسائل : مسألة القرآن وهي أهمها : و (الثانية) مسألة القدر والجرح والتعديل و (الثالثة) مسألة الرؤية و (الرابعة) مسألة الشفاعة.

مسألة

اعلم : أن الله تعالى متكلم ، له كلام عند أهل السنة والجماعة ، وأن كلامه قديم وليس بمخلوق ، ولا مجعول ، ولا محدث ، بل كلامه قديم صفة من صفات ذاته ، كعلمه وقدرته وإرادته ونحو ذلك من صفات الذات. ولا يجوز أن يقال كلام الله عبارة ولا حكاية ، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق ، ولا يجوز أن يقول أحد لفظي بالقرآن مخلوق ، ولا غير مخلوق ، ولا أني أتكلم بكلام الله ، هذه جملة أنا أفضلها واحدا واحدا إن شاء الله تعالى.

مسألة

فأما الدليل على كون كلام الله قديما غير مخلوق ، فمن الكتاب قوله تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف : ٥٤] فصل بين الخلق والأمر ، فدل على أن الأمر غير مخلوق لأن كلامه أمر ونهي وخبر. وأيضا قوله تعالى : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) [الأحزاب : ٤] ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) [النّحل : ٤٠] ولو أن كلامه مخلوق لاحتاج في خلقه إلى قول يقول به «كن» واحتاج القول إلى قول ثالث ، والثالث إلى رابع ، إلى ما لا نهاية له ، وهذا محال باطل ، فثبت أن القول الذي تكون به الأشياء المخلوقة غير مخلوق ، وهو كلامه القديم.

ويدل عليه من السنة : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه». فلما كان فضل الله على خلقه بقدمه ودوامه ؛ لأنه غير مخلوق وهم مخلوقون ، فكذلك القول في كلامه ، فوجب أن يكون غير مخلوق ، وكلامهم مخلوقا.

ويدل عليه أيضا : أن أبا الدرداء لما سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القرآن فقال : «كلام الله غير مخلوق».

١٣٥

ويدل عليه أيضا : إجماع الصحابة ، وهو أن عليا عليه‌السلام لما أنكر عليه التحكم وكفر الخوارج فقال بحضرة الصحابة : والله ما حكمت مخلوقا ، وإنما حكمت القرآن. ولم ينكر ذلك منكر ، فدل على أنه إجماع ، ولأنه لو كان مخلوقا : لم يخل أن يكون خلقه في نفسه أو في غيره أو في غير شيء ، ولا يجوز أن يكون مخلوقا في نفسه لأن ذاته لا تقوم بها المخلوقات والحوادث يتعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ولا يجوز أن يكون خلقه في غيره ، لأنه لو كان خلقه في غيره لكان ذلك الغير إلها ، آمرا ، ناهيا قائلا : (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)) [النّمل : ٩] وهذا محال باطل ، ولا يجوز أن يكون خلقه في غير شيء ، لأنه يؤدي إلى وجود كلام من غير متكلم وهذا محال. فإذا ثبت بطلان هذه الثلاثة الأقسام لم يبق إلا أنه مخلوق ، بل هو صفة من صفات ذاته ، قديم بقدمه ، موجود بوجوده ، موصوف به ، فيما لم يزل وفيما لا يزال. ولا يجوز أن يباينه ، ولا يزايله ، ولا يحل في مخلوق ، ولا يتصف بالحول رأسا ، فاعلم ذلك وتحققه.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : ١٦] وربما قرر عليك هذا السؤال والدليل ، كما قرره بشر المريسي على عبد العزيز المكي وهو : أنه قال له : أتقول إن القرآن شيء أو ليس بشيء؟ فقال : بل هو شيء فقال : يا أمير المؤمنين سلم أن القرآن مخلوق ، لأن الله تعالى قال : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : ١٦].

والجواب أن يقال : في أول [الأمر أي] شيء أردت بقولك إنه شيء [فإن أردت] أنه موجود ثابت فنعم ، وإن أردت بقولك إنه شيء كالأشياء من حيث خروجه من العدم إلى الوجود كالأشياء الموجودة بعد العدم فلا نقول ذلك.

والموجود الثابت لا يدل على أنه مخلوق محدث ، فإن الله موجود ثابت دائم الوجود ليس بمخلوق. وأما الجواب على جملة (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فالمراد به الخصوص دون العموم فإنه (١) بعضه [قطعا] وأنه [غير] داخل في ذلك كما سمى نفسه ، فقال : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٢] ثم قال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] ولا تدخل نفسه في ذلك ، وإنما المراد به كل نفس منفوسة مخلوقة كذلك قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : ١٦] يعني مما يصح فيه الخلق والحدث ، وصفات ذاته قديمة بقدمه وموجودة بوجوده ، فلم تدخل في ذلك. ومثل هذا في

__________________

(١) أي فإن المراد بعض الشيء (ز).

١٣٦

القرآن كثير ، فإن الله تعالى قال فيما أخبر به عن داود وسليمان عليهما‌السلام : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النّمل : ١٦] ولم يؤتيا سماء ولا أرضا ، ولا شمسا ولا قمرا ولا جنة ، ولا نارا ، ولا ملائكة ، ولا عرشا ، ولا غير ذلك ، وإنما أراد أوتينا من كل شيء ينبغي لمثلنا. وكذلك قوله في قصة بلقيس : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النّمل : ٢٣] ومعلوم أنها لم تؤت النبوة ، ولا تسخير طير ، إلى غير ذلك ؛ إنما أراد به الخصوص دون العموم ، لأنها ما دمرت هودا ، ولا السماء ، ولا الملائكة ، ولا الجبال ، إلى غير ذلك.

قال الشريف الأجل جمال الإسلام : ووقع لي جواب أخصر من هذا وأجود إن شاء الله وهو : أن يقول : الآية حجة عليكم ، وأن القرآن ليس بمخلوق ، وذلك أنه سبحانه وتعالى أفرد الخالق من المخلوق ، فسمّى نفسه خالقا ، وسمّى كل شيء دونه مخلوقا ، فالخالق بجميع صفات الذات ، غير مخلوق ، لأن الاسم هو المسمى ، على ما قررنا ، وهذا صحيح ، لأن الخالق هو الله العالم ، القادر ، المريد ، المتكلم ، وكلامه هو القرآن ، فدلّ على أنه غير مخلوق ، ولا داخل في الأشياء المخلوقة ، والذي يفهم من ذلك ؛ فإن كل عاقل يعلم أنه يصنع كل شيء غير ذاته بصفاتها من قدرته ، وحياته ، وعلمه ، وكلامه. وكذلك إذا قيل [آخذ] الملك اليوم كل أحد ، وصغر كل صفة وحقرها ومعلوم [أن ذاته ما دخلت] في المفعولين ولا دخلت صفاته في التحقير والتصغير فكذلك قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) [الرّعد : ١٦] يعني غير ذاته ، وذاته قديمة غير مخلوقة بجميع صفاتها ، فصحّ أن الآية حجة عليهم لا لهم.

فإن احتجّوا بقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء : ٢] فوصفه بالحدث والحدث هو الخلق. الجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الآية حجة عليهم ، لأنها تدل على أن من الذكر ما ليس بمحدث ، لأنه لم يقل ما يأتيهم من ذكر إلا كان محدثا. فثبت أن من الذكر ما هو قديم ليس بمحدث ، فيجب أن يكون القرآن ؛ لأن الإجماع قد وقع على أن كل ذكر غيره مخلوق ، فلم يبق ذكر غير مخلوق. غير كلامه ، سبحانه وتعالى.

الجواب الثاني : أن الذكر هاهنا يراد به وعظ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم وتوعده لهم وتخويفه ، لأن وعظ الرسل عليهم‌السلام يسمى ذكرا. يدل عليه قوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١)) [الغاشية : ٢١] ويقال : فلان في مجلس الذكر ، يعني في مجلس الوعظ. الذي يحقق ذلك ؛ أن قريشا لم تلعب عند سماع القرآن ، ولكنها

١٣٧

كانت تفحم عند سماعه ، حتى قال عتبة : والله لقد سمعت كلاما ما هو بالشعر ، وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر ، وإن عليه لطلاوة ، وإن له لحلاوة. وفزعوا أيضا أن تفتتن عند سماعه نساؤهم وأولادهم ، حين كان يقرأ أبو بكر رضي الله عنه.

الجواب الثالث : أنه أراد ما يأتيهم من نهي محدث مجدد بعد نبي إلا استمعوه وهم يلعبون ، هل هذا إلا بشر ، وقد سمّى الله تعالى رسوله ذكرا بقوله : (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١)) [الطّلاق : ١١].

فإن احتجوا بقوله تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النّساء : ٤٧](وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٨] فالجواب : أنه تعالى أراد عقابه وانتقامه من الكافرين ونصره للمؤمنين ، وما حكم به وقدره من أفعاله ، وهذا بمنزلة قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) [هود : ٤٠] يعني ما أمرنا به من زيادة الماء وإغراق الكافرين من قوم نوح عليه‌السلام ، ولم يعن (قولنا) وكذلك أيضا قال : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) [هود : ٩٧] يعني شأنه وأفعاله وطرائقه ، ولم يرد (قوله) وهذا بمنزلة قول القائل :

فقلت لها أمري إلى الله كله

وإني إليه في الإياب لراجع

يعني سري وأفعالي ، ولم يرد بذلك الأمر من القول ، وجمع هذا أمور ، وجمع الأمر من القول الأوامر ، ولو لا عجزهم وجهلهم لم يلجئوا إلى مثل هذا التمويه على العوام والجهال مثلهم. ولو نظروا إلى قوله تعالى : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) [غافر : ٤٤] تعالى أنه أراد أفعالي وأموري ، دون أمره الذي هو قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصّلت : ٥٣] ورجعوا إليه.

فإن احتجوا بقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزّخرف : ٣] والمجعول مخلوق ، بدليل قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] أي خلقنا ؛ فالجواب من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن معنى ذلك : إنما سميناه قرآنا عربيا ، والجعل يكون بمعنى التسمية ، بدليل قوله عزوجل : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١)) [الحجر : ٩١] يعني سموه ؛ فبعضهم سماه شعرا ، وبعضهم سحرا ، وبعضهم كهانة ، إلى غير ذلك. ولم يرد أنهم خلقوه. وكذلك قوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)) [الزّخرف : ١٩] يعني سموهم وحكموا عليهم

١٣٨

بذلك ، ولم يرد أنهم خلقوهم. وكذلك قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [إبراهيم : ٣٠] يعني سموا. وكذلك قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)) [المائدة : ١٠٣] وفي القرآن مثل هذا كثير.

الجواب الثاني : أنه أراد : إنا جعلنا قراءته وتلاوته بلسان العرب ، وأفهمنا أحكامه. والمراد به باللسان العربي ، وتكون الفائدة في ذلك الفرق بينه وبين التوراة والإنجيل ، لأنه جعل تلاوة الكتابين المذكورين وإفهام أحكامهما باللسان العبراني والسرياني ، وجعل تلاوة هذا الكتاب وإفهام أحكامه والمراد به بلسان العرب ، ولو عرفوا الفرق بين التلاوة والمتلو لم يموهوا بمثل هذا التمويه.

والجواب الثالث : أن الجعل إذا عدي إلى مفعول واحد كان ظاهره الخلق ، وإذا عدي إلى مفعولين كان ظاهره الحكم والتسمية ، في أكثر الاستعمال. ولذلك لا يجوز أن يقول القائل : جعلت النجم والرجل ، ويسكت حتى يصله بقوله : جعلت النجم هاديا ودليلا ، وجعلت الرجل صديقا وصاحبا. فلما قال الله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [الزّخرف : ٣] تعدى إلى مفعولين ، فيكون بمعنى الحكم والتسمية. فإن احتجوا بقوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النّحل : ١٠١] وقالوا : ما يغير ويبدل فهو مخلوق لا محالة ، قلنا : هذا جهل منكم أيضا ، وذلك أن التبديل والنسخ إنما يكون ويتصور في الرسم من خط أو تلاوة ؛ أو في حكم ، فيكون تقدير الكلام : وإذا بدلنا حكم آية أو تلاوة آية ، دون المتلو القديم الذي لا يتصور عليه تبديل ولا تغيير ، وقد بيّن ذلك سبحانه وتعالى وأخبر أن كلامه القديم لا يغير ولا يبدل.

دليل الأول : قوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) [النّحل : ١٠١] يعني حكم آية أو تلاوتها.

ودليل الثاني : قوله تعالى : (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) [الأنعام : ٣٤] وقوله تعالى : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [الأنعام : ١١٥] فأخبر تعالى أن التبديل يتصور في أحكام كلامه وتلاوة كلامه ، دون كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته ، ولو حققوا الفرق بين التلاوة والمتلو سلموا وجميع من وافقهم من الجهال الذين سلموا لهم وفق مذهبهم من خلق القرآن معنى ، ومنعوه نطقا ، نعوذ بالله من الجهل. وسنبين هذا الأمر إن شاء الله على الاستيفاء بالكمال ، في مسألة الفرق بين التلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء.

١٣٩

فإن احتجوا بقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] وقالوا : ما جاز عليه الذهاب والعدم فإنه مخلوق.

فالجواب عن هذا السؤال مثل الجواب المتقدم ؛ لأن الذهاب والعدم إنما يكون في الحفظ والرسم ، دون المحفوظ الذي هو كلام الله تعالى. ويدل على هذا : أن ابن مسعود رضي الله عنه لما قال : استكثروا من قراءة القرآن قبل أن يرفع. فقيل له : كيف يرفع وقد حفظناه في صدورنا وأثبتناه في مصاحفنا؟ فقال : يسرى عليه فيذهب حفظه من الصدور ، ورسمه من المصاحف. وهذا صحيح ، لأن حفظ المخلوق مخلوق مثله ، وحفظه مخلوق مثله ، فيتصور عليه الذهاب والعدم بالنسيان والمحو. وأما المحفوظ والمكتوب (١) الذي هو كلامه القديم ، فلا يتصور عليه ذلك. فاعلم ذلك وتحققه.

فإن احتجوا بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم» قالوا : وما جاز أن ينتقل ويتحول ويسافر به فهو مخلوق. قلنا : كم هذا التمويه الذي تشبهون به على العوام وجهّال الناس ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أراد بهذا الكلام حمل المصحف الذي فيه كلام الله مكتوب ، ولم يرد بذلك نفس كلامه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته ، وقد قرنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يدل على أن المراد به المصحف دون غيره ؛ ألا تراه قال : «مخافة أن تناله أيديهم» ومعلوم أن الذي تناله أيديهم إنما هو المصحف دون غيره ، وقد بيّن عليه‌السلام ذلك في حديث آخر ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض أصحابه : «لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر» يريد بذلك الصحف التي يكتب فيها القرآن ، دون نفس القرآن الذي هو كلام الله تعالى ، لأنه صفة من صفات ذاته ، ولا يتصور على صفات ذاته اللمس ونيل الأذى.

فإن قالوا : أجمعنا على أن القرآن سور ، والسور آيات ، والآيات كلمات ، والكلمات حروف وأصوات ، وجميع ذلك يدل على كونه محدثا مخلوقا ؛ لأن السور معدودة محسوبة ؛ لها أول وآخر ، وكذلك الآيات والحروف ، وما دخله الحصر والعد وكان له أول وآخر فهو مخلوق ، وهذه الشبهة التي سخمت وجوه من وافقهم في

__________________

(١) وصف القرآن القائم بالله سبحانه بالمكتوب ، والمحفوظ والمتلو من قبيل وصف المدلول بوصف الدال مجازا كما حققه التفتازاني في شرح المقاصد على ما سبق (ز).

١٤٠