تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

تفسير سورة «المعارج»

[وهي] مكّيّة بلا خلاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) (٣)

قوله عزوجل : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ) قرأ جمهور السبعة : (سَأَلَ) بهمزة محقّقة ، قالوا : والمعنى دعا داع ، والإشارة إلى من قال من قريش : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ...) [الأنفال : ٣٢] الآية ، وقولهم : (عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [ص : ١٦] ونحو ذلك ، وقال بعضهم : المعنى بحث باحث واستفهم مستفهم ، قالوا : والإشارة إلى قول قريش : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) [الملك : ٢٥] وما جرى مجراه ؛ قاله الحسن وقتادة ، والباء على هذا التأويل في قوله : (بِعَذابٍ) بمعنى «عن» وقرأ نافع وابن عامر (١) : «سأل سائل» ساكنة الألف ، واختلف القراء بها / فقال بعضهم : هي «سأل» المهموزة إلّا أنّ الهمزة سهّلت ، وقال بعضهم هي لغة من يقول : سلت أسال ويتساولان ، وهي لغة مشهورة ، وقال بعضهم في الآية : هي من سال يسيل إذا جرى ، وليست من معنى السؤال ، قال زيد بن ثابت وغيره : في جهنم واد يسمّى سائلا (٢) ؛ والإخبار هنا عنه ، وقرأ ابن عبّاس (٣) : «سال سيل» ـ بسكون الياء ـ وسؤال الكفار عن العذاب ـ حسب قراءة الجماعة ـ إنما كان على أنه كذب ، فوصفه الله تعالى بأنه واقع وعيدا لهم.

وقوله : (لِلْكافِرينَ) قال بعض النحاة : اللام بمعنى «على» ، وروي : أنه كذلك في

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٦٥٠) ، و «الحجة» (٦ / ٣١٧) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٨٩) ، و «حجة القراءات» (٧٢٠) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٨٨) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٦٨) ، و «العنوان» (١٩٧) ، و «شرح شعلة» (٦٠٨). و «إتحاف» (٢ / ٥٦٠)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٦٤)

(٣) قال أبو الفتح : السيل هنا : الماء السائل ، وأصله المصدر ، من قولك : سال الماء سيلا ، إلا أنه أوقع على الفاعل ، كقوله : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) [الملك : ٣٠] ، أي : غائرا.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٣٣٠) ، و «مختصر الشواذ» ص : (١٦٢) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٦٥)

٤٨١

مصحف (١) أبيّ : «على الكافرين» والمعارج في اللّغة الدّرج في الأجرام ، وهي هنا مستعارة في الرتب والفضائل ، والصفات الحميدة ؛ قاله ابن عبّاس وقتادة (٢) ، وقال الحسن : هي المراقي في السماء (٣) ، قال عياض ، في «مشارق الأنوار» : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فعرج بي إلى السّماء» ، أي : ارتقى بي ، والمعراج الدّرج وقيل : سلّم تعرج فيه الأرواح ، وقيل : هو أحسن شيء لا تتمالك النفس إذا رأته أن تخرج ، وإليه يشخص بصر الميت من حسنه ، وقيل : هو الذي تصعد فيه الأعمال ، وقيل : قوله : (ذِي الْمَعارِجِ) معارج الملائكة ، وقيل : ذي الفواضل ، انتهى.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)(٤)

وقوله تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ) معناه تصعد ، والروح عند الجمهور هو جبريل* ع* وقال مجاهد : الرّوح ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الملائكة ؛ كما لا نرى نحن الملائكة (٤) ، وقال بعض المفسرين : هو اسم جنس لأرواح الحيوان.

وقوله سبحانه : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) قال ابن عبّاس وغيره : هو يوم القيامة (٥) ، ثم اختلفوا ؛ فقال بعضهم : قدره في الطول قدر / خمسين ألف سنة ، وقال بعضهم : بل قدره في الشدّة ، والأول هو الظاهر ، وهو ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من رجل لا يؤدّي زكاة ماله إلا جعل له صفائح من نار يوم القيامة تكوى بها جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة». قال أبو سعيد الخدريّ : «قيل : يا رسول الله! ما أطول يوما مقداره خمسون ألف سنة! فقال : والّذي نفسي بيده ، إنّه ليخفّ على المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة» (٦) ، قال ابن المبارك : أخبرنا معمر عن قتادة عن

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٦٥)

(٢) أخرجه الطبري (٦ / ٢٢٦) ، رقم : (٣٤٨٥٣ ـ ٣٤٨٥٤) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٦٥) ، وابن كثير (٤ / ٤١٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤١٦) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ، وعزاه أيضا لعبد بن حميد.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٦٥)

(٤) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٦٥)

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٢٧) ، رقم : (٣٤٨٦٤) بنحوه ، وذكره البغوي (٤ / ٣٩٢) ، وابن عطية (٥ / ٣٦٥) ، وابن كثير (٤ / ٤١٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤١٦) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، والبيهقي في «البعث».

(٦) أخرجه أحمد (٣ / ٧٥) ، والطبري (١٢ / ٢٢٧) (٣٤٨٦٧)

٤٨٢

زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال : يقصر يومئذ على المؤمن حتى يكون كوقت الصلاة (١) ، انتهى ، قال* ع (٢) * : وقد ورد في يوم القيامة أنه كألف سنة ، وهذا يشبه أن يكون في طوائف دون طوائف ، * ت* : قال عبد الحق في «العاقبة» له : اعلم رحمك الله ؛ أن يوم القيامة ليس طوله كما عهدت من طول الأيام ، بل هو آلاف من الأعوام ، يتصرّف فيه هذا الأنام ، على الوجوه والأقدام ، حتّى ينفذ فيهم ما كتب لهم وعليهم من الأحكام ، وليس يكون خلاصه دفعة واحدة ، ولا فراغهم في مرة واحدة ؛ بل يتخلّصون ويفرغون شيئا بعد شيء ، لكنّ طول ذلك اليوم خمسون ألف سنة ، فيفرغون بفراغ اليوم ، ويفرغ اليوم بفراغهم ، فمن الناس من يطول مقامه وحبسه إلى آخر اليوم ، ومنهم من يكون انفصاله في ذلك اليوم في مقدار يوم من أيام الدنيا ، أو في ساعة من ساعاته ، أو في أقلّ من ذلك ، ويكون رائحا في ظلّ كسبه وعرش ربه ، ومنهم من يؤمر به إلى الجنة بغير حساب ولا عذاب ، كما أنّ منهم من يؤمر به إلى النار في أول الأمر من غير وقوف ولا انتظار ، / أو بعد يسير من ذلك ، انتهى.

(فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى)(١٨)

وقوله سبحانه : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) أمر للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على أذى قومه ، والصبر الجميل الذي لا يلحقه عيب ولا شكّ ولا قلّة رضى ، ولا غير ذلك ، والأمر بالصبر الجميل محكم في كلّ حالة ، أعني : لا نسخ فيه ، وقيل : إن الآية نزلت قبل الأمر بالقتال ؛ فهي منسوخة ، * ت* : ولو قيل : هذا خطاب لجنس الإنسان في شأن هول ذلك اليوم ؛ ما بعد.

وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) يعني يوم القيامة ، والمهل : عكر الزّيت ؛ قاله ابن

__________________

ـ قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٣٤٠) : رواه أحمد وأبو يعلى وإسناده حسن على ضعف في راويه.

(١) أخرجه مسلم (١ / ٣٢٢) ، وأبو داود (٢ / ٦٧٣) ، كتاب «الأدب» باب : في التحلق (٤٨٢٣) ، وأحمد (٥ / ٩٣ ، ١٠١ ، ١٠٧) ، والبيهقي (٣ / ٢٣٤) ، كتاب «الجمعة» باب : من كره التحلق في المسجد.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٦٥)

٤٨٣

عبّاس (١) وغيره ، فهي لسوادها وانكدار أنوارها ، تشبه ذلك ، والمهل أيضا : ما أذيب من فضّة ونحوها ؛ قاله ابن مسعود وغيره (٢) ، والعهن الصوف ، وقيل : هو الصوف المصبوغ ، أيّ لون كان ، والحميم في هذا الموضع : القريب والوليّ ، والمعنى : ولا يسأله نصرة ولا منفعة ، ولا يجدها عنده ، وقال قتادة : المعنى : ولا يسأله عن حاله ؛ لأنّها ظاهرة قد بصر كلّ أحد حالة الجميع ، وشغل بنفسه (٣) ، قال الفخر (٤) : قوله تعالى : (يُبَصَّرُونَهُمْ) تقول : بصّرني زيد كذا ، وبصّرني بكذا ، فإذا بنيت الفعل للمفعول وحذفت الجارّ ، قلت : بصّرت زيدا ، وهكذا معنى : (يُبَصَّرُونَهُمْ) وكأنّه لما قال : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) قيل : لعله لا يبصره ؛ فقال : (يُبَصَّرُونَهُمْ) ولكن لاشتغالهم بأنفسهم لا يتمكّنون من تساؤلهم ، انتهى ، وقرأ ابن كثير (٥) بخلاف عنه : «ولا يسئل» على بناء الفعل للمفعول ، فالمعنى : ولا يسأل إحضاره ؛ لأنّ كلّ مجرم له سيما يعرف بها ، كما أنّ كلّ مؤمن له سيما خير ، والصاحبة هنا : الزوجة ، والفصيلة هنا : قرابة الرجل.

وقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها لَظى) ردّ لما ودّوه ، أي : ليس الأمر كذلك ، و «لظى» طبقة من طبقات جهنم ، والشوى / جلد الإنسان وقيل : جلد الرأس.

(تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) يريد الكفار ، قال ابن عبّاس وغيره : تدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم (٦) ، (وَجَمَعَ) أي جمع المال و (فَأَوْعى) جعله في الأوعية ، أي : جمعوه من غير حلّ ومنعوه من حقوق الله ، وكان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ، ويقول : سمعت الله تعالى يقول : (وَجَمَعَ فَأَوْعى).

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً)(٢١)

وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ) عموم لاسم الجنس ، لكنّ الإشارة هنا إلى الكفار ،

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٦٦) ، وابن كثير (٤ / ٤٢٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤١٨) ، وعزاه للطستي عن ابن عبّاس.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٦٦)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٢٩) ، رقم : (٣٤٨٧٦) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٦٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤١٨) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٤) ينظر : «الفخر الرازي» (٣٠ / ١١١)

(٥) ينظر : «السبعة» (٦٥٠) ، و «الحجة» (٦ / ٣٢٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٩٢) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٨٩) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٦٩) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٦١)

(٦) ذكره البغوي (٤ / ٣٩٤) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٦٧)

٤٨٤

والهلع فزع واضطراب يعتري الإنسان عند المخاوف وعند المطامع.

وقوله تعالى : (إِذا مَسَّهُ ...) الآية ، مفسّر للهلع.

(إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ)(٢٣)

وقوله تعالى : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) أي : إلا المؤمنين الذين أمر الآخرة عليهم أوكد من أمر الدنيا ، والمعنى أن هذا المعنى فيهم يقلّ لأنهم يجاهدونه بالتقوى.

وقوله : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أي : مواظبون ، وقد قال* ع* «أحبّ العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه».* ت* : وقد تقدم في سورة «قد أفلح» ما جاء في الخشوع ، قال الغزاليّ : فينبغي لك أن تفهم ما تقرؤه في صلاتك ولا تغفل في قراءتك عن أمره (١) سبحانه ، ونهيه ، ووعده ، ووعيده ، ومواعظه وأخبار أنبيائه ، وذكر منّته وإحسانه ، فلكلّ واحد حقّ ؛ فالرجاء حق الوعد ، والخوف حقّ الوعيد ، والعزم حق الأمر والنهي ، والاتّعاظ حقّ الموعظة ، والشكر حقّ ذكر المنّة ، والاعتبار حق ذكر أخبار الأنبياء ، قال الغزالي : وتكون هذه المعاني بحسب درجات الفهم ، ويكون الفهم بحسب وفور العلم. وصفاء القلب ، ودرجات ذلك لا تنحصر ، فهذا حقّ القراءة وهو حقّ الأذكار ، والتسبيحات أيضا ، ثم يراعى الهيئة في / القراءة ، فيرتّل ولا يسرد فإن ذلك أيسر للتأمّل ، ويفرّق بين نغماته في آيات الرحمة وآيات العذاب ، والوعد والوعيد ، والتحميد والتعظيم ، انتهى من «الإحياء» ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال : أخبرنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب أنّ أبا الخير حدّثه قال : سألنا عقبة بن عامر الجهنيّ عن قوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) أهم الذين يصلّون أبدا؟ قال : لا ، ولكنّه الذي إذا صلّى لم يلتفت عن يمينه ، ولا عن شماله ، ولا خلفه (٢) ، انتهى.

(وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(٣١)

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) قال ابن عبّاس وغيره : هذه الآية

__________________

(١) في د : أمر الله.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٦٨) ، وابن كثير (٤ / ٤٢١) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٠) ، وعزاه لابن المنذر.

٤٨٥

في الحقوق التي في المال سوى الزكاة (١) ، وهي ما ندبت إليه الشريعة من المواساة ، وهذا هو الأصحّ في هذه الآية ؛ لأن السورة مكية وفرض الزكاة وبيانها إنما كان بالمدينة ، وباقي الآية تقدّم تفسير نظيره.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)(٣٥)

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) جمع الأمانة من حيث إنّها متنوعة في الأموال والأسرار ، وفيما بين العبد وربّه ، فيما أمره به ونهاه عنه ، والعهد كلّ ما تقلّده الإنسان من قول أو فعل ، أو مودّة ، إذا كانت هذه الأشياء على منهاج الشريعة فهو عهد ينبغي رعيه وحفظه.

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) معناه في قول جماعة من المفسرين : أنهم يحفظون ما يشهدون فيه ، ويتقنونه ، ويقومون بمعانيه ؛ حتى لا يكون لهم فيه تقصير وهذا هو وصف من يمتثل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على مثل الشمس فاشهد» ، وقال آخرون : معناه : الذين إذا كانت عندهم شهادة ورأوا حقا يدرس أو حرمة لله تنتهك ؛ قاموا لله بشهادتهم.

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ)(٣٧)

وقوله تعالى : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) الآية نزلت بسبب / أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يصلي عند الكعبة أحيانا ويقرأ القرآن ، فكان كثير من الكفّار يقومون من مجالسهم مسرعين إليه يستمعون قراءته ، ويقول بعضهم لبعض : شاعر وكاهن ، ومفتر وغير ذلك ، و (قِبَلَكَ) معناه فيما يليك ، والمهطع الذي يمشي مسرعا إلى شيء قد أقبل ببصره عليه ، و (عِزِينَ) جمع عزة ، والعزة : الجمع اليسير كأنّهم كانوا ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ، وفي حديث أبي هريرة قال : «خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه وهم حلق متفرقون ، فقال : مالي أراكم عزين» (٢).

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٣٦) ، رقم : (٣٤٩١٨) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٦٨)

(٢) أخرجه مسلم (١ / ٣٢٢) ، كتاب «الصلاة» باب : الأمر بالسكون في الصلاة ، حديث (١١٩ / ٤٣٠) ، وأبو داود (٥ / ١٦٣) ، كتاب «الأدب» باب : في التحلق ، حديث (٤٨٢٣) ، وأحمد (٥ / ٩٣)

٤٨٦

بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(٤٤)

وقوله تعالى : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) نزلت لأنّ بعض الكفار قال : إن كانت ثمّ آخره وجنة فنحن أهلها ؛ لأنّ الله تعالى لم ينعم علينا في الدنيا بالمال والبنين ، وغير ذلك ؛ إلا لرضاه عنا.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردّ لقولهم وطمعهم ، أي : ليس الأمر كذلك ، ثم أخبر تعالى عن خلقهم من نطفة قدرة ، وأحال في العبارة على علم الناس ، أي : فمن خلق من ذلك فليس بنفس خلقه يعطى الجنة ، بل بالإيمان والأعمال الصالحة ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال : أخبرنا مالك بن مغول ؛ قال : سمعت أبا ربيعة يحدّث عن الحسن ؛ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّكم يحبّ أن يدخل الجنّة؟ قالوا : نعم ، جعلنا الله فداءك ، قال : فأقصروا من الأمل ، وثبّتوا آجالكم بين أبصاركم ، واستحيوا من الله حقّ الحياء ، قالوا : يا رسول الله ، كلّنا نستحي من الله ، قال : ليس كذلك الحياء ، ولكنّ الحياء من الله ألّا تنسوا المقابر والبلى ، ولا تنسوا الجوف وما وعى ، ولا تنسوا الرأس وما حوى / ، ومن يشتهي كرامة الآخرة يدع زينة الدّنيا ، هنالك استحيا العبد من الله ، هنالك أصاب ولاية الله» (١) ، انتهى ، وقد روّينا أكثر هذا الحديث ، من طريق أبي عيسى الترمذي ، وباقي الآية تقدّم تفسير نظيره ، والأجداث القبور ، والنصب : ما نصب للإنسان فهو يقصده مسرعا إليه من علم أو بناء ، وقال أبو العالية : (إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) : معناه : إلى غايات يستبقون ، و (يُوفِضُونَ) : معناه : يسرعون ، و (خاشِعَةً) : أي : ذليلة منكسرة.

__________________

(١) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص : (١٠٧) (٣١٧)

٤٨٧

تفسير سورة نوح عليه‌السلام

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤)

قوله سبحانه : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) هذا العذاب الذي توعّدوا به ، الأظهر أنّه عذاب الدنيا ، ويحتمل أن يكون عذاب الآخرة.

وقوله : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) قال قوم : «من» زائدة وهذا نحو كوفيّ ، وأما الخليل وسيبويه ؛ فلا يجوز عندهم زيادة «من» في الموجب (١) ، وقال قوم : هي للتبعيض ، قال* ع (٢) * : وهذا القول عندي أبين الأقوال هنا ؛ وذلك أنه لو قال : يغفر لكم ذنوبكم ؛ لعمّ هذا اللفظ ما تقدّم من الذنوب ، وما تأخّر عن إيمانهم ، والإسلام إنّما يجبّ ما قبله.

وقوله سبحانه : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) كأنّ نوحا* ع* قال لهم : وآمنوا يبن لنا أنّكم ممن قضي له بالإيمان والتأخير ، وإن بقيتم على كفركم فسيبين أنكم ممن قضي عليه بالكفر والمعاجلة ، ثم تبيّن هذا المعنى ولاح بقوله تعالى : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) وجواب لو مقدر / يقتضيه المعنى ، كأنّه قال : فما كان أحزمكم أو أسرعكم إلى التّوبة لو كنتم تعلمون.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً)(١٠)

__________________

(١) في د : الواجب.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٧٢)

٤٨٨

وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) الآية ، هذه المقالة قالها نوح* ع* بعد طول عمره ويأسه من قومه.

(وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) : معناه : جعلوها أغشية على رؤوسهم.

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً)(١٢)

وقوله : (يُرْسِلِ السَّماءَ) الآية ، روي أن قوم نوح كانوا قد أصابتهم قحوط وأزمة فلذلك بدأهم في وعده بأمر المطر ، و (مِدْراراً) من الدّرّ ، وروى ابن عبّاس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ ضيق مخرجا ، ومن كلّ همّ فرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب» (١) ؛ رواه أبو داود واللفظ له ، والنسائيّ وابن ماجه ، ولفظ النسائيّ (٢) : «من أكثر من الاستغفار» ، انتهى من «السلاح».

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً)(١٥)

وقوله : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) قال أبو عبيدة وغيره : (تَرْجُونَ) معناه تخافون (٣) ، قالوا : والوقار بمعنى العظمة ، فكأنّ الكلام على هذا التأويل وعيد وتخويف ، وقال بعض العلماء : ترجون على بابها ، وكأنه قال : ما لكم لا تجعلون رجاءكم لله ، و (وَقاراً) يكون على هذا التأويل منهم كأنه يقول : تؤدة منكم وتمكّنا في النظر.

وقوله : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) قال ابن عبّاس وغيره : هي إشارة إلى التدريج الذي للإنسان في بطن أمه (٤) ، وقال جماعة : هي إشارة إلى العبرة في اختلاف خلق ألوان الناس

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٤٧٦) ، كتاب «الصلاة» باب : في الاستغفار (١٥١٨) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٥٤ ، ١٢٥٥) ، كتاب «الأدب» باب : الاستغفار (٣٨١٩) ، والبيهقي (٣ / ٣٥١) ، كتاب «صلاة الاستسقاء» باب : ما يستحب من كثرة الاستغفار في خطبة الاستسقاء ، وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٢١١) ، والنسائي في «الكبرى» (٦ / ١١٨) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب : ثواب ذلك (١٠٢٩٠ / ٢) ، والحاكم في «المستدرك» (٤ / ٢٦٢).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

وتعقبه الذهبي قائلا : الحكم فيه جهالة.

(٢) في د : وابن ماجه.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٧٤)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٥١) ، رقم : (٣٥٠١٢) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٧٤) ، وابن كثير (٤ / ٤٢٥)

٤٨٩

وخلقهم ، ومللهم ، والأطوار : الأحوال المختلفة.

(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً)(٢٤)

وقوله سبحانه : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ...) الآية ، قال عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عبّاس : إن الشمس والقمر أقفاؤهما إلى الأرض ، وإقبال / نورهما وارتفاعه في السماء (١) ؛ وهذا الذي يقتضيه لفظ السّراج.

و (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) : استعارة من حيث خلق آدم* ع* من الأرض.

و (نَباتاً) مصدر جاء على غير المصدر ، التقدير : فنبتّم نباتا ، والإعادة فيها بالدّفن ، والإخراج هو بالبعث ، وظاهر الآية : أنّ الأرض بسيطة غير كرية ، واعتقاد أحد الأمرين غير قادح في الشرع بنفسه ، اللهمّ إلّا أن يترتب (٢) على القول بالكريّة نظر فاسد ، وأما اعتقاد كونها بسيطة ، فهو ظاهر كتاب الله تعالى ، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتّة ، واستدلّ ابن مجاهد على صحّة ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور فقال : لو كانت الأرض كريّة لما استقرّ الماء عليها (٣) ، والسّبل الطرق ، والفجاج الواسعة ، وقول نوح : (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ...) الآية ، المعنى : اتّبعوا أشرافهم وغواتهم ، و (خَساراً) : معناه : خسرانا ، و (كُبَّاراً) : بناء مبالغة نحو : حسّان وقرىء (٤) شاذّا : «كبارا» ـ بكسر الكاف ـ قال ابن الأنباري : جمع كبير.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٥٢) ، رقم : (٣٥٠٢٠) بنحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وذكره البغوي (٤ / ٣٩٨) ، وابن عطية (٥ / ٣٧٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٥ ـ ٤٢٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وأبي الشيخ في «العظمة» عن عبد الله بن عمرو ، وعزاه أيضا لأبي الشيخ عن ابن عبّاس.

(٢) في د : يتركب.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٧٥)

(٤) قرأ بها ابن محيصن ، وعيسى بن عمر.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٦٢) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٧٦) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٣٣٥) ، وزاد نسبتها إلى زيد بن علي ، وهي في «الدر المصون» (٦ / ٣٨٥)

٤٩٠

و (وَدًّا) وما عطف عليه أسماء أصنام ، وروى البخاريّ وغيره عن ابن عبّاس : أنّها كانت أسماء رجال صالحين ، من قوم نوح فلمّا هلكوا ؛ أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسمّوها بأسمائهم ، ففعلوا (١) ، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلم عبدت ، قال ابن عبّاس : ثم صارت هذه الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد (٢) ، انتهى.

وقوله : (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) هو إخبار نوح عن الأشراف ، ثم دعا الله عليهم ألّا يزيدهم إلا ضلالا ، وقال الحسن : أراد بقوله : (وَقَدْ / أَضَلُّوا) الأصنام المذكورة (٣).

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً)(٢٨)

وقوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) ابتداء إخبار من الله تعالى لمحمّد ـ عليه‌السلام ـ و «ما» في قوله : (مِمَّا) : زائدة فكأنه قال : من خطيئاتهم ، وهي لابتداء الغاية ، ـ ص ـ : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) من للسبب ، * ع (٤) * : لابتداء الغاية و «ما» زائدة للتوكيد ، انتهى ، (فَأُدْخِلُوا ناراً) يعني جهنّم ، وقول نوح : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) قال قتادة وغيره : لم يدع نوح بهذه الدعوة إلّا من بعد أن أوحي إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) (٥) [هود : ٣٦] و (دَيَّاراً) أصله : ديوار من الدّوران ، أي : من يجيء ويذهب.

وقوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) قال ابن عبّاس : لم يكفر لنوح أب ما بينه وبين آدم عليه‌السلام (٦) ، وقرأ أبيّ بن كعب (٧) : «ولأبويّ» ، وبيته المسجد ؛ فيما قاله ابن

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٥٤) ، رقم : (٣٥٠٣١) بنحوه ، وذكره ابن كثير (٤ / ٤٢٦)

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٣٩٩) ، وابن كثير (٤ / ٤٢٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٧) ، وعزاه للبخاري ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عبّاس.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٧٦)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٧٦)

(٥) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٧٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٨) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٦) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٧٧)

(٧) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٧٧)

٤٩١

عبّاس (١) ، وجمهور المفسرين ، وقال ابن عبّاس أيضا : بيته شريعته ودينه ؛ استعار لها بيتا كما يقال قبّة الإسلام وفسطاط الدين (٢) ، وقيل : أراد سفينته.

وقوله : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) تعميم بالدعاء لمؤمني كلّ أمّة ، وقال بعض العلماء : إن الذي استجاب لنوح* ع* فأغرق بدعوته أهل الأرض الكفار ، لجدير أن يستجيب له فيرحم بدعوته المؤمنين ، والتّبار : الهلاك.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٧٧)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٧٧)

٤٩٢

تفسير سورة الجنّ

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً)(٣)

قوله عزوجل : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) هؤلاء النفر من الجنّ هم الذين صادفوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ ببطن نخلة في صلاة الصبح ، وقد تقدّم قصصهم في سورة الأحقاف ، وقول الجن : (إِنَّا سَمِعْنا ...) الآيات ، هو خطاب منهم لقومهم.

و (قُرْآناً عَجَباً) : معناه : ذا عجب ؛ لأن العجب مصدر يقع من سامع القرآن لبراعته / وفصاحته ومضمّناته.

وقوله : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) قال الجمهور : معناه : عظمة ربنا ، وروي عن أنس أنه قال : كان الرجل إذا قرأ البقرة ، وآل عمران جدّ في أعيننا ، أي : عظم (١) ، وعن الحسن : (جَدُّ رَبِّنا) غناه (٢) وقال مجاهد : ذكره (٣) ، وقال بعضهم : جلاله ، ومن فتح الألف من قوله : (وَأَنَّهُ تَعالى) اختلفوا في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : هو عطف على (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) فيجيء على هذا قوله تعالى : (وَأَنَّهُ تَعالى) مما أمر أن يقول النبيّ إنّه أوحي إليه ، وليس هو من كلام الجنّ ، وفي هذا قلق ، وقال بعضهم : بل هو عطف على الضمير في (بِهِ) كأنه يقول : فآمنا به وبأنه تعالى ، وهذا القول أبين في المعنى ، لكنّ فيه من جهة النحو

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٤٠١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٧٩)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٦٠) ، رقم : (٣٥٠٥٦) ، (٣٥٠٥٧) ، (٣٥٠٥٨) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٠١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٠) ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٦٠) ، رقم : (٣٥٠٦١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٧٩) ، وابن كثير (٤ / ٤٢٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٠) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٤٩٣

العطف على الضمير المخفوض دون إعادة الخافض ، وذلك لا يحسن* ت* : بل هو حسن ؛ إذ قد أتى في النظم والنثر (١) الصحيح ، مثبتا ، وقرأ عكرمة (٢) : «تعالى جدّ ربّنا» ـ بفتح الجيم وضمّ الدال وتنوينه ورفع الربّ ـ ، كأنه يقول : تعالى عظيم هو ربّنا ، ف «ربّنا» بدل والجدّ : العظيم في اللغة ، وقرأ أبو الدرداء : «تعالى ذكر ربّنا» وروي عنه : «تعالى جلال ربّنا».

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) (٥)

وقوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا) لا خلاف أن هذا من قول الجنّ ، والسفيه : المذكور قال جمهور من المفسرين : هو إبليس ـ لعنه الله ـ ، وقال آخرون : هو اسم جنس لكلّ سفيه منهم ولا محالة أنّ إبليس صدر في السفاهة ، وهذا القول أحسن ، والشطط : التّعدّي وتجاوز الحدّ بقول أو فعل ، ـ ص ـ : (شَطَطاً) أبو البقاء : نعت لمصدر محذوف ، أي : قولا شططا ، انتهى ، ثم قال أولئك النفر : (وَأَنَّا ظَنَنَّا) قبل إيماننا (أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) في جهة الألوهية وما يتعلق بذلك.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)(١٠)

__________________

(١) في د : النثر والنظم.

(٢) قال أبو الفتح : وغلّط الذي رواه (يعني عن عكرمة) ، قال :

فأما «جدّ ربّنا» فإنه على إنكار ابن مجاهد صحيح ؛ وذلك أنه أراد : وأنه تعالى جدّ جدّ ربّنا على البدل ، ثم حذف الثاني ، وأقام المضاف إليه مقامه. وهذا على قوله (سبحانه) : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) ، أي : زينة الكواكب ، ف «الكواكب» إذا بدل من «زينة».

فإن قلت : فإن الكواكب قد تسمى زينة ، والربّ (تعالى) لا يسمى جدّا.

قيل : الكواكب في الحقيقة ليست زينة ، لكنها ذات الزينة. ألا ترى إلى القراءة بالإضافة وهي قوله : «بزينة الكواكب»؟ وأنت أيضا تقول : تعالى ربّنا ، كما تقول : تعالى جدّ ربّنا. فالتعالي مستعمل معهما جميعا ، كما يقال : يسرّني زيد قيامه ، وأنت تقول : يسرني زيد ويسرّني قيامه. وهذا بيان ما أنكره ابن مجاهد.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٣٣٢) ، و «مختصر الشواذ» ص : (١٦٣) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٧٩) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٣٤١) ، و «الدر المصون» (٦ / ٣٩٠)

٤٩٤

وقوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ / بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ ...) الآية ، من القرّاء من كسر الهمزة من «إنّه» ، ومنهم من فتحها (١) ، والكسر أوجه ، والمعنى في الآية : ما كانت العرب تفعله في أسفارها من أنّ الرجل إذا أراد المبيت بواد ، صاح بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادي ؛ إني أعوذ بك من السّفهاء الذين في طاعتك ، ويعتقد بذلك أنّ الجنّيّ يحميه ويمنعه ، قال قتادة : فكانت الجنّ تحتقر بني آدم وتزدريهم لما ترى من جهلهم ، فكانوا يزيدونهم مخافة ، ويتعرضون للتّخيّل لهم ، ويغوونهم ، في إرادتهم ، فهذا هو الرهق الذي زادته الجنّ بني آدم (٢) ، وقال مجاهد وغيره : بنو آدم هم الذين زادوا الجنّ رهقا وهي الجراءة والطّغيان (٣) وقد فسّر قوم الرهق بالإثم.

وقوله : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) يريد به بني آدم.

وقوله : (كَما ظَنَنْتُمْ) مخاطبة لقومهم من الجنّ وقولهم : (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) يحتمل معنيين : أحدهما بعث الحشر من القبور ، والآخر بعث آدميّ رسولا ، وذكر المهدوي تأويلا ثالثا ، أنّ المعنى : وأنّ الجنّ ظنّوا كما ظننتم أيها الإنس ، فهي مخاطبة من الله تعالى ، قال الثعلبيّ : وقيل : إن قوله : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ ...) الآية ، ابتداء إخبار من الله تعالى ، ليس هو من كلام الجنّ ، انتهى ، فهو وفاق لما ذكره المهدوي ، وقولهم : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) قال جمهور المتأولين : معناه التمسنا ، والشهب كواكب الرجم والحرس يحتمل أن يريد الرمي بالشّهب ، وكرّر المعنى بلفظ مختلف ، ويحتمل أن يريد الملائكة ، و (مَقاعِدَ) : جمع مقعد وقد تقدّم بيان ذلك في سورة الحجر ، وقولهم : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ ...) الآية ، قطع على أنّ كلّ من استمع الآن أحرقه شهاب [فليس هنا]

__________________

(١) قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر : «وإنه تعالى جد ربنا» بكسر الهمزات ، إلا قوله : «أنه استمع» ، و «أن لو استقاموا» ، و «أن المساجد لله» ، فإنهم قرؤوا بالفتح. وزاد ابن كثير ، وأبو عمرو عليهما : «وأنه لما قام عبد الله».

وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ كلّ ذلك بالفتح إلا ما جاء بعد قول ، أو بعد فاء جزاء ، وحفص عن عاصم مثل حمزة.

ينظر : «العنوان» (١٩٨) ، و «شرح شعلة» (٦٠٩) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٦٥) ، و «السبعة» (٦٥٦) ، و «الحجة» (٦ / ٣٣٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٠٠) ، و «حجة القراءات» (٧٢٧) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٩٦) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٧٣)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٦٤) ، رقم : (٣٥٠٧٦) بنحوه. وذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٠) ، وابن كثير (٤ / ٤٢٨)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٦٤) ، رقم : (٣٥٠٨٠) بنحوه ، وذكره البغوي (٤ / ٤٠٢) ، وابن كثير (٤ / ٤٢٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٢) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر.

٤٩٥

بعد سمع إنّما الإحراق عند الاستماع] (١) ، وهذا يقتضي أنّ الرجم كان في الجاهلية ، ولكنّه لم يكن بمستأصل ، فلمّا جاء الإسلام ، اشتدّ الأمر ؛ حتّى لم يكن فيه ولا / يسير سماحة ، و (رَصَداً) : نعت ل «شهاب» ووصفه بالمصدر ، وقولهم : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ ...) الآية ، معناه : لا ندري أيؤمن الناس بهذا النبيّ فيرشدوا ، أم يكفرون به فينزل بهم الشرّ ، وعبارة الثعلبي : «وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض» حين حرست السماء ومنعنا السّمع ، (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) ، انتهى.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(١٥)

وقولهم : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) إلى آخر قولهم : (وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) هو من قول الجنّ ، وقولهم : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) أي : غير صالحين ، ـ ص ـ : (دُونَ ذلِكَ) قيل : بمعنى غير ذلك ، وقيل : دون ذلك في الصلاح ، ف «دون» في موضع الصفة لمحذوف ، أي : ومنّا قوم دون ذلك ، انتهى ، والطرائق : السّير المختلفة ، والقدد كذلك هي الأشياء المختلفة كأنه قد قدّ بعضها من بعض وفصل ، قال ابن عبّاس وغيره : (طَرائِقَ قِدَداً) أهواء مختلفة (٢). وقولهم : (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي : تيقّنّا ، فالظّنّ هنا بمعنى العلم (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ ...) الآية ، وهذا إخبار منهم عن حالهم بعد إيمانهم بما سمعوا من نبينا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (الْهُدى) يريدون به القرآن ، والبخس النقص ، والرهق تحميل ما لا يطاق ، وما يثقل ، قال ابن عبّاس : البخس نقص الحسنات (٣) ، والرهق الزيادة في السيئات.

وقوله تعالى : (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً) الوجه فيه أن يكون مخاطبة من الله تعالى لنبيه محمّد* ع* ويؤيّده ما بعده من الآيات ، و (تَحَرَّوْا) معناه : طلبوا باجتهادهم.

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٦٦) ، رقم : (٣٥٠٨٩) بنحوه. وذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٢) ، وابن كثير (٤ / ٤٣٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٥) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٦٧) ، رقم : (٣٥٠٩٥) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٢) ، وابن كثير (٤ / ٤٣٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٥) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٤٩٦

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨)

وقوله سبحانه : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ...) الآية ، قال ابن عبّاس وقتادة ومجاهد وابن جبير : الضمير في قوله : (اسْتَقامُوا) عائد على القاسطين ، والمعنى : لو استقاموا على طريقة الإسلام والحقّ لأنعمنا عليهم (١) ، وهذا المعنى نحو قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ...) [المائدة : ٦٥] الآية إلى قوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) والقاسط الظّالم ، والماء الغدق هو الماء الكثير ، و (لِنَفْتِنَهُمْ) : معناه : لنختبرهم ، قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : حيث يكون الماء فثمّ المال ، وحيث المال فثمّ الفتنة (٢) ، ونزع بهذه الآية ، وقال الحسن وجماعة من التابعين : كانت الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ سامعين مطيعين فلمّا فتحت كنوز كسرى وقيصر على الناس ، ثارت الفتن (٣) ، و «نسلكه» ندخله ، و (صَعَداً) : معناه : شاقّا ، وقال ابن عبّاس وأبو سعيد الخدري : (صَعَداً) جبل في النار (٤) ، و (أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) قيل : أراد البيوت التي للعبادة والصلاة في كلّ ملة ، وقال الحسن : أراد بها كلّ موضع يسجد فيه ؛ إذ الأرض كلها جعلت مسجدا لهذه الأمة (٥) ، وروي : أنّ هذه الآية نزلت بسبب تغلّب قريش على الكعبة حينئذ ، فقيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : المواضع كلّها لله فاعبده حيث كنت ، قال* ع (٦) * : والمساجد المخصوصة بيّنة التمكن في كونها لله تعالى ، فيصلح أن تفرد للعبادة ، وكلّ ما هو خالص لله تعالى ، وأن لا يتحدّث بها في أمور الدنيا ، ولا يجعل فيها لغير الله نصيب.

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩) ، أرقام : (٣٥١٠٤ ، ٣٥١٠٥) ، (٣٥١٠٧ ـ ٣٥١٠٨) بنحوه ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٢) ، وابن كثير (٤ / ٤٣١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة ، وعزاه أيضا لابن أبي حاتم ، عن ابن عبّاس ، ولعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٦٩) ، رقم : (٣٥١١٧) بنحوه وذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٣)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٣)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٧٠) ، رقم : (٣٥١٢٣) بنحوه عن ابن عبّاس. وذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٣) ، وابن كثير (٤ / ٤٣١)

(٥) ذكره البغوي (٤ / ٤٠٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٣)

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٨٣)

٤٩٧

(٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)(٢٢)

وقوله تعالى : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) يحتمل : أن يكون خطابا من الله تعالى ، ويحتمل : أن يكون إخبارا عن الجنّ ، وعبد الله هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضمير في (كادُوا) يحتمل : أن يكون لكفار قريش ، وغيرهم في اجتماعهم على ردّ أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : الضمير للجنّ ، والمعنى أنهم كادوا يتقصّفون عليه (١) ؛ لاستماع القرآن ، وقال ابن جبير : معنى الآية أنّها قول الجنّ لقومهم ؛ يحكون لهم ، والعبد محمّد* ع (٢) * ، والضمير في (كادُوا) لأصحابه الذين يطيعون له ويقتدون به في الصلاة فهم عليه لبد ، واللبد : الجماعات شبّهت بالشّيء المتلبّد ، وقال البخاريّ : قال ابن عبّاس : (لِبَداً) أعوانا (٣) ، انتهى ، و (يَدْعُوهُ) معناه : يعبده ، وقيل : عبد الله في الآية المراد به نوح ، وقرأ جمهور السبعة : «قال إنّما أدعوا ربّي» وقرأ حمزة وعاصم وأبو عمرو بخلاف عنه (٤) : «قل» ، ثم أمر الله تعالى محمّدا* ع* بالتّبرّي من القدرة ، وأنّه لا يملك لأحد ضرّا ولا نفعا ، والملتحد : الملجأ (٥) الذي يمال إليه ، ومنه الإلحاد وهو الميل.

(إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً(٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً)(٢٤)

وقوله : (إِلَّا بَلاغاً) قال قتادة : التقدير : لا أملك إلّا بلاغا إليكم ، فأمّا الإيمان والكفر ، فلا أملكه (٦) ، وقال الحسن : ما معناه أنّه استثناء منقطع ، والمعنى : لن يجيرني من

__________________

(١) أي يزدحمون عليه. ينظر : «لسان العرب» (٣٦٥٥)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٧٢) ، رقم : (٣٥١٣٣) بنحوه ، وذكره البغوي (٤ / ٤٠٤) ، وابن عطية (٥ / ٣٨٤) ، وابن كثير (٤ / ٤٣٢)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٧٣) ، رقم : (٣٥١٤١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٧) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٤) وحجة هؤلاء إجماع على ما بعده على الأمر فردّ ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه أولى. وحجة الباقين أن ذكر الغيبة قد تقدم ، وهو قوله : «وأنه لما قام عبد الله» ، وقوله : «قال إنما أدعو».

ينظر : «السبعة» (٦٥٧) ، و «الحجة» (٦ / ٣٣٣) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٠٢) ، و «حجة القراءات» (٧٢٩) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٩٨) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٧٦) ، و «العنوان» (١٩٨) ، و «شرح شعلة» (٦١٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٦٧)

(٥) في د : الملتجأ.

(٦) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٧٥) ، رقم : (٣٥١٥٠)

٤٩٨

الله أحد إلا بلاغا (١) فإنّي إن بلّغت ، رحمني بذلك ، أي : بسبب ذلك.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) يريد : بالكفر ، بدليل تأبيد الخلود.

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢٨)

وقوله تعالى : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) يعني عذابهم الذي وعدوا به ، والأمد المدّة والغاية.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) معناه فإنه يظهره على ما شاء مما هو قليل من كثير ، [ثم] يبثّ تعالى حول ذلك الملك الرسول حفظة رصدا لإبليس وحزبه من الجن والإنس.

وقوله تعالى : (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا ...) الآية ، قال ابن جبير : ليعلم محمّد أنّ الملائكة الحفظة الرصد النازلين بين يدي جبريل وخلفه قد أبلغوا رسالات ربّهم (٢) ، وقال مجاهد : معناه ليعلم من كذّب أو أشرك أنّ الرسل قد بلّغت (٣) ، وقيل : المعنى ليعلم الله تعالى رسله مبلّغة خارجة إلى الوجود ، لأنّ علمه بكلّ شيء قد تقدّم ، والضمير في (أَحاطَ) و (أَحْصى) لله سبحانه لا غير.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٤) ، وذكره أبو حيان (٨ / ٣٤٦)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٥) ، وابن كثير (٤ / ٤٣٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٨) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ في «العظمة».

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٧٧) ، رقم : (٣٥١٦٣) بنحوه ، وابن عطية (٥ / ٣٨٥) ، وابن كثير (٤ / ٤٣٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٩) ، وعزاه لعبد بن حميد.

٤٩٩

تفسير سورة المزّمّل

وهي مكّيّة في قول الجمهور

إلا قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ) إلى آخر السورة فمدنيّ ، وقال جماعة : هي مكية كلّها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)(٤)

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) نداء للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال السهيلي : المزّمّل اسم مشتق من حالته التي كان عليها* ع* حين الخطاب ، وكذلك المدّثّر ، وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان : إحداهما : الملاطفة فإنّ العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب ، وترك معاتبته سمّوه باسم مشتق من حالته ، كقوله* ع* لعلي حين غاضب فاطمة : قم أبا تراب ، إشعارا له أنه غير عاتب عليه ، وملاطفة له ، والفائدة الثانية : التنبيه لكلّ متزمّل راقد ليله ؛ لينتبه إلى قيام الليل وذكر الله فيه ، لأنّ الاسم المشتق من الفعل ، يشترك فيه مع المخاطب كلّ من عمل بذلك العمل ، واتّصف بتلك الصفة ، انتهى ، والتزمّل الالتفاف في الثياب ، قال جمهور المفسرين وهو في البخاري وغيره : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره به ، رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى خديجة فقال : زمّلوني زمّلوني ؛ فنزلت «يا أيها المدثر» و [على هذا نزلت «يا أيها المزمل»] (١).

وقوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) قال جمهور العلماء : هو أمر ندب ، وقيل كان فرضا وقت نزول الآية ، وقال بعضهم : كان فرضا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصّة وبقي كذلك حتى توفّي ، وقيل غير هذا.

__________________

(١) سقط في : د.

٥٠٠