تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

وقوله تعالى : (وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) أي : من هذه أفعاله هو الذي ينفع إذا والى ، وتحمد أفعاله ونعمه ، قال القشيريّ : اسمه تعالى : «الولي» ، أي : هو المتولّي لأحوال عباده ، وقيل : هو من الوالي ، وهو الناصر ، فأولياء الله أنصار دينه ، وأشياع طاعته ، والوليّ : في ـ صفة العبد ـ من يواظب على طاعة ربّه ، ومن علامات من يكون الحقّ سبحانه وليّه ـ أن يصونه ، ويكفيه في جميع الأحوال ، ويؤمّنه ، فيغار على قلبه أن يتعلّق بمخلوق في دفع شرّ أو جلب نفع ؛ بل يكون سبحانه هو القائم على قلبه في كلّ نفس ، فيحقّق آماله عند إشاراته ، ويعجّل مآربه عند خطراته ، ومن أمارات ولايته لعبده : أن يديم توفيقه حتّى لو أراد سوءا ، أو قصد محظورا ـ عصمه عن ارتكابه ، أو لو جنح إلى تقصير في طاعة ، أبى إلّا توفيقا وتأييدا ، وهذا من أمارات السعادة ، وعكس هذا من أمارات الشقاوة ، ومن أمارات ولايته أيضا أن يرزقه مودّة في قلوب أوليائه ، انتهى من «التحبير».

ثم ذكر تعالى الآية الكبرى الدّالّة على الصانع ، وذلك خلق السموات والأرض.

وقوله [تعالى] : (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) يتخرّج على وجوه : منها : أن يريد إحداهما ، وهو ما بثّ في الأرض دون السموات ، ومنها : أن يكون تعالى قد خلق في السموات وبثّ دوابّ لا نعلمها نحن ، ومنها : أن يريد الحيوانات التي توجد في السحاب ، وقد تقع أحيانا كالضفادع / ونحوها ؛ فإنّ السّحاب داخل في اسم السماء.

وقوله تعالى : (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ) يريد : يوم القيامة عند الحشر من القبور.

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)(٣٣)

وقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) قرأ جمهور القرّاء : «فبما» بفاء ، وكذلك هي في جلّ المصاحف ، وقرأ نافع وابن عامر : «بما» دون فاء (١) ، قال أبو علي الفارسيّ : أصاب من قوله : (وَما أَصابَكُمْ) يحتمل أن يكون في موضع جزم ، وتكون «ما» شرطية ، وعلى هذا لا يجوز حذف الفاء عند سيبويه ، وجوّز حذفها أبو الحسن الأخفش ، وبعض

__________________

(١) وقراءة الجمهور أجود في العربية ، لأن الفاء مجازاة جواب الشرط ، والمعنى : ما يصيبكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم.

ينظر : «حجة القراءات» (٦٤٢) ، و «السبعة» (٥٨١) ، و «الحجة» (٦ / ١٢٨) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٥٦) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢١٤) ، و «العنوان» (١٧٠) ، و «شرح شعلة» (٥٧٤) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٥٠)

١٦١

البغداديّين ؛ على أنّها مرادة في المعنى ، ويحتمل أن يكون «أصاب» صلة ل «ما» ، وتكون «ما» بمعنى «الذي» ، وعلى هذا يتجه حذف الفاء وثبوتها ، لكن معنى الكلام مع ثبوتها التلازم ، أي : لو لا كسبكم ما أصابتكم مصيبة ، والمصيبة إنّما هي بكسب الأيدي ، ومعنى الكلام مع حذفها يجوز أن يكون التلازم ، ويجوز أن يعرّى منه ، قال* ع (١) * : وأمّا في هذه الآية ، فالتلازم مطّرد مع الثبوت والحذف ، وأمّا معنى الآية ، فاختلف الناس فيه ، فقالت فرقة : هو إخبار من الله تعالى بأنّ الرزايا والمصائب في الدنيا إنّما هي مجازات من الله تعالى على ذنوب المرء وخطاياه ، وأنّ الله تعالى يعفو عن كثير ، فلا يعاقب عليه بمصيبة ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصيب ابن آدم خدش عود ، أو عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق إلّا بذنب ، وما يعفو عنه أكثر» (٢) ، وقال مرّة الهمدانيّ : رأيت على ظهر كفّ شريح قرحة ، فقلت : ما هذا؟ فقال : هذا بما كسبت يديّ ، ويعفو [الله] (٣) عن كثير ، وقيل لأبي سليمان الدّارانيّ : ما بال الفضلاء لا يلومون من أساء / إليهم؟ فقال : لأنّهم يعلمون أنّ الله تعالى هو الذي ابتلاهم بذنوبهم ، وروى عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «ما أصابكم من مرض ، أو عقوبة ، أو بلاء في الدّنيا ـ فبما كسبت أيديكم ، والله أكرم من أن يثنّي عليكم العقوبة في الآخرة ، وما عفا الله عنه في الدّنيا ، فالله أحلم من أن يعود فيه بعد عفوه» (٤) وقال الحسن : معنى الآية في الحدود ، أي : ما أصابكم من حدّ من حدود الله ، فبما كسبت أيديكم ، ويعفو الله عن كثير ، فيستره على العبد حتى لا يحدّ عليه ، ثم أخبر تعالى عن قصور ابن آدم وضعفه ، وأنّه في قبضة القدرة لا يعجز طلب ربّه ، ولا يمكنه الفرار منه ، و «الجواري» : جمع جارية وهي السفينة ، و (كَالْأَعْلامِ) : الجبال ، وباقي الآية بيّن ، فيه الموعظة وتشريف الصبّار الشكور.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٧)

(٢) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ١٥٣) (٩٨١٥) عن قتادة ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (٣ / ٣٤١) (٦٨٤٩) ، وعزاه إلى سعيد بن منصور.

(٣) سقط في : د.

(٤) أخرجه أحمد (١ / ٨٥) ، وأبو يعلى (١ / ٣٥٢) (١٩٣ / ٤٥٣) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٠٧).

قال الهيثمي : رواه أحمد ، وأبو يعلى ، وفيه أزهر بن راشد وهو ضعيف. وله شاهد من طريق آخر منه : أخرجه الترمذي (٥ / ١٦) كتاب «الإيمان» باب : ما جاء لا يزني الزاني وهو مؤمن (٢٦٢٦) ، وابن ماجه (٢ / ٨٦٨) كتاب «الحدود» باب : الحد كفارة (٢٦٠٤) ، وأحمد (١ / ٩٩ ، ١٥٩) ، والحاكم (٢ / ٤٤٥). قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح. وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

١٦٢

(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)(٣٧)

وقوله تعالى : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) : أوبقت الرجل : إذا أنشبته في أمر يهلك فيه ، وهو في السفن تغريقها و (بِما كَسَبُوا) أي : بذنوب ركّابها ، وقرأ نافع ، وابن عامر : «ويعلم» بالرفع ؛ على القطع والاستئناف ، وقرأ الباقون والجمهور : «ويعلم» بالنصب (١) ؛ على تقدير «أن» ، و «المحيص» : المنجى ، وموضع الروغان.

ثم وعظ سبحانه عباده ، وحقّر عندهم أمر الدنيا وشأنها ، ورغّبهم فيما عنده من النعيم والمنزلة الرفيعة لديه ، وعظّم قدر ذلك في قوله : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) [وزينتها](وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وقرأ الجمهور (٢) : (كَبائِرَ) على الجمع ؛ قال الحسن : هي كلّ ما توعّد فيه بالنار (٣) ، وقد تقدّم ما ذكره / الناس في الكبائر في سورة النساء وغيرها ، (وَالْفَواحِشَ) : قال السّدّيّ (٤) : الزنا ، وقال مقاتل : موجبات الحدود (٥).

وقوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) حضّ على كسر الغضب والتدرّب في إطفائه ؛ إذ هو جمرة من جهنّم ، وباب من أبوابها ، وقال رجل للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب ، قال : زدني ، قال : لا تغضب» (٦) ، ومن جاهد

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٥٨١) ، و «الحجة» (٦ / ١٣٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٨٥) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٥٧) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢١٤) ، و «العنوان» (١٧٠) ، و «حجة القراءات» (٦٤٣) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٥٠)

(٢) وقد قرأ حمزة والكسائيّ بالإفراد «كبير».

ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٩) ، و «السبعة» (٥٨١) ، و «الحجة» (٦ / ١٣٢) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٨٦) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٥٨) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢١٥) ، و «العنوان» (١٧٠) ، و «حجة القراءات» (٦٤٣) ، و «شرح شعلة» (٥٧٤) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٥١)

(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥ / ٣٩)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ١٥٤) برقم : (٣٠٧٢٢) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٢٩) ، وابن عطية (٥ / ٣٩)

(٥) أخرجه البغوي (٤ / ١٢٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩)

(٦) أخرجه البخاري (١٠ / ٥٣٥) كتاب «الأدب» باب : الحذر من الغضب (٦١١٦) ، والبيهقي (١٠ / ١٠٥) كتاب «آداب القاضي» باب : لا يقضي وهو غضبان ، نحوه من حديث أبي هريرة ، والترمذي (٤ / ٣٧١) كتاب «آداب القاضي» باب : لا يقضي وهو غضبان ، نحوه من حديث أبي هريرة ، والترمذي (٤ / ٣٧١) كتاب «البر والصلة» باب : ما جاء في كثرة الغضب (٢٠٢٠) ، نحو حديث البخاري والبيهقي عنه. ـ

١٦٣

هذا العارض من نفسه حتّى غلبه ، فقد كفي همّا عظيما في دنياه وآخرته.

* ت* : وروى مالك في «الموطّإ» أنّ رجلا أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، علّمني كلمات أعيش بهنّ ولا تكثر عليّ فأنسى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تغضب» (١) قال أبو عمر بن عبد البرّ : أراد : علّمني ما ينفعني بكلمات قليلة ؛ لئلا أنسى إن أكثرت عليّ ، ثم أسند أبو عمر من طرق عن الأحنف بن قيس عن عمّه جارية بن قدامة ، أنّه قال : يا رسول الله ، قل لي قولا ينفعني الله به ، وأقلل لي ؛ لعليّ أعقله ، قال : «لا تغضب ، فأعاد عليه مرارا ، كلّها يرجع إليه رسول الله : لا تغضب» ، انتهى (٢) من «التمهيد» ، وأسند أبو عمر في «التمهيد» أيضا عن عبد الله بن أبي الهذيل قال : لما رأى يحيى أنّ عيسى مفارقه قال له : أوصني ، قال : لا تغضب ، قال : لا أستطيع ، قال : لا تقتن مالا ، قال عسى. انتهى. وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كفّ لسانه عن إعراض المسلمين أقال الله عثرته يوم القيامة ، ومن كفّ غضبه عنهم ، وقاه الله عذابه يوم القيامة» (٣) ، قال ابن المبارك : وأخبرنا / ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان قال : إنّ الله تبارك وتعالى يقول : «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم ، ومن ذكرني حين يغضب ذكرته حين أغضب فلم أمحقه فيمن أمحق (٤)» انتهى.

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ)(٤١)

__________________

ـ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

وفي الباب من حديث جارية بن قدامة التيمي رضي الله عنه : أنه قال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل لي قولا ينفعني الله به ، وأقلل لعلي لا أغفله ، قال : «لا تغضب ...» الحديث.

أخرجه ابن حبان (١٢ / ٥٠٢) كتاب «الحظر والإباحة» باب : الاستماع المكروه وسوء الظن والغضب والفحش ، ذكر الإخبار عما يجب على المرء من ذم النفس عن الخروج إلى ما لا يرضي الله ـ جلّ وعلا ـ بالغضب (٥٦٨٩ ـ ٥٦٩٠) ، وأحمد (٣ / ٤٨٤) ، (٥ / ٣٤) ، والحاكم (٣ / ٦١٥) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (٢ / ٢٣٧) (٢٣٠٩) ، والطبراني (٢ / ٢٦٢) (٢٠٩٤) (٢١٠٧) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٣ / ١٠٨) (١١١٠)

(١) أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٩٠٦) كتاب «حسن الخلق» باب : ما جاء في الغضب (١١)

(٢) أخرجه ابن عبد البر في «التمهيد» (٧ / ٢٤٦) ، وانظر الحديث قبل السابق.

(٣) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (٢٥٧) (٧٤٥) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (٣ / ٣٥٤) (٦٩٠٢) ، وعزاه إلى الديلمي.

(٤) تقدم تخريج هذا الحديث مسندا.

١٦٤

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا) مدح لكلّ من آمن بالله ، وقبل شرعه ، ومدح الله تعالى القوم الذين أمرهم شورى بينهم ؛ لأنّ في ذلك اجتماع الكلمة ، والتّحابّ ، واتصال الأيدي ، والتّعاضد على الخير ، وفي الحديث : «ما تشاور قوم قطّ إلّا هدوا لأحسن ، ما بحضرتهم (١).

وقوله تعالى : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) معناه : في سبيل الله ، وبرسم الشرع ؛ وقال ابن زيد قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ ...) الآية ، نزلت في الأنصار (٢) ، والظاهر أنّ الله تعالى مدح كلّ من اتّصف بهذه الصفة كائنا من كان ، وهل حصل الأنصار في هذه الصفة إلا بعد سبق المهاجرين إليها ـ رضي الله عن جميعهم بمنّه وكرمه ـ.

وقوله عزوجل : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) : مدح سبحانه في هذه الآية قوما بالانتصار ممّن بغى عليهم ، ورجح ذلك قوم من العلماء وقالوا : الانتصار بالواجب تغيير منكر ، قال الثعلبيّ : قال إبراهيم [النّخعيّ] في هذه الآية : كانوا يكرهون أن يستذلّوا ، فإذا قدروا عفوا ، انتهى.

وقوله سبحانه : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) قيل : سمّي الجزاء باسم الابتداء ، وإن لم يكن سيئة ، لتشابههما في الصورة ، قال* ع (٣) * : وإن أخذنا السيّئة هنا بمعنى المصيبة في حقّ البشر ، أي : يسوء هذا هذا ويسوءه الآخر ـ فلسنا نحتاج إلى أن نقول : سمى العقوبة باسم الذنب ؛ بل الفعل الأوّل والآخر سيئة ، قال الفخر : اعلم أنّه تعالى / لما قال : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أردفه بما يدلّ على أنّ ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيّدا بالمثل ؛ فإنّ النقصان حيف ، والزيادة ظلم ، والمساواة هو العدل ؛ فلهذا السبب قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) انتهى ؛ ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) ونحوه من الآي ، واللام في قوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) لام التقاء القسم.

وقوله : (مِنْ سَبِيلٍ) يريد : من سبيل حرج ولا سبيل حكم ، وهذا إبلاغ في إباحة الانتصار ، والخلاف فيه : هل هو بين المؤمن والمشرك ، أو بين المؤمنين؟.

__________________

(١) أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (٨١) باب : المشورة (٢٥٣) نحوه ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٠٧) ، وعزاه إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ١٥٤) برقم : (٣٠٧٢٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٠)

١٦٥

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ)(٤٥)

وقوله تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ ...) الآية ، المعنى : إنما سبيل الحكم والإثم على الذين يظلمون الناس ، روى التّرمذيّ عن كعب بن عجرة قال : قال لي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، : «أعيذك بالله يا كعب من أمراء يكونون ، فمن غشي أبوابهم فصدّقهم في كذبهم ، وأعانهم على ظلمهم ، فليس منّي ، ولست منه ، ولا يرد علي الحوض ، يا كعب ، الصلاة برهان ، والصبر جنّة حصينة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفىء الماء النّار ، يا كعب لا يربو لحم نبت من سحت إلّا كانت النار أولى به». قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، وخرّجه أيضا في «كتاب الفتن» وصحّحه (١) ، انتهى.

وقوله تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ) إلى قوله : (أَلِيمٌ) : اعتراض بين الكلامين ، ثم عاد في قوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ) إلى الكلام الأول ، كأنّه قال : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ، (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ ...) الآية ، واللام في قوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ) يصحّ أن تكون لام قسم ، ويصح أن تكون لام الابتداء ، و (عَزْمِ الْأُمُورِ) : محكمها ومتقنها ، والحميد العاقبة منها ، فمن رأى أنّ هذه الآية / هي فيما بين المؤمنين والمشركين ، وأنّ الصبر للمشركين كان أفضل قال : إنّ الآية نسخت بآية السيف ، ومن رأى أنّ الآية بين المؤمنين ، قال : هي محكمة ، والصبر والغفران أفضل إجماعا ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة ، نادى مناد : من كان له على الله أجر فليقم ، فيقوم عنق من الناس كبير ، فيقال : ما أجركم؟ فيقولون : نحن الّذين عفونا عمّن ظلمنا في الدّنيا» (٢).

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) تحقير لأمر الكفرة ، أي : فلا يبالي بهم أحد من المؤمنين ؛ لأنّهم صائرون إلى ما لا فلاح لهم معه ، ثم وصف تعالى

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٢٥) ، كتاب «الفتن» باب : (٧٢) (٢٢٥٩) ، والنسائي (٧ / ١٦٠ ـ ١٦١) كتاب «البيعة» باب : من لم يعن أميرا على الظلم (٤٢٠٨) ، وابن حبان (٥ / ١٤١) (١٥٦٩) ، وأحمد (٣ / ٣٩٩) كلهم نحوه.

قال الترمذي : هذا حديث صحيح غريب ، لا نعرفه من حديث مسعر إلا من هذا الوجه.

(٢) أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (٣ / ٢٦٥)

١٦٦

لنبيّه حالهم في القيامة عند رؤيتهم العذاب ، وقولهم : (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ) ومرادهم : الرّدّ إلى الدنيا ، والرؤية هنا رؤية عين ، والضمير في قوله : (عَلَيْها) عائد على النار ، وإن لم يتقدّم لها ذكر من حيث دلّ عليها قوله : (رَأَوُا الْعَذابَ).

وقوله : (مِنَ الذُّلِ) يتعلق ب (خاشِعِينَ).

وقوله تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) قال قتادة والسّدّيّ (١) : المعنى : يسارقون النّظر ؛ لما كانوا فيه من الهمّ وسوء الحال لا يستطيعون النظر بجميع العين ؛ وإنّما ينظرون ببعضها ؛ قال الثعلبيّ : قال يونس : (مِنَ) بمعنى الباء ، ينظرون بطرف خفيّ ، أي : ضعيف ؛ من أجل الذّلّ والخوف ، ونحوه عن الأخفش ، انتهى ، وفي البخاريّ (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) ، أي : ذليل.

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...) الآية ، وقول (الَّذِينَ آمَنُوا) هو في يوم القيامة عند ما عاينوا حال الكفار وسوء منقلبهم.

وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) يحتمل أن يكون من قول المؤمنين / يومئذ ، حكاه الله عنهم ، ويحتمل أن يكون استئنافا من قول الله عزوجل وأخباره لنبيه محمّد* ع*.

(وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ)(٤٨)

وقوله تعالى : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ...) الآية ، إنحاء على الأصنام والأوثان التي أظهر الكفار ولايتها ، واعتقدت ذلك دينا ، ثم أمر تعالى نبيّه أن يأمرهم بالاستجابة لدعوة الله وشريعته من قبل إتيان يوم القيامة الذي لا يردّ أحد بعده إلى عمل ، قال* ع (٢) * : في الآية الأخرى في سورة «آلم غلبت الروم» : ويحتمل أن يريد : لا يردّه رادّ حتى لا يقع ، وهذا ظاهر بحسب اللفظ ، و «النكير» : مصدر بمعنى الإنكار ؛

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١٥٩) برقم : (٣٠٧٣٨ ـ ٣٠٧٣٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤١)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٢)

١٦٧

قال الثعلبيّ : (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ) : أي معقل ، (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي : من إنكار على ما ينزل بكم من العذاب بغير ما بكم ، انتهى.

وقوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا ...) الآية تسلية للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإنسان هنا اسم جنس ، وجمع الضمير في قوله : (تُصِبْهُمْ) وهو عائد على لفظ الإنسان من حيث هو اسم جنس.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ)(٥١)

وقوله تعالى : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ ...) الآية ، هذه آية اعتبار دالّ على القدرة والملك المحيط بالجميع ، وأنّ مشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه وفي كلّ أمرهم ، وهذا لا مدخل لصنم فيه ، فإنّ الذي يخلق ما يشاء هو الله تبارك وتعالى ، وهو الذي يقسم الخلق ؛ فيهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الأولاد الذكور ، (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) أي : ينوعهم ذكرانا وإناثا ، وقال محمّد ابن الحنفيّة : يريد بقوله تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) التّوأم ، أي : يجعل في بطن زوجا من الذّريّة ذكرا وأنثى (١) ، و «العقيم» : الذي لا يولد له ، وهذا كله مدبّر بالعلم والقدرة / وبدأ في هذه الآية بذكر الإناث ؛ تأنيسا بهنّ ليهتمّ بصونهنّ والإحسان إليهنّ ، وقال النبيّ* ع* : «من ابتلي من هذه البنات بشيء ، فأحسن إليهنّ ، كنّ له حجابا من النار» (٢) ، وقال واثلة بن الأسقع : من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر (٣) ؛ لأنّ الله تعالى بدأ بذكر الإناث ؛ حكاه عنه الثعلبيّ قال : وقال

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٣)

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٣٣٢) كتاب «الزكاة» باب : اتقوا النار ولو بشق تمرة ، والقليل من الصدقة (١٤١٨) ، (١٠ / ٤٤٠) كتاب «الأدب» باب : رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (٥٩٩٥) ، ومسلم (٤ / ٢٠٢٧) كتاب «البر والصلة والآداب» باب : فضل الإحسان إلى البنات (١٤٧ / ٢٦٢٩) ، والترمذي (٤ / ٣١٩) كتاب «البر والصلة» باب : ما جاء في النفقة على البنات والأخوات (١٩١٣) ، وابن حبان (٧ / ٢٠١) كتاب «الجنائز» باب : ما جاء في الصبر وثواب الأعمال ، ذكر الاستتار من النار ـ نعوذ بالله منها ـ للمسلم إذا ابتلي بالبنات فأحسن صحبتهن (٢٩٣٩) ، وأحمد (٦ / ٣٣) ، والبيهقي (٧ / ٤٧٨) كتاب «النفقات» باب : النفقة على الأولاد.

قال الترمذي : هذا حديث حسن.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٣)

١٦٨

إسحاق بن بشر : نزلت هذه الآية في الأنبياء (١) ، ثم عمّت ف (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) يعني : لوطا* ع* ، و (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) يعني إبراهيم* ع* ، (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) يعني : نبيّنا محمّدا* ع* ، (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) يعني : يحيى بن زكريّاء ـ عليهما‌السلام ـ.

وقوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ...) الآية ، نزلت بسبب خوض كان للكفار في معنى تكليم الله موسى ونحو ذلك ، ذهب قريش واليهود في ذلك إلى تجسيم ونحوه ، فنزلت الآية مبيّنة صورة تكليم الله عباده ، كيف هو ، فبيّن الله تعالى أنّه لا يكون لأحد من الأنبياء ، ولا ينبغي له ، ولا يمكن فيه أن يكلّمه الله إلّا بأن يوحي إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام ؛ قال مجاهد : أو النفث في القلب (٢) ، أو وحي في منام ، قال النخعيّ : وكان من الأنبياء من يخطّ له في الأرض ونحو هذا ، أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلّم جهة ولا حيّزا كموسى ـ عليه‌السلام ـ ، وهذا معنى (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أي : من خفاء عن المكلّم لا يحدّه ولا يتسوّر بذهنه عليه ، وليس كالحجاب في الشاهد ، أو بأن يرسل إليه ملكا يشافهه بوحي الله / عزوجل ، قال الفخر (٣) : قوله : (فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) أي : فيوحي ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله انتهى ، وقرأ جمهور القرّاء والناس : «أو يرسل» بالنصب «فيوحي» بالنصب أيضا ، وقرأ نافع ، وابن عامر ، وابن عبّاس ، وأهل المدينة : «أو يرسل» بالرفع فيوحي ـ بسكون الياء (٤) ـ ، وقوله : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) «من» متعلّقة بفعل يدلّ ظاهر الكلام عليه ، تقديره : أو يكلّمه من وراء حجاب ، وفي هذه الآية دليل على أنّ الرسالة من أنواع التكليم ، وأنّ من حلف : لا يكلّم فلانا ، وهو لم ينو المشافهة ، ثم أرسل رسولا حنث.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)(٥٣)

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ...) الآية ، المعنى : وبهذه الطرق ، ومن هذا الجنس أوحينا إليك ، أي : بالرسول ، و «الرّوح» في هذه الآية : القرآن

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٣)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٣)

(٣) ينظر : «مفاتيح الغيب» (٢٧ / ١٦٣)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٣) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٥٠٤) ، و «الدر المصون» (٦ / ٨٨)

١٦٩

آن وهدى الشريعة ، سمّاه روحا من حيث يحيي به البشر والعالم ؛ كما يحيي الجسد بالروح ، فهذا على جهة التشبيه.

وقوله تعالى : (مِنْ أَمْرِنا) أي : واحد من أمورنا ، ويحتمل أن يكون الأمر بمعنى الكلام ، و (مِنْ) لابتداء الغاية.

وقوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) توقيف على مقدار النعمة ، والضمير في (جَعَلْناهُ) عائد على الكتاب ، و (نَهْدِي) بمعنى : نرشد ، وقرأ جمهور الناس : «وإنّك لتهدي» ـ بفتح التاء وكسر الدال ـ ، وقرأ حوشب : «لتهدى» ـ بضم التاء وفتح الدال ـ ، وقرأ عاصم : «لتهدي» ـ بضم التاء وكسر الدال ـ.

وقوله : (صِراطِ اللهِ) يعني : صراط شرع الله ، ثم استفتح سبحانه القول في الإخبار بصيرورة الأمور إليه سبحانه ؛ مبالغة وتحقيقا وتثبيتا ، فقال : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) قال الشيخ / العارف بالله أبو الحسن الشاذليّ رحمه‌الله : إن أردت أن تغلب الشرّ كلّه ، وتلحق الخير كلّه ، ولا يسبقك سابق ، وإن عمل ما عمل ـ فقل : يا من له الخير كلّه ، أسألك الخير كلّه ، وأعوذ بك من الشرّ كلّه ، فإنّك أنت الله الغنيّ الغفور الرحيم ، أسألك بالهادي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى صراط مستقيم ، صراط الله الذي له ما في السّموات وما في الأرض ، ألا إلى الله تصير الأمور ، اللهمّ إنّي أسألك مغفرة تشرح بها صدري ، وتضع بها وزري ، وترفع بها ذكري ، وتيسّر بها أمري ، وتنزّه بها فكري ، وتقدّس بها سرّي ، وتكشف بها ضرّي ، وترفع بها قدري ؛ إنّك على كلّ شيء قدير ، ا ه.

ـ قلت ـ : قوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ) : هذا بيّن ، وقوله : (وَلَا الْإِيمانُ) : فيه تأويلات : قيل معناه : ولا شرائع الإيمان ومعالمه ؛ قال أبو العالية : يعني : الدعوة إلى الإيمان ، وقال الحسين بن الفضل : يعني أهل الإيمان ، من يؤمن ومن لا يؤمن ، وقال ابن خزيمة : الإيمان هنا الصلاة ؛ دليله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] قال ابن أبي الجعد وغيره : احترق مصحف فلم يبق منه إلّا : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) وغرق مصحف فامحى كلّه إلّا قوله : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) نقله الثعلبيّ وغيره (١) ، انتهى.

قال العبد الفقير إلى الله تعالى ، عبد الرحمن بن محمّد بن مخلوف الثّعالبيّ ؛ لطف الله به في الدّارين : قد يسّر الله عزوجل في تحرير هذا المختصر ، وقد أودعته بحمد الله

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٤)

١٧٠

جزيلا من الدّرر ، قد استوعبت فيه بحمد الله مهمّات ابن عطيّة ، وزدته فوائد جليلة من غيره ، وليس الخبر كالعيان ، توخّيت فيه بحمد / الله الصواب ؛ وجعلته ذخيرة عند الله ليوم المآب ، لا يستغني عنه المنتهي ؛ وفيه كفاية للمبتدي ، يستغني (١) به عن المطوّلات ؛ إذ قد حصّل منها لبابها ؛ وكشف عن الحقائق حجابها.

التّعريف برحلة المؤلّف

رحلت في طلب العلم في أواخر القرن الثّامن ، ودخلت بجاية في أوائل القرن التاسع ، فلقيت بها الأئمة المقتدى بهم ، أصحاب سيّدي عبد الرحمن الوغليسيّ متوافرين ، فحضرت مجالسهم ، وكانت عمدة قراءتي بها على سيدي [علي بن] (٢) عثمان المانجلاتيّ ـ رحمه‌الله ـ بمسجد عين البربر ، ثم ارتحلت إلى تونس ، فلقيت بها سيدي عيسى الغبريني والأبيّ ، والبرزليّ ، وغيرهم ، وأخذت عنهم ، ثم ارتحلت إلى المشرق ، فلقيت بمصر الشيخ وليّ الدّين العراقي ، فأخذت عنه علوما جمّة معظمها علم الحديث ، وفتح الله لي فيه فتحا عظيما ، وكتب لي وأجازني جميع ما حضرته عليه ، وأطلق في غيره ، ثم لقيت بمكّة بعض المحدّثين ، ثم رجعت (٣) إلى الديار المصرية وإلى تونس ، وشاركت من بها ، ولقيت بها شيخنا أبا عبد الله محمّد بن مرزوق قادما لإرادة الحجّ ، فأخذت عنه كثيرا ، وأجازني [التدريس] في أنواع الفنون الإسلاميّة ، وحرّضني على إتمام تقييد وضعته على ابن الحاجب الفرعيّ.

قلت : ولما فرغت من تحرير هذا المختصر وافق قدوم شيخنا أبي عبد الله محمّد بن مرزوق علينا في سفرة سافرها من تلمسان متوجّها إلى تونس ، ليصلح / بين سلطانها وبين صاحب تلمسان ، فأوقفته على هذا الكتاب ، فنظر فيه وأمعن النظر ، فسرّ به سرورا كثيرا ودعا لنا بخير ، والله الموفّق بفضله.

__________________

(١) في د : يستعين.

(٢) سقط في : د.

(٣) في د : رجعنا.

١٧١

تفسير سورة الزّخرف

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)(٤)

(حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ وَالْكِتابِ) : خفض بواو القسم ، والضمير في (جَعَلْناهُ) عائد على الكتاب ، (وَإِنَّهُ) عطف على (جَعَلْناهُ) ، وهذا الإخبار الثّاني واقع أيضا تحت القسم ، و (أُمِّ الْكِتابِ) : اللوح المحفوظ ، وهذا فيه تشريف للقرآن ، وترفيع ، واختلف المتأوّلون : كيف هو في أمّ الكتاب؟ فقال قتادة وغيره : القرآن بأجمعه فيه منسوخ ، ومنه كان جبريل ينزل ، وهنالك هو عليّ حكيم (١) ، وقال جمهور الناس : إنّما في اللوح المحفوظ ذكره ودرجته ومكانته من العلوّ والحكمة.

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ)(٨)

وقوله سبحانه : (أَفَنَضْرِبُ) بمعنى : أفنترك ؛ تقول العرب : أضربت عن كذا وضربت : إذا أعرضت عنه وتركته ، و (الذِّكْرَ) هو : الدعاء إلى الله ، والتذكير بعذابه ، والتخويف من عقابه ، وقال أبو صالح : الذّكر هنا أراد به العذاب نفسه (٢) ، وقال الضّحّاك ومجاهد : الذكر القرآن (٣).

وقوله : (صَفْحاً) : يحتمل أن يكون بمعنى العفو والغفر للذنوب ، فكأنّه يقول : أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفوا عنكم ، وغفرا لإجرامكم ؛ من أجل أن كنتم قوما مسرفين ، أي : هذا لا يصلح ؛ وهذا قول ابن عبّاس ومجاهد (٤) ويحتمل قوله : (صَفْحاً) أن يكون

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥ / ٤٥)

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ١٦٧) برقم : (٣٠٧٧٠ ـ ٣٠٧٧١) عن قتادة نحوه ، والبغوي في «تفسيره» (٤ / ١٣٤)

١٧٢

بمعنى مغفولا عنه ، أي : نتركه يمرّ لا تؤخذون / بقبوله ولا بتدبّره ، فكأنّ المعنى : أفنترككم سدى ، وهذا هو منحى قتادة وغيره ، وقرأ نافع وحمزة والكسائيّ : «إن كنتم» بكسر الهمزة (١) ، وهو جزاء دلّ ما تقدّمه على جوابه ، وقرأ الباقون بفتحها بمعنى : من أجل أنّ ، والإسراف في الآية هو كفرهم.

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) أي : في الأمم الماضية ، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم.

(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : كما يستهزىء قومك بك ، وهذه الآية تسلية للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتهديد بأن يصيب قريشا ما أصاب من هو أشدّ بطشا منهم.

(وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي : سلف أمرهم وسنّتهم ، وصاروا عبرة غابر الدّهر ، أنشد صاحب «عنوان الدّراية» لشيخه أبي عبد الله التّميميّ : [البسيط]

يا ويح من غرّه دهر فسرّ به

لم يخلص الصفو إلّا شيب بالكدر

هو الحمام فلا تبعد زيارته

ولا تقل ليتني منه على حذر

انظر لمن باد تنظر آية عجبا

وعبرة لأولي الألباب والعبر

أين الألى جنبوا خيلا مسوّمة

وشيّدوا إرما خوفا من القدر

لم تغنهم خيلهم يوما وإن كثرت

ولم تفد إرم للحادث النكر

بادوا فعادوا حديثا إنّ ذا عجب

ما أوضح الرشد لو لا سيّىء النظر

تنافس الناس في الدّنيا وقد علموا

أنّ المقام بها كاللّمح بالبصر

انتهى.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٥٨٤) ، و «الحجة» (٦ / ١٣٨) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٩٢) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٦١) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢١٧) ، و «العنوان» (١٧١) ، و «حجة القراءات» (٦٤٤) ، و «شرح شعلة» (٥٧٥) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٥٣)

١٧٣

الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ)(١٤)

وقوله سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) : الآية ابتداء احتجاج على قريش / يوجب عليهم التناقض من حيث أقرّوا بالخالق ، وعبدوا غيره ، وجاءت العبارة عن الله ب (الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) ؛ ليكون ذلك توطئة لما عدّد سبحانه من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها ، وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش.

وقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الآية ، هذه أوصاف فعل ، وهي نعم من الله سبحانه على البشر ، تقوم بها الحجّة على كلّ مشرك.

وقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) ليس هو من قول المسئولين ، بل هو ابتداء إخبار من الله تعالى.

وقوله سبحانه : (وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) قيل : معناه : بقدر في الكفاية للصلاح لا إكثار فيفسد ، ولا قلّة فيقصر ؛ بل غيثا مغيثا ، وقيل : (بِقَدَرٍ) أي : بقضاء وحتم ، وقالت فرقة : معناه : بتقدير وتحرير ، أي : قدر ماء معلوما ، ثم اختلف قائلو هذه المقالة فقال بعضهم : ينزل في كلّ عام ماء قدرا واحدا ، لا يفضل عام عاما ، لكن يكثر مرّة هاهنا ومرة هاهنا ، وقال بعضهم : بل ينزل تقديرا ما في عام ، وينزل في آخر تقديرا ما ، وينزل في آخر تقديرا آخر بحسب ما سبق به قضاؤه لا إله إلا هو.

قلت : وبعض هذه الأقوال لا تقال من جهة الرأي ، بل لا بدّ لها من سند ، و (فَأَنْشَرْنا) معناه : أحيينا ؛ يقال : نشر الميّت وأنشره الله ، والأزواج هنا الأنواع من كلّ شيء ، و (مِنَ) في قوله : (مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ) للتبعيض ، والضمير في (ظُهُورِهِ) عائد على / النوع المركوب الذي وقعت عليه «ما» ، وقد ، بيّنت آية أخرى ما يقال عند ركوب الفلك ، وهو : «بسم الله مجراها ومرساها إنّ ربّي لغفور رحيم» [هود : ٤١] وإنما هذه خاصّة فيما يركب من الحيوان ، وإن قدّرنا أنّ ذكر النعمة هو بالقلب ، والتذكّر بدء الراكب ب (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) ، وهو يرى نعمة الله في ذلك وفي سواه و (مُقْرِنِينَ) أي : مطيقين ، وقال أبو حيّان (مُقْرِنِينَ) : خبر كان ، ومعناه غالبين ضابطين ، انتهى ، وهو بمعنى الأوّل ، (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أمر بالإقرار بالبعث.

١٧٤

* ت* : وعن حمزة بن عمرو الأسلميّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على ظهر كلّ بعير شيطان ، فإذا ركبتموها فسمّوا الله» رواه ابن حبّان في «صحيحه» (١) ، انتهى من «السلاح» ، وينبغي لمن ملّكه الله شيئا من هذا الحيوان أن يرفق به ويحسن إليه ؛ لينال بذلك رضا الله تعالى ، قال القشيريّ في «التحبير» : وينبغي للعبد أن يكون معظّما لربّه ، نفّاعا لخلقه ، خيرا في قومه ، مشفقا على عباده ؛ فإنّ رأس المعرفة تعظيم أمر الله سبحانه ، والشفقة على خلق الله ، انتهى ، وروى مالك في «الموطّإ» عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنّه قال : «بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتدّ عليه العطش ، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ، فخرج فإذا كلب يلهث ، يأكل الثّرى من العطش ، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الّذي بلغ منّي ، فنزل البئر فملأ خفّه ، ثمّ أمسكه بفيه حتّى رقى فسقى الكلب ، فشكر الله له فغفر له ، فقالوا : يا رسول الله ، وإنّ لنا في البهائم أجرا؟! / فقال : في كلّ كبد رطبة أجر» (٢). قال أبو عمر في «التهميد» : وكذا في الإساءة إلى الحيوان إثم ، وقد روى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «دخلت امرأة النار في هرّة ربطتها فلا هي أطعمتها ، ولا هي أطلقتها تأكل من خشاش الأرض» (٣) ، ثم أسند أبو عمر ؛ «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل حائطا من

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٤٩٤) ، وابن حبان (٤ / ٦٠٢ ـ ٦٠٣) كتاب «الصلاة» باب : شروط الصلاة ، ذكر البيان بأن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنها خلقت من الشياطين» لفظة أطلقها على المجاوزة لا على الحقيقة برقم : (١٧٠٣) ، والطبراني (٣ / ١٧٠٦) (٢٩٩٣).

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ١٣٤) : رواه أحمد والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» ورجالهما رجال الصحيح غير محمّد بن حمزة ، وهو ثقة.

(٢) أخرجه البخاري (٥ / ١٣٦) كتاب «المظالم» باب : الآبار التي على الطريق إذا لم يتأذّ بها (٢٤٦٦) ، ومسلم (٤ / ١٧٦١) كتاب «السلام» باب : فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها (١٥٣ / ٢٢٤٤)

(٣) أخرجه البخاري (٦ / ٤٠٩) كتاب «بدء الخلق» باب : إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء ، وخمس من الدواب فواسق يقتلن في الحرم (٣٣١٨) ، ومسلم (٤ / ١٧٦٠) كتاب «السلام» باب : تحريم قتل الهرة (١٥١ / ٢٢٤٢) ، و (٤ / ٢٠٢٢) كتاب «البر والصلة والآداب» باب : تحريم تعذيب الهرة ونحوها (١٢٣ / ٢٢٤٢) ، (١٣٤ / ٢٢٤٢) ، وابن حبان (٢ / ٣٠٥) كتاب «البر والإحسان» باب : فصل من البر والإحسان ، ذكر استحباب الإحسان إلى ذوات الأربع رجاء النجاة من العقبى به (٥٤٦) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (١١٥) (٣٧٩) ، والدارمي (٢ / ٣٣٠ ـ ٣٣١) كتاب «الرقاق» باب : دخلت امرأة النار في هرة ، البيهقي (٥ / ٢١٤) كتاب «الحج» باب : كراهية قتل النملة للمحرم وغير المحرم ، وكذلك ما لا ضرر فيه مما لا يؤكل ، (٨ / ١٣) كتاب «النفقات» باب : نفقة الدواب ، وأحمد (٢ / ١٥٩ ، ١٨٨).

وفي الباب من حديث أبي هريرة : أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٢٣) كتاب «البر والصلة والآداب» باب : تحريم تعذيب الهرة ونحوها ، من الحيوان الذي لا يؤذى برقم : (١٣٥ / ٢٦١٩) ، وأحمد (٢ / ٢٦١ ، ٢٦٩ ، ٢٨٦ ، ٣١٧ ، ٤٢٤ ، ٤٥٧ ، ٤٦٧ ، ٤٧٩ ، ٥٠١ ، ٥٠٧ ، ٥١٩) ، وابن ماجه (٢ / ١٤٢١) كتاب ـ

١٧٥

حيطان الأنصار ، فإذا جمل قد أتي فجرجر ، وذرفت عيناه ، فمسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سراته وذفراه ، فسكن ، فقال : من صاحب الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار ، فقال : هو لي يا رسول الله ، فقال : أما تتّقي الله في هذه البهيمة الّتي ملّكت الله ؛ إنّه شكا إليّ أنّك تجيعه وتدئبه» (١) ومعنى ذرفت عيناه ، أي : قطرت دموعهما قطرا ضعيفا ، والسّراة الظّهر ، «والذّفرى» : ما وراء الأذنين عن يمين النقرة وشمالها ، انتهى.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ)(١٩)

وقوله سبحانه : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) أي : جعلت كفّار قريش والعرب لله جزءا ، أي : نصيبا وحظّا ، وهو قول العرب : «الملائكة بنات الله» ؛ هذا قول كثير من المتأولين ، وقال قتادة : المراد بالجزء : الأصنام وغيرها (٢) ف (جُزْءاً) معناه : ندّا.

* ت* : وباقي الآية يرجّح تأويل الأكثر.

وقوله : (أَمِ اتَّخَذَ) : إضراب وتقرير وتوبيخ ؛ إذ المحمود المحبوب من الأولاد قد خوّله الله بني آدم ، فكيف يتّخذ هو لنفسه النصيب الأدنى ، وباقي الآية بيّن ممّا ذكر في «سورة النحل» وغيرها.

ثم زاد سبحانه في توبيخهم وإفساد رأيهم بقوله : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) التقدير : أو من ينشّأ في الحلية هو الذي خصصتم به الله عزوجل ، والحلية : الحلي من الذهب / والفضة والأحجار ، و (يُنَشَّؤُا) معناه : ينبت ويكبر ، و (الْخِصامِ) : المحاجّة ومجاذبة المحاورة ، وقلّ ما تجد امرأة إلّا تفسد الكلام وتخلط المعاني ، وفي مصحف ابن مسعود (٣) : «وهو في الكلام غير مبين» والتقدير : غير مبين غرضا أو منزعا ونحو هذا ،

__________________

ـ «الزهد» باب : ذكر التوبة برقم : (٤٢٥٦) ، وابن حبان (١٢ / ٤٣٨ ـ ٤٣٩) كتاب «الحظر والإباحة» باب : فصل فيما يتعلق بالدواب ، ذكر الخبر الدال على أن المسيء إلى ذوات الأربع قد يتوقع له دخول النار في القيامة بفعله ذلك ، برقم : (٥٦٢١)

(١) أخرجه أحمد (١ / ٢٠٤)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ١٧٢) برقم : (٣٠٧٨٩ ـ ٣٠٧٩٠) عن قتادة ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٨ ـ ٤٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧١٧) ، وعزاه إلى ابن حميد ، وعبد الرزاق ، وابن المنذر.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٩)

١٧٦

وقال ابن زيد : المراد ب (مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) : الأصنام والأوثان ، لأنّهم كانوا يجعلون الحلي على كثير منها ، ويتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة (١) ، وقرأ أكثر السبعة : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) وقرأ الحرميّان وابن عامر : «عند الرحمن إناثا» وهذه القراءة أدلّ على رفع المنزلة (٢).

وقوله تعالى : «أأشهدوا خلقهم» معناه أأحضروا خلقهم ، وفي قوله تعالى : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) وعيد مفصح ، وأسند ابن المبارك عن سليمان بن راشد ؛ أنه بلغه أنّ امرأ لا يشهد شهادة في الدنيا إلّا شهد بها يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ، ولا يمتدح عبدا في الدنيا إلّا امتدحه يوم القيامة على رؤوس الأشهاد ، قال القرطبيّ في «تذكرته» : وهذا صحيح ؛ يدلّ على صحّته قوله تعالى : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) وقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] انتهى.

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)(٢٥)

وقوله سبحانه : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ...) الآية ، أي : ما عبدنا الأصنام.

* ت* : وقال قتادة وغيره : يعني : ما عبدنا الملائكة (٣) ، وجعل الكفار إمهال الله لهم دليلا على رضاه عنهم ، وأنّ ذلك كالأمر به ، ثم نفى سبحانه علمهم بهذا ، وليس عندهم كتاب منزّل يقتضي ذلك ؛ وإنّما هم يظنّون ويحدسون / ويخمّنون ، وهذا هو الخرص والتخرّص ، والأمّة هنا بمعنى الملّة والديانة ، والآية على هذا تعيب عليهم التقليد ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١٤٧) برقم : (٣٠٨٠٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٩)

(٢) ينظر : «السبعة» (٥٨٥) ، و «الحجة» (٦ / ١٤٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٩٥) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٦٢) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢١٨) ، و «العنوان» (١٧١) ، و «حجة القراءات» (٦٤٧) ، و «شرح شعلة» (٥٧٦) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٥٤)

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٣٦) آية رقم : (٢٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧١٩) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

١٧٧

وذكر الطبريّ (١) عن قوم أنّ الأمّة الطريقة ، ثم ضرب الله المثل لنبيّه محمّد* ع* وجعل له الأسوة فيمن مضى من النذر والرسل ؛ وذلك أنّ المترفين من قومهم ، وهم أهل التنعّم والمال ، قد قابلوهم بمثل هذه المقالة ، وفي قوله عزوجل : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ...) الآية : وعيد لقريش ، وضرب مثل لهم بمن سلف من الأمم المعذّبة المكذّبة لأنبيائها.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٢٨)

وقوله سبحانه : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) المعنى : واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه : (إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) أي : فافعل أنت فعله ، وتجلّد جلده ، و (بَراءٌ) : صفة تجري على الواحد والاثنين والجمع ؛ كعدل وزور ، وقرأ ابن مسعود : «بريء» (٢).

وقوله : «إلا الذي فطرني» قالت فرقة : الاستثناء متّصل ، وكانوا يعرفون الله ويعظّمونه ، إلّا أنّهم كانوا يشركون معه أصنامهم ، فكأنّ إبراهيم قال لهم : أنا لا أوافقكم إلّا على عبادة الله الذي فطرني ، وقالت فرقة : الاستثناء منقطع ، والمعنى : لكنّ الذي فطرني هو معبودي الهادي المنجي من العذاب ، وفي هذا استدعاء لهم ، وترغيب في طاعة الله ، وتطميع في رحمته.

والضمير في قوله : (وَجَعَلَها كَلِمَةً ...) الآية ، قالت : فرقة : هو عائد على كلمته بالتوحيد في قوله : (إِنَّنِي بَراءٌ) وقال مجاهد وغيره : المراد بالكلمة : لا إله إلا الله (٣) ، وعاد عليها الضمير ، وإن كان لم يجر لها ذكر ؛ لأنّ اللفظ يتضمّنها ، والعقب : الذّرّيّة ، وولد الولد ما امتدّ فرعهم.

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢) وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا

__________________

(١) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ١٧٦)

(٢) وقرأ بها الأعمش.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٣٦) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٥١) ، و «البحر المحيط» (٨ / ١٣) ، و «الدر المصون» (٦ / ٩٦)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ١٧٩) برقم : (٨٠٨١٨ ـ ٨٠٨١٩) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٣٧) ، وابن عطية (٥ / ٥٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٢٠) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

١٧٨

لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ)(٣٥)

وقوله : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ) يعني قريشا (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ) ، وذلك هو شرع الإسلام ، والرسول [هو] محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (مُبِينٌ) أي : يبين لهم الأحكام ، والمعنى في الآية : بل أمهلت هؤلاء ومتّعتهم بالنعمة (وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) يعني القرآن (قالُوا هذا سِحْرٌ).

(وَقالُوا) يعني قريشا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) يعني : من إحدى القريتين ، وهما مكّة والطّائف ، ورجل مكّة هو الوليد بن المغيرة في قول ابن عبّاس وغيره (١) ، وقال مجاهد : هو عتبة بن ربيعة (٢) ، وقيل غير هذا ، ورجل الطائف : قال قتادة : هو عروة بن مسعود (٣) ، وقيل غير هذا ، قال* ع (٤) * : وإنّما قصدوا إلى من عظم ذكره بالسّنّ ، وإلّا فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أعظم من هؤلاء ؛ إذ كان المسمّى عندهم «الأمين» ، ثم وبّخهم سبحانه بقوله : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) و «الرحمة» اسم عامّ يشمل النبوّة وغيرها ، وفي قوله تعالى : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ) تزهيد في السعايات ، وعون على التّوكّل على الله عزوجل ؛ ولله درّ القائل : [الرجز]

[كم جاهل يملك دورا وقرى

[وعالم يسكن بيتا بالكرى] (٥)

لمّا سمعنا قوله سبحانه

نحن قسمنا بينهم زال المرا (٦)

وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إذا أراد الله بعبد خيرا أرضاه بما قسم له ، وبارك له فيه ، وإذا لم يرد به خيرا ، لم يرضه بما قسم له ، ولم يبارك له فيه» (٧) انتهى ، و (سُخْرِيًّا) بمعنى التسخير ، ولا مدخل لمعنى الهزء في هذه الآية.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١٨١) برقم : (٣٠٨٢٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ١٢٦ ـ ١٢٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٢١) ، وعزاه إلى ابن مردويه ، وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ١٨١) برقم : (٣٠٨٣٠) ، وذكره البغوي (٤ / ١٣٧) ، وابن عطية (٥ / ٥٢) ، وابن كثير (٤ / ١٢٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٢١) ، وعزاه إلى ابن عساكر.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ١٨١) برقم : (٣٠٨٣١) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٣٧) ، وابن عطية (٥ / ٥٢) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٢١) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٣)

(٥) سقط في : د.

(٦) ذكر بعضه ابن عطية في «المحرر» (٥ / ٥٣)

(٧) ذكره السيوطي في «الجامع الكبير» (١١١٧) ، وعزاه للديلمي عن أبي هريرة.

١٧٩

وقوله تعالى : (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) قال قتادة والسّدّيّ : يعني الجنة (١) ، قال* ع (٢) * : ولا شكّ أنّ الجنة هي الغاية ، ورحمة الله في الدنيا بالهداية والإيمان خير من / كلّ مال ، وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا ، وتزهيد فيها ، ثم استمرّ القول في تحقيرها بقوله سبحانه : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ...) الآية ؛ وذلك أنّ معنى الآية أنّ الله سبحانه أبقى على عباده ، وأنعم عليهم بمراعاة بقاء الخير والإيمان ، وشاء حفظه على طائفة منهم بقيّة الدهر ، ولو لا كراهية أن يكون الناس كفّارا كلّهم ، وأهل حبّ في الدنيا وتجرّد لها ـ لوسّع الله على الكفار غاية التوسعة ، ومكّنهم من الدنيا ؛ وذلك لحقارتها عنده سبحانه ، وأنها لا قدر لها ولا وزن ؛ لفنائها وذهاب رسومها ، فقوله : (أُمَّةً واحِدَةً) معناه في الكفر ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (٣) ، ومن هذا المعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ، ما سقى كافرا منها شربة ماء» (٤) وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن علقمة عن عبد الله قال : «اضطجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حصير فأثّر الحصير في جنبه ، فلمّا استيقظ ، جعلت أمسح عنه ، وأقول : يا رسول الله ، ألا آذنتني قبل أن تنام على هذا الحصير ، فأبسط لك عليه شيئا يقيك منه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما لي وللدّنيا ، وما للدّنيا وما لي ما أنا والدّنيا إلّا كراكب استظلّ في فيء أو ظلّ شجرة ، ثمّ راح وتركها» (٥) انتهى ، وقد خرّجه التّرمذيّ ، وقال : حديث حسن صحيح ، و (سُقُفاً) جمع

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١٨٤) برقم : (٣٠٨٤١ ـ ٣٠٨٤٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٢٢) ، وعزاه إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٣)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ١٨٤) برقم : (٣٠٨٤٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٣) ، وابن كثير (٤ / ١٢٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٢٢) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم ، وابن المنذر عن ابن عبّاس ، ولعبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة ، وابن المنذر عن مجاهد.

(٤) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٦٠) كتاب «الزهد» باب : ما جاء في هوان الدنيا على الله عزوجل (٢٣٢٠) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٣ / ٢٥٣).

قال الترمذي : هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه.

(٥) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٨٨ ـ ٥٨٩) كتاب «الزهد» باب : (٤٤) (٢٣٧٧) ، وأحمد (١ / ٣٩١ ، ٤٤١) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٧٦) كتاب «الزهد» باب : مثل الدنيا (٤١٠٩) ، وأخرجه في «دلائل النبوة» (١ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٣١١) (١٠٤١٥) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٤ / ٢٣٤).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

قال أبو نعيم : غريب من عمرو وإبراهيم ، تفرد به المسعودي ، ورواه المعافي بن عمران ، ووكيع بن الجراح ، ويزيد بن هارون عن المسعودي مثله ، وحدث به جرير عن الأعمش عن إبراهيم ، وهو غريب. ـ

١٨٠