تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

وقوله سبحانه : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) قال مجاهد وغيره (١) : هو المطر ، وقال واصل الأحدب : أراد القضاء والقدر (٢) ، أي : الرزق عند الله يأتي به كيف شاء سبحانه لا ربّ غيره ، و (تُوعَدُونَ) يحتمل أن يكون من الوعد ، ويحتمل أن يكون من الوعيد ؛ قال الضّحّاك. المراد : من الجنة والنار (٣) ، وقال مجاهد (٤) : المراد : الخير والشرّ ، وقال ابن سيرين (٥) : المراد : الساعة ، ثم أقسم سبحانه بنفسه على صحّة هذا القول والخبر ، وشبّهه في اليقين به بالنّطق من الإنسان ، وهو عنده في غاية الوضوح ، و «ما» زائدة تعطي تأكيدا ، والنطق في هذه الآية هو الكلام / بالحروف والأصوات في ترتيب المعاني ، وروي أنّ بعض الأعراب الفصحاء سمع هذه الآية فقال : من أحوج الكريم إلى أن يحلف؟! والحكاية بتمامها في كتاب الثعلبيّ ، وسبل الخيرات ، وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قاتل الله قوما ، أقسم لهم ربّهم بنفسه فلم يصدّقوه» وروى أبو سعيد الخدريّ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو فرّ أحدكم من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت» (٦) وأحاديث الرزق كثيرة ، ومن كتاب «القصد إلى الله سبحانه» للمحاسبيّ : قال : قلت لشيخنا : من أين وقع الاضطراب في القلوب ، وقد جاءها الضمان من الله عزوجل؟ قال : من وجهين.

أحدهما : قلّة المعرفة بحسن الظّن ، وإلقاء التّهم عن الله عزوجل.

والوجه الثاني : أن يعارضها خوف الفوت ، فتستجيب النفس للداعي ، ويضعف اليقين ، ويعدم الصبر ، فيظهر الجزع.

قلت : شيء غير هذا؟ قال : نعم ، إنّ الله عزوجل وعد الأرزاق ، وضمن ، وغيّب الأوقات ؛ ليختبر أهل العقول ، ولو لا ذلك لكان كلّ المؤمنين راضين صابرين متوكّلين ، لكنّ الله عزوجل أعلمهم أنّه رازقهم ، وحلف لهم على ذلك ، وغيّب عنهم أوقات العطاء ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٦١) برقم : (٣٢١٨٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٣١)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٤٦١) برقم : (٣٢١٨٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٣٥)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٦١) برقم : (٣٢١٨٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٣١) ، وابن عطية (٥ / ١٧٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣٧) ، وعزاه لأبي الشيخ ، وابن جرير.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٤٦١) برقم : (٣٢١٨٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٣١) ، وابن عطية (٥ / ١٧٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣٧) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر.

(٥) ذكره ابن عطية (٥ / ١٧٦)

(٦) قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤ / ٧٥) : رواه الطبراني في «الأوسط» و «الصغير» وفيه عطية العوفي وهو ضعيف. ا ه.

٣٠١

فمن هاهنا عرف الخاصّ من العامّ ، وتفاوت العباد في الصبر ، والرضا ، واليقين ، والتوكل ، والسكون ، فمنهم ـ كما علمت ـ ساكن ، ومنهم متحرك ، ومنهم راض ، ومنهم ساخط ، ومنهم جزع ، فعلى قدر ما تفاوتوا في المعرفة ـ تفاوتوا في اليقين ، وعلى قدر ما تفاوتوا في اليقين ـ تفاوتوا في السكون والرضا والصبر والتوكل. ا ه.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(٣٦)

وقوله سبحانه : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ...) الآية ، قد تقدم قصصها ، و «عليم» أي : عالم ، وهو إسحاق* ع*.

* ت* : ولنذكر هنا شيئا من الآثار في آداب الطعام ، قال النوويّ : روى ابن السّنّيّ بسنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه كان يقول في الطعام إذا قرب إليه : «اللهم بارك لنا فيما رزقتنا ، وقنا عذاب النار ، باسم الله» انتهى (١) ، وفي «صحيح مسلم» عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل الرجل بيته ، فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه ـ قال الشيطان : لا مبيت لكم ، ولا عشاء ، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله ، قال الشيطان : أدركتم المبيت ، وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه ، قال أدركتم المبيت والعشاء» (٢) ، وفي «صحيح مسلم» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الشيطان يستحلّ الطّعام ألّا يذكر اسم الله عليه» (٣) الحديث ، انتهى ،

__________________

(١) أخرجه ابن السني (٤٥٩)

(٢) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٩٨) كتاب «الأشربة» باب : آداب الطعام والشراب وأحكامهما (١٠٣ / ٢٠١٨) ، وأبو داود (٢ / ٣٧٤) كتاب «الأطعمة» باب : التسمية على الطعام (٣٧٦٥) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٧٩) ، كتاب «الدعاء» باب : ما يدعو به إذا دخل بيته (٣٨٨٧) ، وأحمد (٣ / ٣٤٦) ، والبيهقي (٧ / ٢٧٦) ، كتاب «الصداق» باب : التسمية على الطعام ، والبخاري في «الأدب المفرد» (٣١٩) (١١٠٢)

(٣) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٩٧) كتاب «الأشربة» باب : آداب الطعام والشراب وأحكامهما (١٠٢ / ٢٠١٧) ، وأبو داود (٢ / ٣٧٤) كتاب «الأطعمة» باب : التسمية على الطعام (٣٧٦٦) ، وأحمد (٥ / ٣٨٣) ، والحاكم في «المستدرك» (٤ / ١٠٨).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وللحديث شاهد من رواية جابر بن عبد الله ، أخرجه أبو داود (٢ / ٣٧٤) كتاب «الأطعمة» ، باب : ـ

٣٠٢

والصرّة : الصيحة (١) ؛ كذا فسره ابن عبّاس وجماعة ، قال الطبريّ عن بعضهم (٢) : قالت : «أوّه» ؛ بصياح وتعجّب ؛ وقال النحّاس : (فِي صَرَّةٍ) في جماعة نسوة.

وقوله : (فَصَكَّتْ وَجْهَها) : معناه : ضربت وجهها ؛ استهوالا لما سمعت ، وقال سفيان وغيره : ضربت بكفّها جبهتها (٣) ، وهذا مستعمل في الناس حتّى الآن ، وقولهم : (كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) أي : كقولنا الذي أخبرناك.

وقوله تعالى : (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) بيان يخرج عن معتاد حجارة البرد التي هي من ماء ، ويروى أنّه طين طبخ في نار جهنّم حتّى صار حجارة كالآجر ، و (مُسَوَّمَةً) نعت لحجارة ، ثم أخبر تعالى أنّه أخرج بأمره من كان في قرية «لوط» من المؤمنين ، منجيا لهم ، وأعاد الضمير على القرية ، / وإن لم يجر لها قبل ذلك ذكر ؛ لشهرة أمرها ، قال المفسرون : لا فرق بين تقدّم ذكر المؤمنين وتأخّره ؛ وإنّما هما وصفان ذكرهم أوّلا بأحدهما ، ثم آخرا بالثّاني ، قيل : فالآية دالّة على أنّ الإيمان هو الإسلام ، قال* ع (٤) * : ويظهر لي أنّ في المعنى زيادة تحسن التقديم للإيمان ؛ وذلك أنّه ذكره مع الإخراج من القرية ، كأنّه يقول : نفذ أمرنا بإخراج كلّ مؤمن ، ولا يشترط فيه أن يكون عاملا بالطاعات ؛ بل التصديق بالله فقط ، ثم لما ذكر حال الموجودين ذكرهم بالصفة التي كانوا عليها ، وهي الكاملة التصديق والأعمال ، والبيت من المسلمين هو بيت لوط* ع* وكان هو وابنتاه ، وفي كتاب الثعلبيّ : وقيل : لوط وأهل بيته ثلاثة عشر ، وهلكت امرأته فيمن هلك ، وهذه القصة ذكرت على جهة ضرب المثل لقريش ، وتحذيرا أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء.

(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ)(٤٤)

__________________

ـ التسمية على الطعام (٣٧٦٥) ، والنسائي (٤ / ١٧٤) ، كتاب «آداب الأكل» باب : ذكر الله تعالى وتبارك عند الطعام (٦٧٥٧ / ١)

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٦٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٣٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣٨) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٤٦٣)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٦٤) برقم : (٣٢٢٠٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٨)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٧٩)

٣٠٣

وقوله : (وَتَرَكْنا فِيها) أي : في القرية ، وهي سدوم (آيَةً) ، قال أبو حيان (١) : (وَفِي مُوسى) ، أي : وفي قصة موسى ، [انتهى].

وقوله سبحانه في فرعون : (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أي : أعرض عن أمر الله ، وركنه : هو سلطانه وجنده وشدّة أمره ، وقول فرعون في موسى : (ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) هو تقسيم ، ظنّ أنّ موسى لا بدّ أن يكون أحد هذين القسمين ، وقال أبو عبيدة : «أو» هنا بمعنى الواو ، وهذا ضعيف لا داعية إليه في هذا الموضع.

وقوله : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي : ما تدع من شيء أتت عليه ممّا أذن لها في إهلاكه (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) : وهو الفاني المتقطّع ؛ يبسا أو قدما من الأشجار / والورق والعظام ، وروي في حديث : أنّ تلك الريح كانت تهبّ على الناس فيهم العاديّ وغيره ، فتنتزع العاديّ من بين الناس وتذهب به.

وقوله سبحانه : (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا) أي : إذ قيل لهم في أول بعث صالح ، وهذا قول الحسن (٢) ، ويحتمل : إذ قيل لهم بعد عقر الناقة : تمتعوا في داركم ثلاثة أيّام ؛ وهو قول الفرّاء(٣).

وقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي : يبصرون بعيونهم ، وهذا قول الطبريّ ، ويحتمل أن يريد وهم ينتظرون في تلك الأيّام الثلاثة ، وهذا قول مجاهد (٤).

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦) وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ)(٤٨)

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) أي : من مصارعهم ؛ قاله بعض المفسرين ، وقال قتادة وغيره (٥) : معناه من قيام بالأمر النازل بهم ولا دفعه عنهم.

(وَقَوْمَ نُوحٍ) بالنصب ، وهو عطف إمّا على الضمير في قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ) ، إذ هو بمنزلة أهلكتهم ، وإمّا على الضمير في قوله : (فَنَبَذْناهُمْ).

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ١٣٩)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ١٨٠)

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٤٧٠) برقم : (٣٢٢٤٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨٠)

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٤٧١) برقم : (٣٢٢٤٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٣٤) ، وابن عطية (٥ / ١٨١)

٣٠٤

وقوله : (وَالسَّماءَ) نصب بإضمار فعل تقديره : وبنينا السماء بنيناها ، والأيد : القوة ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (١) (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي : في بناء السماء ، أي : جعلناها واسعة ؛ قاله ابن زيد(٢).

أبو البقاء : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي : نحن ، فحذف المخصوص. انتهى.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥)

وقوله سبحانه : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) قال مجاهد : معناه : أنّ هذه إشارة إلى المتضادات والمتقابلات من الأشياء ؛ كالليل والنهار ، والشقاوة والسعادة ، والهدى والضلال ، والسماء والأرض ، والسواد والبياض ، والصحّة والمرض ، والإيمان والكفر ، ونحو هذا ، ورجّحه الطبريّ (٣) بأنّه أدلّ على القدرة التي توجد الضدين ، وقال ابن زيد وغيره (٤) : هي إشارة إلى الأنثى والذكر من كلّ حيوان.

* ت* : والأوّل أحسن ؛ لشموله لما ذكره ابن / زيد.

وقوله سبحانه : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ ...) الآية أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الرحمن ، ونبّه بلفظ الفرار على أنّ وراء الناس عقابا وعذابا» يفرّ منه ، فجمعت لفظة «فروا» بين التحذير والاستدعاء.

* ت* : وأسند أبو بكر ، أحمد بن الحسين البيهقيّ في «دلائل النبوّة» (تصنيفه) عن كثير بن عبد الله ، عن أبيه ، عن جدّه «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في المسجد ، فسمع كلاما من زاويته ، وإذا هو بقائل يقول : اللهمّ ، أعني على ما ينجيني ممّا خوّفتني ، فقال

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٧٢) برقم : (٣٢٢٤٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٤٧٢) برقم : (٣٢٢٥١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨١)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٧٢) برقم : (٣٢٢٥٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٤٧٣) برقم : (٣٢٢٥٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨١)

٣٠٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمع ذلك : ألا تضمّ إليها أختها؟ فقال الرجل : اللهمّ ، ارزقني شوق الصادقين إلى ما شوّقتهم إليه» وفيه : «فذهبوا ينظرون ، فإذا هو الخضر* ع*» ، انتهى مختصرا (١).

وقوله تعالى : (كَذلِكَ) أي : سيرة الأمم كذلك ؛ قال عياض : فهذه الآية ونظائرها تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عزّاه الله ـ عزوجل ـ بما أخبر به عن الأمم السالفة ومقالها لأنبيائها ، وأنّه ليس أوّل من لقي ذلك ، انتهى من «الشفا».

وقوله سبحانه : (أَتَواصَوْا بِهِ) توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة في تكذيب الأنبياء على تفرّق أزمانهم ، أي : لم يتواصوا ، لكنّهم فعلوا فعلا كأنّه فعل من تواصى ، والعلّة في ذلك أنّ جميعهم طاغ ، والطاغي المستعلي في الأرض ، المفسد.

وقوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي : عن الحرص المفرط عليهم ، وذهاب النفس حسرات ، ولست بملوم ؛ إذ قد بلّغت (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى) : نافعة للمؤمنين ، ولمن قضي له أن يكون منهم.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)(٦٠)

وقوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قال ابن عبّاس وعليّ (٢) : المعنى : ما خلقت الجن والإنس إلّا لآمرهم بعبادتي ، وليقرّوا لي بالعبوديّة ، وقال زيد بن أسلم (٣) وسفيان : هذا خاصّ ، والمراد : ما خلقت الطائعين من الجن والإنس إلّا لعبادتي ، ويؤيّد هذا التأويل أنّ ابن عبّاس روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنّه قرأ : «وما خلقت الجنّ والإنس من المؤمنين إلّا ليعبدون» ، وقال ابن عبّاس أيضا (٤) : معنى (لِيَعْبُدُونِ) : ليتذللوا لي ولقدرتي ، وإن لم يكن ذلك على قوانين شرع ، وعلى هذا التأويل فجميعهم من مؤمن

__________________

(١) أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (٥ / ٤٢٣) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (١ / ١٩٣ ، ١٩٥)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ١٨٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٣٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٧٥) برقم (٣٢٢٦٣) (٣٢٢٦٥) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٣٥) ، وابن عطية (٥ / ١٨٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٢) وعزاه لابن جرير وابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٤٧٦) برقم (٣٢٢٦٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨٣)

٣٠٦

وكافر متذلّل لله عزوجل ؛ ألا تراهم عند القحوط والأمراض وغير ذلك كيف يخضعون لله ويتذللون؟!.

* ت* : قال الفخر (١) : فإن قيل : ما العبادة التي خلق الله الجن والإنس لها؟ قلنا : التعظيم لأمر الله ، والشفقة على خلق الله ؛ فإنّ هذين النوعين لم يخل شرع منهما ، وأمّا خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها : بالوضع والهيئة ، والقلّة والكثرة ، والزّمان والمكان ، والشرائط والأركان ، انتهى ، ونقل الثعلبيّ وغيره (٢) عن مجاهد : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي : ليعرفوني ، قال صاحب «الكلم الفارقية» : المعرفة بالله تملأ القلب مهابة ومخافة ، والعين عبرة وعبرة وحياء وخجلة ، والصدر خشوعا وحرمة ، والجوارح استكانة وذلّة وطاعة وخدمة ، واللسان ذكرا وحمدا ، والسمع إصغاء وتفهّما ، والخواطر في مواقف المناجاة خمودا ، والوساوس اضمحلالا ، انتهى.

وقوله سبحانه : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي : أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم.

وقوله : (أَنْ يُطْعِمُونِ) أي : أن يطعموا خلقي ؛ قاله ابن عبّاس (٣) ، ويحتمل أن يريد : / أن ينفعوني ، و (الْمَتِينُ) : الشديد.

* ت* : وروّينا في «كتاب التّرمذيّ» عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله عزوجل يقول : يا بن آدم ، تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنى ، وأسدّ فقرك ، وإلّا تفعل ملأت يدك شغلا ، ولم أسدّ فقرك» ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، وروّينا فيه عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت الآخرة همّه ، جعل الله غناه في قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدّنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدّنيا همّه ، جعل الله فقره بين عينيه ، وفرّق عليه شمله ، ولم يأته من الدّنيا إلّا ما قدّر له» (٤) انتهى.

وقوله سبحانه : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) : يريد أهل مكّة ، والذّنوب : الحظّ والنصيب ،

__________________

(١) ينظر : «تفسير الرازي» (١٤ / ٢٠٠)

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٢٣٥)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٧٦) برقم : (٣٢٢٦٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨٣)

(٤) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٤٢ ـ ٦٤٣) كتاب «صفة القيامة» باب : (٣٠) (٢٤٦٦) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٧٦) كتاب «الزهد» باب : الهم بالدنيا (٤١٠٧) ، وأحمد (٢ / ٣٥٨).

قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

٣٠٧

وأصله من الدّلو ؛ وذلك أنّ الذّنوب هو ملء الدّلو من الماء ، وكذا قال أبو حيان (١) : (ذَنُوباً) ، أي : نصيبا ، انتهى ، و (أَصْحابِهِمْ) : يراد بهم من تقدم من الأمم المعذّبة ، وباقي الآية وعيد بيّن.

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ١٤١)

٣٠٨

تفسير سورة «الطّور»

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٦)

قوله عزوجل : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ...) الآية ، هذه مخلوقات أقسم الله ـ عزوجل ـ بها ؛ تنبيها على النظر والاعتبار بها ، المؤدّي إلى توحيد الله والمعرفة بواجب حقّه سبحانه ؛ قال بعض اللغويين : كلّ جبل طور ، فكأنّه سبحانه أقسم بالجبال ، وقال آخرون : الطور : كلّ جبل أجرد لا ينبت شجرا ، وقال نوف البكاليّ : المراد هنا جبل طور سيناء ، وهو الذي أقسم الله به ؛ لفضله على الجبال ، والكتاب المسطور : معناه / بإجماع : المكتوب أسطارا ، واختلف الناس في هذا الكتاب المقسم به ، فقال بعض المفسّرين : هو الكتاب المنتسخ من اللوح المحفوظ للملائكة ؛ لتعرف منه جميع ما تفعله وتصرفه في العالم ، وقيل : هو القرآن ؛ إذ قد علم تعالى أنّه يتخلد في رقّ منشور ، وقيل : هو الكتب المنزّلة ، وقيل : هو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق ، وهو الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، والرق : الورق المعدّة للكتب ، وهي مرقّقة ؛ فلذلك سمّيت رقّا ، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان ، والمنشور خلاف المطويّ ، (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) : هو الذي ذكر في حديث الإسراء ؛ قال جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا البيت المعمور يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم (١) ، وبهذا هي عمارته ، وهو في السماء السابعة ، وقيل : في السادسة ، وقيل : إنّه مقابل للكعبة ، لو وقع حجر منه ، لوقع على ظهر

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٣٤٨ ، ٣٥٠) ، كتاب «بدء الخلق» باب : ذكر الملائكة (٣٢٠٧) ، وكتاب «مناقب الأنصار» باب : المعراج (٣٨٨٧) ، والنسائي (١ / ٢١٧ ، ٢٢٠) ، كتاب «الصلاة» باب : فرض الصلاة وذكر اختلاف الناقلين في إسناد حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، واختلاف ألفاظهم فيه ، وأحمد (٣ / ١٤٨ ـ ١٤٩) ، (٤ / ٢٠٨ ، ٢١٠)

٣٠٩

الكعبة ، وقال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : في كل سماء بيت معمور ، وفي كلّ أرض كذلك ، وهي كلّها على خط من الكعبة ، وقاله علي بن أبي طالب (١) ، قال السّهيليّ : والبيت المعمور اسمه «عريبا» ، قال وهب بن منبّه : من قال : سبحان الله وبحمده ، كان له نور يملأ ما بين عريبا وحريبا ، وهي الأرض السابعة ، انتهى.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) : هو السماء ، واختلف الناس في (الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) فقال مجاهد وغيره (٢) : الموقد نارا ، وروي أنّ البحر هو جهنّم ، وقال قتادة (٣) : (الْمَسْجُورِ) : المملوء ، وهذا معروف من اللغة ، ورجّحه / الطبريّ (٤) ، وقال ابن عبّاس (٥) : هو الذي ذهب ماؤه ، فالمسجور الفارغ ، وروي أنّ البحار يذهب ماؤها يوم القيامة ، وهذا معروف في اللغة ، فهو من الأضداد ، وقيل : يوقد البحر نارا يوم القيامة ، فذلك سجره ، وقال ابن عبّاس أيضا (٦) : (الْمَسْجُورِ) : المحبوس ؛ ومنه ساجور الكلب ، وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه ، وكذلك لو لا أنّ البحر يمسك لفاض على الأرض ، والجمهور على أنّه بحر الدنيا ، وقال منذر بن سعيد (٧) : المقسم به جهنم ، وسمّاها بحرا ؛ لسعتها وتموجها ؛ كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الفرس : «وإن وجدناه لبحرا» (٨) ، والقسم واقع على قوله : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ١٨٦) عن مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٤٨٢) برقم : (٣٢٣١١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٤٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٦) ، وعزاه لابن جرير.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٨٣) برقم : (٣٢٣١٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٤٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٦) ، وعزاه لابن جرير.

(٤) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٤٨٣)

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٤٨٣) برقم : (٣٢٣١٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٤٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٦) ، وعزاه للشيرازي في «الألقاب» من طريق الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة.

(٦) أخرجه الطبري (١١ / ٤٨٣) برقم : (٣٢٣١٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٤٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٥) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٧) ذكره ابن عطية (٥ / ١٨٧)

(٨) أخرجه البخاري (٥ / ٢٨٤ ـ ٢٨٥) كتاب «الهبة» باب : من استعار من الناس الفرس ، حديث (٢٦٢٧) ، (٦ / ٤٢) كتاب «الجهاد والسير» باب : الشجاعة في الحرب والجبن ، حديث (٢٨٢) (٦ / ٦٩) كتاب «الجهاد والسير» باب : اسم الفرس والحمار ، حديث (٢٨٥٧) ، (٦ / ٧٨) ، باب : الركوب على الدابة الصعبة والفحولة من الخيل ، حديث (٢٨٦٢) ، (٦ / ٨٣) باب : الفرس القطوف ، حديث (٢٨٦٧) ، (٦ / ١٤٣) كتاب «الجهاد والسير» باب : مبادرة الإمام عند الفزع ، حديث (٢٩٦٨) ، باب : السرعة والركض في الفزع ، حديث (٢٩٦٩) ، (١٠ / ٦٠٩ ـ ٦١٠) ، كتاب «الأدب» باب : المعاريض مندوحة على الكذب ، حديث (٦٢١٢) ، ومسلم (٤ / ١٨٠٢) ، كتاب «الفضائل» باب : في شجاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقدمه للحرب ، حديث (٤٩ / ٢٣٠٧) ، وأبو داود (٢ / ٧١٥) ، كتاب «الأدب» باب : ما روي في ـ

٣١٠

لَواقِعٌ) يريد : عذاب الآخرة واقع للكافرين ؛ قاله قتادة (١) ، قال الشيخ عبد الحق في «العاقبة» : ويروى أنّ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ سمع قارئا يقرأ : (وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) قال : هذا قسم حقّ ، فلمّا بلغ القارئ إلى قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) ظنّ أنّ العذاب قد وقع به فغشي عليه ، انتهى ، و (تَمُورُ) معناه : تذهب وتجيء بالرياح متقطعة متفتّتة ، وسير الجبال : هو في أوّل الأمر ، ثم تتفتّت حتى تصير آخرا كالعهن المنفوش ، و (يُدَعُّونَ) قال ابن عبّاس وغيره (٢) : معناه : يدفعون في أعناقهم بشدة وإهانة وتعتعة ، ومنه : (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) [الماعون : ٢] ، وفي الكلام محذوف ، تقديره : يقال لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون ؛ توبيخا وتقريعا لهم ، ثم وقفهم سبحانه بقوله : (أَفَسِحْرٌ هذا ...) الآية : ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم : اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم ، أي : عذابكم حتم ، فسواء جزعكم / وصبركم ، لا بدّ من جزاء أعمالكم.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)(٢٠)

وقوله سبحانه : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ...) الآية : يحتمل أن يكون من خطاب أهل النار ، فيكون إخبارهم بذلك زيادة في غّمّهم وسوء حالهم ، نعوذ بالله من سخطه! ويحتمل ، وهو الأظهر ، أن يكون إخبارا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعاصريه ، لما فرغ من ذكر عذاب الكفار عقّب بذكر نعيم المتقين ـ جعلنا الله منهم بفضله ـ ليبين الفرق ، ويقع التحريض على الإيمان ، والمتقون هنا : متّقو الشرك ؛ لأنّهم لا بدّ من مصيرهم إلى الجنات ، وكلما زادت الدرجة في التقوى قوي الحصول في حكم الآية ، حتّى إنّ المتقين

__________________

ـ الرخصة في ذلك ، حديث (٤٩٨٨) ، والترمذي (٤ / ١٧١ ـ ١٧٢) ، كتاب «الجهاد» باب : ما جاء في الخروج عند الفزع ، حديث (١٦٨٥ ـ ١٦٨٦ ـ ١٦٨٧) ، وابن ماجه (٢ / ٩٢٦) ، كتاب «الجهاد» باب : الخروج في النفير ، حديث (٢٧٧٢) ، وأحمد (٣ / ١٤٧ ، ١٨٠ ، ١٨٥ ، ٢٧١ ، ٢٧٤ ، ٢٩١) ، وأبو داود الطيالسي (٢ / ١٢١) ـ منحة رقم : (٢٤٣٨) ، وأبو يعلى (٥ / ٣٣٦) رقم : (٢٩٦٢) ، والبيهقي (١٠ / ٢٥) كتاب «السبق والرمي» باب : ما جاء في تسمية البهائم والدواب (١٠ / ٢٠٠) ، كتاب «الشهادات» باب : من سمى المرأة قارورة ، من حديث أنس بن مالك.

وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٨٤) برقم : (٣٢٣١٩)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٤٨٤) برقم : (٣٢٣٢٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٨٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر.

٣١١

على الإطلاق هم في هذه الآية قطعا على الله تعالى بحكم خبره الصادق ، وقرأ جمهور الناس : «فاكهين» (١) ومعناه : فرحين مسرورين ، وقال أبو عبيدة : هو من باب : «لابن» و «تامر» ، أي : لهم فاكهة (٢) ، قال* ع (٣) * : والمعنى الأوّل أبرع ، وقرأ خالد فيما روى أبو حاتم : «فكهين» (٤) والفكه والفاكه : المسرور المتنعم.

وقوله تعالى : (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي : من إنعامه ورضاه عنهم.

وقوله تعالى : (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) هذا متمكن في متّقي المعاصي ، الذي لا يدخل النار (وَوَقاهُمْ) مشتق من الوقاية ، وهي الحائل بين الشيء وبين ما يضرّه.

وقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي : يقال لهم : كلوا واشربوا ، و (هَنِيئاً) نصب على المصدر.

وقوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) معناه : أنّ رتب الجنة ونعيمها بحسب الأعمال ، وأمّا نفس دخولها فهو برحمة الله وفضله ، وأعمال العباد الصالحات لا توجب على الله تعالى التنعيم إيجابا ؛ لكنّه سبحانه قد جعلها أمارة على من سبق في علمه تنعيمه ، وعلّق الثواب والعقاب بالتكسب الذي في الأعمال ، والحور : جمع حوراء ، وهي البيضاء القوية بياض بياض / العين وسواد سوادها ، والعين : جمع عيناء ، وهي كبيرة العينين مع جمالهما ، وفي قراءة ابن مسعود والنخعيّ : «وزوّجناهم بعيس عين» (٥) قال أبو الفتح : العيساء : البيضاء.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)(٢٨)

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٨٨) ، و «البحر المحيط» (٨ / ١٤٥) ، و «الدر المصون» (٦ / ١٩٧)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ١٨٨)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٨٨)

(٤) ينظر : مصادر القراءة السابقة.

(٥) ينظر : «المحتسب» (٢ / ٢٩٠) ، و «مختصر الشواذ» ص : (١٤٦) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ١٨٨) ، وقال : وحكى أبو عمرو عن عكرمة أنه قرأ «بعيس عين» على إضافة «عيس» إلى «عين».

٣١٢

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) اختلف في معنى الآية ، فقال ابن عبّاس ، وابن جبير ، والجمهور : أخبر الله تعالى أنّ المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يلحق الأبناء في الجنة بمراتب الآباء ، وإن لم يكن الأبناء في التقوى والأعمال كالآباء ؛ كرامة للآباء (١) ، وقد ورد في هذا المعنى حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعلوا الحديث تفسيرا للآية ، وكذلك وردت أحاديث تقتضي أنّ الله تعالى يرحم الآباء ؛ رعيا للأبناء الصالحين ، وقال ابن عبّاس أيضا والضّحّاك. معنى الآية : أنّ الله تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين ، يعني في الموارثة والدفن في مقابر المسلمين ، وفي أحكام الآخرة في الجنة (٢) ، وقال منذر بن سعيد : هي في الصغار لا في الكبار (٣) ؛ قال* ع (٤) * : وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأوّل ؛ لأنّ الآيات كلّها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة ، فذكر من جملة إحسانه سبحانه أنّه يرعى المحسن في المسيء ، ولفظة (أَلْحَقْنا) تقتضي أنّ للملحق بعض التقصير في الأعمال.

* ت* : وأظهر من هذا ما أشار إليه الثعلبيّ في بعض أنقاله : أنّ الله تعالى يجمع لعبده المؤمن ذرّيّته في الجنة ، كما كانوا في الدنيا ، انتهى ، ولم يتعرّض لذكر الدرجات في هذا التأويل ، وهو أحسن ؛ لأنّه قد تقرّر أنّ رفع الدرجات هي بأعمال العاملين ، والآيات / والأحاديث مصرّحة بذلك ، ولما يلزم على التأويل الأوّل أن يكون كلّ من دخل الجنة مع آدم* ع* في درجة واحدة ؛ إذ هم كلّهم ذرّيّته ، وقد فتحت لك بابا للبحث في هذا المعنى منعني من إتمامه ما قصدته من الاختصار ، وبالله التوفيق.

وقوله : (وَما أَلَتْناهُمْ) أي : نقصناهم ، ومعنى الآية أنّ الله سبحانه يلحق الأبناء بالآباء ، ولا ينقص الآباء من أجورهم شيئا ، وهذا تأويل الجمهور ، ويحتمل أن يريد : من عمل الأبناء من شيء من حسن أو قبيح ، وهذا تأويل ابن زيد (٥) ، ويؤيّده قوله سبحانه : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) والرهين : المرتهن ، وفي هذه الألفاظ وعيد ، وأمددت الشيء : إذا سرّبت إليه شيئا آخر يكثره أو يكثر لديه.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٨٧) برقم : (٣٢٣٣٨) ، و (١١ / ٤٨٨) برقم : (٣٢٣٣٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٣٩) ، وابن عطية (٥ / ١٨٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٤١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٨) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ١٨٩)

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٨٩)

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٤٩١) برقم : (٣٢٣٦٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٩٠)

٣١٣

وقوله : (مِمَّا يَشْتَهُونَ) إشارة إلى ما روي من أنّ المنعّم إذا اشتهى لحما نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها ، وليس يكون في الجنة لحم يحتز ، ولا يتكلّف فيه الذبح ، والسلخ ، والطبخ ، وبالجملة لا كلفة في الجنة ، و (يَتَنازَعُونَ) معناه : يتعاطون ؛ ومنه قول الأخطل : [البسيط]

نازعته طيّب الراح الشمول وقد

صاح الدّجاج وحانت وقعة السّاري (١) ،

قال الفخر (٢) : ويحتمل أن يقال : التنازع : التجاذب ، وحينئذ يكون تجاذبهم تجاذب ملاعبة ، لا تجاذب منازعة ، وفيه نوع لذّة ، وهو بيان لما عليه حال الشراب في الدنيا ؛ فإنّهم يتفاخرون بكثرة الشرب ، ولا يتفاخرون بكثرة الأكل ، انتهى ، والكأس : الإناء فيه الشراب ، ولا يقال في فارغ كأس ؛ قاله الزّجّاج (٣) ، واللغو : السّقط من القول ، والتأثيم : يلحق خمر الدنيا في نفس شربها وفي الأفعال التي تكون من شاربيها ، وذلك كلّه / منتف في الآخرة.

* ت* : قال الثعلبيّ : وقال ابن عطاء : أيّ لغو يكون في مجلس : محلّه جنّة عدن ، والساقي فيه الملائكة ، وشربهم على ذكر الله ، وريحانهم تحيّة من عند الله ، والقوم أضياف الله.

(وَلا تَأْثِيمٌ) أي : فعل يؤثمهم ، وهو تفعيل من الإثم ، أي : لا يأثمون في شربها ، انتهى ، واللؤلؤ المكنون أجمل اللؤلؤ ؛ لأنّ الصون والكنّ يحسّنه ، قال ابن جبير : أراد الذي في الصدف لم تنله الأيدي (٤) ، وقيل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان الغلمان كاللّؤلؤ المكنون فكيف المخدومون؟ قال : هم كالقمر ليلة البدر» (٥).

* ت* : وهذا تقريب للأفهام ، وإلّا فجمال أهل الجنّة أعظم من هذا ، يدلّ على ذلك أحاديث صحيحة ؛ ففي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال :

__________________

(١) ينظر : البيت في «ديوانه» (١٤٢) ، و «جمهرة أشعار العرب» (٧٢٥) ، والقرطبي (١٧ / ٤٦) ، و «روح المعاني» (٢٧ / ٣٤) ، و «البحر المحيط» (٨ / ١٤٧).

والساري : الذي يمشي ليلا.

(٢) ينظر : «تفسير الرازي» (١٤ / ٢١٨)

(٣) ينظر : «معاني القرآن» (٥ / ٦٣)

(٤) ذكره البغوي (٤ / ٢٤٠) ، وابن عطية (٥ / ١٩٠)

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٤٩٢) برقم : (٣٢٣٦٩) ، (٣٢٣٧٠) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٩) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وابن المنذر.

٣١٤

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أوّل زمرة يدخلون الجنّة ـ وفي رواية : «من أمّتي» على صورة القمر ليلة البدر ، ثمّ الّذين يلونهم على أشدّ كوكب درّيّ في السّماء إضاءة» (١) ، وفي رواية : «ثمّ هم بعد ذلك منازل» الحديث ، وفي «صحيح مسلم» أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ في الجنّة لسوقا يأتونها كلّ جمعة ، فتهبّ ريح الشمال ، فتحثو في وجوههم وثيابهم ، ويزدادون حسنا وجمالا ، فيقول لهم أهلوهم : والله ، لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا! فيقولون : وأنتم والله ، لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا» (٢) ، انتهى ، وقد أشار الغزّاليّ وغيره إلى طرف من هذا المعنى ، لمّا تكلّم على رؤية العارفين لله سبحانه في الآخرة ، قال بعد كلام : ولا يبعد أن تكون ألطاف الكشف والنظر في الآخرة متوالية إلى غير نهاية ، فلا يزال النعيم واللّذّة متزايدا أبد الآباد ، وللشيخ أبي الحسن الشاذلي هنا كلام حسن قال : لو كشف عن نور المؤمن لعبد من دون الله ، ولو كشف عن نور المؤمن العاصي لطبق السماء والأرض ، / فكيف بنور المؤمن المطيع؟! نقل كلامه هذا ابن عطاء الله وابن عبّاد ، انظره.

ثم وصف تعالى عنهم أنّهم في جملة تنعمهم (يَتَساءَلُونَ) أي : عن أحوالهم وما نال كلّ واحد منهم ، وأنّهم يتذكرون حال الدنيا وخشيتهم عذاب الآخرة ، والإشفاق أشدّ الخشية ورقّة القلب ، و (السَّمُومِ) : الحارّ ، و (نَدْعُوهُ) : يحتمل أن يريد : الدعاء على بابه ، ويحتمل أن يريد نعبده ، وقرأ نافع والكسائيّ : «أنّه» ـ بفتح الهمزة ـ ، والباقون بكسرها (٣) و (الْبَرُّ) الذي يبرّ ويحسن.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٣٦٧) كتاب «بدء الخلق» باب : ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (٣٢٤٥ ، ٣٢٤٦ ، ٣٢٥٤) ، (٦ / ٤١٧) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب : خلق آدم وذريته (٣٣٢٧) ، ومسلم (٤ / ٢١٧٨) ، (٢١٨٠) ، كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب : أول زمرة تدخل الجنة على هيئة القمر ليلة البدر ، وصفاتهم وأزواجهم (١٤ / ٢٨٣٤) ـ مكرر ، (١٥ ـ ١٦ / ٢٨٣٤) ، والترمذي (٤ / ٦٧٨) ، كتاب «صفة الجنة» باب : في صفة أهل الجنة (٢٥٣٧) ، وأحمد (٢٠ ، ٢٣٠ ، ٢٣١ ، ٢٣٢ ، ٢٤٧ ، ٢٥٣ ، ٢٥٧ ، ٣١٦ ، ٥٠٢ ، ٥٠٧) ، وابن ماجه (٢ / ١٤٤٩) ، كتاب «الزهد» باب : صفة الجنة (٤٣٣٣) ، وابن حبان (١٦ / ٤٣٦) ، كتاب «إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مناقب الصحابة» باب : وصف الجنة وأهلها (٧٤٢٠) ، (١٦ / ٤٦٣ ـ ٤٦٤) ، كتاب «إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مناقب الصحابة» باب : وصف الجنة وأهلها (٧٤٣٦ ـ ٧٤٣٧) ، والحميدي (٢ / ٤٨٣ ـ ٤٨٤) (١١٤٣) ، والدارمي (٢ / ٣٣٣ ـ ٣٣٤) ، كتاب «الرقائق» باب : في أول زمرة يدخلون الجنة ، وابن المبارك في «الزهد» (١ / ٥٤٩) (١٥٧٥) ، (١ / ٥٥٢) (١٥٨٥) مثله ونحوه.

قال الترمذي : هذا حديث صحيح.

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٧٨) ، كتاب «الجنة وصفة نعيمها» باب : في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم (١٣ / ٢٨٣٣)

(٣) ينظر : «السبعة» (٦١٣) ، و «الحجة» (٦ / ٢٢٧) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٣٤) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٢٣) ، و «العنوان» (١٨١) ، و «حجة القراءات» (٦٨٣) ، و «شرح شعلة» (٥٩٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٩٧)

٣١٥

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ)(٣٤)

وقوله سبحانه : (فَذَكِّرْ) أمر لنبيّه* ع* بإدامة الدعاء إلى الله عزوجل ، ثم قال مؤنسا له : (فَما أَنْتَ) : بإنعام الله عليك ولطفه بك ـ كاهن ولا مجنون.

وقوله سبحانه : (أَمْ يَقُولُونَ) أي : بل (يَقُولُونَ شاعِرٌ ...) الآية : روي أنّ قريشا اجتمعت في دار الندوة ، فكثرت آراؤهم في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى قال قائل منهم : تربّصوا به ريب المنون ، أي : حوادث الدهر ، فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء : زهير ، والنابغة ، والأعشى ، وغيرهم ، فافترقوا على هذه المقالة ، فنزلت الآية في ذلك ، والتّربّص : الانتظار ، والمنون : من أسماء الموت ، وبه فسر ابن عبّاس (١) ، وهو أيضا من أسماء الدهر ، وبه فسّر مجاهد (٢) ، والريب هنا : الحوادث والمصائب : ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما فاطمة بضعة منّي يريبني ما رابها» (٣) الحديث.

وقوله : (قُلْ تَرَبَّصُوا) وعيد في صيغة أمر.

وقوله سبحانه : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) الأحلام : العقول ، وقوله : (بِهذا) يحتمل أن يشير إلى هذه المقالة : هو شاعر ، ويحتمل أن يشير إلى ما هم عليه من الكفر وعبادة / الأصنام ، و (تَقَوَّلَهُ) معناه : قال عن الغير أنّه قاله ، فهي عبارة عن كذب مخصوص ، ثم عجّزهم سبحانه بقوله : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) والضمير في (مِثْلِهِ) عائد على القرآن.

وقوله : (إِنْ كانُوا صادِقِينَ)

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٩٤) برقم : (٣٢٣٧٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٩١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٤٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٥٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٤٩٤) برقم : (٣٢٣٧٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٩١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٥٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر.

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ١٩٠٢ ـ ١٩٠٣) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب : فضائل فاطمة بنت الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ (٩٣ ، ٩٥ / ٢٤٤٩) ، وأحمد (٤٣٢٣ ، ٤٣٢٦ ، ٣٢٨ ، ٣٣٢) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٢ / ٤١)

٣١٦

* ت* : أي : في أنّ محمّدا تقوّله ؛ قاله الثعلبيّ.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ)(٣٦)

وقوله سبحانه : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) قال الثعلبيّ : قال ابن عبّاس : من غير أب ولا أمّ ، فهم كالجماد لا يعقلون ، ولا تقوم لله عليهم حجّة ، أليسوا خلقوا من نطفة وعلقة ، وقال ابن كيسان : أم خلقوا عبثا ، وتركوا سدى من غير شيء ، أي : لغير شيء لا يؤمرون ولا ينهون (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) : لأنفسهم ، فلا يأتمرون لأمر الله ، انتهى ، وعبّر* ع (١) * : عن هذا بأن قال : وقال آخرون : معناه : أم خلقوا لغير علّة ولا لغاية عقاب وثواب ؛ فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرّعون.

* ت* : وقد يحتمل أن يكون المعنى : أم خلقوا من غير شيء خلقهم ، أي : من غير موجد أوجدهم ، ويدلّ عليه مقابلته بقوله : (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) وهكذا قال الغزّاليّ في «الإحياء» ، قال : وقوله عزوجل : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي : من غير خالق ، انتهى بلفظه من كتاب ، آداب التلاوة قال الغزّاليّ : ولا يتوهّم أنّ الآية تدلّ أنّه لا يخلق شيء إلّا من شيء! انتهى ، وقال الفخر (٢) : قوله تعالى : (مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فيه وجوه ، المنقول منها : أم خلقوا من غير خالق ، [وقيل : أم خلقوا لا لغير شيء عبثا] (٣) ، وقيل : أم خلقوا من غير أب وأمّ ، انتهى ، وأحسنها الأوّل ؛ كما قال الغزّاليّ ، والله أعلم بما أراد سبحانه ، وفي الصحيح عن جبير بن مطعم قال : «سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في المغرب بالطّور ، فلمّا بلغ هذه الآية : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) إلى قوله : (الْمُصَيْطِرُونَ) ـ كاد قلبي أن يطير» ، وفي رواية : «وذلك أوّل ما / وقر الإيمان في قلبي» (٤) انتهى ، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في «تاريخه» عن جبير بن مطعم قال : «أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في فداء أهل بدر ، فسمعته يقرأ في المغرب بالطّور ، فكأنّما تصدّع قلبي حين سمعت القرآن» انتهى.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٩٢)

(٢) ينظر : «تفسير الرازي» (١٤ / ٢٢٣)

(٣) سقط في : د.

(٤) أخرجه البخاري (٨ / ٤٦٩) ، كتاب «التفسير» برقم : (٤٨٥٤)

٣١٧

بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٤٣)

وقوله سبحانه : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) بمنزلة قوله : أم عندهم الاستغناء في جميع الأمور؟ والمصيطر : القاهر ، وبذلك فسر ابن عبّاس (١) الآية ، والسّلّم : السبب الذي يصعد به ، كان ما كان من خشب ، أو بناء ، أو حبال ، أو غير ذلك ، والمعنى : ألهم سلّم إلى السماء يستمعون فيه ، أي : عليه أو منه ، وهذه حروف يسدّ بعضها مسدّ بعض ، والمعنى : يستمعون الخبر بصحّة ما يدعونه ، فليأتوا بالحجّة المبينة في ذلك.

وقوله سبحانه : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) الآية ، قال ابن عبّاس (٢) : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ ، (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) : ما فيه ، ويخبرون به ، ثم قال : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) : بك وبالشرع ، ثم جزم الخبر بأنّهم (هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي : هم المغلوبون ، فسمّى غلبتهم كيدا ؛ إذ كانت عقوبة الكيد ، ثم قال سبحانه : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) : يعصمهم ويمنعهم من الهلاك ، قال الثعلبيّ : قال الخليل : ما في سورة الطور كلّها من ذكر «أم» كلّه استفهام لهم ، انتهى.

ثم نزّه تعالى نفسه : (عَمَّا يُشْرِكُونَ) به.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ)(٤٩)

وقوله : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً) أي : قطعة يقولون لشدة معاندتهم هذا (سَحابٌ مَرْكُومٌ) : بعضه على بعض ، وهذا جواب لقولهم : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) [الشعراء : ١٨٧] وقولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) [الإسراء : ٩٢] يقول : لو فعلنا هذا بهم لما / آمنوا ، ولقالوا : سحاب مركوم.

وقوله تعالى : (فَذَرْهُمْ) ، وما جرى مجراه من الموادعة ـ منسوخ بآية السيف ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٩٦) برقم : (٣٢٣٨٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٩٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٥٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٢٤٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٩٣)

٣١٨

والجمهور أنّ يومهم الذي فيه يصعقون ، هو يوم القيامة ، وقيل : هو موتهم واحدا واحدا ، ويحتمل أن يكون يوم بدر ؛ لأنّهم عذّبوا فيه ، والصعق : التعذيب في الجملة ، وإن كان الاستعمال قد كثر فيما يصيب الإنسان من الصيحة المفرطة ونحوه ، ثمّ أخبر تعالى بأنّ لهم دون هذا اليوم ، أي : قبله (عَذاباً) واختلف في تعيينه ، فقال ابن عبّاس وغيره (١) : هو بدر ونحوه ، وقال مجاهد (٢) : هو الجوع الذي أصابهم ، وقال البراء بن عازب وابن عبّاس أيضا (٣) : هو عذاب القبر ، وقال ابن زيد (٤) : هي مصائب الدنيا ، إذ هي لهم عذاب.

* ت* : ويحتمل أن يكون المراد الجميع ؛ قال الفخر (٥) : إن قلنا إنّ العذاب هو بدر فالذين ظلموا هم أهل مكّة ، وإن قلنا : العذاب هو عذاب القبر ، فالذين ظلموا عامّ في كل ظالم ، انتهى.

ثم قال تعالى لنبيّه : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي : بمرأى ومنظر ، نرى ونسمع ما تقول ، وأنّك في حفظنا وحيطتنا ؛ كما تقول : فلان يرعاه الملك بعين ، وهذه الآية ينبغي أن يقرّرها كلّ مؤمن في نفسه ؛ فإنها تفسّح مضايق الدنيا.

وقوله سبحانه : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) قال أبو الأحوص (٦) : هو التسبيح المعروف ، يقول في كلّ قيام : سبحان الله وبحمده ، وقال عطاء (٧) : المعنى حين تقوم من كلّ مجلس.

* ت* : وفي تفسير أحمد بن نصر الداوديّ قال : وعن ابن المسيّب قال : حقّ على كلّ مسلم أن يقول حين يقوم إلى الصلاة : سبحان الله وبحمده ؛ لقول الله سبحانه لنبيّه (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) ، انتهى ، / وقال ابن زيد (٨) : هي صلاة النوافل ، وقال

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٢٤٣) ، وابن عطية (٥ / ١٩٤)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٤٩٩) برقم : (٣٢٣٩٨) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٤٣) ، وابن عطية (٥ / ١٩٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٤٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٥١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٩٩) برقم : (٣٢٣٩٤) ، (٣٢٣٩٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٩٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٥٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٤٩٩) برقم : (٣٢٣٩٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٩٤)

(٥) ينظر : «تفسير الرازي» (١٤ / ٢٣٥)

(٦) أخرجه الطبري (١١ / ٥٠٠) برقم : (٣٢٤٠١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٩٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٥ / ١٩٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٥١) ، وعزاه لابن أبي شيبة.

(٧) ذكره البغوي (٤ / ٢٤٣) ، وابن عطية (٥ / ١٩٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٥ / ١٩٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٥١) ، وعزاه للفريابي ، وابن المنذر.

(٨) ذكره ابن عطية (٥ / ١٩٤)

٣١٩

الضحّاك (١) : هي الصلوات المفروضة ، ومن قال هي النوافل جعل أدبار النجوم ركعتي الفجر ، وعلى هذا القول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ، وقد روي مرفوعا ، ومن جعله التسبيح المعروف جعل قوله : (حِينَ تَقُومُ) مثالا ، أي : حين تقوم وحين تقعد ، وفي كل تصرّفك ، وحكى منذر عن الضّحّاك أنّ المعنى : حين تقوم في الصلاة [بعد] تكبيرة الإحرام ، فقل : «سبحانك اللهمّ ، وبحمدك ، وتبارك اسمك» (٢) الحديث.

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) أخرجه أبو داود (١ / ٢٦٥) ، كتاب «الصلاة» باب : من رأى الاستفتاح بسبحانك وبحمدك (٧٧٥) ، والترمذي (٢ / ٩ ـ ١٠) ، كتاب «الصلاة» باب : ما يقول عند افتتاح الصلاة (٢٤٢) ، وابن ماجه (٢ / ٢٦٤) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب : افتتاح الصلاة (٨٠٤) ، والنسائي (٢ / ١٣٢) ، كتاب «الافتتاح» باب : نوع آخر من الذكر بين افتتاح الصلاة وبين القراءة (٨٩٩) ، وأحمد (٣ / ٥٠ ، ٦٩) ، (١ / ٢٨٢) ، كتاب «افتتاح الصلاة» باب : ما يقال بعد افتتاح الصلاة ، وابن خزيمة (١ / ٢٣٨) جماع أبواب الأذان والإقامة ، باب : إباحة الدعاء بعد التكبير وقبل القراءة ... (٤٦٧)

٣٢٠