العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

٥٦١
٥٦٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

كلمة عن العالم والمتعلم

ورسالة أبي حنيفة إلى البتيّ

والفقه الأبسط ورواتها

الحمد لله ، وصلاة الله وسلامه على سيدنا محمد رسول الله ، وآله وصحبه وكل من هدى هديه وتابع نور هداه. أما بعد فإن (العالم والمتعلم) رواية أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي عن الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ، والرسالة التي بعث بها أبو حنيفة إلى عالم البصرة عثمان بن مسلم البتي المتوفى سنة ١٤٣ ه‍ رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة ، والفقه الأكبر رواية أبي مطيع عن أبي حنيفة المعروف عند أصحابنا بالفقه الأبسط ، والفقه الأكبر رواية حماد بن أبي حنيفة عن أبيه ، والوصية في عقيدة أهل السنة رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة فتلك الرسائل هي العمد عند أصحابنا في معرفة العقيدة الصحيحة التي كان عليها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه الغر الميامين ، ومن بعدهم من أهل السنة على توالي السنين.

وإمام الهدى أبو منصور الماتريدي رضي الله عنه وعن سائر الأئمة بني توضيح الدلائل ، على مسائل تلك الرسائل ، كما جرى على ذلك الإمام المجتهد أبو جعفر الطحاوي في كتابه «بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن» رضي الله عنهم المعروف بعقيدة الطحاوي ، فيتبين من ذلك مبلغ أهمية تلك الرسائل عند الباحثين ، وتوجد نسخ مخطوطة منها في مكتبة الفاتح بالآستانة ودار الكتب الملكية بالقاهرة ، وسبق أن نشرت كلها في مجموعة بالآستانة قبل مدة أكثر من قرن كامل فأصبحت تلك الطبعة بنفاد نسخها في حكم ما لم يطبع ، وطبعت الوصية مع شروحها مرات ، وكذلك الفقه الأكبر رواية حماد وشروحه.

٥٦٣

وسبق أن طبع (العالم والمتعلم) رواية أبي مقاتل في الهند قبل نحو عشر سنين بمعرفة إخواننا الأعزاء هناك لكنه خلو من السند مع بعض مخالفة لما عندنا من النسخ ، وطبع في الهند وفي مصر شرح الفقه الأكبر رواية أبي مطيع ـ وهو المعروف بالفقه الأبسط تمييزا له عن رواية حماد بن أبي حنيفة ـ لكن نسب الناشر هذا الشرح سهوا إلى الإمام أبي منصور الماتريدي مع ظهور أن الشرح ليس له ، بما جرى من نقول عن كثير ممن تأخر زمنه عن زمنه ، وهو توفي سنة ٣٣٢ ه‍ في رواية قطب الدين الحلبي الحافظ.

والواقع أن هذا الشرح لأبي الليث السمرقندي المتوفى سنة ٣٧٣ ه‍. والطابع لم يتحر صحة الأصل ، فلعل أحد الطابعين يتولى إعادة نشر الشرح من أصل وثيق فيعيد الحق إلى نصابه. وعدة نسخ مخطوطة من الشرح باسم أبي الليث موجودة في دار الكتب المصرية. راجع المجموعتين ٣٤٩ ، ٣٩٣ ورقم ١٩٥ في علم الكلام بدار الكتب المصرية ففيها التصريح بنسبته إلى أبي الليث السمرقندي.

وحيث مسّت الحاجة إلى تحقيق ونشر الثلاثة الأول : العالم والمتعلم ، ورسالة أبي حنيفة إلى البتي في الإرجاء ، والفقه الأبسط ، تقديما للأهم على المهم ، فإني أتحدث أولا عن أسانيد تلك الكتب عند أصحابنا فأقول :

أما كتاب العالم والمتعلم رواية أبي مقاتل عن أبي حنيفة فيرويه الموفق المكي في المناقب (١ ـ ٨٤ و ٩٧) : كتابة عن أبي حفص عمر بن محمد النسفي عن أبي علي الحسن بن عبد الملك النسفي عن جعفر بن محمد المستغفري عن أبي عمرو محمد بن أحمد النسفي عن الإمام أبي محمد الحارثي البخاري عن محمد بن يزيد عن الحسن بن صالح عن ابن مقاتل عن أبي حنيفة (ح) (١) وعن أبي حامد محمد بن أبي الربيع المازني المقري. قراءة عن أبي العلاء حامد بن إدريس عن أبي المعين ميمون بن محمد النسفي ، عن أبي طاهر المهدي بن محمد الحسيني ، عن أبي يعقوب يوسف بن منصور اليساري ، عن أبي الفضل أحمد بن علي السليماني البيكندي ، عن أبي سعيد حاتم بن عقيل الجوهري ، عن الفتح بن أبي علوان ومحمد بن يزيد قالا أنبأنا الحسن بن صالح عن أبي مقاتل عن أبي حنيفة «ح» وبعلو عن أبي حفص

__________________

(١) علامة تحول السند إلى سند آخر.

٥٦٤

النسفي عن أبي يعقوب السياري بسنده. وفي نسخة دار الكتب المصرية يرويه ابن قاضي العسكر أبو الحسن علي بن خليل الدمشقي عن أبي الحسن برهان الدين علي بن الحسن البلخي ، عن أبي المعين النسفي ، عن أبيه محمد النسفي ، عن عبد الكريم بن موسى البزدوي النسفي ، عن أبي منصور الماتريدي عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني عن أبي سليمان موسى بن سليمان الجوزجاني وعن محمد بن مقاتل الرازي وهما عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله وأبي عصمة عصام بن يوسف البلخيين وهما عن أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي عن الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عن الجميع.

وقد طالت ألسنة بعض النقلة على أبي مقاتل كطول لسانهم على أبي حنيفة وأصحابه متذرعين في ذلك برميهم إياه بالرأي والإرجاء والتجهم ونحو ذلك مما يعلو تحقيق الحق والباطل منه على مداركهم حتى تراهم يرمونه بالكذب من غير حجة ، وكل من قال بخلاف رأيهم فهو كذاب لقوله بما هو خلاف الواقع في نظرهم على جلالة قدره عند أصحابنا رضي الله عنهم. لا آخذ الله المخلفين على هذا العدوان الصارخ ، فإن كان لا بد من النقل عن غير أصحابنا في التعويل على المرء ، فدونك كلام أبي يعلى الخليلي في (الإرشاد) في أبي مقاتل : (مشهور بالصدق غير مخرج في الصحيح وكان يفتي وله في الفقه محل وتعنى بجمع حديثه خلف بن يحيى قاضي الري) ، عمّر كثيرا وعاش إلى أن مات سنة ثمان ومائتين وما وقع في اللسان من سنة ٢٥٨ ه‍ كتاريخ لوفاته فسبق قلم ، وإقامة ل (٥) بدل الصفر.

وأما رسالة أبي حنيفة إلى الإمام عثمان البتي عالم البصرة فسندها في نسخة دار الكتب المصرية برواية الإمام حسام الدين حسين بن علي بن الحجاج السغناقي ـ شارح الهداية ـ عن حافظ الدين محمد بن محمد بن نصر البخاري عن شمس الأئمة محمد ابن عبد الستار الكردري عن برهان الدين المرغيناني ـ صاحب الهداية ـ عن ضياء الدين محمد بن الحسين بن ناصر الدين اليرسوخي عن علاء الدين أبي بكر محمد بن أحمد السمرقندي ـ صاحب تحفة الفقهاء ـ عن أبي المعين النسفي عن أبي زكريا يحيى بن مطرف البلخي عن أبي صالح محمد بن الحسين السمرقندي عن أبي سعيد سعدان بن محمد بن بكر البستي عن أبي الحسن علي بن أحمد الفارسي عن نصير بن يحيى البلخي عن محمد بن سماعة التميمي عن أبي يوسف عن الإمام الأعظم رضي الله عنهم.

٥٦٥

وأما الفقه الأبسط فسنده في نسخة دار الكتب المصرية (١) برواية أبي بكر الكاساني ـ صاحب البدائع عن العلاء السمرقندي ـ صاحب تحفة الفقهاء ، عن أبي المعين النسفي ـ صاحب تبصرة الأدلة ، عن أبي عبد الله الحسين بن علي المعروف بالفضل ـ وله نحو مائة وعشرين مؤلفا إلا أنه متكلم فيه ، عن ابن مالك نصران بن نصر الختلي عن أبي الحسن علي بن أحمد الفارسي عن نصير بن يحيى عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي عن الإمام الأعظم. وفي مشتبه الذهبي رواية نصران الختلي عن علي بن الحسن الغزال. (ح) وروى أبو المعين أيضا عن يحيى بن مطرف عن أبي صالح محمد بن الحسين عن أبي سعيد سعدان بن محمد بن بكر بن عبد الله البستي الجرمقي عن علي بن أحمد الفارسي السابق ذكر سنده ، رضي الله عن الجميع ، وأبو مطيع : تكلموا فيه على عادتهم ورموه بالتجهم والإرجاء والرأي قال الذهبي : كان ابن المبارك يعظمه ويبجله لدينه وعلمه. تفقه به أهل تلك الديار. كان بصيرا بالرأي علامة كبير الشأن اه. قال ابن حجر : روى عنه محمد بن مقاتل وموسى بن نصر وكانا يبجلانه اه. وكانت وفاته سنة ١٩٩ ه‍ عن ٨٤ سنة رحمه‌الله. واختلاف المذاهب يؤدي في بعض النفوس إلى اختلاف القول في المرء وهذا مما يوسف له نسأل الله السلامة.

وأما الفقه الأكبر رواية حماد بن أبي حنيفة عن أبيه فله شروح كثيرة. وقد طبع مرات في كثير من العواصم كما طبع كثير من شروحه ، وأما سنده ففي النسخة الخطية المحفوظة ضمن المجموعة رقم (٢٢٦) بمكتبة شيخ الإسلام العلامة عارف حكمت بالمدينة المنورة زادها الله تكريما ، ففي أولها شد الشيخ إبراهيم الكوراني في الكتاب إلى علي بن أحمد الفارسي عن نصير بن يحيى عن ابن مقاتل (محمد بن مقاتل الرازي) عن عصام بن يوسف عن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه رضي الله عن الجميع ، وفي مكتبة شيخ الإسلام هذه نسختان من الفقه الأكبر رواية حماد قديمتان وصحيحتان فيا ليت بعض الطابعين قام بإعادة طبع الفقه الأكبر من هاتين النسختين مع المقابلة بنسخ دار الكتب المصرية.

__________________

(١) راجع المجموعتين «٦٤ م» و «٢١٥ م» بدار الكتب المصرية ، وأما رواية عبد الله الأنصاري الهروي الفقه الأكبر هذا ، في كتابه الفاروق ففيها تزيد وتحريف الكلمة للإمام الأعظم على هوى الحشوية ومخالفة لروايات الآخرين فسنفضح دخيلة هذه الخيانة في موضعها إن شاء الله تعالى (ز).

٥٦٦

ففي بعض تلك النسخ : وأبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماتا على الفطرة ، و (الفطرة) سهلة التحريف إلى (الكفر) في الخط الكوفي ، وفي أكثرها. (ما ماتا على الكفر) ، كان الإمام الأعظم يريد به الرد على من يروي حديث (أبي وأبوك في النار) ويرى كونهما من أهل النار. لأن إنزال المرء في النار لا يكون إلا بدليل يقيني وهذا الموضوع ليس بموضوع عملي حتى يكفي فيه بالدليل الظني.

ويقول الحافظ محمد المرتضى الزبيدي شارح الإحياء والقاموس في رسالته (الانتصار لوالدي النبي المختار). وكنت رأيتها بخطه عند شيخنا أحمد بن مصطفى العمري الحلبي مفتي العسكر العالم المعمر. ما معناه : إن الناسخ لما رأى تكرر (ما) في (ما ماتا) ظنّ أن إحداهما زائدة فحذفها فذاعت نسخته الخاطئة ، ومن الدليل على ذلك سياق الخبر لأن أبا طالب والأبوين لو كانوا جميعا على حلة واحدة لجميع الثلاثة في الحكم بجملة واحدة لا بجملتين مع عدم التخالف بينهم في الحكم. وهذا رأي وجيه من الحافظ الزبيدي إلا أنه لم يكن رأى النسخة التي فيها (ما ماتا) وإنما حكى ذلك عمن رآها ، وإني بحمد الله رأيت لفظ (ما ماتا) في نسختين بدار الكتب المصرية قديمتين كما رأى بعض أصدقائي لفظي (ما ماتا) و (على الفطرة) في نسختين قديمتين بمكتبة شيخ الإسلام المذكورة. وعلي القاري بنى شرحه على النسخة الخاطئة وأساء الأدب سامحه الله. وكتب الرجال شحيحة في ذكر بعض الوفيات ، فعلي بن أحمد الفارسي توفي عن سن عالية سنة ٣٣٥ ه‍ ونصير بن يحيى البلخي من أصحاب أبي سليمان الجوزجاني وأبي مطيع توفي سنة ٢٦٨ ه‍ وقد ناهز التسعين ، ومحمد بن مقاتل الرازي من أصحاب محمد بن الحسن توفي سنة ٢٤٨ ه‍ وعصام بن يوسف توفي سنة ٢١٠ ه‍ عن ٨٤ سنة ، ووفيات بعض هؤلاء في نوازل أبي الليث السمرقندي ، وقد وقع في بعض النسخ المطبوعة والمخطوطة وفي بعض ما طبع لي (أبو مقاتل) و (نصر) بدل (ابن مقاتل) و (نصير) غلطا فوجبت الإشارة إلى ذلك ، وهذا ما عنّ لي ذكره قبل تلك الرسائل المروية عن فقيه الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت رضي الله عنه وعن أصحابه وسائر أئمة الفقه وعلماء هذه الأمة أجمعين.

محمد زاهد الكوثري

٥٦٧
٥٦٨

العالم والمتعلم

رواية أبي مقاتل عن أبي حنيفة

رضي الله عنهما

بتحقيق

محمد زاهد الكوثري

٥٦٩
٥٧٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال أبو الحسن علي (١) بن خليل الدمشقي المعروف بابن قاضي العسكر أنبأنا أبو الحسن برهان الدين علي بن الحسن البلخي عن أبي المعين ميمون بن محمد المكحولي النسفي عن أبيه عن عبد الكريم بن موسى البزدوي عن أبي منصور محمد الماتريدي عن أبي بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني ، عن أبي سليمان موسى الجوزجاني وعن محمد بن مقاتل الرازي كلاهما عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي وعصام بن يوسف البلخي وهما عن أبي مقاتل حفص بن سلم السمرقندي عن الإمام أبي حنيفة فيما أجابه على أسئلته أنه قال :

* * *

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمد سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، وعلى عباد الله الصالحين ، أما بعد فأوصيك بتقوى الله وطاعته ، وكفى بالله حسيبا وجازيا. ورزقنا الله حياة طيبة ومنقلبا كريما ، وقد أجبتك فيما سألت عنه ولو لا كراهية التطويل وأن يكثر لك شرحت لك الأمور التي أجبتك بها. ثمّ لا آلوك ونفسي خيرا والله المستعان وعليه التكلان.

قال المتعلم ـ وهو أبو مقاتل ـ : أتيتك أيها العالم ـ وهو أبو حنيفة ـ لانتفع بمجالستك لما أتيقن من فضلك ، وأرجو أن ينفعني الله تعالى بك. فأفتني عافاك الله إن أنا سألتك ، لتستحق بذلك الثواب من الله سبحانه إنّي ابتليت بأصناف من الناس وسألوني عن أشياء لم أهتد لجوابها ، ولم أترك الحق الذي بيدي. وإن عجزت عن

__________________

(١) روى عنه الحافظ الشريف الدمياطي. وعنه الحافظ عبد القادر القرشي وأسانيد أصحاب الإثبات إليه معروفة (ز).

٥٧١

جوابهم ، وعرفت أنّ للحق من يعبر عنه ، وليس الحق بمنقوض والباطل مزهوق به ، وكرهت أيضا لنفسي الجهالة بأصل الدين وما انتحل من الحق وأن تكون منزلتي في أصل ما أدعي كمنزلة الصبي المتعلم الذي لا علم له بأصل ما يتكلم به ، أو كمنزلة المبرسم أو المجنون الذي يهذي بما ينقض على نفسه ويشين به نفسه ، فأجبت أصلحك الله تعالى أن أكون عالما بأصل ما انتحل من الحق وأتكلم به حتى إذا جاءني مارد يتمرد علي ، أو يريد أن يزيلني عن الحق لم يطق ، وإن جاءني متعلم أوضحت له وأكون على بصيرة من أمري.

وقال العالم : نعم ما رأيت في ابتحاثك عما يغنيك ، واعلم أن العمل تبع للعلم كما أن الأعضاء تبع للبصر ، فالعلم مع العمل اليسير أنفع من الجهل مع العمل الكثير ، ومثل ذلك الزاد القليل الذي لا بد منه في المفازة مع الهداية بها أنفع من الجهل مع الزاد الكثير ، ولذلك قال الله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزّمر : ٩] و (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرّعد : ١٩].

قال المتعلم : لقد زدتني في طلب العلم رغبة ، فأما قول الأصناف فإني سأبدأ بأدناهم منزلة عندي إن شاء الله تعالى ، فأخبرني بالحجج عليهم رأيت أقواما يقولون لا تدخلن هذه المداخل فإن أصحاب نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يدخلوا في شيء من هذه الأمور وقد يسعك ما وسعهم. وأن هؤلاء زادوني غما ، ووجدت مثلهم كمثل رجل في نهر عظيم كثير الماء كاد أن يغرق من قبل جهله بالمخاضة فيقول له آخر : اثبت مكانك ولا تطلبن المخاضة.

قال العالم رحمه‌الله : أراك قد أبصرت بعض عيوبهم والحجة عليهم ، ولكن قل لهم إذا قالوا ألا يسعك ما وسع أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بلى يسعني ما وسعهم لو كنت بمنزلتهم ، وليس بحضرتي مثل الذي كان بحضرتهم ، وقد ابتلينا بمن يطعن علينا ويستحل الدماء منا ، فلا يسعنا أن لا نعلم من المخطئ منا والمصيب؟ وأن لا نذب عن أنفسنا وحرمنا. فمثل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم فلا يتكلفون السلاح ، ونحن قد ابتلينا بمن يطعن علينا ويستحل الدماء منا ، مع أن الرجل إذا كفّ لسانه عن الكلام فيما اختلف فيه الناس وقد سمع ذلك لم يطق أن يكف قلبه ، لأنه لا بد للقلب من أن يكره أحد الأمرين أو الأمرين جميعا. فأما إن يحبهما وهما مختلفان فهذا لا يكون ، فإذا مال القلب إلى الجور أحبّ أهله. وإذا أحبّ القوم كان منهم ، وإذا مال القلب إلى الحق وأهله كان لهم وليا ، وذلك بأن تحقيق الأعمال والكلام لا يكون إلا من قبل القلب ، وذلك أن من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لم يكن عند الله مؤمنا. ومن آمن بقلبه ولم يتكلم بلسانه كان عند الله مؤمنا.

٥٧٢

قال المتعلم : هو كما قلت ولكن بين لي هل يضرني إذا لم أعرف المخطئ من المصيب؟.

قال العالم رحمه‌الله : لا يضرك في خصلة ، ويضرك بعد في خصال غير واحدة فأما الخصلة التي لا تضرك فإنها أنك لا تؤاخذ بعمل المخطئ ، وأما الخصال التي تضرك فواحدة منها اسم الجهالة يقع عليك لأنك لا تعرف الخطأ من الصواب ، والثانية عسى أن ينزل بك من الشبهة ما نزل بغيرك ولا تدري ما المخرج منها لأنك لا تدري أمصيب أنت أم مخطئ فلا تنزع عنها ، والثالثة لا تدري من تحب في الله ومن تبغض فيه لأنك لا تدري المخطئ من المصيب.

قال المتعلم : لقد كشفت عني الغطاء وجعلت أرى البرة في مذاكرتك : ولكن أرأيت إن كان رجل يصف عدلا ، ولا يعرف جور من يخالف ولا عدله أيسعه ذلك وأن يقال إنه عارف بالحق أو هو من أهله؟.

قال العالم رحمه‌الله : إذا وصف عدلا ، ولا يعرف جور من يخالفه فإنه جاهل بالجور والعدل. واعلم يا أخي أن أجهل الأصناف كلها وأرداهم منزلة عندي لهؤلاء ، لأن مثلهم كمثل أربعة نفر يؤتون بثوب أبيض فيسألون جميعا عن لون ذلك الثوب فيقول واحد من هؤلاء الأربعة : هذا ثوب أحمر ، ويقول الآخر هذا ثوب أصفر ، ويقول الثالث ثوب أسود ، ويقول الرابع ثوب أبيض فيقال له ما تقول في هؤلاء الثلاثة أصابوا أم أخطئوا؟ فيقول : أما أنا فقد أعلم أن الثوب أبيض وعسى أن يكون هؤلاء قد صدقوا ، وكذلك هذا الصنف من الناس يقولون إنا نعلم أن الزاني ليس بكافر. وعسى أن يكون الذين يرون أن الزاني إذا زنى نزع منه الإيمان كما ينزع السربال كان صادقا ولا تكذبه. ويقولون إن من مات ولم يحج فقد أطاق الحج فنحن نسميه مؤمنا ونصلي عليه ونستغفر له ونقضي عنه حجه ولا نكذب من يقول : مات يهوديا أو نصرانيا ، ينكرون قول الشيعة ويقولون قولهم ، وينكرون قول الخوارج ويقولون قولهم. وينكرون قول المرجئة ويقولون قولهم ويرون تحقيق ذلك وتزييف أقوال هؤلاء الأصناف الثلاثة ، ويروون في ذلك روايات يزعمون أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالها. وقد علمنا أن الله عزوجل إنما بعث رسوله رحمة ليجمع به الفرقة ، وليزيد الألفة. ولم يبعثه ليفرق الكلمة ، يحرش المسلمين بعضهم على بعض. ويزعمون أنه إنما جاء الاختلاف بهذه الروايات لأن منها ناسخا ومنسوخا فنحن نروي كما سمعناه. فويح لهم ما أقل اهتمامهم بأمر عاقبتهم حيث ينتصبون للناس فيحدثونهم بما قد علموا أن بعضه منسوخ ، والعمل بالمنسوخ اليوم ضلالة. فيأخذ به الناس فيضلون. وقد نعلم أن

٥٧٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن ليفسر الآية الواحدة على نوعين فما كان من القرآن ناسخا فسره لجميع الناس ناسخا ، وكذلك المنسوخ فسره لجميع الناس منسوخا. وأما الأخبار والصفات التي قد كانت فإنه ليس في شيء منها منسوخ ، وإنما دخل الناسخ والمنسوخ في الأمر والنهي.

قال المتعلم : جزاك الله عني الجنة ، فنعم المعلم أنت إنك فتحت لي بابا من العلم لم أهتد له. وقد بيّنت لي من أقاويل هؤلاء القوم ما لا أبالي أن لا أزداد بصيرة في ضعف قولهم وعجز رأيهم. ولكن أخبرني بالرد على الصنف الثاني في قولهم إن دين الله كثير ، وهو العمل بجميع ما افترض الله والكف عن جميع ما حرم الله.

قال العالم رضي الله عنه : ألست تعلم أن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لم يكونوا على أديان مختلفة لم يكن كل رسول منهم يأمر قومه بترك دين الرسول الذي كان قبله لأن دينهم كان واحدا. وكان كل رسول يدعو إلى شريعة نفسه وينهى عن شريعة الرسول الذي قبله لأن شرائعهم كثيرة مختلفة. ولذلك قال الله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المائدة : ٤٨]. وأوصاهم جميعا بإقامة الدين وهو التوحيد وأن لا يتفرقوا لأنه جعل دينهم واحدا فقال : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) (١) وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشّورى : ١٣].

وقال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)) [الأنبياء : ٢٥]. وقال جلّ وعلا : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [الرّوم : ٣٠]. أي لا تبديل لدينه. فالدين لم يبدل ولم يحول ولم يغير ، والشرائع قد غيرت وبدلت لأنه رب شيء قد كان حلالا لأناس قد حرمه الله عزوجل على آخرين. ورب أمر أمر الله به أناسا ونهى عنه آخرين. فالشرائع كثيرة مختلفة. والشرائع هي الفرائض مع أنه لو كان العمل بجميع ما أمر الله به والكف عن جميع ما نهى الله عنه دينه لكان كل من ترك شيئا مما أمر الله تعالى به أو ركب شيئا مما نهى الله عنه تاركا لدينه ولكان كافرا. وإذا صار كافرا ذهب الذي بينه وبين المسلمين من

__________________

(١) وللدين إطلاق يشمل الأحكام العلمية كقوله تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) [التّوبة : ١٢٢] وقوله عليه‌السلام : «إذا أراد الله بعبد خيرا فقّهه في الدين» فالدين الاستسلام لحكم الدليل القائم. فدليل الاعتقاد قائم دائما فيستسلم له دائما ودليل الأحكام العملية قابل للنسخ فما لم يقم دليل للنسخ فهو قائم الحكم وكذا الناسخ (ز).

٥٧٤

المناكحة والموارثة واتباع الجنائز وأكل الذبائح وأشباه هذا لأن الله تعالى أوجب ذلك كله بين المؤمنين من أجل الإيمان الذي به حرم الله تعالى دماءهم وأموالهم إلا بحدث. وإنما أمر الله تعالى المؤمنين بالفرائض بعد ما أقروا بالدين فقال سبحانه : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١]. وقال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ) [البقرة : ١٧٨] ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ) [الأحزاب : ٤١] وأشباه هذا. فلو كانت هذه الفرائض هي الإيمان لم يسمهم مؤمنين حتى يعملوا بها وقد فصل الله تعالى الإيمان من العمل فقال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [البقرة : ٢٥]. وقال : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) [البقرة : ١١٢] أي مع إيمانه. وقال : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الإسراء : ١٩] فجعل الإيمان غير العمل. فالمؤمنون من قبل إيمانهم بالله يصلون ويزكون ويصومون ويحجون ويذكرون الله وليس من قبل صلاتهم وزكاتهم وصومهم وحجهم بالله يؤمنون. وذلك بأنهم آمنوا ثم عملوا فكان عملهم بالفرائض من قبل إيمانهم بالله. ولم يكن إيمانهم من قبل عملهم بالفرائض. ومثل ذلك أن الرجل إذا كان عليه الدين وهو يقر بالدين ثم يؤدي. وليس يؤدي ثم يقر بالدين. وليس إقراره من قبل أدائه ولكن أداؤه من قبل إقراره. والعبيد من قبل إقرارهم لمواليهم بالعبودية يعملون لهم. وليس من قبل عملهم يقرون لهم بالعبودية. وذلك أنه كم من إنسان يعمل لآخر. ولا يكون بذلك مقرا له بالعبودية. ولا يقع عليه اسم الإقرار بالعبودية. وآخر قد يكون مقرا بالعبودية ولا يعمل فلا يذهب عنه اسم إقراره بالعبودية.

قال المتعلم : لحسن ما فسرت ولكن أخبرني ما الإيمان؟

قال العالم رضي الله عنه : الإيمان هو التصديق والمعرفة واليقين والإقرار والإسلام ، والناس في التصديق على ثلاثة منازل ، فمنهم من يصدق بالله وبما جاء منه بقلبه ولسانه ومنهم من يصدق بلسانه ويكذب بقلبه ومنهم من يصدق بقلبه ويكذب بلسانه.

قال المتعلم : لقد فتحت لي مسألة لم أهتد إليها فأخبروني عن أهل هذه المنازل أهم عند الله مؤمنون؟

قال العالم رحمه‌الله : من صدق بالله وبما جاء من عند الله بقلبه ولسانه فهو عند الله وعند الناس مؤمن. ومن صدق بلسانه وكذب بقلبه كان عند الله كافرا وعند الناس مؤمنا ، لأن الناس لا يعلمون ما في قلبه. وعليهم أن يسموه مؤمنا بما ظهر لهم من

٥٧٥

الإقرار بهذه الشهادة وليس لهم أن يتكلفوا علم ما في القلوب. ومنهم من يكون عند الله مؤمنا وعند الناس كافرا وذلك بأن الرجل يكون مؤمنا بالله ويظهر الكفر في حالة التقية بلسانه فيسميه من لا يعرف أنه يتقي كافرا وهو عند الله مؤمن.

قال المتعلم : لقد وضحت عدلا. ولكن أراك قد كثرت الإيمان في قولك إن الإيمان هو التصديق والمعرفة والإقرار والإسلام واليقين.

قال العالم رحمه‌الله : أصلحت الله لا تكونن منك العجلة ، وتثبت في الفتيا وإن أنكرت شيئا مما أذكره لك فسل عن تفسيره إن كنت مناصحا. فربّ كلمة يسمعها الإنسان فيكرهها فإذا أخبر بتفسيرها رضي بها. ولا تكونن كالذي يسمع الكلمة فيكرهها ثم يتفوه بها إرادة الشين فيذيعها بين الناس. ولا يقول عسى أن يكون لهذه الكلمة تفسير ووجه هو عدل ولا أعلمه أفلا أسأل صاحبي عن تفسيرها أو لعلها كلمة جرت على لسانه ولم يتعمد لها فينبغي لي أن أتثبت ولا أفضح صاحبي ولا أشينه حتى أعلم ما وجه كلامه.

قال المتعلم : ثبّتك الله ووفقك وأدام لك صالح الذي أعطاك قد عرفت الذي قلت : فلا تؤاخذني بما كان مني إني متعلم ولكن أخبرني عما وصفت من التصديق والمعرفة والإقرار والإسلام واليقين ما منزلتهن وتفسيرهن عندك؟.

قال العالم رحمه‌الله : إن هذه أسماء مختلفة ومعناها واحد هو الإيمان وحده وذلك بأن يقر بأن الله ربه ويصدق بأن الله ربه ويتيقن بأن الله ربه ويعرف بأن الله ربه فهذه أسماء مختلفة ومعناها واحد كالرجل يقال له يا إنسان ويا رجل ويا فلان وإنما يعني القائل بها واحدا وقد دعاه بأسماء مختلفة.

قال المتعلم : رحمك الله لو لا ما أعرف من نفسي من قلة العلم وعجز الرأي لم أقصد إليك. فإن رأيت مني ما تكره ودخلت عليك مئونة فلا تلمني. فإن مئونة معالجة مرض المريض على الطبيب ومئونة عمى الأعمى على البصير كذلك ينبغي للعالم أن يحتمل مئونة الجاهل. وقد عرفت أن من الكلام كلاما يفزع منه الجاهل إذا سمعه فإذا فسر له اطمأن. ولحسن ما فسرت الإيمان والتصديق واليقين والإخلاص ولكن أخبرني من أين ينبغي لنا أن نقول : إن إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل. وقد نعلم أنهم كانوا أطوع لله عزوجل منا.

قال العالم رضي الله عنه : قد علمت أنهم كانوا أطوع لله منا وقد حدثتك أن الإيمان غير العمل فإيماننا مثل إيمانهم لأن صدقنا من وحدانية الرب وربوبيته وقدرته

٥٧٦

وبما جاء من عنده بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل فمن هاهنا زعمنا أن إيماننا مثل إيمان الملائكة لأننا آمنا بكل شيء آمنت به الملائكة مما عاينته الملائكة من عجائب آيات الله ولم نعاينه نحن.

قال المتعلم : جعلك الله من الفائزين ما أحسن ما وصفت وقد عرفت الآن أن إيماننا مثل إيمان الملائكة وتصديقنا مثل تصديقهم ويقيننا مثل يقينهم ولكن أخبرني من أين هم أشد خوفا وأطوع لله منا؟ ومن أين قالت الجهال إذا رأوا من إنسان زلة أو جزعا عند مصيبة أو جبنا من عدو أو حرصا على الهوى هذا من ضعف اليقين.

قال العالم رحمه‌الله : أما قول الجهّال هذا من ضعف اليقين فإنما قالوا ذلك لجهالتهم بتفسير اليقين. واليقين بالشيء هو العلم بالشيء حتى لا يشك فيه فليس أحد من أهل الشهادة يشك في الله وكتبه ورسله ، وإن ركب ما ركب وإنما نقيس أمر الناس بأمر أنفسنا. لأنه ربما كانت منا الزلة أو الجزع عند المصيبة أوجبن من عدو فلا يدخل علينا شك في الله ولا في شيء مما جاء من عند الله فغيرنا عندنا بمنزلة أنفسنا. وأما قولك من أين هم أشد خوفا أو أطوع لله منا فذلك لخصال فواحدة منها أنهم كما فضلوا بالنبوة والرسالة فضلوا كذلك بالخوف والرعبة وجميع مكارم الأخلاق على من سواهم ، والخصلة الأخرى أنهم عاينوا من الملائكة والعجائب ما لم نعاين ، والخصلة الثالثة أنهم كانوا لا يجزعون عند المصيبة ، والرابعة أنهم كانوا يعاينون ما ينزل بغيرهم من العقوبة على المعصية وكان ذلك أيضا مما يحجزهم عن المعاصي.

قال المتعلم : لقد وقفت على ما وصفت فلم تزل تصف عدلا وتقول عرفا ولكن أحب أن تأتيني بقياس فيما وصفت من يقيننا ويقينهم وخوفنا وخوفهم وجرأتنا وجرأتهم كيف ذلك؟ فإن الجاهل إذا كان مهتما بأمر عاقبته ويريد أن يتعلم ووصفت له أمرا لم يفطن له فأثبته لقياس كان أجدر أن يفطن له.

قال العالم رحمه‌الله : نعم ما رأيت في طلب القياس ، وهكذا يصنع من أراد أن ينتفع بالمذاكرة فيما بينه وبين صاحبه إذا لم يعرف ما قيل له التمس القياس ، واعلم أن القياس الصواب يحقق لطالب الحق حقه ، ومثل القياس مثل الشهوة العدول لصاحب الحق على ما يدعي من الحق ولو لا إنكار الجهال للحق لم يتكلف العلماء القياس والمقايسة. فأما ما طلبت من القياس في أن يقيننا ويقين الملائكة واحد وخوفهم أشد من خوفنا بأنه كيف يكون ذلك؟ فأخبرك أن القياس في ذلك كرجلين عالمين بالسباحة لا يفوق أحدهما صاحبه في شيء من الأمور فانتهيا إلى نهر كثير

٥٧٧

الماء شديد الجرية فأحدهما على دخوله أجرأ والآخر أجبن أو كرجلين بهما مرض واحد وأتيا بدواء واحد شديد المرارة فأحدهما على شربة أجرأ والآخر أجبن.

قال المتعلم : لحسن ما فسرت لكن أخبرني إن كان إيماننا مثل إيمان الرسل أليس ثواب إيماننا مثل ثواب إيمانهم ، فإن كان ثواب إيماننا مثل ثواب إيمانهم فما فضلهم علينا؟ وقد استوينا في الدنيا بالإيمان واستوينا في الآخرة في ثواب الإيمان فإن كان ثواب إيماننا دون ثواب إيمانهم أليس هذا ظلما ، إذ كان إيماننا مثل إيمانهم ولم يجعل لنا من الثواب ما جعل لهم.

قال العالم رضي الله عنه : لقد أعظمت المسألة ، ولكن تثبت في الفتيا ألست تعلم أن إيماننا مثل إيمانهم ، لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الرسل؟ ولهم بعد علينا الفضل في الثواب على الإيمان وجميع العبادة. لأن الله تعالى كما فضّلهم بالنبوة على الناس كذلك فضّل كلامهم وصلاتهم وبيوتهم ومساكنهم وجميع أمورهم على غيرها من الأشياء ، ولم يظلمنا ربنا إذ لم يجعل ثوابنا مثل ثوابهم وذلك أنه كان إنما يكون الظلم لو نقصنا حقنا فأسخطنا. فأما إذا زاد أولئك ولم ينقصنا حقنا وأعطانا حتى أرضينا ، فإنّ ذلك ليس بظلم ، والأنبياء والرسل لهم الفضل في الدنيا على جميع الناس. لأنهم هم القادة ، وهم أمناء الرّحمن. ولا يدانيهم أحد من الناس. في عيادتهم وخوفهم وخشوعهم وتحملهم المؤنات في ذات الله تعالى وكذلك إنما أدرك الناس بإذن الله الفضل بهم. فلهم مثل أجور من يدخل الجنة بدعائهم.

قال المتعلم : لقد وصفت العدل فأوضحت فجزاك الله الجنة ولكن أخبرني هل تعلم من المعاصي شيئا يعذب الله عليه (البتة) غير الشرك أو تزعم أنها كلها مغفورة فإن زعمت أن بعضها مغفور فما المغفور منها؟.

قال العالم رضي الله عنه : ما أعلم شيئا من المعاصي يعذب الله عليه غير الشرك وما أستطيع الشهادة على أحد من أهل المعاصي من أهل القبلة أن الله يعذبه البتة عليها غير الإشراك بالله. وقد علمت أن بعضها مغفور ، ولا أعرفها لقول الله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) [النّساء : ٣١] فلست أعرف جميع الكبائر ولا السيئات التي تغفر والتي لا تغفر لأني لا أدري لعل الله يغفر ما دون الشرك من المعاصي كلها لأنه قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النّساء : ٤٨]. فلست أدري لمن يشاء المغفرة منهم ولمن لا يشاء.

٥٧٨

قال المتعلم : ألست تدري أنه لعل الله يغفر للقاتل ويعذب صاحب النظرة أو ليسا عندك بمنزلة واحدة في الرجاء لهما؟.

قال العالم رحمه‌الله : قد أعلم أنه إن كان الله يغفر للقاتل فإنّ صاحب النظرة أجدر أن يغفر له ، وإن عذب على النظرة فهو على القتل أجدر أن يعذّب ، لأنه تعالى قال : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] وصاحب النظرة إذا لم يقتل كان أتقى من القاتل ، وأما ما ذكرت من الرجاء لهما فإنّهما لا يستويان عندي لأني لصاحب الذنب الصغير أرجى مني لصاحب الذنب الكبير ، والقياس في ذلك رجلان ركب أحدهما البحر والآخر ركب نهرا صغيرا ، وأنا أتخوف عليهما الغرق ، وأرجو لهما النجاة جميعا غير أني على صاحب البحر أخوف أن يغرق مني على صاحب النهر الصغير ، وأنا لصاحب النهر الصغير أرجى بالنجاة مني لصاحب البحر ، وكذلك أنا على صاحب الذنب الكبير أخوف مني لصاحب الذنب الصغير ، وأنا لصاحب الذنب الصغير أرجى مني لصاحب الذنب الكبير وأنا في ذلك أرجو لهما وأخاف عليهما على قدر أعمالهما.

قال المتعلم : ما أحسن ما تقيس ولكن أخبرني عن الاستغفار لصاحب الكبيرة أفضل أو الدعاء عليه أو أنت بالخيار فيما بين الدعاء عليه باللعنة والاستغفار فبيّن لي هذا كله.

قال العالم رضي الله عنه : الذنب على منزلتين غير الإشراك بالله تعالى فأي الذنبين ركب هذا العبد فإنّ الدعاء له بالاستغفار أفضل وإن دعوت عليه باللعنة لم تأثم ، وذلك بأنه إذا ركب ذنبا منك وعفوت عنه ولم تدع عليه كان أفضل وإن ركب ذنبا فيما بينه وبين خالقه بعد أن كان لم يشرك بالله فرحمته ودعوت له بالمغفرة لحرمة الشهادة كان هذا أفضل وإن دعوت عليه بالهلاك لم تأثم. وذلك بأنك تقول يا رب خذه بذنبه ، وإنما تكون آثما إذا أنت قلت يا رب خذه بغير ذنب ، فالاستغفار أفضل لخصلتين أما إحداهما فلأنه مؤمن ، والأخرى لأنك لا تستيقن أنّ الله معذبه ، ولو استيقنت أن الله معذبه لكان حراما عليك الاستغفار له ، وقد نهى الله عزوجل أن يستغفر لمن أوجب له النار ، والذي يستغفر الله لمن قال الله أنه يعذبه فيسأل ربه أن يخلف قوله كالذي يقول : يا رب لا تمتني واحدة ، وقد قال الله عزوجل : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] فالدعاء لأهل هذه الشهادة بالمغفرة أفضل لحرمة هذه الشهادة والإقرار بها ، لأنه ليس بشيء يطاع الله فيه أفضل من الإقرار بهذه الشهادة ، وجميع ما أمر الله تعالى به من فرائضه في جنب الإقرار بهذه الشهادة أصغر من البيضة

٥٧٩

في جنب السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهنّ. فكما أن ذنب الإشراك أعظم كذلك أجر الشهادة أعظم ، وقد ذكر الله عزوجل في تعظيم ذنب الإشراك ما لم يذكره في تعظيم شيء من الأعمال السيئة ، فإنه قال : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣]. ولم يقل مثل ذلك في شيء من الأعمال السيئة. وقال تعالى : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [الحجّ : ٣١] وقال تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١)) [مريم : ٩٠ ، ٩١] ولم يقل شيئا من هذه الآيات في القتل وما هو دونه.

قال المتعلم : ما تزيدني إلا رغبة في مذاكرتك فجزاك الله عن جميع المؤمنين خيرا ما أحسن قولك ورأيك وسيرتك في محسنهم ومسيئهم! وأعرفك بفضلهم وأرحمك بهم! ولكن أخبرني هل يفضل أهل العدل بعضهم بعضا في قولهم في أهل القبلة؟

قال العالم رضي الله عنه : أما أهل العدل فقولهم في تعظيم حرمات الله واحد غير أن بعضهم أفضل من بعض في العلم والحجج في تعظيم حرمات الله تعالى والدعاء إليه وتحمل المؤنات فيه وشدة الاهتمام بفساد الأمة والبحث عن تعظيم حرماتهم والذب عنهم كمثل عسكر بحضرة العدو ، وقد اجتمعت كلمتهم وأيديهم على عدوهم غير أن بعضهم يفوق بعضا في العلم بالقتال والحروب والمكايدة وبذل السلاح والمال والتحريض للأصحاب على القتال.

قال المتعلم : لعمري ما أعرف من القياس (أوضح من هذا) ولكن أخبرني هل يكون المؤمن إذا ارتكب الكبائر لله عدوا؟.

قال العالم رضي الله عنه : إن المؤمن لا يكون لله عدوا وإن ركب جميع الذنوب بعد أن لا يدع التوحيد. وذلك بأن العدو يبغض عدوه ويتناول عدوه بالمنقصة والمؤمن قد يرتكب العظيم من الذنب. والله مع ذلك أحب إليه مما سواه وذلك أنه لو خيّر بين أن يحرق بالنار أو يفتري على الله من قلبه لكان الإحراق بالنار أحب إليه من ذلك.

قال المتعلم : إن كان الله أحب إليه مما سواه فلم يعصيه؟ وهل يكون أحد يحب أحدا فيعصيه فيما يأمره؟.

٥٨٠