تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

تفسير سورة «الضّحى»

[وهي] مكّيّة بلا خلاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى)(٦)

تقدّم تفسير (الضُّحى) بأنه : سطوع الضوء وعظمه ، وقال قتادة : (الضُّحى) هنا النهار كلّه (١) و (سَجى) معناه سكن واستقرّ ليلا تامّا ، وقيل : معناه أقبل ، وقيل : معناه أدبر ، والأول أصحّ ، وعليه شواهد ، وقال البخاريّ : قال مجاهد : (إِذا سَجى) استوى (٢) ، وقال غيره : أظلم وسكن ، انتهى ، ، وقرأ الجمهور : (ما وَدَّعَكَ) ـ بشد الدال ـ من التّوديع وقرىء (٣) بالتخفيف بمعنى : ما تركك ، وقال البخاريّ : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) بالتشديد والتخفيف : ما تركك ، انتهى.

و (قَلى) أبغض ، نزلت بسبب إبطاء الوحي مدّة (وَلَلْآخِرَةُ) يعني : الدار الآخرة خير لك من الدنيا ، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) قيل : هي أرجى آية في القرآن ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرضى ، وواحد من أمته في النار ، وروي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال لما نزلت : «إذن لا أرضى ، وأحد من أمّتي في النار» قال عياض : وهذه آية جامعة لوجوه الكرامة وأنواع

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٢١) ، (٣٧٤٩٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٩٨) ، وابن عطية (٥ / ٤٩٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٩) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٢٢) ، (٣٧٤٩٦) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٩٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٩) ، (٦ / ٦٠٩) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه.

(٣) حكيت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك عروة بن الزبير.

ينظر : «الشواذ» ص : (١٧٥) ، و «المحتسب» (٢ / ٣٦٤) ، و «الكشاف» (٤ / ٧٦٥) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٩٣) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٤٨٠) ، و «الدر المصون» (٦ / ٥٣٧)

٦٠١

السعادة في الدارين ، انتهى ، [* ت* : وفي «صحيح مسلم» من رواية عبد الله بن عمرو بن العاصي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول الله ـ عزوجل ـ في إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٦] وقول عيسى عليه‌السلام : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة : ١١٨] فرفع يديه وقال : اللهمّ ، أمّتي أمّتي ، وبكى ، فقال الله ـ جلّ ثناؤه ـ يا جبريل ؛ اذهب إلى محمّد فقل له : إنّا سنرضيك في أمّتك ولا نسؤوك ، انتهى مختصرا] (١) ، ثمّ وقف تعالى نبيّه على المراتب التي درجه عنها بإنعامه فقال : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى).

(وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)(١١)

وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) اختلف الناس في تأويله ، والضلال يختلف ، فمنه البعيد ومنه القريب ؛ فالبعيد ضلال الكفّار ، وهذا قد عصم الله منه نبيّه فلم يعبد / صلى‌الله‌عليه‌وسلم صنما قط ، ولا تابع الكفار على شيء مما هم عليه من الباطل ، وإنما ضلاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو كونه واقفا لا يميز المهيع ، بل يدبر وينظر ، وقال الترمذي وعبد العزيز بن يحيى : (ضَالًّا) معناه : خامل الذّكر لا يعرفك الناس ؛ فهداهم إليك ربّك ، والصواب أنه ضلال من توقّف لا يدري ، كما قال عزوجل : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] وقال الثعلبي : قال بعض المتكلمين : إذا وجدت العرب شجرة مفردة في فلاة سموها ضالة فيهتدى بها إلى الطريق ، أي : فوجدتك وحيدا ليس معك نبيّ غيرك فهديت بك الخلق إليّ ، انتهى ، قال عياض : وقال الجنيد : المعنى : ووجدك متحيّرا في بيان ما أنزل إليك فهداك لبيانه ، لقوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ...) [النحل : ٤٤] الآية ، قال عياض : ولا أعلم أحدا من المفسرين قال فيها ضالا عن الإيمان ، وكذلك في قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ قوله : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠] أي المخطئين ، وقال ابن عطاء : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) أي : محبّا لمعرفتي ، والضّالّ : المحبّ ، كما قال تعالى : (إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) [يوسف : ٩٥] أي : محبّتك القديمة ، انتهى ، والعائل : الفقير (فَأَغْنى) أي : بالقناعة والصبر ، ثم وصّاه تعالى بثلاث وصايا ؛ بإزاء هذه النعم الثلاث ، و (السَّائِلَ) هنا قال أبو الدرداء : هو السائل عن العلم (٢) ، وقيل : هو سائل المال ، وقال

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٩٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦١٢) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

٦٠٢

إبراهيم بن أدهم : نعم القوم السؤال يحملنا زادنا إلى الآخرة.

وقوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) قال مجاهد وغيره : معناه بثّ القرآن وبلّغ ما أرسلت به (١) ، قال عياض : / وهذا الأمر يعمّ الأمة ، انتهى ، وقال آخرون : بل هو عموم في جميع النعم ، وفي «سنن أبي داود» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطوا الأجير حقّه قبل أن يجفّ عرقه (٢) ، وأعطوا السّائل ، وإن جاء على فرس» (٣) قال البغويّ في «المصابيح» : هذا حديث مرسل انتهى.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٩٥) ، وذكره أبو حيان (٨ / ٤٨٢)

(٢) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٨١٧) ، كتاب «الرهون» باب : إجارة الأجير على طعام بطنه (٢٤٤٣) ، قال البوصيري في «الزوائد» (٢ / ٢٥٩) : هذا إسناد ضعيف ، وهب بن سعيد هو : عبد الوهاب بن سعيد وعبد الرحمن بن زيد وهما ضعيفان ، لكن نقل عبد العظيم المنذري الحافظ في كتاب «الترغيب» له : ابن عبد الرحمن بن زيد وثق ، وقال : قال ابن عدي : أحاديثه حسان قال : وهو محن احتمله الناس وصدقه بعضهم وهو ممن يكتب حديثه ، قال : ووهب بن سعيد وثقه ابن حبان وغيره انتهى.

فعلى هذا يكون الإسناد حسنا والله أعلم ، وأصله في «صحيح البخاري» وغيره من حديث أبي هريرة.

(٣) أخرجه مالك (٢ / ٩٩٦) ، كتاب «الصدقة» باب : الترغيب في «الصدقة» (٣) ، مرسلا.

قال العجلوني في «كشف الخفا» (١ / ١٦١) : رواه مالك في «الموطأ» مرسلا عن زيد بن أسلم ، قال ابن حجر في خطبة «اللآلئ المنثورة» وهو أحد الأحاديث الخمسة التي قال فيها علي بن المديني : خمسة أحاديث يرونها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أصل لها عنه.

٦٠٣

تفسير سورة «الشرح»

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ)(٨)

عدّد الله تعالى على نبيه نعمه عليه في أن شرح صدره للنبوّة ، وهيأه لها ، وذهب الجمهور إلى أنّ شرح الصدر المذكور إنما هو تنويره بالحكمة ، وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه ، وقال ابن عبّاس وجماعة : هذه إشارة إلى شرحه بشقّ جبريل عنه في وقت صغره ، وفي وقت الإسراء ؛ إذا التشريح شقّ اللحم ، والوزر الذي وضعه الله عنه هو عند بعض المتأولين الثّقل الذي كان يجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نفسه من أجل ما كانت قريش فيه من عبادة الأصنام ؛ فرفع الله عنه ذلك الثّقل بنبوّته وإرساله ، وقال أبو عبيدة وغيره : المعنى : خفّفنا عنك أثقال النبوّة وأعنّاك على الناس (١) ، وقيل الوزر هنا : الذنوب ، نظير قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) [الفتح : ٢] وقد تقدم بيانه ، الثعلبيّ : وقيل : معناه : عصمناك من احتمال الوزر ، انتهى. و (أَنْقَضَ) معناه : جعله نقضا ، أي : هزيلا ، من الثّقل ، قال عياض : ومعنى أنقض ، أي : كاد ينقضه ، انتهى ، (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أي نوّهنا باسمك ، قال* ع (٢) * : ورفع الذكر نعمة على الرسول وكذلك هو جميل حسن للقائمين بأمور الناس ، وخمول الاسم والذكر حسن للمنفردين للعبادة ، / والمعنى في هذا : التّعديد : أنّا قد فعلنا جميع هذا بك ؛ فلا تكترث بأذى قريش ؛ فإن الذي فعل بك هذه النعم سيظفّرك بهم ، قال عياض : وروى أبو سعيد الخدريّ ؛ أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتاني جبريل فقال ؛ إنّ ربّي وربّك يقول : أتدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت : الله تعالى أعلم ، قال : إذا ذكرت ذكرت معي» ، انتهى ، ثم قوّى سبحانه رجاءه بقوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) وكرّر تعالى

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٥٠٢) ، وابن عطية (٥ / ٤٩٦)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٩٧)

٦٠٤

ذلك مبالغة ، وذهب كثير من العلماء إلى أنّ مع كلّ عسر يسرين بهذه الآية ، من حيث إنّ العسر معرّف للعهد واليسر منكّر فالأول غير الثاني ، وقد جاء في هذا التأويل حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لن يغلب عسر يسرين» (١) ، ثم أمر تعالى نبيّه إذا فرغ من شغل من أشغال النبوّة والعبادة أن ينصب في آخره ، والنصب : التعب ، والمعنى : أن يدأب على ما أمر به ولا يفتر ، وقال ابن عبّاس : إذا فرغت من فرضك فانصب في التّنفّل عبادة لربك (٢) ، ونحوه عن ابن مسعود وعن مجاهد : «فإذا فرغت من العبادة فانصب في الدعاء» (٣).

وقوله تعالى : (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) : أمر بالتوكل على الله ـ عزوجل ـ وصرف وجوه الرغبات إليه لا إلى سواه.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٢٨) ، (٣٧٥٤٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٩٧) ، وأبو حيان (٨ / ٤٨٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦١٧) ، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٢٨) ، (٣٧٥٤١) عن ابن عبّاس ، وذكره البغوي (٤ / ٥٠٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٢٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦١٧) ، وعزاه لابن أبي الدنيا.

٦٠٥

تفسير سورة «التّين»

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)(٨)

قال ابن عبّاس وغيره : «التين والزيتون» المقسم بهما هما المعروفان ، وقال السهيلي : أقسم تعالى بطور تينا ، وطور زيتا ، وهما جبلان عند بيت المقدس ، وكذلك طور سيناء ، ويقال : إن سيناء هي الحجارة ، والطور عند أكثر الناس هو الجبل ، وقال الماورديّ : / ليس كلّ جبل يقال له : طور إلا أن تكون فيه الأشجار والثمار ، وإلا فهو جبل فقط ، انتهى ، (وَطُورِ سِينِينَ) جبل بالشّام ، و (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) مكة ، والقسم واقع على قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [أي : في أحسن تقويم] (١) ينبغي له ، وقال بعض العلماء بالعموم ، أي : الإنسان أحسن المخلوقات تقويما ، ولم ير قوم الحنث على من حلف بالطلاق أنّ زوجته أحسن من الشمس ؛ محتجين بهذه الآية ، وحسن التقويم يشمل جميع محاسن الإنسان الظاهرة والباطنة ؛ من حسن صورته ، وانتصاب قامته ، وكمال عقله ، وحسن تمييزه ، والإنسان هنا اسم جنس ، وتقدير الكلام : في تقويم أحسن تقويم ؛ لأن (أَحْسَنِ) صفة لا بدّ أن تجري على موصوف.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) قال قتادة وغيره : معناه بالهرم وذهول العقل وهذه عبرة منصوبة (٢) ، وعبارة الثعلبيّ : (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) قيل : اعتداله واستواء شبابه ، وهو أحسن ما يكون ، (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) بالهرم ؛ كما قال : (إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) [الحج : ٥] ، والسافلون : الهرمى والزّمنى والذين حبسهم عذرهم عن الجهاد في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٣٨) ، (٣٧٦٢٤) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٥٠٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢١) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

٦٠٦

الله عذرهم وأخبرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم ، انتهى ، وفي البخاريّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا» وهكذا قال في الذين حبسهم العذر ، انتهى ، قال ـ ص ـ : (إِلَّا الَّذِينَ) قيل : منقطع بناء على أنّ معنى (أَسْفَلَ سافِلِينَ) : بالهرم وذهول العقل ، وقيل متصل بناء على أنّ معناه في النار على كفره ، انتهى ، قال* ع (١) * : وفي حديث / عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا بلغ المؤمن خمسين سنة خفّف الله حسابه ، فإذا بلغ ستّين ؛ رزقه الإنابة إليه ، فإذا بلغ سبعين أحبّه أهل السّماء ، فإذا بلغ ثمانين كتبت حسناته وتجاوز الله عن سيئاته ، فإذا بلغ تسعين غفرت ذنوبه وشفع في أهل بيته وكان أسير الله في أرضه ، فإذا بلغ مائة ولم يعمل شيئا كتب له مثل ما كان يعمل في صحّته ولم تكتب عليه سيئة» (٢) ، وفي حديث : «إن المؤمن إذا ردّ إلى أرذل العمر كتب له خير ما كان يعمل في قوّته» (٣). وذلك أجر غير ممنون ، ثم قال سبحانه إلزاما للحجّة وتوبيخا للكافر : (فَما يُكَذِّبُكَ) أيها الإنسان ، أي : فما يجعلك أن تكذّب بعد هذه الحجة بالدين ، وقال قتادة : المعنى : فمن يكذّبك يا محمّد ، فيما تخبر به من الجزاء والحساب (٤) ، وهو الدين ، بعد هذه العبر ، ويحتمل أن يريد (بِالدِّينِ) جميع دينه وشرعه ، وروي عن قتادة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) قال : بلى ؛ وأنا على ذلك من الشاهدين ، قال ابن العربي في «أحكامه» : روى الترمذيّ وغيره عن أبي هريرة ، أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قرأ أحدكم (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل : بلى (٥) ؛ وأنا على ذلك من الشاهدين» ومن رواية عبد الله : «إذا قرأ أحدكم أو سمع : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة : ٤٠] فليقل : بلى» (٦) انتهى ، * ت* : وهذان الحديثان ، وإن كان قد ضعّفهما ابن العربيّ فهما مما ينبغي ذكرهما في فضائل الأعمال ، والله الموفق بفضله وكرمه.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٠٠)

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) تقدم.

(٤) ذكره ابن عطية (٥ / ٥٠٠)

(٥) تقدّم تخريجه.

(٦) تقدّم تخريجه.

٦٠٧

تفسير سورة «العلق»

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ)(٥)

[قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)] : هو أول ما نزل من كتاب الله تعالى ، نزل صدر [هذه الآية] إلى قوله : (ما لَمْ يَعْلَمْ) في غار حراء حسب ما ثبت في «صحيح البخاريّ» وغيره ، ومعنى قوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) أي : اقرأ هذا القرآن باسم ربك ، أي : مبتدئا باسم ربك ، ويحتمل أن يكون المقروء الذي أمر بقراءته هو (بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) كأنه قيل له : اقرأ هذا اللفظ ، والعلق : جمع علقة وهي القطعة اليسيرة من الدّم ، والإنسان هنا اسم جنس ، ثم قال تعالى : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) على جهة التأنيس كأنّه يقول : امض لما أمرت به ، وربّك ليس كهذه الأرباب ؛ بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص ، ثم عدّد تعالى نعمة الكتابة بالقلم على الناس ، وهي من أعظم النعم.

و (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) قيل : هو آدم وقيل : [هو] اسم جنس ؛ وهو الأظهر.

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)(١٣)

وقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) إلى آخر السورة نزلت في أبي جهل ، وذلك أنّه طغى لغناه وكثرة من يغشى ناديه ، فناصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونهاه عن الصلاة في المسجد ، وقال : لئن رأيت محمّدا يسجد عند الكعبة لأطأنّ عنقه ، فيروى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ عليه القول وانتهره ، وعبارة الداوديّ : فتهدّده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو جهل : أتهدّدني؟ أما والله إني لأكثر أهل الوادي ناديا فنزلت الآية ، انتهى.

و (كَلَّا) ردّ على أبي جهل ، ويتّجه أن تكون بمعنى : حقّا ، والضمير في (رَآهُ) للإنسان المذكور ، كأنّه قال : أن رأى نفسه غنيّا وهي رؤية قلبيّة ؛ ولذلك جاز أن يعمل فعل

٦٠٨

الفاعل في نفسه ؛ كما تقول : وجدتني / وظننتني ، ثم حقّر تعالى غنى هذا الإنسان وحاله بقوله : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي : بالحشر والبعث يوم القيامة ، وفي هذا الخبر وعيد للطاغين من الناس ، ثم صرّح بذكر الناهي لمحمّد* ع* ، ولا خلاف أن الناهي* أبو جهل ، وأن العبد المصلّي هو محمّد* ع*.

(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ)(١٩)

وقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثّلاث ، يصلح مع كلّ واحد منها ، * ت* : وفي قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ما يثير الهمم الراكدة ، ويسيل العيون الجامدة ، ويبعث على الحياء والمراقبة ، قال الغزالي : اعلم أنّ الله مطّلع على ضميرك ، ومشرف على ظاهرك وباطنك ، فتأدّب أيها المسكين ظاهرا وباطنا بين يديه سبحانه ؛ واجتهد أن لا يراك حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك ، ولا تدع عنك التفكر في قرب الأجل ، وحلول الموت القاطع للأمل ، وخروج الأمر من الاختيار ، وحصول الحسرة والندامة بطول الاغترار ، انتهى ، ثم توعّده تعالى لئن لم ينته ليؤخذنّ بناصيته ، فيجرّ إلى جهنّم ذليلا ، تقول العرب : سفعت بيدي ناصية الفرس ، والرجل إذا جذبتها مذلّلة ، وقال بعض العلماء بالتفسير : معناه لتحرقنّ ، من قولهم : سفعته النار ، واكتفى بذكر الناصية لدلالتها على الوجه والرأس ، والناصية مقدّم شعر الرأس ، ثم أبدل النكرة من المعرفة في قوله : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) ووصفها بالكذب والخطإ من حيث هي صفات لصاحبها.

قوله : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي أهل مجلسه ، والنادي والندي : المجلس ، ومنه دار الندوة ، وقال البخاري قال مجاهد : ناديه : عشيرته (١).

وقوله : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) أي : / ملائكة العذاب ، ثم قال ـ تعالى ـ لنبيه ـ عليه‌السلام ـ : (كَلَّا لا تُطِعْهُ) أي : لا تلتفت إلى نهيه وكلامه و (اسْجُدْ) لربك و (اقْتَرِبْ) إليه بسجودك ، وفي الحديث : «أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا سجد ، فأكثروا من الدّعاء في السجود ، فقمن أن يستجاب لكم» ، وروى ابن وهب عن جماعة من أهل العلم : أنّ قوله : (وَاسْجُدْ) : خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن قوله : (وَاقْتَرِبْ) : خطاب لأبي جهل ، أي : إن

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٤٩) ، (٣٧٦٩٠) عن ابن عبّاس ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٧) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

٦٠٩

تجترىء حتى ترى كيف تهلك ، * ت* : والتأويل الأول أظهر ؛ يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (١) وعن ربيعة بن كعب الأسلميّ قال : كنت أبيت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته ، فقال لي : سل ؛ فقلت : أسألك مرافقتك في الجنة ، قال أو غير ذلك؟ قلت : هو ذاك ، قال : فأعنّي على نفسك بكثرة السّجود» (٢) رواه الجماعة إلا البخاريّ ، ولفظ الترمذي : «كنت أبيت عند باب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعطيه وضوءه ، فأسمعه الهويّ من اللّيل يقول : سمع الله لمن حمده ، وأسمعه الهويّ من اللّيل يقول : الحمد لله ربّ العالمين» (٣) ، قال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح ، وليس لربيعة في الكتب الستّة سوى هذا الحديث ، انتهى من «السلاح» ، وروي أن أبا جهل جاء والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي ، فهمّ بأن يصل إليه ، ويمنعه من الصلاة ، ثمّ كعّ وولّى ناكصا على عقبيه متّقيا بيديه ، فقيل له : ما هذا؟ فقال : لقد عرض بيني وبينه خندق من نار ، وهول وأجنحة ، فيروى : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو دنا منّي لأخذته الملائكة عيانا» (٤) * ت* : ولما لم ينته عدوّ الله أخذه الله يوم بدر ، وأمكن منه ، وذكر الوائليّ الحافظ في كتاب «الإبانة» له من حديث مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر قال : «بينا أنا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض في عنقه سلسلة يمسك طرفها أسود ، فقال : يا عبد الله ، اسقني ، فقال ابن عمر : لا أدري أعرف اسمي ، أو كما يقول الرجل : يا عبد الله ، فقال لي الأسود : لا تسقه ؛ فإنّه كافر ، ثمّ اجتذبه ، فدخل الأرض ، قال ابن عمر : فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : «أو قد رأيته؟ ذلك عدوّ الله أبو جهل بن هشام ، وهو عذابه إلى يوم القيامة» انتهى من «التّذكرة» للقرطبيّ ، وقد ذكرت هذه الحكاية عن أبي عمر بن عبد البر بأتّم من هذا عند قوله تعالى : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ...) [فصلت : ٢٧] الآية.

__________________

(١) تقدّم تخريجه.

(٢) أخرجه مسلم (٢ / ٣٧٩ ـ ٣٨٠) ـ الأبي ، كتاب «الصلاة» باب : فضل السجود والحث عليه (٢٢٦ / ٤٨٩) ، وأبو داود (١ / ٤٢١) ، كتاب «الصلاة» باب : وقت قيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الليل (١٣٢٠) ، والترمذي (٥ / ٤٨٠ ـ ٤٨١) ، كتاب «الدعوات» باب : منه (٣٤١٦) ، والنسائي (٢ / ٢٢٧) ، كتاب «الافتتاح» باب : فضل السجود (١١٣٨) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٧٦ ـ ١٢٧٧) ، كتاب «الدعاء» باب : ما يدعو به إذا تنبه من الليل (٣٨٧٩) ، وأحمد (٤ / ٥٩). قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٣) ينظر : الحديث السابق.

(٤) أخرجه مسلم (٤ / ٢١٥٤) ، كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» باب : قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٣٨ / ٢٧٩٧)

٦١٠

تفسير سورة «القدر»

قال ابن عبّاس : هي مدنيّة وقال قتادة : هي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(٥)

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) الضمير في (أَنْزَلْناهُ) للقرآن قال الشعبيّ وغيره : المعنى : إنا ابتدأنا إنزال هذا القرآن إليك في ليلة القدر ، وقد روي : أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان ، فيستقيم هذا التأويل (١) وقال ابن عبّاس وغيره : أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدّنيا جملة ، ثم نجّمه على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرين سنة ، وليلة القدر خصّها الله تعالى بفضل عظيم ، وجعلها أفضل من ألف شهر لا ليلة قدر فيها ؛ قاله مجاهد وغيره (٢) ، وخصّت هذه الأمّة بهذه الفضيلة لمّا رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعمار أمّته وتقاصرها / وخشي ألّا يبلغوا من الأعمال مثل الّذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله عزوجل ليلة القدر خيرا من ألف شهر ، قال ابن العربيّ في «أحكامه» : وقد روى مالك هذا الحديث في «الموطّأ» (٣) ؛ ثبت ذلك من رواية ابن القاسم وغيره ، انتهى ، ثم فخّمها سبحانه بقوله : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) قال ابن عيينة في «صحيح البخاري» : ما كان في القرآن : (وَما أَدْراكَ) فقد أعلمه ، وما قال : وما يدريك فإنّه لم يعلمه ، وذكر ابن عبّاس وغيره : أنها سمّيت ليلة القدر ؛ لأنّ الله تعالى يقدّر فيها الآجال والأرزاق وحوادث العام كلّها ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٥١) ، (٣٧٧٠١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٠٤)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٥١) ، (٣٧٦٩٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٠٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٢٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٨) ، وعزاه لابن الضريس ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عبّاس.

(٣) أخرجه مالك في «الموطأ» (١٦٥) ، (٧٠٥) مرسلا.

٦١١

ويدفع ذلك إلى الملائكة لتمتثله (١) ، قال* ع (٢) * : وليلة القدر مستديرة في أوتار العشر الأواخر من رمضان ؛ هذا هو الصحيح المعوّل عليه ، وهي في الأوتار بحسب الكمال والنقصان في الشهر ، فينبغي لمرتقبها أن يرتقبها من ليلة عشرين في كلّ ليلة إلى آخر الشهر ، وصحّ عن [أبيّ بن] كعب وغيره : أنها ليلة سبع وعشرين (٣) ، ثم أخبر تعالى أن ليلة القدر خير من ألف شهر وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام وثلث عام ، وفي الصحيح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» (٤) (وَالرُّوحُ) : هو جبريل* ع* وقيل هو صنف حفظة للملائكة ، قال الفخر (٥) : وذكروا في الروح أقوالا : أحدها : أنه ملك عظيم لو التقم السموات والأرض كان ذلك له لقمة واحدة ، وقيل : الرّوح : طائفة من الملائكة لا يراهم الملائكة إلا ليلة القدر ، كالزّهاد الذين لا نراهم إلا يوم العيد ، وقيل : خلق من خلق الله يأكلون [ويشربون] ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من / الإنس ولعلهم خدم أهل الجنّة ، وقيل : الروح أشرف الملائكة ، وقال ابن أبي نجيح ؛ الروح هم الحفظة الكرام الكاتبون والأصح أنّ الروح هاهنا هو جبريل ، وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه ، انتهى.

وقوله تعالى : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) الثعلبيّ : أي : بكل أمر قدّره الله وقضاه في تلك السنة إلى قابل ؛ قاله ابن عبّاس ، ثم تبتدئ فتقول : (سَلامٌ هِيَ) ويحتمل أن يريد من كل فتنة سلامة ، انتهى ، قال* ع* : وعلى التأويل الأول ، يجيء (سَلامٌ) خبر ابتداء مستأنفا ، أي : سلام هي هذه الليلة إلى أول يومها ، ثم ذكر ما تقدم ، وقال الشعبيّ ومنصور : (سَلامٌ) بمعنى : التّحيّة أي : تسلّم الملائكة على المؤمنين (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٥٢) ، (٣٧٧٠٨) عن الحسن ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٠٤)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٠٥)

(٣) ذكره البغوي (٤ / ٥١١)

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : «مفاتيح الغيب» (٣٢ / ٣٣)

(٦) ذكره البغوي (٤ / ٥١٢) ، وابن عطية (٥ / ٥٠٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٣١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٣٠) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وابن المنذر بنحوه.

٦١٢

تفسير سورة «البيّنة»

وهي مكّيّة في قول الجمهور وقيل : مدنيّة ، والأوّل أشهر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(٨)

[قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) وفي حرف ابن مسعود (٢) : «لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكّين».

وقوله تعالى : (مُنْفَكِّينَ) معناه : منفصلين متفرقين ، تقول : انفكّ الشيء عن الشيء ؛ إذا انفصل عنه ، وأمّا انفك التي هي من أخوات «كان» فلا مدخل لها هنا ، قال مجاهد وغيره : لم يكونوا منفكّين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة (٣) ، وأوقع المستقبل موقع الماضي في تأتيهم ، والبينات : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرعه ، قال الثعلبيّ : (وَالْمُشْرِكِينَ) يعني : من العرب وهم عبدة الأوثان ، انتهى ، وقال الفراء وغيره : لم يكونوا منفكّين عن معرفة صحة نبوة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتّوكّف لأمره حتى جاءتهم البينة فتفرّقوا عند ذلك ، / ويتّجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى ؛ وذلك أن يكون المراد : لم يكن هؤلاء القوم

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) ينظر : «الشواذ» ص : (١٧٧) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٠٧)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٥٤) ، (٣٧٧٢٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٠٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد بنحوه.

٦١٣

منفكين من أمر الله ونظره لهم حتّى يبعث إليهم رسولا ؛ تقوم عليهم به الحجة ، وتتمّ على من آمن به النعمة فكأنّه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ، والصحف المطهّرة : القرآن في صحفه ؛ قاله قتادة والضحاك (١) ، وقال الحسن : الصحف المطهّرة في السماء (٢) ، (فِيها كُتُبٌ) أي : أحكام كتب ، و (قَيِّمَةٌ) معناه قائمة معتدلة آخذة للناس بالعدل ، ثمّ ذمّ تعالى أهل الكتاب في أنّهم لم يتفرّقوا في أمر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة ؛ وكانوا من قبل متّفقين على نبوّته وصفته ، و (حُنَفاءَ) : جمع حنيف وهو المستقيم ، وذكر الزكاة مع ذكر بني إسرائيل يقوّي قول من قال : السورة مدنية ؛ لأنّ الزكاة إنما فرضت بالمدينة ، ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّما دفع إلى مناقضة أهل الكتاب بالمدينة ، وقرأ الجمهور : «وذلك دين القيمة» على معنى الجماعة والفرقة القيمة ، وقال ـ ص ـ : قراءة الجمهور : «وذلك دين القيمة» على تقدير الأمّة القيّمة ؛ أي : المستقيمة أو الكتب القيمة ، وقرأ عبد الله (٣) : «وذلك الدّين القيّمة» بتعريف الدّين ورفع القيمة صفة ، والهاء فيه للمبالغة أو على تأويل أنّ الدّين بمعنى الملّة ، انتهى ، و (الْبَرِيَّةِ) جميع الخلق ؛ لأن الله تعالى براهم أي : أوجدهم بعد العدم.

وقوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) قيل ذلك في الدنيا ؛ فرضاه عنهم هو ما أظهره عليهم من أمارات رحمته ، ورضاهم عنه ؛ هو رضاهم بجميع ما قسم لهم من جميع الأرزاق والأقدار ، وقال بعض الصالحين : / رضى العباد عن الله رضاهم بما يرد من أحكامه ، ورضاه عنهم أن يوفّقهم للرّضى عنه ، وقال سري السقطي : إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تطلب منه أن يرضى عنك ، وقيل ذلك في الآخرة ، وخصّ تعالى بالذكر أهل الخشية ؛ لأنها رأس كلّ بركة وهي الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٥٦) ، (٣٧٧٢٦) عن قتادة ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٠٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة بنحوه.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٥٠٧)

(٣) ينظر : «مختصر الشواذ» (١٧٧) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٤٩٥) ، و «الدر المصون» (٦ / ٥٥٢)

٦١٤

تفسير سورة «الزلزلة»

وهي مكّيّة قاله ابن عبّاس وغيره ، وقال قتادة ، ومقاتل : هي مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤)

[قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ)] قد تقدّم معنى الزلزلة ، والأثقال : الموتى ؛ قاله ابن عبّاس (١) ، وقيل أخرجت موتاها ، وكنوزها ، وقول الإنسان : (ما لَها) هو على معنى التعجّب من هول ما يرى ، قال الجمهور : الإنسان هنا الكافر ، وقيل عامّ في المؤمن والكافر ، وإخبار الأرض قال ابن مسعود وغيره : هي شهادتها بما عمل عليها من عمل صالح وفاسد (٢) ويؤيد هذا التأويل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنّه لا يسمع مدى صوت المؤذّن إنس ولا جنّ ولا شيء إلّا شهد له يوم القيامة».

* ت* : وخرّج الترمذيّ في «جامعه» عن أبي هريرة قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) قال : أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ؛ قال : فإنّ أخبارها : أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها ، تقول : عمل عليّ يوم كذا ـ كذا ؛ فهذه أخبارها» (٣) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ؛ انتهى ، وكذا رواه أبو بكر بن الخطيب ، وفيه : عمل عليّ في يوم كذا وكذا / وفي يوم كذا وكذا.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٥٩) ، (٣٧٧٣٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥١٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٣٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٤٥) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عبّاس.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٦٠) ، (٣٧٧٤٠) عن سفيان ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥١٠)

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٤٦ ـ ٤٤٧) ، كتاب «التفسير» باب : ومن سورة : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (٣٣٥٣).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

٦١٥

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٨)

وقوله تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) الباء باء السبب وقال ابن عبّاس وغيره : المعنى أوحى إليها (١) ، قال ـ ص ـ : المشهور أنّ (أَوْحى) يتعدّى ب «إلى» وعدّي هنا باللام مراعاة للفواصل ، وقال أبو البقاء : (لَها) بمعنى إليها ، انتهى.

وقوله سبحانه : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) بمعنى : ينصرفون من موضع ورودهم مختلفي الأحوال ، قال الجمهور : ورودهم بالموت ، وصدورهم هو القيام إلى البعث والكلّ سائر إلى العرض ليرى عمله ، ويقف عليه ، وقيل : الورود هو ورود المحشر والصدر أشتاتا هو صدر قوم إلى الجنة وقوم إلى النار ليروا جزاء أعمالهم.

وقوله ـ جلت عظمته ـ : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) الآية ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمّي هذه الآية الجامعة الفاذّة ، ويروى أنّه «لمّا نزلت هذه السّورة بكى أبو بكر وقال : يا رسول الله ، أو أسأل عن مثاقيل الذّرّ؟ فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا بكر ، ما رأيته في الدّنيا ممّا تكره فبمثاقيل ذرّ الشرّ ، ويدّخر لك الله مثاقيل ذرّ الخير إلى الآخرة» (٢) ، قال الداوديّ : بينما عمر بن الخطّاب بطريق مكّة ليلا ، إذا ركب مقبلين من حهة ، فقال لبعض من معه : سلهم من أين أقبلوا؟ فقال له أحدهم : من الفجّ العميق ، نريد البلد العتيق ، فأخبر عمر بذلك ، فقال : أوقعوا في هذا؟ قل لهم ، فما أعظم ، آية في كتاب الله ، وأحكم آية في كتاب الله ، وأعدل آية في كتاب الله ، وأرجى آية في كتاب الله ، وأخوف آية في كتاب الله؟ فقال له قائلهم : أعظم آية في / كتاب الله آية الكرسيّ [البقرة : ٢٥٥] ، وأحكم آية في كتاب الله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠] وأعدل آية في كتاب الله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وأرجى آية في كتاب الله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٤٠] وأخوف آية في كتاب الله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] فأخبر عمر بذلك ، فقال لهم عمر : أفيكم ابن أمّ عبد؟ فقالوا : نعم ، وهو الّذي [كلّمك] ، قال

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٦١) ، (٣٧٧٤٣) ، وذكره البغوي (٤ / ٥١٥) ، وابن عطية (٥ / ٥١١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٣٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٤٥) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عبّاس.

(٢) ينظر : «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٤)

٦١٦

عمر : كنيف ملىء علما آثرنا به أهل القادسيّة على أنفسنا. قال الداوديّ ، ومعنى أعظم آية يريد في الثواب ، انتهى (١).

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٥١٦) عن ابن مسعود قال : أحكم آية في كتاب الله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

٦١٧

تفسير سورة «العاديات»

وهي مكّيّة في قول جماعة ، وقيل : مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)(٦)

قال ابن عبّاس وغيره : المراد ب (الْعادِياتِ) : الخيل ؛ لأنها تعدو بالفرسان ، وتضبح بأصواتها (١) ، وعن ابن مسعود وعلى أن (الْعادِياتِ) هنا : الإبل لأنها تضبح في عدوها (٢) ، قال علي ـ رضي الله عنه ـ : والقسم بالإبل العاديات من عرفة ومن المزدلفة ، إذا دفع الحاجّ ، وبإبل غزوة بدر (٣) ، والضّبح تصويت جهير عند العدو ، قال الداوديّ : وهو الصوت الذي يسمع من أجوافها وقت الركض ، انتهى.

وقوله تعالى : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قال علي وابن مسعود هي : الإبل ؛ وذلك بأنها [في] عدوها ترجم الحصباء بالحصباء فتتطاير منها النار ، فذلك القدح ، وقال ابن عبّاس : هي الخيل ؛ وذلك بحوافرها في الحجارة ، وقال ابن عبّاس أيضا وجماعة : الكلام / عامّ يدخل في القسم كلّ من يظهر بقدحه نارا. ـ ص ـ : (قَدْحاً) أبو البقاء : مصدر مؤكّد ؛

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٦٤) ، (٣٧٧٦٣) ، وذكره البغوي (٤ / ٥١٧) ، وابن عطية (٥ / ٥١٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٤٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٠) ، وعزاه للبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني في الأفراد ، وابن مردويه عن ابن عبّاس.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٦٧) ، (٣٧٧٨٥) ، وذكره البغوي (٤ / ٥١٧) ، وابن عطية (٥ / ٥١٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٤١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٢) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٦٦) ، (٣٧٧٨١) ، وذكره البغوي (٤ / ٥١٧) ، وابن عطية (٥ / ٥١٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٤١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٢) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في «المصاحف» ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عبّاس بنحوه.

٦١٨

لأن الموري هو القادح ، انتهى ، (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) قال علي وابن مسعود هي : الإبل من مزدلفة إلى منى ، وفي بدر ، وقال ابن عبّاس وجماعة كثيرة : هي الخيل ، واللّفظة من الغارة في سبيل الله وغير ذلك من سير الأمم وعرف الغارات أنّها مع الصباح ، والنقع الغبار الساطع المثار ، والضمير في (بِهِ) ظاهره أنّه للصّبح المذكور ، ويحتمل أن يكون للمكان والموضع الذي يقتضيه المعنى ، ومشهور إثارة النقع هو للخيل ، وقال علي : هو هنا للإبل.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) قال علي وابن مسعود هي : الإبل ، و (جَمْعاً) هي المزدلفة ، وقال ابن عبّاس وجماعة : هي الخيل ، والمراد جمع من الناس هم المغزوّون ، والقسم واقع على قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «أتدرون ما الكنود؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : هو الكفور الّذي يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويضرب عبده» ، وقد يكون في المؤمنين الكفور بالنّعمة فتقدير الآية : إنّ الإنسان لنعمة ربّه لكنود ، وأرض كنود : لا تنبت شيئا ، والكنود : العاصي بلغة كندة ، ويقال للبخيل : كنود ، وفي البخاريّ عن مجاهد : الكنود الكفور ، انتهى (١).

(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)(١١)

وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) يحتمل الضمير أن يعود على الله تعالى ؛ وقاله قتادة (٢) ، ويحتمل أن يعود على الإنسان ؛ أنّه شاهد على نفسه بذلك ؛ وهذا قول مجاهد وغيره (٣).

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) أي : وإنّ الإنسان لحبّ الخير ، والمعنى من أجل حبّ الخير ، (لَشَدِيدٌ) أي : بخيل بالمال ضابط له ، والخير هنا المال ، ويحتمل أن يراد هنا الخير الدنيويّ من مال ، وصحة ، وجاه عند الملوك ، ونحوه ؛ لأنّ الكفار والجهّال لا يعرفون غير ذلك ، وأمّا [الحبّ في خير الآخرة فممدوح ؛ مرجوّ له الفوز ، وقال الفراء : معنى الآية : أنّ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٧٢) ، (٣٧٨٢٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٥١٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٤٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٣) ، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد عن مجاهد ، وذكره البخاري (٨ / ٥٩٩) ، كتاب «التفسير» معلقا.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٧٣) ، (٣٧٨٤٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥١٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٤٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٤) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٥١٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٤٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن أبي حاتم.

٦١٩

الإنسان لشديد الحبّ للخير ولما تقدّم] الخير قبل «شديد» حذف من آخره ؛ لأنه قد جرى ذكره ؛ ولرؤوس الآي ، انتهى.

وقوله تعالى : (أَفَلا يَعْلَمُ) توقيف ، أي : أفلا يعلم ماله ومصيره فيستعدّ له.

(وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) ، أي : ميّز وأبرز ما فيها ليقع الجزاء عليه ، ويفسّر هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبعثون على نيّاتهم» وفي قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) وعيد ، ـ ص ـ : والعامل في (يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) على تضمينه معنى : لمجاز ؛ لأنّه تعالى خبير دائما ، انتهى.

٦٢٠