تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٤٢)

وقوله سبحانه : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ ...) الآية ، آية تقرير ووعيد ، و (تُبَّعٍ) : ملك حميريّ ، وكان يقال لكل ملك منهم : «تبّع» إلّا أنّ المشار إليه في هذه الآية رجل صالح ؛ روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق سهل بن سعد «أنّ تبّعا هذا أسلم وآمن بالله» (١) ، وقد ذكره ابن إسحاق في السيرة ، قال السّهيليّ : وبعد ما غزا تبّع المدينة ، وأراد خرابها أخبر بأنّها مهاجر نبيّ اسمه أحمد ، فانصرف عنها ، وقال فيه شعرا وأودعه عند أهلها ، فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر ، إلى أن هاجر إليهم النبي* ع* فأدّوه إليه ، ويقال : إنّ الكتاب والشعر [كانا] عند أبي أيوب الأنصاريّ [ومنه] : [من المتقارب]

شهدت على أحمد أنّه

رسول من الله باري النسم

فلو مدّ عمري إلى عمره

لكنت وزيرا له وابن عمّ (٢)

وذكر الزّجّاج (٣) ، وابن أبي الدنيا : أنّه حفر قبر ب «صنعاء» في الإسلام ، فوجد فيه امرأتان صحيحتان ، وعند رأسهما لوح من فضّة مكتوب فيه بالذّهب : هذا قبر حبّى ولميس ، ويروى : وتماضر ابنتي تبّع ، ماتتا وهما تشهدان أن لا إله إلّا الله ، ولا تشركان به شيئا ، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما ، انتهى ، و (يَوْمَ الْفَصْلِ) : هو يوم القيامة وهذا هو الإخبار بالبعث ، و «المولى» في هذه الآية : يعمّ جميع الموالي.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ)(٤٩)

وقوله سبحانه : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) روي عن ابن زيد ؛ أنّ الأثيم

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٤٩) ، وعزاه إلى الطبراني ، وابن مردويه.

(٢) وبعدها :

وجاهدت بالسيف أعداءه

وفرّجت عن صدره كلّ هم

ينظر : «الروض الأنف» (١ / ٣٥)

(٣) ينظر : «معاني القرآن» (٤ / ٤٢٧)

٢٠١

المشار إليه أبو جهل ، ثم هي بالمعنى تتناول كلّ أثيم ، وهو كلّ فاجر ، روي أنّها لمّا نزلت ، جمع أبو جهل عجوة وزبدا ، وقال لأصحابه : تزقّموا ، فهذا هو الزّقّوم ، وهو طعامي الذي حدّث به محمّد ، قال* ع (١) * : وإنّما قصد بذلك ضربا من المغالطة والتلبيس على الجهلة.

وقوله سبحانه : (كَالْمُهْلِ) قال ابن عبّاس ، وابن عمر (٢) : «المهل» : درديّ الزّيت وعكره ، وقال ابن مسعود وغيره (٣) : «المهل» : ما ذاب من ذهب أو فضّة ، والمعنى : أنّ هذه الشجرة إذا طعمها الكافر في جهنّم ، صارت في جوفه تفعل كما يفعل المهل المذاب من الإحراق والإفساد ، ، و (الْحَمِيمِ) : الماء السّخن الذي يتطاير من غليانه.

وقوله : (خُذُوهُ ...) الآية ، أي : يقال يومئذ للملائكة : خذوه ، يعني الأثيم (فَاعْتِلُوهُ) و «العتل» : السّوق بعنف وإهانة ، ودفع قويّ متّصل ، كما يساق أبدا مرتكب الجرائم ، و «السّواء» : الوسط ، وقيل : المعظم ، وذلك متلازم.

وقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) مخاطبة على معنى التّقريع.

(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ)(٥٤)

وقوله سبحانه : (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) : عبارة عن قول يقال للكفرة ، ثم ذكر تعالى حالة المتّقين ، فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أي : مأمون ، «والسّندس» : رقيق الحرير ، و «الإستبرق» : خشنه.

وقوله : (مُتَقابِلِينَ) : وصف لمجالس أهل الجنّة ، لأنّ بعضهم لا يستدبر بعضا في المجالس ، وقرأ الجمهور : (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) وقرأ ابن مسعود : «بعيس عين» ، وهو جمع «عيساء» ، وهي البيضاء (٤) ؛ وكذلك هي من النوق ، وروى أبو قرصافة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين» قال الثعلبيّ : قال مجاهد : يحار

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٧٦)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤) برقم : (٣١١٥٢ ـ ٣١١٥٥) عن ابن عبّاس ، وذكره ابن عطية (٥ / ٧٦)

(٣) أخرجه الطبري (٨ / ٢١٨) برقم : (٢٣٠٤٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٧٦)

(٤) ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٣٨) ، و «المحتسب» (٢ / ٢٦١) ، و «الكشاف» (٤ / ٢٨٣) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٧٨)

٢٠٢

فيهنّ الطّرف من بياضهنّ وصفاء لونهنّ ، يرى مخّ سوقهنّ من وراء ثيابهنّ ، ويرى الناظر وجهه في كعب إحداهنّ كالمرآة من رقّة الجلد وصفاء اللون (١) ، انتهى.

(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ)(٥٩)

وقوله سبحانه : (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) أي : يدعون الخدمة والمتصرّفين.

قال أبو حيان (٢) : (إِلَّا الْمَوْتَةَ) : استثناء منقطع ، أي : لكن الموتة الأولى ذاقوها ، انتهى ، ، والضمير في (يَسَّرْناهُ) عائد على القرآن (بِلِسانِكَ) أي : بلغة العرب ؛ قال الواحديّ : (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) : أي : يتّعظون ، انتهى ، وفي قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) وعد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعيد للكافرين.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٢٤٨) برقم : (٣١١٧٦) ، عن ابن نجيح عن مجاهد ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٥٥)

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٤١)

٢٠٣

تفسير سورة الجاثية

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ)(٨)

قوله عزوجل : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) قال أبو حيّان (١) : أجاز الفخر الرازي في (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أن يكونا صفتين ل «الله» ، وهو الراجح ، أو ل «الكتاب» ؛ وردّ بأنّه لا يجوز أن يكونا صفتين للكتاب من وجوه ، انتهى.

وذكر تبارك وتعالى هنا الآيات الّتي في السموات والأرض مجملة غير مفصّلة ، فكأنّها إحالة على غوامض تثيرها الفكر ، ويخبر بكثير منها الشرع ؛ فلذلك جعلها للمؤمنين ، ثم ذكر سبحانه خلق البشر والحيوان ، وكأنّه أغمض ؛ فجعله / للموقنين الذين لهم نظر يؤدّيهم إلى اليقين ، ثم ذكر اختلاف الليل والنهار ، والعبرة بالمطر والرياح ، فجعل ذلك لقوم يعقلون ؛ إذ كلّ عاقل يحصّل هذه ويفهم قدرها.

قال* ع (٢) * : وإن كان هذا النظر ليس بلازم ولا بدّ ، فإن اللفظ يعطيه ، والرزق المنزّل من السماء هو : الماء ، وسمّاه الله سبحانه رزقا بمآله ، لأنّ جميع ما يرتزق ، فعن الماء هو.

وقوله : (نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) أي : بالصدق والإعلام بحقائق الأمور في أنفسها.

وقال جلّت عظمته : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) آية تقريع وتوبيخ ، وفيها

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٤٣)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٧٩)

٢٠٤

قوّة تهديد ، والأفّاك : الكذّاب الذي يقع منه الإفك مرارا ، والأثيم : بناء مبالغة ، اسم فاعل من أثم يأثم ، وروي أنّ سبب الآية أبو جهل ، وقيل : النّضر بن الحارث ، والصواب أنّها عامّة فيهما وفي غيرهما ، وأنّها تعمّ كلّ من دخل تحت الأوصاف المذكورة إلى يوم القيامة و (يُصِرُّ) معناه : يثبت على عقيدته من الكفر.

وقوله : (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم.

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(١٠)

وقوله تعالى : (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) أي : أخبر بشيء من آياتنا ، فعلم نفس الخبر لا المعنى الذي تضمّنه الخبر ، ولو علم المعاني الّتي تضمّنها أخبار الشرع ، وعرف حقائقها ـ لكان مؤمنا.

* ت* : وفي هذا نظر ؛ لأنّه ينحو إلى القول بأنّ الكفر لا يتصوّر عنادا محضا ، وقد تقدّم اختياره ـ رحمه‌الله ـ لذلك في غير هذا المحلّ ، فقف عليه ، وخشية الإطالة منعتني من تكراره هنا.

(هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١) اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(١٣)

وقوله سبحانه : (هذا هُدىً) إشارة إلى القرآن.

وقوله : (لَهُمْ عَذابٌ) بمنزلة قولك : لهم حظّ ، فمن هذه الجهة / ومن جهة تغاير اللفظين حسن قوله : (عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ) ، إذ الرجز هو العذاب.

وقوله : (لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) أقام القدرة والإذن مناب أن يأمر البحر والناس بذلك ، وقرأ مسلمة بن محارب (١) : «جميعا منة» بضم التاء ، وقرأ أيضا : «جميعا منّه» [بفتح الميم وشد النون والهاء] (٢) وقرأ ابن عبّاس : «منّة» بالنصب على المصدر (٣).

__________________

(١) أما الأولى فذكرها ابن عطية في «البحر الوجيز» (٥ / ٨٢) ، وأما القراءة الثانية عنه ، فقد ذكرها ابن عطية أيضا ، وكذلك ابن خالويه في «مختصر الشواذ» ص : (١٣٩) ، وابن جني في «المحتسب» (٢ / ٢٦٢) ، والزمخشري في «الكشاف» (٤ / ٢٨٨)

(٢) سقط في : د.

(٣) وقرأ بها عبيد بن عمير ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، والجحدري.

٢٠٥

وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) قال الغزّاليّ في «الإحياء» : الفكر والذّكر أعلى مقامات الصالحين ، وقال ـ رحمه‌الله ـ : اعلم أنّ الناظرين بأنوار البصيرة علموا أن لا نجاة إلّا في لقاء الله عزوجل ، وأنّه لا سبيل إلى اللقاء إلّا بأن يموت العبد محبّا لله تعالى ، وعارفا به ، وأنّ المحبّة والأنس لا يتحصّلان إلّا بدوام ذكر المحبوب ، وأنّ المعرفة لا تحصل إلّا بدوام الفكر ، ولن يتيسّر دوام الذّكر والفكر إلّا بوداع الدنيا وشهواتها والاجتزاء منها بقدر البلغة والضّرورة ، ثم قال : والقرآن جامع لفضل الذّكر والفكر والدّعاء مهما كان بتدبّر ، انتهى.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ(١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٧)

وقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ...) الآية ، قال أكثر الناس : هذه الآية منسوخة بآية القتال ، وقالت فرقة : بل هي محكمة ؛ قال* ع (١) * : الآية تتضمّن الغفران عموما ، فينبغي أن يقال : «إنّ الأمور العظام ، كالقتل والكفر مجاهرة ونحو ذلك ـ قد نسخت غفرانه ، آية السّيف والجزية ، وما أحكمه الشرع لا محالة ، وأنّ الأمور الحقيرة كالجفاء في القول ونحو ذلك تحتمل أن تبقى محكمة ، وأن يكون العفو عنها أقرب إلى التقوى.

وقوله (أَيَّامَ اللهِ) قالت فرقة : معناه : أيام إنعامه ، ونصره ، وتنعيمه / في الجنة ، وغير ذلك ، وقال مجاهد : (أَيَّامَ اللهِ) : أيام نقمه وعذابه (٢) ، وباقي الآية بيّن.

وقوله سبحانه : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ...) الآية ، قد تقدّم بيان نظيرها في سورة يونس وغيرها.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ

__________________

ـ ينظر : «الشواذ» ص : (١٣٩) ، و «المحتسب» (٢ / ٢٦٢) ، و «الكشاف» (٤ / ٢٨٨) ، و «المحرر» (٥ / ٨٢)

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٨ / ٨٢)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٨٣)

٢٠٦

وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(٢٠)

وقوله سبحانه : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ ...) الآية : «الشريعة» لغة : مورد المياه ، وهي في الدين من ذلك ؛ لأنّ الناس يردون الدين ابتغاء رحمة الله والتقرّب منه ، و «الأمر» واحد الأمور ، ويحتمل أن يكون واحد الأوامر ، و (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) هم : الكفّار ، وفي قوله تعالى : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) تحقير للكفرة من حيث خروجهم عن ولاية الله تعالى.

* ت* : وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد : «أجيبوهم فقولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم» (١) ، وذلك أنّ قريشا قالوا للصحابة : لنا العزّى ، ولا عزّى لكم.

وقوله عزوجل : (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ) يريد : القرآن ، وهو جمع «بصيرة» ، وهو المعتقد الوثيق في الشيء ، كأنّه من إبصار القلب ؛ قال أبو حيّان : وقرىء : «هذه» أي : هذه الآيات ، انتهى.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٢٢)

وقوله سبحانه : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) قيل : إنّ الآية نزلت بسبب افتخار كان للكفّار على المؤمنين ، قالوا : لئن كانت آخرة ، كما تزعمون ، لنفضّلنّ عليكم فيها ، كما فضّلنا في الدّنيا.

و (اجْتَرَحُوا) معناه : اكتسبوا ، وهذه الآية متناولة بلفظها حال العصاة من حال أهل التقوى ، وهي موقف للعارفين يبكون عنده ، وروي عن الربيع بن خيثم ، أنّه كان يردّدها ليلة حتّى أصبح (٢) ، وكذلك عن الفضيل بن عياض (٣) ، وكان يقول لنفسه : ليت / شعري! من أيّ الفريقين أنت؟ وقال الثعلبيّ : كانت هذه الآية تسمّى مبكاة العابدين (٤) ، قال* ع (٥) * : وأمّا لفظها فيعطي أنّه اجتراح الكفر ، بدليل معادلته بالإيمان ، ويحتمل أن تكون

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٨٥)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٨٥)

(٤) ذكره ابن عطية (٥ / ٨٥)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٨٥)

٢٠٧

المعادلة بين الاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا بكى الخائفون ـ رضي الله عنهم ـ.

* ت* : وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده ؛ أن تميما الدّاريّ ـ رضي الله عنه ـ بات ليلة إلى الصباح ، يركع ويسجد ، ويردّد هذه الآية : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) الآية ، ويبكي ـ رضي الله عنه ـ ، انتهى.

وقوله : (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) : «ما» مصدرية ، والتقدير : ساء الحكم حكمهم.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ)(٢٤)

وقوله سبحانه : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ...) الآية : تسلية للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : لا تهتمّ بأمر الكفرة من أجل إعراضهم عن الإيمان ، وقوله : (إِلهَهُ هَواهُ) إشارة إلى الأصنام ؛ إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة ، وقال قتادة : المعنى : لا يهوى شيئا إلا ركبه ، لا يخاف الله (١) ؛ فهذا كما يقال : الهوى إله معبود ، وهذه الآية وإن كانت نزلت في هوى الكفر ؛ فهي متناولة جميع هوى النفس الأمّارة ؛ قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والعاجز من أتبع نفسه هواها ، وتمنّى على الله» (٢) ، وقال سهل التّستريّ : هواك داؤك ؛ فإن خالفته فدواؤك ، ، وقال وهب : إذا عرض لك أمران ، وشككت في خيرهما ، فانظر أبعدهما من هواك فأته ؛ ومن الحكمة في هذا قول القائل : [الطويل]

إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى

إلى كلّ ما فيه عليك مقال

قال الشيخ ابن أبي جمرة : قوله / صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فيقال : من كان يعبد شيئا فليتبعه» «شيئا» يعم جميع الأشياء ، مدركة كانت أو غير مدركة ، فالمدرك : كالشمس والقمر ، وغير المدرك ، مثل : الملائكة والهوى ؛ لقوله عزوجل : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) ، وما أشبه ذلك ، انتهى ، قال القشيريّ في «رسالته» : وحكي عن ابي عمران الواسطيّ قال : انكسرت بنا السفينة ، فبقيت أنا وامرأتي على لوح ، وقد ولدت في تلك الحال صبيّة ، فصاحت بي ، وقالت : يقتلني العطش ، فقلت : هو ذا يرى حالنا ، فرفعت رأسي ، فإذا رجل في الهواء جالس في يده سلسلة من ذهب ، وفيها كوز من ياقوت أحمر ، فقال : هاك ،

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٥٩ ، ١٦٠) آية رقم : (٢١)

(٢) تقدم.

٢٠٨

اشربا ، قال : فأخذت الكوز فشربنا منه ، فإذا هو أطيب من المسك ، وأبرد من الثّلج ، وأحلى من العسل ، فقلت : من أنت ـ رحمك الله؟ ـ فقال : عبد لمولاك ، فقلت له : بم وصلت إلى هذا؟ فقال : تركت هواي لمرضاته ، فأجلسني في الهواء ، ثمّ غاب عنّي ، ولم أره ، انتهى.

وقوله تعالى : (عَلى عِلْمٍ) قال ابن عبّاس (١) : المعنى : على علم من الله تعالى سابق ، وقالت فرقة : أي : على علم من هذا الضّالّ بتركه للحقّ وإعراضه عنه ، فتكون الآية على هذا التأويل من آيات العناد ؛ من نحو قوله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤].

وقوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) استعارات كلّها.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ اللهِ) فيه حذف مضاف ، تقديره : من بعد إضلال الله إيّاه ، واختلف في معنى قولهم : (نَمُوتُ وَنَحْيا) فقالت فرقة : المعنى : يموت الآباء ، ويحيا الأبناء ، وقالت فرقة : المعنى : نحيا ونموت ، / فوقع في اللفظ تقديم وتأخير ، وقولهم : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي : طول الزمان.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٩)

وقوله سبحانه : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) يعني : قريشا ، (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) أي : يا محمّد ، أحي لنا قصيّا حتّى نسأله ، إلى غير ذلك من هذا النحو ، فنزلت الآية في ذلك ، ومعنى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : في قولكم أنّا نبعث بعد الموت.

ثم أمر الله تعالى نبيّه أن يخبرهم بالحال السابقة في علم الله التي لا تبدّل بأنّه يحيي الخلق ثم يميتهم ... إلى آخر الآية ، وباقي الآية بيّن.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٢٦٢) برقم : (٣١٢٠٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٨٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٥٨) ، وعزاه إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، واللالكائي في «السنة» ، والبيهقي في «الأسماء والصفات».

٢٠٩

و (الْمُبْطِلُونَ) : الداخلون في الباطل.

وقوله سبحانه : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) هذا وصف حال القيامة وهولها ، والأمّة : الجماعة العظيمة من الناس ، وقال مجاهد (١) : الأمّة : الواحد من الناس ؛ قال* ع (٢) * : وهذا قلق في اللغة ، وإن قيل في إبراهيم «أمّة» وفي قسّ بن ساعدة ، فذلك تجوّز على جهة التشريف والتشبيه ، و (جاثِيَةً) معناه : على الركب ؛ قاله مجاهد وغيره (٣) ، وهي هيئة المذنب الخائف ، وقال سليمان : في القيامة ساعة قدر عشر سنين ، يخرّ الجميع فيها جثاة على الركب.

وقوله : (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) قالت فرقة : معناه : إلى كتابها المنزّل عليها ، فتحاكم إليه ، هل وافقته أو خالفته؟ وقالت فرقة : أراد إلى كتابها الذي كتبته الحفظة على كل واحد من الأمّة.

وقوله سبحانه : (هذا كِتابُنا) يحتمل أن تكون الإشارة إلى الكتب المنزّلة ، أو إلى اللوح المحفوظ أو إلى كتب الحفظة ؛ وقال ابن قتيبة : إلى القرآن.

وقوله سبحانه : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) قال الحسن : هو كتب الحفظة على بني آدم (٤) ، وروى ابن عبّاس وغيره حديثا ؛ أنّ الله تعالى يأمر / بعرض أعمال العباد كلّ يوم خميس ، فينقل من الصحف الّتي كانت ترفع الحفظة ـ كلّ ما هو معدّ أن يكون عليه ثواب أو عقاب ، ويلغى الباقي ؛ فهذا هو النسخ من أصل.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٣٣)

وقوله عزوجل : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) أي : في جنّته.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٨٨)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٨٨)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٢٦٥) برقم : (٣١٢١٣) عن مجاهد ، (٣١٢١٤) عن ابن زيد ، وذكره ابن عطية (٥ / ٨٨) ، وابن كثير (٤ / ١٥٢)

(٤) ذكره البغوي (٤ / ١٦١) آية رقم : (٢٩) ، وابن عطية (٥ / ٨٩)

٢١٠

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ) أي : فيقال لهم : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) وقرأ حمزة وحده : «والسّاعة» (١) ـ بالنصب ـ ؛ عطفا على قوله : (وَعْدَ اللهِ) ، وقرأ ابن مسعود (٢) : «وأنّ السّاعة لا ريب فيها» ، وباقي الآية بيّن.

وقوله سبحانه : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ...) الآية ، حكاية حال يوم القيامة (وَحاقَ) معناه : نزل وأحاط ، وهي مستعملة في المكروه ، وفي قوله : (ما كانُوا) حذف مضاف ، تقديره : جزاء ما كانوا به يستهزئون.

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٣٧)

وقوله عزوجل : (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) معناه : نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا ، و (آياتِ اللهِ) هنا : لفظ جامع لآيات القرآن وللأدلّة التي نصبها الله تعالى ، للنّظر ، (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي : لا يطلب منهم مراجعة إلى عمل صالح.

وقوله سبحانه : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ ...) إلى آخر السورة ـ تحميد لله عزوجل ، وتحقيق لألوهيّته ، وفي ذلك كسر لأمر الأصنام وسائر ما تعبده الكفرة ، و (الْكِبْرِياءُ) : بناء مبالغة.

__________________

(١) وعلى قراءة الباقين فيها ثلاثة أوجه : الابتداء ، وما بعدها من الجملة المنفية خبرها.

«الثاني» : العطف على محل اسم «إن» ؛ لأنه قبل دخولها مرفوع بالابتداء.

«الثالث» : أنه عطف على محل «إن» واسمها معا ، لأن بعضهم ـ كالفارسي والزمخشري ـ يرون : أن ل «إن» واسمها موضعا ، وهو الرفع بالابتداء.

ينظر : «الدر المصون» (٦ / ١٣٢) ، و «السبعة» (٥٩٥) ، و «الحجة» (٦ / ١٧٩) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣١٥) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٧٧) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢٣٥) ، و «العنوان» (١٧٤) ، و «حجة القراءات» (٦٦٢) ، و «شرح شعلة» (٥٨٢) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ٤٦٨)

(٢) وينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٨٩)

٢١١

تفسير سورة الأحقاف

وهي مكّيّة إلّا آيتين ، وهما قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ...) الآية ، وقوله سبحانه : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) الآية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) (٥)

قوله سبحانه : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ) يعني : القرآن.

وقوله سبحانه : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) : هذه الآية موعظة ، وزجر ، المعنى : فانتبهوا أيّها الناس ، وانظروا ما يراد بكم ولم خلقتم ، «والأجل المسمّى» : هو يوم القيامة.

وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ) [معناه (١) :] ما تعبدون ، ثم وقفهم على السّموات ؛ هل لهم فيها شرك ، ثم استدعى منهم كتابا منزّلا قبل القرآن يتضمّن عبادة الأصنام ، قال ابن العربيّ في «أحكامه» (٢) : هذه الآية من أشرف آية في القرآن ؛ فإنّها استوفت الدّلالة على الشرائع عقليّها وسمعيّها ؛ لقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) فهذا بيان لأدلّة العقل المتعلّقة بالتوحيد ، وحدوث العالم ، وانفراد الباري تعالى بالقدرة والعلم والوجود والخلق ، ثم قال : (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) : على ما تقولون ، وهذا بيان لأدلّة السّمع ؛ فإنّ مدرك الحق إنما يكون بدليل العقل أو بدليل الشرع ، حسبما بيّنّاه من مراتب الأدلّة في كتب الأصول ،

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) ينظر : «أحكام القرآن» (٤ / ١٦٩٦)

٢١٢

ثم قال : (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) يعني : أو علم يؤثر ، أي : يروى وينقل ، وإن لم يكن مكتوبا ، انتهى.

وقوله : (أَوْ أَثارَةٍ) معناه : أو بقيّة قديمة من علم أحد العلماء ، تقتضي عبادة الأصنام ، و «الأثارة» البقيّة من الشيء ، وقال الحسن : المعنى : من علم تستخرجونه فتثيرونه (١) ، وقال مجاهد : المعنى : هل من أحد يأثر علما في ذلك (٢) ، وقال القرطبيّ : هو الإسناد ؛ ومنه / قول الأعشى : من [السريع]

إنّ الّذي فيه تماريتما

بيّن للسّامع والآثر (٣)

أي : وللمسند عن غيره ، وقال ابن عبّاس (٤) : الأثارة : الخطّ في التراب ، وذلك شيء كانت العرب تفعله ، والضمير في قوله : (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) هو للأصنام في قول جماعة ، ويحتمل أن يكون لعبدتها.

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(٩)

وقوله سبحانه : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) وصف ما يكون يوم القيامة بين الكفّار وأصنامهم من التّبرّي والمناكرة ، وقد بيّن ذلك في غير هذه الآية.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي : آيات القرآن ، (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ) يعني : القرآن (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) أي : يفرّق بين المرء وبنيه.

وقوله سبحانه : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) المعنى : إن افتريته ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٧٧٢) برقم : (٣١٢٢٨) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥ / ٩٢) ، وابن كثير (٤ / ١٥٤)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٩٢)

(٣) البيت في «ديوانه» (٩٢) ، «اللسان» (أثر) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٩٢) ، والآثر : الذي يحفظ الأثر ، أي : الرواية.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٢٧٢) برقم : (٣١٢٢٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٩٢) ، وابن كثير (٤ / ١٥٤) ، والسيوطي (٦ / ٤) ، وعزاه إلى ابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والفريابي ، وعبد بن حميد.

٢١٣

فالله حسبي في ذلك ، وهو كان يعاقبني ولا يمهلني ، ثم رجع القول إلى الاستسلام إلى الله ، والاستنصار به عليهم ، وانتظار ما يقتضيه علمه بما يفيضون فيه من الباطل ومرادّة الحقّ ، وذلك يقتضي معاقبتهم ؛ ففي اللفظ تهديد ، والضمير في (بِهِ) عائد على الله عزوجل.

وقوله سبحانه : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ترجية واستدعاء إلى التوبة ، ثم أمره عزوجل أن يحتجّ عليهم بأنّه لم يكن بدعا من الرسل ، والبدع والبديع من الأشياء ما لم ير مثله ، المعنى : قد جاء قبلي غيري ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (١).

* ت* : ولفظ البخاريّ : وقال ابن عبّاس : (بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي : لست بأوّل الرّسل (٢) ، واختلف الناس في قوله : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) فقال ابن عبّاس وجماعة : كان هذا في صدر الإسلام ، ثم بعد ذلك عرّفه / الله عزوجل بأنّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وبأنّ المؤمنين لهم من الله فضل كبير ، وهو الجنّة ، وبأنّ الكافرين في نار جهنّم (٣) ؛ والحديث الصحيح الذي وقع في جنازة عثمان بن مظعون يؤيّد هذا (٤) ، وقالت فرقة : معنى الآية : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي ، وقيل غير هذا.

وقوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) معناه : الاستسلام والتّبرّي من علم المغيّبات ، والوقوف مع النذارة من عذاب الله عزوجل.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤)

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٤٣٩) كتاب «التفسير» باب : سورة الأحقاف تعليقا ، وقال ابن حجر : وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس ، وللطبري من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله ، والطبري (١١ / ٢٧٥) (٣١٢٢٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٩٣)

(٢) انظر السابق.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٩٤)

(٤) ينظر : «مجمع الزوائد» (٩ / ٣٠٥) ، كتاب «المناقب» باب : فضل عثمان بن مظعون رضي الله عنه.

٢١٤

وقوله عزوجل : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ...) الآية ، جواب هذا التوقيف محذوف ، تقديره : أليس قد ظلمتم؟! ودلّ على هذا المقدّر قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) قال مجاهد وغيره : هذه الآية مدنية (١) ، والشاهد عبد الله بن سلام ، وقد قال عبد الله بن سلام : فيّ نزلت ، وقال مسروق بن الأجدع والجمهور : الشاهد موسى بن عمران* ع* ، والآية مكية (٢) ، ورجّحه الطّبريّ (٣).

وقوله : (عَلى مِثْلِهِ) يريد بالمثل التوراة ، والضمير عائد في هذا التأويل على القرآن ، أي : جاء شاهد من بني إسرائيل بمثله أنّه من عند الله سبحانه.

وقوله : (فَآمَنَ) ، على هذا التأويل ، يعني به تصديق موسى وتبشيره بنبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله سبحانه : (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل القرآن (كِتابُ مُوسى) يعني : التوراة (وَهذا كِتابٌ) يعني القرآن (مُصَدِّقٌ) للتوراة التي تضمّنت خبره ، وفي مصحف ابن مسعود (٤) : «مصدّق لّما بين يديه» و (الَّذِينَ ظَلَمُوا) هم : الكفار ، وعبّر عن المؤمنين بالمحسنين ؛ ليناسب لفظ «الإحسان» في مقابلة «الظلم».

ثم أخبر تعالى عن حسن [حال] المستقيمين ، وذهب كثير من الناس إلى أنّ المعنى : ثم استقاموا بالطاعات والأعمال الصالحات ، وقال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ المعنى : ثم استقاموا بالدّوام على الإيمان (٥) ؛ قال* ع (٦) * : وهذا أعمّ رجاء وأوسع ، وإن كان في الجملة المؤمنة من يعذّب وينفذ عليه الوعيد ، فهو ممّن يخلد في الجنّة ، وينتفي عنه الخوف والحزن الحالّ بالكفرة.

وقوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) قد جعل الله سبحانه الأعمال أمارات على ما سيصير إليه العبد ، لا أنّها توجب على الله شيئا.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٩٤)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٩٤)

(٣) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٢٨١)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٩٥)

(٥) ذكره ابن عطية (٥ / ٩٦)

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٩٦)

٢١٥

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(١٦)

وقوله سبحانه : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) يريد : النوع ، أي : هكذا مضت شرائعي وكتبي ، فهي وصيّة من الله في عباده ، وبرّ الوالدين واجب ، وعقوقهما كبيرة ، وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلّ شيء بينه وبين الله حجاب إلّا شهادة أن لا إله إلّا الله ، ودعوة الوالدين (١) قال* ع (٢) * : ولن يدعوا في الغالب إلّا إذا ظلمهما الولد ، فهذا يدخل في عموم قوله ـ عليه‌السلام ـ : «اتّقوا دعوة المظلوم ؛ فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب» (٣) ثم عدّد سبحانه على الأبناء منن الأمّهات.

وقوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً) قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة : حملته مشقّة ، ووضعته مشقّة ، قال أبو حيّان (٤) : (وَحَمْلُهُ) على حذف مضاف ، أي : مدّة حمله ، انتهى.

وقوله : (ثَلاثُونَ شَهْراً) يقتضي أنّ مدّة / الحمل والرضاع هي هذه المدّة ، وفي البقرة : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [البقرة : ٢٣٣] فيترتب من هذا أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر ، وأقلّ ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر ، وإكمال الحولين هو لمن أراد أن يتمّ الرضاعة ، وهذا في أمد الحمل ، هو مذهب مالك وجماعة من الصحابة ، وأقوى الأقوال في بلوغ الأشدّ ستة وثلاثون سنة ، قال* ع (٥) * : وإنّما ذكر تعالى الأربعين ؛ لأنّها حدّ للإنسان في فلاحه ونجابته ، وفي الحديث : «إنّ الشيطان يجرّ يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ، فيقول : بأبي ، وجه لا يفلح».

* ت* : وحدّث أبو بكر ابن الخطيب في «تاريخ بغداد» بسنده المتّصل عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا بلغ العبد أربعين سنة ، أمّنه الله من البلايا الثّلاث : الجنون ، والجذام ، والبرص ، فإذا بلغ خمسين سنة خفّف الله عنه الحساب ، فإذا بلغ ستّين سنة رزقه

__________________

(١) ذكره الهندي في «كنز العمال» (٣٣١٨) ، وعزاه إلى ابن النجار في «التاريخ».

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٩٦)

(٣) أخرجه أحمد (٣ / ١٥٣) من طريق أنس.

(٤) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٦١)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٩٧)

٢١٦

الله الإنابة لما يحبّ ، فإذا بلغ سبعين سنة غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، وشفّع في أهل بيته ، وناداه مناد من السّماء : هذا أسير الله في أرضه» (١) انتهى ، وهذا ـ والله أعلم ـ في العبد المقبل على آخرته ، المشتغل بطاعة ربه.

وقوله : (رَبِّ أَوْزِعْنِي) معناه : ادفع عني الموانع ، وأجرني من القواطع ؛ لأجل أن أشكر نعمتك ، ويحتمل أن يكون (أَوْزِعْنِي) بمعنى : اجعل حظّي ونصيبي ، وهذا من التوزيع.

* ت* : وقال الثعلبيّ وغيره (أَوْزِعْنِي) : معناه : ألهمني ، وعبارة الفخر (٢) : قال ابن عبّاس (أَوْزِعْنِي) : معناه : ألهمني (٣) ، قال صاحب «الصّحاح» استوزعت / الله فأوزعني ، أي : استلهمته فألهمني ، انتهى ، قال ابن عبّاس (نِعْمَتَكَ) : في التوحيد

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ٨٩) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (١٥ / ٦٧٠) (٤٢٦٦٢) ، وعزاه إلى الديلمي عن أنس ، قال ابن حجر في «القول المسدد» في الذب عن مسند الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا أنس بن عياض حدثني يوسف بن أبي ذرة عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة ، إلا صرف الله عنه أنواعا من البلاء : الجنون ، والجذام ، والبرص ، فإذا بلغ خمسين سنة لين الله عليه الحساب ، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما يحب ، فإذا بلغ سبعين أحبه الله ، وأحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين قبل الله حسناته ، وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر ، وسمي أسير الله في أرضه ، وشفع لأهل بيته». ورواه أحمد أيضا موقوفا على أنس :

قال : حدثنا أبو النضر ، ثنا الفرج ، ثنا محمّد بن عامر ، عن محمّد بن عبيد الله ، عن جعفر بن عمرو ، عن أنس بن مالك قال : إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة أمنه الله من أنواع من البلاء : من الجنون ، والجذام ، والبرص ، وإذا بلغ الخمسين لين الله عزوجل عليه حسابه ، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه عليه ، وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين تقبل الله منه حسناته ، ومحا عنه سيئاته ، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي : أسير الله في الأرض ، وشفع في أهله. وعلة الحديث المرفوع يوسف بن أبي ذرة ، وفي ترجمته أورده ابن حبان في «تاريخ الضعفاء» وقال : يروي المناكير التي لا أصل لها من كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يحل الاحتجاج به بحال. روي عن جعفر بن عمرو عن أنس ذاك الحديث ، وأورد ابن الجوزي في «الموضوعات» هذا الحديث من الطريقين : المرفوع والموقوف ، وقال : هذا الحديث لا يصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأعل الحديث الموقوف بالفرج بن فضالة ، وحكى أقوال الأئمة في تضعيفه ، قال : وأما محمّد بن عامر فقال ابن حبان : يقلب الأخبار ويروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم. وأما محمّد بن عبيد الله فهو العرزمي ، قال أحمد : ترك الناس حديثه. قلت : وقد خلط فيه الفرج بن فضالة فحدث به هكذا وقلب إسناده مرة أخرى فجعله من حديث ابن عمر مرفوعا أيضا ، رواه أحمد أيضا.

ينظر : «القول المسدد» (٧ ـ ٨)

(٢) ينظر : «تفسير الرازي» (٢٨ / ١٨)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٢٨٤) برقم : (٣١٢٦٢ ، ٣١٢٦٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٩٧)

٢١٧

و (صالِحاً تَرْضاهُ) : الصلوات ، والإصلاح في الذّرّيّة : كونهم أهل طاعة وخير (١) ، وهذه الآية معناها : أن هكذا ينبغي للإنسان أن يكون ، فهي وصيّة الله تعالى للإنسان في كلّ الشرائع ، وقول من قال : إنّها في أبي بكر وأبويه ـ ضعيف ؛ لأنّ هذه الآية نزلت بمكّة بلا خلاف ، وأبو قحافة أسلم عام الفتح ، وفي قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ ...) الآية : دليل على أنّ الإشارة بقوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) إنما أراد بها الجنس.

وقوله : (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) يريد : الذين سبقت لهم رحمة الله ، قال أبو حيّان (٢) (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) قيل : (فِي) على بابها ، أي : في جملتهم ؛ كما تقول : أكرمني الأمير في ناس ، أي : في جملة من أكرم ، وقيل : (فِي) بمعنى مع ، انتهى.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١٩)

وقوله تعالى : (وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) قال الثعلبيّ : معناه : إذ دعواه إلى الإيمان (٣) ، (أُفٍّ لَكُما ...) الآية ، انتهى ، و (الَّذِي) يعني به الجنس على حدّ العموم في التي قبلها في قوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) ؛ هذا قول الحسن وجماعة (٤) ، ويشبه أنّ لها سببا من رجل قال ذلك لأبويه ، فلما فرغ من ذكر الموفّق ، عقّب بذكر هذا العاقّ ، وقد أنكرت عائشة أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقالت : ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي (٥).

* ت* : ولا يعترض عليها بقوله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ) [التوبة : ٤٠] ، ولا بقوله : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ) [النور : ٢٢] كما بيّنّا ذلك في غير هذه الآية ، قال* ع (٦) * :

__________________

(١) ذكره ابن كثير ولم يعزه إلى أحد.

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٦١)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٩٨)

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) أخرجه الحاكم (٤ / ٤٨١) ، والنسائي في «التفسير» (٥١١) ، والخطابي في «غريب الحديث» (٢ / ٥١٧) من طريق محمّد بن زياد عن عائشة. وصححه الحاكم ، وتعقبه الذهبي فقال : محمّد لم يسمع من عائشة.

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٩٩)

٢١٨

والأصوب أن تكون الآية عامّة في أهل هذه الصفات ، والدليل القاطع على ذلك : قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ / حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ) وكان عبد الرحمن بن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ من أفاضل الصحابة ، ومن أبطال المسلمين ، وممّن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره ، و (أُفٍ) بالتنوين قراءة نافع وغيره (١) ، والتنوين في ذلك علامة تنكير ؛ كما تستطعم رجلا حديثا غير معيّن فتقول : «إيه» منونة ، وإن كان حديثا مشارا إليه قلت : «إيه» بغير تنوين.

وقوله : (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) المعنى : أن أخرج من القبر إلى الحشر ، وهذا منه استفهام بمعنى الهزء والاستبعاد. (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) معناه : هلكت ومضت ، ولم يخرج منهم أحد ، (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) يعني : الوالدين يقولان له : (وَيْلَكَ آمِنْ).

وقوله : (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : ما هذا القول الذي يتضمّن البعث من القبور إلّا شيء سطره الأوّلون في كتبهم ، يعني : الشرائع ، وظاهر ألفاظ هذه الآية أنّها نزلت في مشار إليه ، قال : وقيل له ، فنعى الله إلينا أقواله ؛ تحذيرا من الوقوع في مثلها.

وقوله : (أُولئِكَ) ظاهره أنّها إشارة إلى جنس ، و (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : قول الله : إنّه يعذّبهم ؛ قال أبو حيّان (٢) (فِي أُمَمٍ) أي : في جملة أمم ف «في» على بابها ، وقيل : (فِي) بمعنى مع ، وقد تقدم ذلك ، انتهى.

وقوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) يقتضي أنّ الجنّ يموتون ، وهكذا فهم الآية قتادة (٣) ، وقد جاء حديث يقتضي ذلك.

وقوله سبحانه : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ) يعني : المحسنين والمسيئين ، قال ابن زيد : ودرجات المحسنين تذهب / علوا ، ودرجات المسيئين تذهب سفلا (٤) ، وباقي الآية بيّن في أنّ كلّ امرئ يجتني ثمرة عمله من خير أو شرّ ، ولا يظلم في مجازاته.

__________________

(١) وقرأ بها حفص.

ينظر : «السبعة» (٥٩٧) ، و «الحجة» (٦ / ١٨٥) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣١٧) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ٤٧١)

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٦٢)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٢٨٨) برقم : (٣١٢٧٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٠٠)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٢٨٨) برقم : (٣١٢٧٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٠٠)

٢١٩

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٢٢)

وقوله عزوجل : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ...) الآية ، المعنى : واذكر يوم يعرض ، وهذا العرض هو بالمباشرة (أَذْهَبْتُمْ) أي : يقال لهم : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) و «الطّيّبات» هنا : الملاذّ ، وهذه الآية ، وإن كانت في الكفّار ، فهي رادعة لأولي النهى من المؤمنين عن الشهوات واستعمال الطّيّبات ؛ ومن ذلك قول عمر ـ رضي الله عنه ـ : أتظنّون أنّا لا نعرف طيّب الطّعام؟ ذلك لباب البرّ بصغار المعزى ، ولكنّي رأيت الله تعالى نعى على قوم أنّهم أذهبوا طيّباتهم في حياتهم الدنيا ، ذكر هذا في كلامه مع الرّبيع بن زياد (١) ، وقال أيضا نحو هذا لخالد بن الوليد حين دخل الشام ، فقدّم إليه طعام طيّب ، فقال عمر : هذا لنا ، فما لفقراء المسلمين الّذين ماتوا ولم يشبعوا من خبز الشعير؟ فقال خالد : لهم الجنّة ، فبكى عمر ، وقال : لئن كان حظّنا في الحطام ، وذهبوا بالجنّة ـ فقد بانوا بونا بعيدا (٢) ، وقال جابر بن عبد الله : اشتريت لحما بدرهم ، فرآني عمر ، فقال : أو كلّما اشتهى أحدكم شيئا اشتراه فأكله؟! أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ، وتلا : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) (٣) * ت* : والآثار في هذا المعنى كثيرة جدّا ، فمنها ما رواه أبو داود في سننه ، عن عبد الله بن بريدة أنّ رجلا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رحل إلى فضالة بن عبيد ، وهو بمصر ، فقدم عليه ، فقال : أما إنّي لم آتك زائرا / ولكن سمعت أنا وأنت حديثا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رجوت أن يكون عندك منه علم ، قال : ما هو؟ قال : كذا وكذا ، قال : فمالي أراك شعثا وأنت أمير الأرض؟! قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان ينهى عن كثير من الإرفاه (٤) ، قال : فما لي لا أرى عليك حذاء؟ قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يأمرنا أن نحتفي أحيانا ، وروى أبو داود عن أبي أمامة قال : ذكر أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يوما عنده الدنيا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا تسمعون أنّ البذاذة من الإيمان؟ إنّ البذاذة من

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ١٠١)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ١٠١)

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه أبو داود (٢ / ٤٧٤) كتاب «الترجل» باب : (١) (٤١٦٠)

٢٢٠