تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

(إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٨) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (١٩)

وقوله تعالى : (إِنَّ هذا) قال ابن زيد : الإشارة ب «هذا» إلى هذين الخبرين : إفلاح من تزكّى ، وإيثار الناس للدنيا مع فضل الآخرة عليها ، وهذا هو الأرجح لقرب المشار إليه (١) ، وعن أبيّ بن كعب قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الوتر ب «سبح اسم ربك الأعلى» و «قل يا أيها الكافرون» و «قل هو الله أحد» ؛ فإذا سلّم قال : سبحان الملك القدّوس ؛ ثلاث مرّات يمدّ صوته في الثّالثة ، ويرفع ، رواه أبو داود والنسائي ؛ وهذا لفظه ، ورواه الدارقطني في سننه ، ولفظه : «فإذا سلّم قال : سبحان الملك القدّوس ، ثلاث مرّات يمدّ بها صوته في الأخيرة ، ويقول : ربّ الملائكة والروح» ، انتهى من «السلاح» ، ، قال النووي وروّينا في «سنن أبي داود» و «الترمذي» و «النسائي» عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في آخر وتره : «اللهمّ إني أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (٢) قال الترمذيّ : حديث حسن ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٤٩) ، (٣٧٠٠١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٧١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٠٢) بنحوه.

(٢) تقدم تخريجه.

٥٨١

تفسير سورة «الغاشية»

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ)(٢)

قال بعض المفسرين : (هَلْ) بمعنى «قد» وقال الحذّاق : هي على بابها توقيف فائدته تحريك نفس السامع إلى تلقّي الخبر ، و (الْغاشِيَةِ) القيامة ، لأنها تغشى العالم كلّه بهولها ، والوجوه الخاشعة هي وجوه الكفّار وخشوعها ذلّها وتغييرها بالعذاب.

(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ)(١٠)

وقوله سبحانه : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) قال الحسن وغيره : لم تعمل لله في الدنيا فأعملها وأنصبها في النار ، والنصب التّعب (١) ، وقال ابن عبّاس وغيره : المعنى عاملة في الدنيا ناصبة فيها على غير هدى فلا ثمرة لعملها ، إلا النصب ، وخاتمته النار (٢) ، قالوا : والآية في القسّيسين وكلّ مجتهد في كفر ، وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو «تصلى» ـ بضم التاء والباقون بفتحها (٣) ـ والآنية : التي قد انتهى حرّها كما قال تعالى (وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤] وقال ابن زيد : آنية : حاضرة (٤) ، والضريع : قال الحسن وجماعة : هو الزّقّوم (٥) ، وقال ابن عبّاس وغيره : الضريع شبرق النار (٦) ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الضريع شوك

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٥١) (٣٧٠١٠) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٧٨) بنحوه.

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٤٧٨). وذكره ابن عطية (٥ / ٤٧٢)

(٣) ينظر : «السبعة» (٦٨١) ، و «الحجة» (٦ / ٣٩٩) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٦٩) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٤٠) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١٠٩) ، و «العنوان» (٢٠) ، و «حجة القراءات» (٧٥٩) ، و «شرح شعلة» (٦٢٢) ، و «إتحاف» (٢ / ٦٠٥)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٥٢) ، (٣٧٠٢٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٧٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٣) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم.

(٥) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٧٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٣) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم.

(٦) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٥٢) ، (٣٧٠٢١) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٧٨) ، وابن عطية (٥ / ٤٧٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٣) ، وعزاه لعبد بن حميد عن ابن عبّاس.

٥٨٢

في النار ، * ت* : وهذا إن صحّ فلا [يعدل] عنه ، وقيل غير هذا ، ولما ذكر تعالى وجوه أهل النار عقّب ذلك بذكر وجوه أهل الجنة ليبيّن الفرق ، وقوله تعالى : (لِسَعْيِها) يريد لعملها في الدنيا وطاعتها ، والمعنى لثواب سعيها ؛ والتّنعيم عليه ، ووصف سبحانه الجنة بالعلوّ وذلك يصحّ من جهة المسافة والمكان ، ومن جهة المكانة والمنزلة أيضا.

(لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ)(١٣)

(لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) قيل : المعنى كلمة لاغية ، وقيل جماعة لاغية ، أو فئة لاغية ، واللّغو سقط القول ، قال الفخر (١) : قوله تعالى : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أي عالية في الهواء ؛ وذلك لأجل أن يرى المؤمن إذا جلس عليها جميع ما أعطاه الله تعالى في الجنة من النعيم والملك ، قال خارجة بن مصعب : بلغنا أن بعضها فوق بعض فترتفع ما شاء الله ؛ فإذا جاء وليّ الله ليجلس عليها تطامنت له فإذا استوى عليها ارتفعت إلى حيث شاء الله سبحانه ، انتهى.

(وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ)(٢٢)

(وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) أي : بأشربتها معدّة ، والنمرقة : الوسادة ، والزّرابيّ : واحدها زربيّة ، وهي كالطّنافس لها خمل ؛ قاله الفراء (٢) ، وهي ملوّنات و (مَبْثُوثَةٌ) معناه كثيرة متفرقة ، ثم وقفهم سبحانه على مواضع العبرة في مخلوقاته ، و (الْإِبِلِ) في هذه الآية هي الجمال المعروفة هذا قول الجمهور ، وفي الجمل آيات وعبر لمن تأمّل ، / وكان شريح القاضي يقول لأصحابه : اخرجوا بنا إلى الكناسة ، حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت (٣) ، وقال المبرد : الإبل هنا السحاب لأنّ العرب قد تسميها بذلك ، إذ تأتي أرسالا كالإبل ، و (نُصِبَتْ) : معناه : أثبتت قائمة في الهواء ، وظاهر الآية أنّ الأرض سطح لا كرة (٤) ، وهو الذي عليه أهل العلم ، وقد تقدم الكلام على هذا المعنى ، ثم نفى أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصيطرا على الناس ، أي : قاهرا جابرا لهم مع تكبّر متسلّطا عليهم.

__________________

(١) ينظر : «الفخر الرازي» (٣١ / ١٤٢)

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٤٧٩) ، وابن عطية (٥ / ٤٧٤)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٥٦) ، (٣٧٠٤٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٨٠) ، وابن عطية (٥ / ٤٧٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٠٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٥) ، وعزاه لابن حميد عن شريح بنحوه.

(٤) وهو الذي تراه العين ظاهرا ، ولا يخفى أن حقيقة الأرض بيضاوية.

٥٨٣

(إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ)(٢٦)

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) قال بعض المتأولين : الاستثناء متصل ، والمعنى : إلا من تولى فإنّك مصيطر عليه ، فالآية على هذا لا نسخ فيها ، وقال آخرون : الاستثناء منفصل ، والمعنى : لست عليهم بمصيطر لكنّ من تولّى وكفر فيعذبه الله ، وهي آية موادعة منسوخة بالسّيف وهذا هو القول الصحيح ؛ لأنّ السّورة مكّيّة والقتال إنّما نزل بالمدينة ـ ص ـ : وقرأ زيد بن أسلم : «ألا من تولّى» : حرف تنبيه واستفتاح ، انتهى ، وقال ابن العربي في «أحكامه» : روى الترمذيّ وغيره أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا : لا إله إلّا الله ، فإذا قالوها ، عصموا منّي دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله» (١) ، ثم قرأ : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ* لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) مفسّرا معنى الآية وكاشفا خفاء الخفاء عنها ، المعنى : إذا قال الناس : لا إله إلا الله فلست بمسلّط على سرائرهم وإنما عليك الظاهر ، وكلّ سرائرهم إلى الله تعالى ، وهذا الحديث صحيح المعنى ، والله أعلم ، انتهى ، ، و (إِيابَهُمْ) : مصدر من آب يؤوب : إذا رجع.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٥٨) ، (٣٧٠٥٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٨١) ، وابن عطية (٥ / ٤٧٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٧٨) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس.

٥٨٤

تفسير سورة «الفجر»

وهي مكّيّة عند الجمهور ، وقيل : مدنيّة ، والأوّل أصحّ وأشهر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ)(٤)

الفجر هنا عند الجمهور : هو المشهور المعروف الطالع كلّ يوم ، وقال ابن عبّاس وغيره : الفجر الذي أقسم الله به صلاة الصبح ، وقيل غير هذا. [واختلف في الليالي العشر فقيل : العشر الأوّل من رمضان ، وقيل : العشر الأواخر منه ، وقيل : عشر ذي الحجة ، وقيل : غير هذا] (١) والله أعلم بما أراد ، فإن صحّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء في هذا صير إليه ، واختلف في «الشّفع والوتر» ما هما؟ على أقوال كثيرة ، وروى عمران بن حصين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «هي الصلوات منها الشفع ومنها الوتر» (٢) ، وسري الليل : هو ذهابه وانقراضه ؛ هذا قول الجمهور ، وقيل : المعنى : إذا يسري فيه.

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (١٤)

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي : هل في هذه الأقسام مقنع لذي عقل؟ ثم وقف تعالى على مصارع الأمم الخالية «وعاد» : قبيلة بلا خلاف ، واختلف في : «إرم» فقال

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٤٠) ، كتاب «تفسير القرآن» باب : ومن سورة الفجر (٢٣٤٢) ، وأحمد (٤ / ٤٣٨) ، (٤ / ٤٤٢) ، والطبراني (١٨ / ٢٣٢) ، والحاكم (٢ / ٥٢٢).

قال الترمذي : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث قتادة. وقال الحاكم : هذا حديث صحيح ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

٥٨٥

مجاهد : هي القبيلة بعينها (١) ، وقال ابن إسحاق : إرم : هو أبو عاد كلّها (٢) ، وقال الجمهور : إرم : مدينة لهم عظيمة كانت على وجه الدّهر باليمن ، واختلف في قوله تعالى : (ذاتِ الْعِمادِ) فمن قال : إرم مدينة قال : العماد أعمدة الحجارة التي بنيت بها ، وقيل القصور العالية ، والأبراج يقال لها عماد ، ومن قال إرم قبيلة قال : العماد إما أعمدة بنيانهم ، وإما أعمدة بيوتهم التي يرحلون بها ؛ قاله جماعة والضمير في (مِثْلُها) يعود إما على المدينة وإما على القبيلة.

و (جابُوا الصَّخْرَ) معناه : خرقوه ونحتوه ، وكانوا في واديهم قد نحتوا بيوتهم في حجارة ، و (فِرْعَوْنَ) هو فرعون موسى ، واختلف في أوتاده فقيل : أبنيته العالية ، وقيل جنوده الذين بهم يثبّت ملكه ، وقيل / المراد أوتاد أخبية عساكره ، وذكرت لكثرتها ؛ قاله ابن عبّاس (٣) ، وقال مجاهد : كان يوتد الناس بأوتاد حديد ، يقتلهم بذلك : يضربها في أبدانهم حتّى تنفذ إلى الأرض (٤) ، وقيل : غير هذا ، والصبّ مستعمل في السوط وإنما خصّ السوط بأن يستعار للعذاب ؛ لأنه يقتضي من التّكرار والتّرداد ما لا يقتضيه السيف ، ولا غيره وقال بعض اللّغويين : السّوط هنا مصدر من ساط يسوط إذا خلط فكأنه قال خلط عذاب.

ـ ص ـ : قال ابن الأنباري : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) هو جواب القسم ، وقيل : محذوف ، وقيل : الجواب ، (هَلْ فِي ذلِكَ) و (هَلْ) بمعنى «إنّ» وليس بشيء ، انتهى ، والمرصاد والمرصد : موضع الرصد ، قاله بعض اللغويين ، أي : أنّه تعالى عند لسان كلّ قائل ومرصد لكلّ فاعل ، وإذا علم العبد أنّ مولاه له بالمرصاد ودامت مراقبته في الفؤاد ، حضره الخوف والحذر لا محالة ، (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ) [البقرة : ٢٣٥] قال أبو حامد في «الإحياء» : وبحسب معرفة العبد بعيوب نفسه ، ومعرفته بجلال ربه وتعاليه واستغنائه ، وأنه لا يسأل عما يفعل ؛ تكون قوة خوفه ، فأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه ، ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أخوفكم لله» ، ولذلك قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] ثم إذا كملت المعرفة أورثت الخوف واحتراق القلب ، ثم

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٧٧)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٦٧) ، (٣٧١٣٠) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٨٢) ، وابن عطية (٥ / ٤٧٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٠٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٨٣) ، وعزاه لابن المنذر عن السدي.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٧٨)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٧٠) ، (٣٧١٥٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٧٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٠٨) بنحوه.

٥٨٦

يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن فتنقمع الشهوات ، وتحترق بالخوف ، ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذّلة والاستكانة ، ويصير العبد مستوعب الهمّ بخوفه والنظر في خطر / عاقبته ؛ فلا يتفرغ لغيره ، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والضّنّة بالأنفاس واللحظات ، ومؤاخذة النفس في الخطرات والخطوات والكلمات ، ثم قال : واعلم أنه لا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف ، انتهى.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا)(٢١)

وقوله سبحانه : (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ...) الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية ما كانت قريش تقوله وتستدلّ به على إكرام الله وإهانته لعبده ، وجاء هذا التوبيخ في الآية لجنس الإنسان ، إذ قد يقع بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع ، و (ابْتَلاهُ) معناه : اختبره ، و (نَعَّمَهُ) أي جعله ذا نعمة.

و «قدر» بتخفيف الدال بمعنى : ضيّق ، ثم قال تعالى : (كَلَّا) ردّا على قولهم ومعتقدهم ، أي : ليس إكرام الله تعالى وإهانته كذلك ، وإنما ذلك ابتلاء فحقّ من ابتلي بالغنى أن يشكر ويطيع ، ومن ابتلي بالفقر أن يشكر ويصبر ، وأما إكرام الله فهو بالتقوى وإهانته فبالمعصية ، و (طَعامِ) في هذه الآية بمعنى : إطعام ، ثم عدّد عليهم جدّهم في أكل التراث ، لأنهم كانوا لا يورّثون النساء ولا صغار الأولاد ، وإنما كان يأخذ المال من يقاتل ويحمي الحوزة ، و «اللّمّ» الجمع واللّفّ ، قال الحسن : هو أن يأخذ في الميراث حظّه وحظّ غيره (١) ، والجمّ الكثير الشديد ؛ ومنه قول الشاعر : [الرجز]

إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا

وأيّ عبد لك لا ألمّا (٢)

ومنه الجمّ من الناس ، ودكّ الأرض تسويتها.

(وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى)(٢٣)

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٧٤) ، (٣٧١٧١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٨٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير عن الحسن بنحوه.

(٢) تقدم.

٥٨٧

وقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) معناه جاء أمره وقضاؤه ، وقال منذر بن سعيد : معناه ظهوره للخلق ، هنالك ؛ ليس مجيء نقلة وكذلك مجيء الصاخّة ، ومجيء الطامة (١) ، والملك اسم جنس يريد به جميع الملائكة ، و (صَفًّا) أي صفوفا حول الأرض يوم القيامة على ما تقدم في غير هذا الموضع ، و (جِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) روي في قوله تعالى : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) بأنها تساق إلى المحشر بسبعين ألف زمام يمسك كلّ زمام سبعون ألف ملك ، فيخرج منها عنق فينتفي الجبابرة من الكفار ، في حديث طويل باختلاف ألفاظ.

وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) معناه : يتذكر عصيانه وما فاته من العمل الصالح ، وقال الثعلبي : «يومئذ يتذكر الإنسان» أي يتّعظ ويتوب ، «وأنى له الذكرى» ، انتهى.

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي)(٣٠)

وقوله : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) قال الجمهور : معناه لحياتي الباقية يريد في الآخرة.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) أي لا يعذّب كعذاب الله أحد في الدنيا ، ولا يوثق كوثاقه أحد ، ويحتمل المعنى أنّ الله تعالى لا يكل عذاب الكافر يومئذ إلى أحد ، وقرأ الكسائيّ ـ بفتح الذال والثاء (٢) ـ أي : لا يعذّب كعذاب الكافر أحد من الناس ، ثم عقّب تعالى بذكر نفوس المؤمنين وحالهم فقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) الآية ، والمطمئنة معناه : الموقنة غاية اليقين ، ألا ترى قول إبراهيم* ع* (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [البقرة : ٢٦٠] فهي درجة زائدة على الإيمان ، واختلف في هذا النداء : متى يقع؟ فقال جماعة : عند خروج روح المؤمن ، وروي في ذلك حديث ، و (فِي عِبادِي) أي : في عداد عبادي الصالحين ، وقال قوم : النداء عند قيام الأجساد من القبور ، فقوله : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) معناه بالبعث ، و «ادخلي في عبادي» أي في الأجساد ، وقيل : النداء هو الآن

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٨١)

(٢) ينظر : «السبعة» (٦٨٥) ، و «الحجة» (٦ / ٤١١) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٨٠) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٤٥) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١١١) ، و «العنوان» (٢٠٩) ، و «حجة القراءات» (٧٦٣) ، و «شرح شعلة» (٦٢٤) ، و «إتحاف» (٢ / ٦٠٩)

٥٨٨

للمؤمنين ، وقال آخرون : هذا النداء إنما هو في الموقف عند ما ينطلق بأهل النار إلى النار. * ت* : ولا مانع / أن يكون النداء في جميع هذه المواطن ، ولما تكلّم ابن عطاء الله في مراعاة أحوال النفس قال : ربّ صاحب ورد عطّله عن ورده والحضور فيه مع ربه همّ التدبير في المعيشة وغيرها من مصالح النفس ، وأنواع وساوس الشيطان في التدبير لا تنحصر ، ومتى أعطاك الله سبحانه الفهم عنه عرّفك كيف تصنع ، فأيّ عبد توفّر عقله واتّسع نوره نزلت عليه السكينة من ربّه فسكنت نفسه عن الاضطراب ، ووثقت بوليّ الأسباب ، فكانت مطمئنة ، أي : خامدة ساكنة مستسلمة لأحكام الله ثابتة لأقداره وممدودة بتأييده وأنواره ، فاطمأنّت لمولاها ؛ لعلمها بأنه يراها : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت : ٥٣] فاستحقّت أن يقال لها : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) وفي الآية خصائص عظيمة لها منها ترفيع شأنها بتكنيتها ومدحها بالطّمأنينة ثناء منه سبحانه عليها بالاستسلام إليه والتوكل عليه ، والمطمئنّ المنخفض من الأرض ، فلما انخفضت بتواضعها وانكسارها ؛ أثنى عليها مولاها ، ومنها قوله : (راضِيَةٍ) أي : عن الله في الدنيا بأحكامه ، و (مَرْضِيَّةً) في الآخرة بجوده وإنعامه ، وفي ذلك إشارة للعبد أنّه لا يحصل له أن يكون مرضيّا عند الله في الآخرة حتى يكون راضيا عن الله في الدنيا ، انتهى من «التنوير».

٥٨٩

تفسير سورة «البلد»

وهي مكّيّة في قول الجمهور وقيل مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ)(٢)

قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) الكلام في لا تقدم في (لا أُقْسِمُ) [القيامة : ١] والبلد هو : «مكة».

وقوله تعالى : (وَأَنْتَ حِلٌ) قال ابن عبّاس وجماعة : معناه وأنت حلال بهذا البلد ، يحلّ لك فيه قتل من شئت ، وكان هذا يوم فتح مكة ، وعلى هذا يتركب قول من قال : السورة مدنية نزلت عام الفتح (١) ، وقال آخرون : المعنى وأنت حال ساكن بهذا البلد.

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(١٠)

وقوله تعالى : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) قال مجاهد : هو آدم وجميع ولده (٢) ، وقال ابن عبّاس : ما معناه أنّ الوالد والولد هنا على العموم فهي أسماء جنس يدخل فيها جميع الحيوان (٣) ، والقسم واقع على قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال الجمهور : الإنسان اسم جنس والكبد المشقة والمكابدة ، أي : يكابد أمر الدنيا والآخرة ، وروي : أن سبب نزول هذه الآية رجل من قريش يقال له أبو الأشدّ ، وقيل نزلت في عمرو بن عبد ود ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٨٥) ، (٣٧٢٣١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥١١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه للحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عبّاس بنحوه.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٨٦) ، (٣٧٢٤٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥١١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٣) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٨٦) ، (٣٧٢٤٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٣)

٥٩٠

وقال : مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل ؛ أذنب فاستفتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره بالكفّارة ، فقال : لقد أهلكت مالا في الكفارات والنفقات ، مذ تبعت محمّدا ، وكان كلّ واحد منهم قد ادّعى أنّه أنفق مالا كثيرا على إفساد أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو في الكفّارات على ما تقدّم.

وقوله : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي : أنفقت مالا كثيرا ، ومن قال : أن المراد اسم الجنس غير معين ، جعل قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) بمعنى : أيظنّ الإنسان أن ليس عليه حفظة يرون أعماله ويحصونها ؛ إلى يوم الجزاء ، قال السهيلي : وهذه الآية وإن نزلت في أبي الأشد فإن الألف واللام في الإنسان للجنس ، فيشترك معه في الخطاب كلّ من ظن ظنه وفعل مثل فعله / وعلى هذا أكثر القرآن ، ينزل في السّبب الخاصّ بلفظ عام يتناول المعنى العام انتهى ، وخرّج مسلم عن أبي برزة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتّى يسأل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن جسده فيما أبلاه ، وعن علمه ماذا عمل به ، وعن ماله ، من أين اكتسبه وفيم أنفقه» (١) ، وخرّجه أيضا الترمذيّ وقال فيه : حديث حسن صحيح (٢) ، انتهى ، وقرأ الجمهور (٣) : (لُبَداً) أي : كثيرا متلبّدا بعضه فوق بعض ، ثم عدّد تعالى على الإنسان نعمه في جوارحه ، و (النَّجْدَيْنِ) : قال ابن عبّاس والناس : هما طريقا الخير والشرّ ، أي : عرضنا عليه طريقهما ، وليست الهداية هنا بمعنى الإرشاد (٤) ، وقال الضحاك : النّجدان ثديا الأمّ ، وهذا مثال ، والنجد : الطريق المرتفع (٥).

__________________

(١) أخرجه الدارمي في «سننه» (١ / ١٣٥) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٢٨٦) (١٧٨٥).

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٣٤٩) : رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجال الطبراني رجال الصحيح» غير صامت بن معاذ ، وعدي بن عدي الكندي وهما ثقتان.

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٦١٢) ، كتاب «صفة القيامة» باب : في القيامة (٢٤١٦) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٢٧٦) ، (١٧٨٤) ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من حديث الحسين بن قيس ، وحسين بن قيس يضعف في الحديث من قبل حفظه.

وفي الباب عن أبي برزة رضي الله عنه : أخرجه الترمذي (٤ / ٦١٢) ، كتاب «صفة القيامة» باب : في القيامة (٢٤١٧) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (١٠ / ٢٣٢) ، وأبو يعلى (١٣ / ٤٢٨) ، (٧٤٣٤)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٨٤) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٤٧٠) ، و «الدر المصون» (٦ / ٥٢٥)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٩١) ، (٣٧٢٩٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥١٢) بنحوه.

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٩١) (٣٧٣٠٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٨٩) ، وابن عطية (٥ / ٤٨٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٥) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عبّاس رضي الله عنه.

٥٩١

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ)(١٦)

وقوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) الآية ، قوله «فلا» هو عند الجمهور تحضيض بمعنى : ألا اقتحم ، والعقبة في هذه الآية على عرف كلام العرب استعارة لهذا العمل الشاقّ على النفس ، من حيث هو بذل مال ، تشبيه بعقبة الجبل ، و (اقْتَحَمَ) : معناه : دخلها وجاوزها بسرعة وضغط وشدة ، ثم عظّم تعالى أمر العقبة في النفوس بقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) ثمّ فسر اقتحام العقبة بقوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ) الآية ، وهذا على قراءة من قرأ : (فَكُّ رَقَبَةٍ) بالرفع على المصدر وأما من قرأ : «فكّ رقبة أو أطعم» على الفعل ، ونصب الرقبة ، وهي قراءة أبي عمرو (١) ، فليس يحتاج أن يقدّر : وما أدراك ما اقتحام بل يكون التعظيم للعقبة نفسها ويجيء (فَكُ) بدلا من (اقْتَحَمَ) ومبيّنا له ، وفكّ الرقبة هو عتقها من ربقة الأسر أو الرقّ ، وفي الحديث / عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أعتق نسمة مؤمنة أعتق الله بكلّ عضو منها عضوا منه من النار» (٢) ، والمسغبة : الجماعة ، والساغب : الجائع و (ذا مَقْرَبَةٍ) : معناه : ذا قرابة ؛ لتجتمع الصدقة والصلة ، و (ذا مَتْرَبَةٍ) : معناه : مدقعا قد لصق بالتراب وهذا ينحو إلى أنّ المسكين أشدّ فاقة من الفقير ، قال سفيان : هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراب لا بيوت لهم (٣) ، وقال ابن عبّاس : هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إلى بيته مستيقنا أنه ليس فيه إلا التراب (٤).

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ)(٢٠)

وقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ) معطوف على قوله : (اقْتَحَمَ) والمعنى : ثم كان وقت اقتحامه العقبة من الذين آمنوا.

__________________

(١) وهي قراءة ابن كثير والكسائيّ.

ينظر : «السبعة» (٦٨٦) ، و «الحجة» (٦ / ٤١٣) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٤٧) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١١٤) ، و «العنوان» (٢١٠) ، و «حجة القراءات» (٧٦) ، و «شرح شعلة» (٦٢٤) ، و «إتحاف» (٢ / ٦١٠)

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٩٦) ، (٣٧٣٤٤) عن ابن عبّاس ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٧) ، وعزاه للفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٩٦) ، (٣٧٣٤٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٨) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

٥٩٢

وقوله تعالى : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) معناه : على طاعة الله وبلائه وقضائه وعن الشهوات والمعاصي ، و (بِالْمَرْحَمَةِ) قال ابن عبّاس : كلّ ما يؤدّي إلى رحمة الله تعالى (١) ، وقال آخرون : هو التراحم والتعاطف بين الناس ، وفي ذلك قوام الناس ؛ ولو لم يتراحموا جملة لهلكوا ، و (الْمَيْمَنَةِ) ، فيما روي عن يمين العرش وهو موضع الجنّة ، ومكان المرحومين من الناس ، و (الْمَشْأَمَةِ) : الجانب الأشأم وهو الأيسر ؛ وفيه جهنّم ؛ وهو طريق المعذبين ، و (مُؤْصَدَةٌ) معناه : مطبقة مغلقة.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٦)

٥٩٣

تفسير سورة «الشمس»

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها)(٢)

أقسم الله تعالى بالشمس : إما على التنبيه منها على الاعتبار المؤدّي إلى معرفة الله تعالى ، وإما على تقدير وربّ الشمس ، والضّحى ـ بالضم والقصر ـ : ارتفاع ضوء الشمس وإشراقه ، قاله مجاهد (١) وقال مقاتل : (ضُحاها) حرّها كقوله في طه : (وَلا تَضْحى) [طه : ١١٩] ، والضّحاء ـ بفتح / الضاد والمدّ ـ : ما فوق ذلك إلى الزّوال ، والقمر يتلو الشمس من أول الشهر إلى نصفه في الغروب تغرب هي ثم يغرب هو ، ويتلوها في النصف الآخر بنحو آخر وهو أن تغرب هي فيطلع هو (٢) ، وقال الحسن : (تَلاها) معناه تبعها دأبا في كلّ وقت لأنّه يستضيء منها فهو يتلوها لذلك (٣) ، وقال الزجاج وغيره : تلاها في المنزلة من الضياء والقدر : لأنّه ليس في الكواكب شيء يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر.

(وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها)(٧)

وقوله : (وَالنَّهارِ) ظاهر هذه السورة والتي بعدها أن النهار من طلوع الشمس ، وكذلك قال الزجاج في كتاب «الأنواء» وغيره ، واليوم من طلوع الفجر ، ولا يختلف أنّ نهايتهما مغيب الشمس ، والضمير في (جَلَّاها) يحتمل أن يعود على الشمس ، ويحتمل أن

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٩٩) ، (٣٧٣٥٨) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٩١) ، وابن عطية (٥ / ٤٨٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥١٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٨) ، وعزاه للحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عبّاس بنحوه.

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٤٩١) ، وابن عطية (٥ / ٤٨٧)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٠٠) عن مجاهد برقم : (٣٧٣٦٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٠) ، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عبّاس.

٥٩٤

يعود على الأرض ، أو على الظّلمة ، وإن كان لم يجر لذلك ذكر ، فالمعنى يقتضيه ؛ قاله الزجاج ، و «جلّى» معناه كشف وضوى والفاعل ب «جلّى» على هذه التأويلات النهار ، ويحتمل أن يكون الفاعل الله تعالى ، كأنّه قال : والنهار ، إذ جلّى الله الشمس ، فأقسم بالنهار في أكمل حالاته ، و «يغشى» معناه : يغطّي ، والضمير للشمس على تجوّز في المعنى أو للأرض.

وقوله تعالى : (وَما بَناها) وكلّ ما بعده من نظائره في السورة يحتمل أن تكون «ما» فيه بمعنى الذي قاله أبو عبيدة ، أي : ومن بناها ، وهو قول الحسن ومجاهد ، فيجيء القسم بالله تعالى (١) ، ويحتمل أن تكون ما في جميع ذلك مصدرية ؛ قاله قتادة والمبرد والزجاج ، كأنّه قال : والسماء وبنائها (٢) ، و «طحا» بمعنى : دحا ، * ت* : قال الهروي : قوله تعالى : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) أي بسطها فأوسعها ، ويقال طحا به الأمر أي اتّسع به في المذهب ، انتهى ، والنفس التي أقسم بها سبحانه اسم جنس ، وتسويتها إكمال عقلها ونظرها.

الثعلبيّ : و (سَوَّاها) أي : عدّل خلقها ، انتهى.

(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها)(١٥)

وقوله سبحانه : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي : عرّفها طرق (٣) ذلك ، وجعل لها قوة يصحّ معها اكتساب الفجور أو اكتساب التقوى ، وجواب القسم في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ) والتقدير : لقد أفلح ، زاد ـ ص ـ : وحذفت اللام للطول ؛ انتهى ، والفاعل ب «زكى» يحتمل أن يكون الله تعالى ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (٤) ، ويحتمل أن يكون الإنسان ؛ قاله

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٠١) عن مجاهد ، برقم : (٣٧٣٦٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥١٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٩) ، وعزاه للحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عبّاس بنحوه.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٠١) ، (٣٧٣٦٧) عن قتادة ، وذكره البغوي (٤ / ٩٩٢) ، وابن عطية (٥ / ٤٨٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥١٥) عن قتادة.

(٣) في د : طريق.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٠٣) ، (٣٧٣٨٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٢) ، وعزاه لحسين في «الاستقامة» ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

٥٩٥

الحسن وغيره (١) ، و (زَكَّاها) أي طهّرها ونمّاها بالخيرات و (دَسَّاها) معناه : أخفاها وحقّرها وصغّر قدرها بالمعاصي والبخل بما يجب وأصل «دسّى» : دسّس ؛ ومنه قول الشاعر : [الطويل]

ودسّست عمرا في التّراب فأصبحت

حلائله منه أرامل ضيّعا (٢)

* ت* : قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي : ومن عيوب النفس الشفقة عليها ، والقيام بتعهّدها وتحصيل مآربها ، ومداواتها الإعراض عنها وقلة الاشتغال بها ، كذلك سمعت جدّي يقول : من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه ، انتهى من تأليفه في عيوب النفس ، وروي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : «اللهمّ آت نفسي تقواها ، وزكّها أنت خير من زكّاها ، أنت وليّها ومولاها» (٣) ، قال «صاحب الكلم الفارقيّة والحكم الحقيقيّة» : النفس الزكيّة زينتها نزاهتها ، وعافيتها عفّتها ، وطهارتها ورعها ، وغناها ثقتها بمولاها ؛ وعلمها بأنّه لا ينساها ، انتهى ، ولما ذكر تعالى خيبة من دسّى نفسه ؛ ذكر فرقة فعلت ذلك ليعتبر بهم ، وينتهى / عن مثل فعلهم ، والطّغوى : مصدر وقال ابن عبّاس : الطّغوى هنا العذاب. كذّبوا به حتّى نزل بهم ويؤيده قوله تعالى : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (٤) [الحاقة : ٥] وقال جمهور من المتأولين : الباء سببية والمعنى : كذّبت ثمود نبيّها بسبب طغيانها ، و (أَشْقاها) : هو قدار بن سالف ، وقد تقدم قصصهم ، * ت* : و (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) قيل : نصب بفعل مضمر تقديره احفظوا أو ذروا ، وقال ـ ص ـ : (ناقَةَ اللهِ) الجمهور : بنصب (ناقَةَ) على التحذير أي احذروا ناقة الله ، وهو مما يجب إضمار عامله ، انتهى ، و (فَدَمْدَمَ) معناه أنزل العذاب مقلقلا لهم مكرّرا ذلك ، وهي الدّمدمة ، الثعلبيّ : قال مؤرج : الدمدمة إهلاك باستئصال ، انتهى ، وكذلك قال أبو حيان (٥) ، وقال الهروي : قال الأزهريّ : (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي : أطبق عليهم العذاب ، وقيل

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٠٣) عن قتادة ، برقم : (٣٧٣٨٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥١٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠١) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.

(٢) البيت لرجل من طي.

ينظر : «اللسان» (دسا) ، «البحر المحيط» (٨ / ٤٧٢) ، و «الدر المصون» (٦ / ٥٣١) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٨٨)

(٣) تقدّم تخريجه.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٠٥) ، (٣٧٣٩٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٢) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس.

(٥) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٤٧٦)

٥٩٦

(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ) أي : غضب عليهم ، انتهى.

وقوله تعالى : (فَسَوَّاها) أي فسوّى القبيلة في الهلاك ؛ لم ينج منهم أحد ، وقرأ نافع وابن عامر (١) : «فلا يخاف عقباها» والمعنى : فلا درك على الله تعالى في فعله بهم ؛ وهذا قول ابن عبّاس والحسن (٢) ، ويحتمل أن يكون الفاعل ب (يَخافُ) صالحا* ع* أي : لا يخاف عقبى هذه الفعلة بهم ؛ إذ كان قد أنذرهم ، وقرأ الباقون : «ولا يخاف» بالواو فتحتمل الوجهين ، وتحتمل هذه القراءة وجها ثالثا : أن يكون الفاعل ب (يَخافُ) المنبعث ؛ قاله الزجاج والضحاك والسدي ، وغيرهم ، وتكون الواو واو الحال ، كأنّه قال : انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله (٣).

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٦٨٩) ، و «الحجة» (٦ / ٤٢٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٩١) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٥٠) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١١٦) ، و «العنوان» (٢١) ، و «حجة القراءات» (٧٦٦) ، و «شرح شعلة» (٦٢٥) ، و «إتحاف» (٢ / ٦١٢)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٠٦) عن ابن عبّاس برقم : (٣٧٤٠٩) ، وعن الحسن برقم : (٣٧٤١٠) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٩٤) ، وابن عطية (٥ / ٤٨٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥١٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٢) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٠٦) عن السدي برقم : (٣٧٤١٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٩٤) ، وابن عطية (٥ / ٤٨٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥١٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٢) ، وعزاه لابن جرير عن الضحاك.

٥٩٧

تفسير سورة «اللّيل»

وهي مكّيّة في قول الجمهور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى)(٢)

أقسم تعالى بالليل إذا غشي الأرض وجميع ما فيها ، وبالنهار إذا تجلّى ، أي : ظهر وضوّى الآفاق ، وقال ـ ص ـ : (يَغْشى) : مفعوله محذوف فيحتمل أن يكون النهار كقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الأعراف : ٥٤] أو الشمس ؛ كقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) [الشمس : ٤] وقيل الأرض وما فيها ، انتهى.

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى)(١٤)

وقوله تعالى : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) يحتمل أن تكون «ما» بمعنى : «الذي» ويحتمل أن تكون مصدرية ، والذكر والأنثى هنا عامّ ، وقال الحسن : المراد آدم وحواء (١) ، والسّعي العمل ، فأخبر تعالى مقسما أنّ أعمال العباد شتّى ، أي : متفرقة جدّا ؛ بعضها في رضي الله ، وبعضها في سخطه ، ثم قسّم تعالى الساعين فقال : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) الآية ، ويروى أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ.

وقوله تعالى : (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) قيل هي : لا إله إلا الله ، وقيل : هي الخلف الذي وعد الله به ، وقيل : هي الجنة ، وقال كثير من المتأولين : الحسنى : الأجر والثواب مجملا ، والعسرى : الحال السيئة في الدنيا والآخرة ، ومن جعل (بَخِلَ) في المال خاصّة ؛ جعل (اسْتَغْنى) في المال أيضا ، لتعظم المذمّة ، ومن جعل (بَخِلَ) عامّا في جميع ما ينبغي أن يبذل ، من قول أو فعل ؛ قال : (اسْتَغْنى) عن الله ورحمته بزعمه ، وظاهر قوله :

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٤٩٤) ، وابن عطية (٥ / ٤٩٠)

٥٩٨

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) أنّ الإعطاء والبخل المذكورين إنما هما في المال.

وقوله تعالى : (إِذا تَرَدَّى) ، قال قتادة وغيره : معناه تردّى في جهنم (١). وقال مجاهد : (تَرَدَّى) معناه : هلك من الرّدى (٢) ، وخرّج البخاريّ وغيره عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : «كنّا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بقيع الغرقد في جنازة ، فقال : ما منكم من أحد ، أو ما / من نفس منفوسة إلّا وقد كتب مكانها من الجنّة والنار ، وإلّا قد كتبت شقيّة أو سعيدة ، فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نتّكل على كتابنا ، وندع العمل ، فمن كان منّا من أهل السّعادة ؛ فسيصير إلى أهل السّعادة ، ومن كان منّا من أهل الشقاء ؛ فسيصير إلى عمل أهل الشّقاء؟ قال : أمّا أهل السّعادة ، فييسّرون لعمل أهل السّعادة ، وأمّا أهل الشقاوة ، فييسّرون لعمل أهل الشقاوة ، ثمّ قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) إلى قوله : (لِلْعُسْرى)» وفي رواية ، لمّا قيل له : أفلا نتّكل على كتابنا ، قال : لا ؛ بل اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له» الحديث ، وخرّجه الترمذيّ أيضا ، انتهى ، قال ابن العربيّ في «أحكامه» : «وسأل شابّان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : العمل فيما جفّت به الأقلام وجرت به المقادير أم في شيء مستأنف؟ فقال : بل فيما جفّت به الأقلام ، وجرت به المقادير ، قالا : ففيم العمل إذن : قال : اعملوا ؛ فكلّ ميسّر لعمله الّذي خلق له» قالا : فالآن نجدّ ونعمل» (٣) انتهى ، وقال قوم : معنى تردّى ، أي : بأكفانه من الرداء ؛ ومنه قول الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦١٧) ، (٣٧٤٨١) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٩٦) ، وابن عطية (٥ / ٤٩١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٢٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦١٧) ، (٣٧٤٨٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٩٦) ، وابن عطية (٥ / ٤٩١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٢٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٦) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٣) أخرجه البخاري (١١ / ٥٣٠) ، كتاب «القدر» باب : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (٦٦٠٥) ، (١٣ / ٥٣١) ، كتاب «التوحيد» باب : قول الله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر) (٧٥٥٢) ، ومسلم (٤ / ٢٠٣٩ ، ٢٠٤٠) ، كتاب «القدر» باب : كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه ، وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (٦ ـ ٧ / ٢٦٤٧) ، وأبو داود (٢ / ٦٣٤ ـ ٦٣٥) ، كتاب «السنة» باب : في القدر (٤٦٩٤) ، والترمذي (٤ / ٤٤٥) ، كتاب «القدر» باب : ما جاء في الشقاوة والسعادة (٢١٣٦) ، (٥ / ٤٤١) ، كتاب «التفسير» باب : ومن سورة : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (٣٣٤٤) ، وأحمد (١ / ٨٢ ، ١٢٩ ، ١٣٢ ـ ١٣٣ ، ١٤٠ ، ١٥٧) ، وابن حبان (٢ / ٤٣ ـ ٤٤ ـ ٤٥) ، كتاب «البر والإحسان» باب : ما جاء في الطاعات وثوابها (٢٣٣ ـ ٢٣٤) ، والطيالسي (١ / ٣٢) ، كتاب «القدر» باب : ما جاء في العمل مع القدر (٦١) ، وابن ماجه (١ / ٣٠ ـ ٣١) ، «المقدمة» باب : في القدر (٧٨).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

٥٩٩

نصيبك ممّا تجمع الدّهر كلّه

رداءان تلوى فيهما وحنوط (١)

ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعا ، أي : تعريفهم بالسّبل كلّها ، وليست هذه الهداية بالإرشاد إلى الإيمان ، ولو كان ذلك لم يوجد كافر ، قال البخاريّ : «تلظّى» : توهّج وقال الثعلبيّ : تتوقّد ، وتتوهّج ، انتهى.

(لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى)(٢١)

وقوله سبحانه : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) المعنى : لا يصلاها صلي خلود ، ومن هنا ضلّت المرجئة ؛ لأنها أخذت نفي الصلي مطلقا ، ولم يختلف أهل التأويل أن المراد بالأتقى إلى آخر السورة / أبو بكر الصديق ، ثم هي تتناول كلّ من دخل في هذه الصفات ، وباقي الآية بيّن ، ثم وعده تعالى بالرّضى في الآخرة وهذه [عدة] لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ.

__________________

(١) البيت في «البحر المحيط» (٨ / ٤٧٨) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٩١) ، و «الدر المصون» (٦ / ٥٣٥)

٦٠٠