تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

وقوله تعالى : (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ...) الآية : أمر بأن يؤتى الكفّار مهور نسائهم التي هاجرن مؤمنات ، ورفع سبحانه الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن ، وأمر المسلمين بفراق الكافرات وألّا يتمسكوا بعصمهن ، فقيل : الآية في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها ابتداء ، وقيل : هي عامّة نسخ منها نساء أهل الكتاب ، والعصم : جمع عصمة ، وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية ، وأمر تعالى أن يسأل أيضا المؤمنون : ما أنفقوا؟ فروي عن ابن شهاب أنّ قريشا لمّا / بلغهم هذا الحكم ، قالوا : نحن لا نرضى بهذا الحكم ، ولا نلتزمه ، ولا ندفع لأحد صداقا ، فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ...) الآية : فأمر الله تعالى المؤمنين أن يدفعوا إلى من فرّت زوجته ففاتت بنفسها إلى الكفّار صداقه الذي أنفق ، واختلف : من أيّ مال يدفع إليه الصداق؟ فقال ابن شهاب (١) : يدفع إليه من الصدقات التي كانت تدفع إلى الكفار بسبب من هاجر من أزواجهم ، وأزال الله دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه ، قال* ع (٢) * : وهذا قول صحيح يقتضيه قوله : (فَعاقَبْتُمْ) وقال قتادة (٣) وغيره : يدفع إليه من مغانم المغازي ، وقال هؤلاء : التعقيب هو الغزو والمغنم ، وقال ابن شهاب (٤) أيضا : يدفع إليه من أيّ وجوه الفيء أمكن ، والمعاقبة في هذه الآية ليست بمعنى مجازاة السوء بسوء ، قال الثعلبي : وقرأ مجاهد : «فأعقبتم» (٥) وقال : المعنى : صنعتم بهم كما صنعوا بكم ، انتهى ، قال* ع (٦) * : أي : وذلك بأن يفوت إليكم شيء من أزواجهم ، وهكذا هو التعاقب على الجمل والدّوابّ أن يركب هذا عقبة وهذا عقبة ، ويقال : عاقب الرجل صاحبه في كذا ، أي : جاء فعل كلّ واحد منهما بعقب فعل الآخر ، وهذه الآية كلّها قد ارتفع حكمها.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٧١) ، برقم : (٣٣٩٩٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٩٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٩٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٠٩) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وأبي داود في «ناسخه» ، وابن جرير ، وابن المنذر.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٩٨)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٧٢) ، برقم : (٣٤٠٠٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٩٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٩٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٠٩) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٧٢) ، برقم : (٣٤٠٠٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٩٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٣٥٢)

(٥) وقرأ بها الحسن.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٥٦) ، و «المحتسب» (٢ / ٣٢٠) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٩٨)

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٩٨)

٤٢١

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ)(١٣)

وقوله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ...) الآية : هذه بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على الصفا ، وهي كانت في المعنى بيعة الرجال قبل فرض القتال.

* ت* : وخرّج البخاريّ بسنده عن عائشة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان / يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) الآية (١).

وكذا روى البخاريّ من طريق ابن عبّاس أنّه* ع* تلا عليهنّ الآية يوم الفطر عقب الصلاة (٢) ، ونحوه عن أمّ عطية في البخاري : «وقرأ عليهنّ الآية أيضا في ثاني يوم فتح مكّة» (٣) وكلام* ع* : يوهم أنّ الآية نزلت في بيعة النساء يوم الفتح ، وليس كذلك ؛ وإنّما يريد أنّه أعاد الآية على من لم يبايعه من أهل مكّة ؛ لقرب عهدهم بالإسلام ، والله أعلم ، والإتيان بالبهتان : قال أكثر المفسرين : معناه أن تنسب إلى زوجها ولدا ليس منه ، قال* ع (٤) * : واللفظ أعمّ من هذا التخصيص.

وقوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) : يعم جميع أوامر الشريعة ، فرضها وندبها ، وفي الحديث : «أنّ جماعة نسوة قلن : يا رسول الله ، نبايعك على كذا وكذا الآية ، فلمّا فرغن قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فيما استطعتنّ وأطقتنّ ، فقلن : الله ورسوله أرحم بنا منّا لأنفسنا» (٥). وقوله تعالى : (فَبايِعْهُنَ) أي : أمض لهنّ صفقة الإيمان ؛ بأن يعطين ذلك من أنفسهن ، ويعطين عليه الجنّة ، واختلف في هيئة مبايعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء بعد الإجماع على أنّه لم تمسّ يده يد امرأة أجنبيّة قطّ ؛ والمرويّ عن عائشة وغيرها : «أنّه بايع باللّسان قولا ، وقال : إنّما قولي

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٥٠٤) ، كتاب «التفسير» باب : إذا جاءك المؤمنات مهاجرات (٤٨٩١) ، (٧ / ٥٢) ، كتاب «المغازي» باب : غزوة خيبر (٤١٨٢) ، ومسلم (٣ / ١٤٨٩) ، كتاب «الإمارة» باب : كيفية بيعة النساء (٨٨ / ١٨٦٦) ، وابن ماجه (٢ / ٩٥٩ ـ ٩٦٠) ، كتاب «الجهاد» باب : بيعة النساء (٢٨٧٥) ، وأحمد (٦ / ٢٧٠)

(٢) أخرجه البخاري (٤٨٩٥)

(٣) أخرجه البخاري (٤٨٩٢)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٩٩)

(٥) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٩٥٩) ، كتاب «الجهاد» باب : بيعة النساء (٢٨٧٤)

٤٢٢

لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» (١).

و (قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) : هم اليهود في قول ابن زيد وغيره (٢) ، ويأسهم من الآخرة : هو يأسهم من نعيمها مع التصديق بها ، وقال ابن عبّاس (٣) : (قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) : في هذه الآية / كفّار قريش.

وقوله : (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) : على هذا التأويل هو على ظاهره في اعتقاد الكفرة إذا مات لهم حميم قالوا : هذا آخر العهد به لا يبعث أبدا.

__________________

(١) ينظر : حديث عائشة السابق في المبايعة.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٠٠)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٠٠)

٤٢٣

تفسير سورة الصفّ

وهي مدنيّة في قول الجمهور وقيل : مكّيّة

والأوّل أصحّ : لأنّ معاني السّورة تعضده ويشبه أن يكون فيها المكّيّ والمدنيّ.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)(٣)

قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قد تقدّم تفسيره ، واختلف في السبب الذي نزلت فيه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) فقال ابن عبّاس وغيره : نزلت بسبب قوم قالوا : لو علمنا أحبّ العمل إلى الله تعالى لسارعنا إليه ، ففرض الله الجهاد وأعلمهم بفضله ؛ وأنّه يحبّ المقاتلين في سبيله كالبنيان المرصوص ، فكرهه قوم منهم ، وفرّوا يوم الغزو فعاتبهم الله تعالى بهذه الآية (١) ، وقال قتادة والضحاك : نزلت بسبب جماعة من شباب المسلمين كانوا يتحدّثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا (٢) ، قال* ع (٣) * : وحكم هذه الآية باق غابر الدهر ، وكلّ من يقول ما لا يفعل فهو ممقوت الكلام ، والقول الأول يترجّح بما يأتي [من أمر] (٤) الجهاد والقتال ، والمقت البغض ، من أجل ذنب ، أو ريبة ، أو دناءة يصنعها الممقوت ، وقول المرء

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٧٩) ، برقم : (٣٤٠٤٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٠١) ، وابن كثير (٤ / ٣٥٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣١٧) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن مردويه.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٧٩) ، برقم : (٣٤٠٤٦) ، (٣٤٠٤٨) ، وذكره البغوي (٤ / ٣٣٧) ، وابن كثير (٤ / ٣٥٨)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٠١)

(٤) في د : بأمر.

٤٢٤

ما لا يفعل موجب مقت الله تعالى ، ولذلك فرّ كثير من العلماء عن الوعظ والتذكير وآثروا السكوت ، / ـ قلت ـ : وهذا بحسب فقه الحال ؛ إن وجد الإنسان من يكفيه هذه المئونة في وقته ، فقد يسعه السكوت وإلا فلا يسعه ، قال الباجي في «سنن الصالحين» له : قال الأصمعي : بلغني أنّ بعض الحكماء كان يقول : إني لأعظكم وإنّي لكثير الذنوب ، ولو أن أحدا لا يعظ أخاه حتّى يحكم أمر نفسه لترك الأمر بالخير ، واقتصر على الشرّ ، ولكنّ محادثة الإخوان حياة القلوب وجلاء النفوس وتذكير من النسيان ، وقال أبو حازم : إني لأعظ الناس وما أنا بموضع للوعظ (١) ، ولكن أريد به نفسي ، وقال الحسن لمطرف : عظ أصحابك ، فقال : إنّي أخاف أن أقول ما لا أفعل فقال : رحمك الله ؛ وأيّنا يفعل ما يقول ، ودّ الشيطان أنه لو ظفر منكم بهذه فلم يأمر أحد منكم بمعروف ، ولم ينه عن منكر ، انتهى.

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٩)

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ...) الآية ، قال معاذ بن جبل : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة ، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا ، ثمّ مات أو قتل فإنّ له أجر شهيد» (٢) ،

__________________

(١) في د : للموعظ.

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ٢٥) ، كتاب «الجهاد» باب : فيمن سأل الله تعالى الشهادة (٢٥٤١) ، والترمذي (٤ / ١٨٣) ، كتاب «فضائل الجهاد» باب : ما جاء فيمن سأل الشهادة (١٦٥٤) مختصرا ، والنسائي (٦ / ٢٥ ـ ٢٦) ، كتاب «الجهاد» باب : ثواب من قاتل في سبيل الله فواق ناقة (٣١٤١) ، وابن ماجه (٢ / ٩٣٣ ـ ٩٣٤) ، كتاب «الجهاد» باب : القتال في سبيل الله سبحانه (٢٧٩٢) ، والحاكم (٢ / ٧٧) ، وابن حبان (١٠ / ٤٧٨ ـ ٤٧٩) ، كتاب «السير» باب : فضل «الجهاد» : ذكر إيجاب الجنة لمن قاتل في سبيل الله قل ثباته فيه أو كثر (٤٦١٨) مختصرا ، وأخرجه البيهقي (٩ / ١٧٠) ، كتاب «السير» باب : تمني الشهادة ومسألتها ، وأحمد (٥ / ٢٣٠ ـ ٢٣١ ، ٢٣٥ ، ٢٤٣ ـ ٢٤٤) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (٥ / ٢٥٥) ، كتاب «الجهاد» باب : الفرار من الزحف (٩٥٣٤) ، والدارمي (٢ / ٢٠١) ، كتاب «الجهاد» باب : من قاتل في سبيل الله فواق ناقة. ـ

٤٢٥

مختصر رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ، واللفظ لأبي داود ، وقال الترمذي : هذا حديث صحيح انتهى من «السلاح» ، ثمّ ذكر تعالى مقالة موسى ، وذلك ضرب مثل للمؤمنين ؛ ليحذروا ما وقع فيه هؤلاء من العصيان وقول الباطل.

وقوله : (لِمَ تُؤْذُونَنِي) أي : بتعنيتكم وعصيانكم واقتراحاتكم ، وأسند الزيغ إليهم ؛ لكونه فعل حطيطة ، وهذا بخلاف قوله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) [التوبة : ١١٨] فأسند التّوبة إليه سبحانه ؛ لكونها فعل رفعة ، و «زاغ» معناه مال وصار عرفها في الميل عن الحق ، و (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) معناه طبع عليها وكثر ميلها عن الحقّ ؛ وهذه هي العقوبة على الذّنب بالذّنب.

وقوله : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) قال عياض في «الشفا» : سمّى الله تعالى نبيّه في كتابه محمّدا وأحمد ؛ فأما اسمه أحمد ، ف «أفعل» مبالغة من صفة الحمد ، ومحمّد «مفعّل» من كثرة الحمد ، وسمى أمّته في كتب أنبيائه بالحمّادين ؛ ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصه سبحانه وبدائع آياته ؛ أنه سبحانه حمى أن يتسمّى بهما أحد قبل زمانه ، أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشّرت به الأنبياء ؛ فمنع سبحانه أن يتسمّى به أحد غيره ؛ حتى لا يدخل بذلك لبس على ضعيف القلب ؛ وكذلك محمّد أيضا لم يتسمّ به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شاع قبيل وجوده صلى‌الله‌عليه‌وسلم وميلاده أنّ نبيّا يبعث اسمه محمّد ؛ فسمّى قوم قليل من العرب أبناءهم بذلك ؛ رجاء أن يكون أحدهم هو ، وهم محمّد بن أحيحة الأوسي ، ومحمّد بن مسلمة الأنصاري ، ومحمّد بن براء البكري ، ومحمّد بن سفيان باليمن ، ويقولون : بل محمّد بن اليحمد من الأزد ، ومحمّد بن سوادة منهم ؛ لا سابع لهم ، ولم يدّع أحد من هؤلاء النبوّة أو يظهر عليه سبب يشكّك الناس ، انتهى ، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «لا تسمّوا أولادكم محمّدا ثمّ تلعنونهم» (١) ، رواه الحاكم / في «المستدرك» ، انتهى من «السلاح».

وقوله سبحانه : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ ...) الآية : يحتمل أن يريد «عيسى» ويحتمل

__________________

ـ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وله إسناد صحيح على شرط الشيخين مختصرا.

وفي الباب : شاهد عن عمرو بن عنبسة ، أخرجه أحمد (٤ / ٣٨٧) ، (٦ / ٤٤٣ ـ ٤٤٤) عن أبي الدرداء.

(١) ذكره الهيثمي في «المجمع» (٨ / ٥١) ، وقال : رواه أبو يعلى ، والبزار ، وفيه الحكم بن عطية ، وثقه ابن معين ، وضعفه غيره ، وبقية رجاله رجال «الصحيح».

٤٢٦

أن يريد محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه تقدّم ذكره ، * ت* : والأول أظهر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(١٢)

وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ ...) الآية : ندب وحضّ على الجهاد بهذه التجارة التي بيّنها سبحانه ، وهي أن يبذل المرء نفسه وماله ، ويأخذ ثمنا جنة الخلد ، وقرأ ابن عامر (١) وحده : «تنجّيكم» ـ بفتح النون وشدّ الجيم ـ.

وقوله : (تُؤْمِنُونَ) معناه : الأمر ، أي : آمنوا ، قال الأخفش : ولذلك جاء «يغفر» مجزوما ، وفي مصحف ابن مسعود : «آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا». وقوله : (ذلِكُمْ) إشارة إلى الجهاد والإيمان ، و (خَيْرٌ) هنا يحتمل أن يكون للتفضيل ، فالمعنى : من كلّ عمل ، ويحتمل أن يكون إخبارا أنّ هذا خير في ذاته ، و (مَساكِنَ) عطف على (جَنَّاتٍ) وطيّب المساكن ، سعتها وجمالها ، وقيل : طيبها المعرفة بدوام أمرها.

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(١٤)

وقوله سبحانه : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها ...) الآية ، قال الأخفش ، (وَأُخْرى) هي في موضع خفض عطفا على (تِجارَةٍ) ، وهذا قلق ، وقد ردّه الناس ، لأنّ هذه الأخرى ليست ممّا دلّ عليه سبحانه إنما هي مما أعطي ثمنا وجزاء على الإيمان والجهاد بالنفس والمال ، وقال الفرّاء : (وَأُخْرى) في موضع رفع ، وقيل : في موضع نصب بإضمار فعل تقديره : ويدخلكم جنات ويمنحكم أخرى ؛ وهي النصر والفتح القريب ، وقصة عيسى مع بني إسرائيل قد تقدّمت.

وقوله تعالى : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) قيل ذلك قبل محمّد ـ عليه‌السلام ـ / وبعد فترة من رفع عيسى ؛ ردّ الله الكرّة لمن آمن به فغلبوا الكافرين الذين قتلوا صاحبه الذي ألقي عليه الشبه ، وقيل : المعنى فأصبحوا ظاهرين بالحجة.

__________________

(١) ينظر : القرطبي (١٨ / ٥٧) ، وابن عطية (٥ / ٣٠٤) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٦٠)

٤٢٧

تفسير سورة الجمعة

وهي مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٥)

قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تقدّم القول في مثل ألفاظ الآية ، والمراد بالأمّيّين جميع العرب ، واختلف في المعنيين بقوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) فقال أبو هريرة وغيره : أراد فارس (١) «وقد سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من الآخرون؟ فأخذ بيد سليمان ، وقال : لو كان الدّين في الثّريّا لناله رجال من هؤلاء» خرّجه مسلم والبخاريّ (٢) ، وقال ابن زيد ومجاهد والضحاك وغيرهم : أراد جميع طوائف الناس (٣) ، فقوله : (مِنْهُمْ) على هذين القولين إنما يريد في البشرية والإيمان ، وقال مجاهد أيضا وغيره : أراد التابعين من أبناء العرب ، فقوله : (مِنْهُمْ) يريد في النسب والإيمان.

وقوله : (لَمَّا يَلْحَقُوا) نفي لما قرب من الحال ، والمعنى أنهم مزمعون أن يلحقوا ، فهي «لم» زيدت عليها «ما» تأكيدا.

و (الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) هم بنو إسرائيل الأحبار المعاصرون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، و (حُمِّلُوا) معناه كلّفوا القيام بأوامرها ونواهيها ، فهذا كما حمّل الإنسان الأمانة ، وذكر تعالى أنهم لم يحملوها ، أي : لم يطيعوا أمرها ويقفوا عند حدودها حين كذّبوا نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتوراة

__________________

(١) أخرجه البخاري حديث (٤٨٩٧)

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٩٠ ـ ٩١) ، برقم : (٣٤٠٨٨) ، (٣٤٠٨٩) عن ابن زيد ، ومجاهد ، وغيرهم ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٠٧) ، والبغوي (٤ / ٣٣٩) ، وابن كثير (٤ / ٣٦٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٢١) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد ، وعزاه لابن المنذر عن الضحاك.

٤٢٨

تنطق بنبوته ، فكان كلّ حبر لم ينتفع بما حمّل كمثل حمار عليه أسفار ، وفي مصحف ابن مسعود (١) «كمثل حمار» بغير تعريف ، والسّفر الكتاب المجتمع الأوراق منضدة.

وقوله : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) التقدير : بئس المثل مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ، ـ ص ـ : وردّ بأنّ فيه حذف الفاعل ولا يجوز ، والظاهر أنّ (مَثَلُ الْقَوْمِ) فاعل (بِئْسَ) ، و (الَّذِينَ كَذَّبُوا) هو المخصوص بالذّمّ على حذف مضاف ؛ أي : مثل الذين كذّبوا ، انتهى.

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٨)

وقوله سبحانه : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ ...) الآية ، روي أنها نزلت بسبب أنّ يهود المدينة لمّا ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خاطبوا يهود خيبر في أمره ، وذكروا لهم نبوّته ، وقالوا إن رأيتم اتّباعه أطعناكم وإن رأيتم خلافه خالفناه معكم ، فجاءهم جواب أهل خيبر يقولون : نحن أبناء إبراهيم خليل الرحمن ؛ وأبناء عزير بن الله ومنا الأنبياء ، ومتى كانت النبوة في العرب؟ ، نحن أحقّ بالنبوة من محمّد ، ولا سبيل إلى اتباعه ، فنزلت الآية بمعنى : أنكم إذا كنتم من الله بهذه المنزلة فقربه وفراق هذه الحياة الخسيسة أحبّ إليكم ، فتمنّوا الموت إن كنتم تعتقدون في أنفسكم هذه المنزلة ، ثم أخبر تعالى أنهم لا يتمنونه أبدا لعلمهم بسوء حالهم ، وروى كثير من المفسرين أن الله ـ جلّت قدرته ـ جعل هذه الآية معجزة لمحمّد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم ، فهي آية باهرة ؛ وأعلمه أنه إن تمنى أحد منهم الموت في أيام معدودات مات وفارق الدنيا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تمنّوا الموت ، على جهة التعجيز وإظهار الآية ، فما تمنّاه أحد منهم خوفا / من الموت وثقة بصدق نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(١١)

وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) الآية ، النداء : الأذان ، وكان على الجدار في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي «مصنف أبي داود» : كان بين يدي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٥٦) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٠٧) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٦٣) ، و «الدر المصون» (٦ / ٣١٦)

٤٢٩

وهو على المنبر أذان ، ثم زاد عثمان النداء على الزوراء ليسمع الناس.

* ت* : وفي البخاريّ والترمذيّ وصححه عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوّله إذا جلس الإمام على المنبر ؛ على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما تولّى عثمان وكثر الناس ، زاد الأذان الثالث فأذّن به على الزّوراء (١) ، فثبت الأمر على ذلك (٢) ، قيل : فقوله «الثالث» يقتضي أنّهم كانوا ثلاثة ، وفي طريق آخر «الثاني» بدل «الثالث» وهو يقتضي أنّهما اثنان ، انتهى ، وخرّج مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من اغتسل ، ثمّ أتى الجمعة ، فصلّى ما قدّر له ، ثم أنصت للإمام حتّى يفرغ من خطبته ، ثمّ يصلّي معه غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى ، وفضل ثلاثة أيّام» (٣) انتهى ، وخرّجه البخاريّ من طريق سليمان.

وقوله : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قال ابن هشام : «من» مرادفة «في» ، انتهى.

وقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ...) الآية ، السعي في الآية لا يراد به الإسراع في المشي ، وإنما هو بمعنى قوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] فالسّعي هو بالنّية والإرادة والعمل ؛ من وضوء ، وغسل ، ومشي ، ولبس ثوب ؛ كلّ ذلك سعي ، وقد قال مالك وغيره : إنما تؤتى الصلاة بالسّكينة ، * ت* : وهو نصّ الحديث الصحيح ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة : / «فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها [و] عليكم السّكينة» ، * ت* : والظاهر أنّ المراد بالسعي هنا المضيّ إلى الجمعة ، كما فسّره الثعلبيّ ، ويدلّ على ذلك إطلاق العلماء لفظ الوجوب عليه ، فيقولون السّعي إلى الجمعة واجب ، ويدلّ على ذلك قراءة عمر وعليّ وابن مسعود وابن عمر وابن عبّاس وابن الزبير وجماعة من التابعين (٤) :

__________________

(١) الزّوراء : دار عثمان بن عفان بالمدينة. وقيل : موضع عند سوق المدينة قرب المسجد.

ينظر : «مراصد الاطلاع» (٦٧٤)

(٢) أخرجه البخاري (٢ / ٤٦١) ، كتاب «الجمعة» باب : التأذين عند الخطبة (٩١٦) ، وأبو داود (١ / ٣٥٢ ـ ٣٥٣) ، كتاب «الصلاة» باب : النداء يوم الجمعة (١٠٨٧) ، والترمذي (٢ / ٣٩٢) ، كتاب «الصلاة» باب : ما جاء في أذان الجمعة (٥١٦) ، والنسائي (٣ / ١٠٠ ـ ١٠١) ، كتاب «الجمعة» باب : الأذان للجمعة (١٣٩٢) ، (١٣٩٣ ـ ١٣٩٤) نحوه ، وابن ماجه (١ / ٣٥٩) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب : ما جاء في الأذان يوم الجمعة (١١٣٥).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٥٧) ، و «المحتسب» (٢ / ٣٢٢) ، و «الكشاف» (٤ / ٥٣٤) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٠٩) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٦٥)

٤٣٠

«فامضوا إلى ذكر الله» وقال ابن مسعود : لو قرأت : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) لأسرعت حتّى يقع ردائي ، وقال العراقيّ : (فَاسْعَوْا) معناه بادروا ، انتهى ، وقوله : (إِلى ذِكْرِ اللهِ) هو وعظ الخطبة ؛ قاله ابن المسيب ، ويؤيده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «إذا كان يوم الجمعة ، كان على كلّ باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأوّل فالأوّل ، فإذا جلس [الإما] م طووا الصحف ، وجاؤوا يستمعون الذّكر» الحديث خرّجه البخاريّ ومسلم ، واللفظ لمسلم ، والخطبة عند الجمهور شرط في انعقاد الجمعة» (١) ، وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله ـ عزوجل ـ يبعث الأيّام يوم القيامة على هيئتها ، ويبعث الجمعة زهراء منيرة ، أهلها محفّون بها ؛ كالعروس تهدى إلى كريمها ، تضيء لهم ؛ يمشون في ضوئها ؛ ألوانهم كالثّلج بياضا ، وريحهم يسطع كالمسك ، يخوضون في جبال الكافور ، ينظر إليهم الثّقلان ، ما يطرفون تعجّبا ، يدخلون الجنّة لا يخالطهم إلّا المؤذّنون المحتسبون» خرّجه القاضي الشريف أبو الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الهاشميّ ، قال صاحب «التذكرة» (٢) : وإسناده صحيح ، انتهى.

وقوله سبحانه : (ذلِكُمْ) إشارة إلى السعي وترك / البيع.

وقوله : (فَانْتَشِرُوا) أجمع الناس على أنّ مقتضى هذا الأمر الإباحة ، وكذلك قوله : «وابتغوا من فضل الله» أنّه الإباحة في طلب المعاش ، مثل قوله تعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] إلا ما روي عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ذلك الفضل المبتغى هو عيادة مريض ، أو صلة صديق ، أو اتّباع جنازة» ، قال* ع (٣) * : وفي هذا ينبغي أن يكون المرء بقية يوم الجمعة ، ونحوه عن جعفر بن محمّد ، وقال مكحول : الفضل المبتغي : العلم فينبغي أن يطلب إثر الجمعة.

__________________

(١) إنما اشترط تقديم الخطبتين ، لأن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفعلها إلا كذلك مع خبر : «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ولإجماع السلف والخلف على ذلك.

ومخالفة الحسن البصري باجتهاده في جوازها بعد الصلاة ، شاذة مردودة ، لأنها بعد انعقاد الإجماع فهي غير معتبرة ، ولأنها شرط ، والشرط مقدم على المشروط ، وقال الشيخ الرملي : وللتمييز بين الفرض والنفل ، وليدرك الصلاة من يدرك الخطبة ، ولظاهر قوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) ، أباح الانتشار بعدها ، ولو جاز تأخيرها لما أباح الانتشار.

وقال في «شرح المهذب» : ثبتت صلاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الخطبتين ، وروى الشيخان عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما.

(٢) ينظر : «التذكرة» (١ / ٢٦٢)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٠٩)

٤٣١

وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً ...) الآية ، قال معاذ بن جبل : ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله (١) : رواه الترمذي واللفظ له ، وابن ماجه ، والحاكم في «المستدرك» ؛ وقال صحيح الإسناد ، انتهى من «السلاح».

وقوله سبحانه : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ...) الآية ، نزلت بسبب أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قائما على المنبر يخطب يوم الجمعة ، فأقبلت عير من الشام تحمل ميرة ، وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي ، قال مجاهد : وكان من عرفهم أن تدخل عير المدينة بالطّبل والمعازف ، والصياح سرورا بها ، فدخلت العير بمثل ذلك ، فانفضّ أهل المسجد إلى رؤية ذلك وسماعه ؛ وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما على المنبر ، ولم يبق معه غير اثني عشر رجلا (٢) ، قال جابر بن عبد الله : أنا أحدهم ، قال* ع (٣) * : ولم تمرّ بي تسميتهم في ديوان فيما أذكر الآن ، إلا أنّي سمعت أبي ـ رحمه‌الله ـ يقول : هم العشرة المشهود لهم بالجنة ، واختلف في الحادي عشر ، فقيل : عمار بن ياسر ، وقيل : ابن مسعود ، * ت* : وفي تقييد أبي الحسن الصغير : والاثنا عشر الباقون (٤) هم الصحابة العشرة ، والحادي عشر : بلال ، واختلف في الثاني عشر ، فقيل : عمار بن ياسر ، وقيل : ابن مسعود ، انتهى ، قال السهيلي : وجاءت تسمية الاثني عشر في حديث مرسل رواه أسد بن عمرو والد موسى بن أسد ، وفيه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان ؛ حتى العشرة ، وقال : وبلال وابن مسعود ، وفي رواية : عمار بدل ابن مسعود ، وفي «مراسيل أبي داود» ذكر السبب الذي من أجله ترخّصوا ، فقال : إن الخطبة يوم الجمعة كانت بعد الصلاة فتأوّلوا ـ رضي الله عنهم ـ أنهم قد قضوا ما عليهم ، فحوّلت الخطبة بعد

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٢٤٥) ، كتاب «الأدب» باب : فضل الذكر (٣٧٩٠) ، عن أبي الدرداء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أنبئكم بخير أعمالكم ، وأرضاها عند مليككم ، وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من إعطاء الذهب والورق ، ومن أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا : وما ذاك يا رسول الله! قال : «ذكر الله».

وقال معاذ بن جبل : «ما عمل امرؤ بعمل أنجى له من عذاب الله عزوجل ؛ من ذكر الله».

وأخرجه الترمذي (٥ / ٤٥٩) (٣٣٧٧) نحوه ، قال الترمذي : وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد مثل هذا الإسناد وروى بعضهم عنه فأرسله ، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (١ / ٤٩٦) ، وقال : هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٩٩) ، برقم : (٣٤١٤٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٠٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٣١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٠٩)

(٤) في د : الباقين.

٤٣٢

ذلك قبل الصلاة ، فهذا الحديث وإن كان مرسلا فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوجب أن يكون صحيحا ، والله أعلم ؛ انتهى ، وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو لا هؤلاء لقد كانت الحجارة سوّمت على المنفضّين من السماء» ، وفي حديث آخر : «والّذي نفس محمّد بيده ، لو تتابعتم حتى لا يبقى أحد لسال بكم الوادي نارا (١) ، قال البخاريّ : (انْفَضُّوا) معناه تفرّقوا ، انتهى ، وقرأ ابن مسعود (٢) : «ومن التّجارة للّذين اتّقوا والله خير الرازقين» وإنما أعاد الضمير في قوله : (إِلَيْها) على التجارة وحدها لأنّها أهمّ ، وهي كانت سبب اللهو ، ـ ص ـ : وقرىء (٣) «إليهما» بالتثنية.

__________________

(١) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٥ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦) ، برقم : (٦٤٩٥)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣١٠)

(٣) ينظر : «الكشاف» (٤ / ٥٣٧) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٦٥) ، و «الدر المصون» (٦ / ٣١٨)

٤٣٣

تفسير سورة «المنافقون»

وهي مدنيّة بإجماع

ونزلت في غزوة بني المصطلق ، بسبب أنّ ابن أبيّ ابن سلول كانت له في تلك الغزوة أقوال منكرة ، وسيأتي بيان ذلك ؛ إن شاء الله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)(٣) (١)

قوله عزوجل : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ...) الآية / فضح الله سرائر المنافقين بهذه الآية ، وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نشهد إنّك لرسول الله ؛ وهم في إخبارهم هذا كاذبون ؛ لأنّ حقيقة الكذب أن يخبر الإنسان بضدّ ما في قلبه ، وهذه كانت حالهم ؛ وقرأ الناس : «أيمانهم» جمع يمين ، وقرأ الحسن (٢) : «إيمانهم» ـ بكسر الهمزة ـ ، والجنّة : ما يتستّر به في الأجرام والمعاني.

وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى فعل الله بهم في فضحهم وتوبيخهم ، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى سوء ما عملوا ، فالمعنى ساء عملهم بأن كفروا بعد إيمان.

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٦)

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) قال أبو الفتح : هذا على حذف المضاف ، أي : اتخذوا إظهار إيمانهم جنة.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٣٢٢) ، و «الكشاف» (٤ / ٥٣٩) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٣١١) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٦٧)

٤٣٤

وقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) هذا توبيخ لهم ؛ إذ كان منظرهم يروق جمالا وقولهم يخلب بيانا ؛ لكنّهم كالخشب المسنّدة ؛ إذ لا أفهام لهم نافعة ، وكان عبد الله بن أبي ابن سلول من أبهى المنافقين ، وأطولهم ، ويدلّ على ذلك أنه لم يوجد قميص يكسو العباس غير قميصه ، قال الثعلبيّ : (تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) لاستواء خلقها وطول قامتها وحسن صورتها ، قال ابن عبّاس : وكان عبد الله بن أبيّ جسيما صبيحا فصيحا ذلق اللّسان ، فإذا قال سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله (١) ، ووصفهم الله تعالى بتمام الصورة وحسن الإبانة ، ثم شبّههم بالخشب المسنّدة إلى الحائط ، لا يسمعون ولا يعقلون أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام ، انتهى.

وقوله تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) هذا أيضا فضح لما كانوا يسرّونه من الخوف / وذلك أنّهم كانوا يتوقّعون أن يأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الله بقتلهم ، قال مقاتل : فكانوا متى سمعوا نشدان ضالة ، أو صياحا بأيّ وجه ، أو أخبروا بنزول وحي طارت عقولهم حتى يسكن ذلك ويكون في غير شأنهم ، ثم أخبر تعالى بأنهم هم العدوّ وحذّر منهم.

وقوله تعالى : (قاتَلَهُمُ اللهُ) دعاء يتضمّن الإقصاء والمنابذة لهم ، و (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) معناه كيف يصرفون.

وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ ...) الآية ، سبب نزولها أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا بني المصطلق ، فازدحم أجير لعمر بن الخطّاب يقال له «جهجاه» مع سنان بن وبرة الجهنيّ ، حليف للأنصار ، على الماء فكسع جهجاه سنانا فتثاورا ، ودعا جهجاه : يا للمهاجرين ، ودعا سنان : يا للأنصار ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ما بال دعوى الجاهليّة؟ فلما أخبر بالقصة ، قال : دعوها ؛ فإنّها منتنة ، فقال عبد الله بن أبيّ : أوقد فعلوها؟ والله ، ما مثلنا ومثل جلابيب قريش إلّا كما قال الأوّل : سمّن كلبك يأكلك ، وقال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ، ثمّ قال : لمن معه من المنافقين : إنّما يقيم هؤلاء المهاجرون مع محمّد بسبب معونتكم لهم ، ولو قطعتم ذلك عنهم ؛ لفرّوا ، فسمعها منه زيد بن أرقم ، فأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فعاتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن أبيّ عند رجال من الأنصار ، فبلغه ذلك ، فجاء وحلف ما قال ذلك ، وحلف معه قوم من / المنافقين ، وكذّبوا زيدا ، فصدّقهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبقي زيد في منزله لا ينصرف حياء من الناس فنزلت هذه السورة عند ذلك ، فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى زيد وقال له : لقد صدقك الله يا زيد ،

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٣٤٨)

٤٣٥

فخزي عند ذلك عبد الله بن أبيّ ومقته الناس ولامه المؤمنون من قومه ، وقال له بعضهم : امض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك ، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي ، وقال لهم : لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت ، وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمّد ، فهذا قصص هذه السورة موجزا ، وقرأ نافع والمفضّل عن عاصم : «لووا» ـ بتخفيف الواو ـ وقرأ الباقون بتشديدها.

وقوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ ...) الآية ، روي أنه لما نزلت (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لأزيدنّ على السبعين ، وفي حديث آخر : لو علمت أنّي لو زدت على السبعين لغفر لهم لزدت ، وفي هذا الحديث دليل على رفض دليل الخطاب ، فلمّا فعل ابن أبيّ وأصحابه ما فعلوا شدّد الله عليهم في هذه الآية ، وأعلم أنّه لن يغفر لهم دون حدّ في الاستغفار.

(هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨)

وقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ) إشارة إلى ابن أبيّ ومن قال بقوله ، ثم سفه تعالى أحلامهم في أن ظنّوا أنّ إنفاقهم هو سبب رزق المهاجرين ، ونسوا أن جريان الرزق بيد الله تعالى ؛ إذا انسدّ باب انفتح غيره ثم أعلم تعالى أنّ العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وفي ذلك وعيد وروي / أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ وكان رجلا صالحا لمّا سمع الآية ، جاء إلى أبيه فقال له : أنت والله يا أبت الذليل ، ورسول الله العزيز ، ووقف على باب السّكّة التي يسلكها أبوه ، وجرّد السّيف ومنعه الدّخول ، وقال : والله لا دخلت إلى منزلك إلّا أن يأذن في ذلك رسول الله ، وعبد الله بن أبيّ في أذلّ حال ، وبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعث إليه أن خلّه يمضي إلى منزله ، فقال : أمّا الآن ، فنعم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١١)

وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ...) الآية ، الإلهاء : الاشتغال بملذ وشهوة ، وذكر الله هنا عامّ في الصلوات ، والتوحيد ،

٤٣٦

والدعاء ، وغير ذلك من مفروض ، ومندوب ، وكذلك قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) عامّ من المفروض والمندوب ؛ قاله جماعة من المفسرين ، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب «عيوب النفس» : ومن عيوبها تضييع أوقاتها بالاشتغال بما لا يعني من أمور الدّنيا ، والخوض فيها مع أهلها ، ومداواتها أن يعلم أنّ وقته أعزّ الأشياء فيشغله بأعزّ الأشياء ، وهو ذكر الله ، والمداومة على الطاعة ومطالبة الإخلاص من نفسه ؛ فإنّه روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (١) وقال الحسن بن منصور : عليك بنفسك فإن لم تشغلها شغلتك ، انتهى.

وقوله : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) طلب للكرّة والإمهال ، وسمّاه قريبا لأنّه آت ، وأيضا فإنّما يتمنى ذلك ليقضي فيه العمل الصالح فقط / وليس يتّسع الأمل حينئذ لطلب العيش ونظرته. وقوله : (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ظاهره العموم ، وقال ابن عبّاس : هو الحج (٢) وروى الترمذيّ عنه أنّه قال : ما من رجل لا يؤدّي الزّكاة ولا يحجّ إلّا طلب الكرّة عند موته (٣) ، قال الثعلبيّ : قال ابن عبّاس : (إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) يريد مثل آجالنا في الدنيا (٤) ، انتهى ، وقرأ أبو عمرو (٥) : «وأكون» ، وفي قوله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) حضّ على المبادرة ومسابقة الأجل بالعمل الصالح.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ١١٠ ـ ١١١) ، بأرقام (٣٤١٨١ ـ ٣٤١٨٢ ، ٣٤١٨٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣١٥) ، والبغوي (٤ / ٣٥١) ، وابن كثير (٤ / ٣٧٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٤١) ، وعزاه لابن المنذر.

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٤١٨) ، كتاب «التفسير» باب : ومن سورة المنافقون (٣٣١٦) ، وابن جرير (١٢ / ١١٠) (٣٤١٨٢) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٤٠) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني.

(٤) ذكره الفخر الرازي (١٠ / ١٧)

(٥) ينظر : «السبعة» (٦٣٧) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٦٩) ، و «حجة القراءات» (٧١٠) ، و «العنوان» (١٩١) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٥٦) ، و «شرح شعلة» (٦٠٣) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٤٠) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٧١)

٤٣٧

تفسير سورة «التّغابن»

وهي مدنيّة وقال آخرون : مكّيّة

إلا من قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) إلى آخر السورة ، فإنه مدنيّ.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٤)

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي : في أصل الخلقة (١) ، وهذا يجري مع قول الملك : يا ربّ ، أشقيّ أم سعيد ، الحديث ، وذلك في بطن أمه ، وقيل : الآية تعديد نعم ، فقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) هذه نعمة الإيجاد ، ثم قال : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ) أي : بهذه النعمة ؛ لجهله بالله ، (وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) بالله ، والإيمان به شكر لنعمته ، فالإشارة على هذا التأويل في الإيمان والكفر ، هي إلى اكتساب العبد ؛ وهذا قول جماعة ، وقيل غير هذا.

وقوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي : لم يخلقها عبثا ولا لغير معنى.

وقوله تعالى : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) هو تعديد نعم ، والمراد الصورة الظاهرة ، وقيل : المراد صورة الإنسان المعنويّة من حيث هو إنسان مدرك عاقل ، والأول أجرى على لغة العرب.

__________________

(١) في د : الحقيقة.

٤٣٨

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٩)

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٠)

وقوله تعالى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) جزم أصله «يأتيكم» والخطاب في هذه الآية لقريش ، ذكّروا بما حلّ بعاد وثمود ، وغيرهم ممن سمعت قريش بأخبارهم ، ووبال الأمر : مكروهه وما يسوء منه.

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُ) إشارة إلى ذوق الوبال ، وباقي الآية بيّن.

وقوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) يريد قريشا ، ثم هي بعد تعمّ كلّ كافر بالبعث ، ولا توجد (زعم) مستعملة في فصيح الكلام إلا عبارة عن الكذب ، أو قول انفرد به قائله.

وقوله سبحانه : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) هذه الآية دعاء من الله ، وتبليغ وتحذير من يوم القيامة ، والنور القرآن ومعانيه ، ويوم الجمع هو يوم القيامة ، وهو يوم التغابن يغبن فيه المؤمنون الكافرين ، نحا هذا المنحى مجاهد وغيره (١).

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٣)

وقوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) يحتمل أن يريد المصائب التي هي رزايا ، ويحتمل أن يريد جميع الحوادث من خير وشر ، والكلّ بإذن الله ، والإذن هنا عبارة عن العلم والإرادة وتمكين الوقوع.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ١١٥) ، برقم : (٣٤١٩١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣١٩) ، وابن كثير (٤ / ٣٧٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٣٤) ، وعزاه للفريابي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد.

٤٣٩

وقوله سبحانه : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قال فيه المفسرون : المعنى ومن آمن وعرف أنّ كلّ شيء بقضاء الله وقدره وعلمه ، هانت عليه مصيبته وسلّم لأمر الله تعالى.

وقوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) إلى آخر الآية ، وعيد وتبرئة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(١٥)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ) إلى آخر السورة قرآن مدنيّ واختلف في سببه ، فقال عطاء بن أبي رباح : إنّه نزل في عوف بن مالك الأشجعيّ ؛ وذلك أنّه أراد غزوا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاجتمع أهله وأولاده ، وتشكّوا إليه فراقه ، فرّق لهم فثبّطوه ولم / يغز ، ثم إنّه ندم وهمّ بمعاقبتهم ، فنزلت الآية (١) بسببه محذّرة من الأزواج والأولاد وفتنتهم. ثم صرف تعالى عن معاقبتهم بقوله : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا) وقال بعض المفسرين : سبب الآية أنّ قوما آمنوا وثبّطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة فلم يهاجروا إلا بعد مدة ، فوجدوا غيرهم قد تفقّه في الدين ، فندموا وهمّوا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم ، ثم أخبر تعالى أن الأموال والأولاد فتنة تشغل المرء عن مراشده ، وتحمله من الرغبة في الدنيا على ما لا يحمده في آخرته ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الولد مبخلة مجبنة» (٢) ، وخرّج أبو داود حديثا في مصنفه «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب يوم الجمعة على المنبر حتّى جاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يجرانهما ، يعثران ويقومان ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن المنبر حتّى أخذهما ، وصعد بهما ، ثم قرأ : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ...) الآية ، وقال : إني

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ١٧٧) ، برقم : (٣٤٢٠١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٢٠)

(٢) رواه ابن ماجه عن عبد الله بن سلام قال : جاء الحسن والحسين يستبقان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فضمهما إليه ، وذكره ، وللعسكري والحاكم عن الأسود بن خلف أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ حسنا فقبله ، ثم أقبل عليهم فقال : إن الولد مجبنة مبخلة ، وأحسبه قال : مجهلة ، وللعسكري أيضا : عن أشعث بن قيس قال : مررت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لي : «ما فعلت بنت عمّك» قلت : نفست بغلام ، وو الله لوددت أن لي به سبعة ، فقال : «أما لئن قلت إنهم لمجبنة مبخلة ، وإنهم لقرة العين وثمرة الفؤاد» ، وله أيضا عن عمر بن عبد العزيز ، قال : زعمت المرأة الصالحة خولة ابنة حكيم ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج وهو يحتضن حسنا أو حسينا ، وهو يقول : «إنكم لتجبّنون وتجهّلون ، وإنكم لمن ريحان الله» ، وأخرجه أبو يعلى والبزار بسند ضعيف عن أبي سعيد بلفظ : «الولد ثمرة القلب ، وإنه مبخلة مجبنة محزنة».

ينظر : «كشف الخفاء» (٢ / ٤٧٠)

٤٤٠