تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

كالخردلة ، فمنه يركّب ابن آدم (١) ، قال* ع (٢) * : وحفظ ما تنقص الأرض إنّما هو ليعود بعينه يوم القيامة ، وهذا هو الحقّ ؛ قال ابن عبّاس والجمهور : المعنى : ما تنقص من لحومهم وأبشارهم وعظامهم (٣) ، وقال السّدّيّ : (ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ) أي : ما يحصل في بطنها من موتاهم (٤) ، وهذا قول حسن مضمنه الوعيد ، والمريج : معناه المختلط ؛ قاله ابن زيد (٥) ، أي : بعضهم يقول : ساحر ، وبعضهم يقول : كاهن ، وبعضهم يقول : شاعر ، إلى غير ذلك من تخليطهم ، قال* ع (٦) * : والمريج : المضطرب أيضا ، وهو قريب من الأول ؛ ومنه مرجت عهودهم ، ومن الأوّل (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) [الفرقان : ٥٣].

ثم دلّ تعالى على العبرة بقوله : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ ...) الآية ، (وَزَيَّنَّاها) أي : بالنجوم ، والفروج : الفطور والشقوق خلالها وأثناءها ؛ قاله مجاهد وغيره (٧).

* ت* : وقال الثعلبي بأثر كلام للكسائيّ : يقول : كيف بنيناها بلا عمد ، وزيّنّاها بالنجوم ، وما فيها فتوق؟ (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي : بسطناها على وجه الماء ، انتهى ، والرواسي : الجبال ، والزوج : النوع ، والبهيج : الحسن المنظر ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (٨) ، والمنيب : الراجع إلى الحقّ عن فكرة ونظر ؛ قال قتادة (٩) : هو المقبل إلى الله تعالى ،

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٤١٤) كتاب «التفسير» باب : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ...) (٤٨١٤) ، (٨ / ٥٥٨) كتاب «التفسير» باب : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) (٤٩٣٥) ، ومسلم (٤ / ٢٢٧٠) كتاب «الفتن» باب : ما بين النفختين (١٤١ / ٢٩٥٥) ، وابن ماجه (٢ / ١٥٤) كتاب : «الزهد» ، باب : ذكر القبر والبلى (٤٢٦٦) ، ومالك (١ / ٢٣٩) كتاب «الجنائز» باب : جامع الجنائز (٤٨)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٥٦)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٠٧) برقم : (٣١٨٠٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٥٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٢٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١١٦) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٤٠٧) برقم : (٣١٨٠٣) عن قتادة ، وذكره البغوي (٤ / ٢٢٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٥٧)

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٤٠٨) برقم : (٣١٨١٣) ، وابن عطية (٥ / ١٥٧)

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٥٧)

(٧) أخرجه الطبري (١١ / ٤٠٩) برقم : (٣١٨١٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٥٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٢٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١١٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد.

(٨) أخرجه الطبري (١١ / ٤٠٩) برقم : (٣١٨١٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٥٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١١٦) ، وعزاه للطستي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

(٩) أخرجه الطبري (١١ / ٤١٠) برقم : (٣١٨١٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٥٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١١٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير.

٢٨١

وخصّ هذا الصنف بالذكر ؛ تشريفا لهم من حيث انتفاعهم بالتبصرة والذكرى ، (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) : البرّ ، والشعير ، ونحوه ممّا هو نبات محبّب يحصد ؛ قال أبو حيان (١) : (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) من إضافة الموصوف إلى صفته على قول الكوفيين ، أو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، أي : حب الزرع الحصيد على قول البصريين ، و (باسِقاتٍ) حال مقدّرة ؛ لأنّها حالة الإنبات ليست طوالا ، انتهى ، و (باسِقاتٍ) : معناه طويلات ذاهبات في السماء ، والطّلع أول ظهور التمر في الكفرّى ، قال البخاريّ : و (نَضِيدٌ) معناه : منضود بعضه على بعض ، انتهى ، ووصف البلدة بالميت على تقدير القطر والبلد.

ثم بيّن سبحانه موضع الشبه فقال : (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) يعني : من القبور ، وهذه الآيات كلها إنّما هي أمثلة وأدلّة على البعث ، (وَأَصْحابُ الرَّسِ) : قوم كانت لهم بئر عظيمة ، وهي الرسّ ، وكلّ ما لم يطو من بئر ، أو معدن ، أو نحوه فهو رسّ ، وجاءهم نبيّ / يسمّى حنظلة بن سفيان ـ فيما روي ـ فجعلوه في الرسّ وردموا عليه ، فأهلكهم الله ، وقال الضّحّاك : الرّسّ بئر قتل فيها صاحب «يس» (٢) ، وقيل : إنّهم قوم عاد ، والله أعلم.

وقوله : (كُلٌ) قال سيبويه : التقدير : كلّهم ، والوعيد الذي حقّ : هو ما سبق به القضاء من تعذيبهم.

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ)(١٧)

وقوله سبحانه : (أَفَعَيِينا) توقيف للكفار ، وتوبيخ ، والخلق الأوّل : إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج المعلوم ، وقال الحسن (٣) : الخلق الأول : آدم ، واللّبس : الشكّ والريب ، واختلاط النظر ، والخلق الجديد : البعث من القبور.

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ...) الآية : الإنسان : اسم جنس ، و (تُوَسْوِسُ) معناه : تتحدث في فكرتها ، والوسوسة إنّما تستعمل في غير الخير.

وقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) : عبارة عن قدرة الله على العبد ،

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ١٢١)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٤١٢) برقم : (٣١٨٣٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٥٨)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ١٥٩)

٢٨٢

وكون العبد في قبضة القدرة والعلم قد أحيط به ، فالقرب هو بالقدرة والسّلطان ، إذ لا ينحجب عن علم الله لا باطن ولا ظاهر ، والوريد : عرق كبير في العنق ، ويقال : إنّهما وريدان عن يمين وشمال.

وأمّا قوله تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) فقال المفسرون : العامل في إذ (أَقْرَبُ) ويحتمل عندي أن يكون العامل فيه فعلا مضمرا تقديره : اذكر إذ يتلقى المتلقيان ، و (الْمُتَلَقِّيانِ) : الملكان الموكّلان بكل إنسان ، ملك اليمين الذي يكتب الحسنات ، وملك الشمال الذي يكتب السيّئات ؛ قال الحسن : الحفظة أربعة : اثنان بالنهار ، واثنان بالليل (١) ، قال* ع (٢) * : ويؤيد ذلك الحديث الصحيح : «يتعاقبون فيكم ، ملائكة باللّيل وملائكة بالنّهار» (٣) الحديث / بكماله ، ويروى أنّ ملك اليمين أمير على ملك الشمال ، وأنّ العبد إذا أذنب يقول ملك اليمين للآخر : تثبّت ؛ لعلّه يتوب ؛ رواه إبراهيم التيمي ، وسفيان الثوري ، و (قَعِيدٌ) : معناه قاعد.

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)(٢٢)

وقوله سبحانه : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ...) الآية ، قال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : يكتب الملكان جميع الكلام ، فيثبت الله من ذلك الحسنات والسيئات ، ويمحو غير هذا (٤) ، وهذا هو ظاهر هذه الآية ، قال أبو الجوزاء ، ومجاهد : يكتبان عليه كلّ شيء حتى أنينه في مرضه (٥) ، وقال عكرمة : يكتبان الخير والشرّ فقط (٦) ؛ قال* ع (٧) * : والأوّل أصوب.

* ت* : وروى أبو الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «كلّ شيء يتكلّم به ابن آدم ، فإنّه مكتوب عليه ، إذا أخطأ خطيئة ، فأحبّ أن يتوب إلى الله ، فليأت ، فليمدّ يديه إلى الله

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤١٦) برقم : (٣١٨٦٣) عن ابن عبّاس ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٦٠)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٦٠)

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٤١٧) برقم : (٣١٨٦٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٦٠)

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٤١٧) برقم : (٣١٨٦٨) عن ابن زيد ، وذكره البغوي (٤ / ٢٢٢) ، وابن عطية (٥ / ١٦٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن المنذر عن مجاهد.

(٦) أخرجه الطبري (١١ / ٤١٦) برقم : (٣١٨٦٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٢٢) ، وابن عطية (٥ / ١٦٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١١٩) ، وعزاه لابن المنذر.

(٧) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٦٠)

٢٨٣

عزوجل ، ثمّ يقول : اللهمّ ، إنّي أتوب إليك منها ، لا أرجع إليها أبدا ، فإنّه يغفر له ما لم يرجع في عمله ذلك» رواه الحاكم في «المستدرك» ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، يعني البخاريّ ومسلما (١) ، انتهى من «السّلاح» ، قال النوويّ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ينبغي لكل مكلّف أن يحفظ لسانه من جميع الكلام إلّا كلاما تظهر فيه مصلحته ، ومتى استوى الكلام وتركه بالمصلحة فالسّنّة الإمساك ؛ فإنّه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه ، وهذا هو الغالب ، والسلامة لا يعدلها شيء ، وقد صحّعنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه البخاريّ ومسلم أنّه قال : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيرا أو ليصمت» (٢) وهو نصّ صريح فيما قلناه ، قال : وروّينا في «كتاب الترمذيّ» / و «ابن ماجه» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» قال الترمذيّ : حديث حسن (٣) ، وفيه عن عقبة بن عامر «قلت : يا رسول الله ، ما النجاة؟ قال : أمسك عليك لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك» قال الترمذيّ : حديث حسن (٤) ، وفيه عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من وقاه الله شرّ ما بين لحييه وشرّ ما بين رجليه ، دخل الجنّة» قال الترمذيّ : حديث حسن (٥) ، انتهى ، والرقيب : المراقب ، والعتيد : الحاضر.

__________________

(١) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (١ / ١٢٩) ، (٤ / ٢٦١).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٥٨) كتاب «الزهد» باب : (١١) (٢٣١٧) ، وابن ماجه (٢ / ١٣١٥ ـ ١٣١٦) كتاب «الفتن» باب : كف اللسان في الفتنة (٣٩٧٦) من حديث أبي هريرة.

قال الترمذي : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من هذا الوجه.

والحديث أخرجه أحمد (١ / ٢٠١) ، هذا اللفظ ، وله رواية أخرى بلفظ «من حسن إسلام المرء قلة الكلام فيما لا يعنيه» ، كلاهما من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨ / ٢١) : رواه أحمد ، والطبراني في الثلاثة ، ورجال أحمد و «الكبير» ثقات ، وعن زيد بن ثابت ، رواه الطبراني في «الصغير» وفيه محمّد بن كثير بن مروان وهو ضعيف.

(٤) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٠٥) كتاب «الزهد» باب : ما جاء في حفظ اللسان (٢٤٠٦) ، وأحمد (٥ / ٢٥٩) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٢ / ٩).

قال الترمذي : هذا حديث حسن.

(٥) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٠٦) كتاب «الزهد» باب : ما جاء في حفظ اللسان (٢٤٠٩) ، والحاكم (٤ / ٣٥٧) ، وابن حبان (١٣ / ٩ ـ ١٠) كتاب «الحظر والإباحة» باب : ما يكره من الكلام وما لا يكره ، ذكر البيان بأن من عصم من فتنة فمه وفرجه رجي له دخول الجنة (٥٧٠٣).

قال الترمذي : أبو حازم الذي روى عن أبي هريرة اسمه : سلمان مولى عزة الأشجعية وهو كوفي ، وأبو حازم الذي روى عن سهل بن سعد هو : أبو حازم الزاهد مدني ، واسمه : سلمة بن دينار ، وهذا حديث ـ

٢٨٤

وقوله : (وَجاءَتْ) عطف ، عندي ، على قوله : (إِذْ يَتَلَقَّى) فالتقدير : وإذ تجيء سكرة الموت.

* ت* : قال شيخنا ، زين الدين العراقيّ في أرجوزته : [الرجز]

وسكرة الموت اختلاط العقل

 ................

البيت. انتهى.

وقوله : (بِالْحَقِ) معناه : بلقاء الله ، وفقد الحياة الدنيا ، وفراق الحياة حقّ يعرفه الإنسان ، ويحيد منه بأمله ، ومعنى هذا الحيد أنّه يقول : أعيش كذا وكذا ، فمتى فكر حاد بذهنه وأمله إلى مسافة بعيدة من الزمان ، وهذا شأن الإنسان ، حتّى يفاجئه الأجل ؛ قال عبد الحقّ في «العاقبة» : ولمّا احتضر مالك بن أنس ، ونزل به الموت قال لمن حضره : ليعايننّ الناس غدا من عفو الله وسعة رحمته ما لم يخطر على قلب بشر ، كشف له ـ رضي الله عنه ـ عن سعة رحمة الله وكثرة عفوه وعظيم تجاوزه ما أوجب أن قال هذا ، وقال أبو سليمان الدارانيّ : دخلنا على عابد نزوره ، وقد حضره الموت ، وهو يبكي ، فقلنا له : ما يبكيك ـ رحمك الله؟! ـ فأنشأ يقول : [الطويل]

وحقّ لمثلي البكا عند موته

ومالي لا أبكي / وموتي قد اقترب

ولي عمل في اللّوح أحصاه خالقي

فإن لم يجد بالعفو صرت إلى العطب

انتهى ، و (يَوْمُ الْوَعِيدِ) : هو يوم القيامة ، والسائق : الحاثّ على السير ، واختلف الناس في السائق والشهيد ، فقال عثمان بن عفان وغيره : هما ملكان موكّلان بكل إنسان أحدهما يسوقه ، والآخر من حفظته يشهد عليه (١) ، وقال أبو هريرة : السائق : ملك ،

__________________

ـ حسن غريب.

وفي الباب من حديث عطاء بن يسار نحوه ، أخرجه مالك في «الموطأ» (٢ / ٩٨٧ ـ ٩٨٨) كتاب «الكلام» باب : ما جاء فيما يخاف من اللسان (١١).

وفي الباب من حديث سهل بن سعد ، أخرجه البخاري (١١ / ٣١٤) كتاب «الرقاق» باب : حفظ اللسان ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت (٦٤٧٤) ، (١٢ / ١١٥) كتاب «الحدود» باب : فضل من ترك الفواحش (٦٨٠٧) نحوه.

وفي الباب عن رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه أحمد (٥ / ٣٦٢)

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤١٨) برقم : (٣١٨٧١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٦١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٢٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٢٣) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في «الكنى» ، وابن مردويه ، والبيهقي في «البعث والنشور» ، وابن عساكر عن عثمان بن عفان.

٢٨٥

والشهيد : العمل (١) ، وقيل : الشهيد : الجوارح ، وقال بعض النظار : سائق اسم جنس وشهيد كذلك ، فالسّاقة للناس ملائكة موكّلون بذلك ، والشهداء : الحفظة في الدنيا ، وكل من يشهد.

وقوله سبحانه : (كُلُّ نَفْسٍ) يعمّ الصالحين وغيرهم ؛ فإنّما معنى الآية شهيد بخيره وشرّه ، ويقوى في شهيد اسم الجنس ، فتشهد الملائكة ، والبقاع والجوارح ؛ وفي الصحيح : «لا يسمع مدى صوت المؤذّن إنس ، ولا جنّ ، ولا شيء إلّا شهد له يوم القيامة» (٢).

وقوله سبحانه : (لَقَدْ كُنْتَ) قال ابن عبّاس وغيره : أي : يقال للكافر (٣) : لقد كنت في غفلة من هذا ، فلمّا كشف الغطاء عنك الآن احتدّ بصرك ، أي : بصيرتك ؛ وهذا كما تقول : فلان حديد الذّهن ونحوه ، وقال مجاهد (٤) : هو بصر العين ، أي : احتدّ التفاته إلى ميزانه ، وغير ذلك من أهوال القيامة.

والوجه عندي ، في هذه الآية ، ما قاله الحسن وسالم بن عبد الله (٥) : إنّها مخاطبة للإنسان ذي النفس المذكورة من مؤمن وكافر ، وهكذا ، قال الفخر (٦) : قال : والأقوى أن يقال : هو خطاب عامّ مع السامع ، كأنّه يقول : ذلك ما كنت منه تحيد أيّها السامع ، انتهى ، وينظر إلى معنى كشف / الغطاء قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النّاس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا» (٧).

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ١٦١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٢٣) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم في «الكنى» ، وابن مردويه ، والبيهقي.

(٢) أخرجه البخاري (٢ / ١٠٤) كتاب «الأذان» باب : رفع الصوت بالنداء (٦٠٩) ، (٦ / ٣٩٥) كتاب «بدء الخلق» باب : ذكر الجن وثوابهم وعقابهم (٣٢٩٦) ، (١٣ / ٥٢٨) كتاب «التوحيد» قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الماهر بالقرآن مع سفرة الكرام البررة ، وزينوا القرآن بأصواتكم» ، (٧٥٤٨) ، وابن ماجه (١ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠) كتاب «الأذان والسنة فيه» باب : فضل الأذان وثواب المؤذنين (٧٢٣) ، ومالك (١ / ٦٩) كتاب «الصلاة» باب : ما جاء في النداء للصلاة (٥) ، وابن خزيمة في «صحيحه» (١ / ٢٠٣) كتاب «الصلاة» باب : فضل الأذان ورفع الصوت به وشهادة من يسمعه من حجر ومدر وشجر وجن وإنس للمؤذن ، (٣٨٩) ، والحميدي (٢ / ٣٢١) ، (٧٣٢) ، وأحمد (٣ / ٦) كلهم عن أبي سعيد الخدري مع اختلاف يسير في اللفظ.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٢٠) برقم : (٣١٨٨٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٦٢) ، وابن كثير في تفسيره» (٤ / ٢٢٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٢٣) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

(٤) ذكره البغوي (٤ / ٢٢٣) ، وابن عطية (٥ / ١٦٢)

(٥) ذكره ابن عطية (٥ / ١٦٢)

(٦) ينظر : «تفسير الرازي» (١٤ / ١٤٢)

(٧) أورده الغزالي في «الإحياء» (٤ / ٢٣)

٢٨٦

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ)(٢٨)

وقوله تعالى : (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) قال جماعة من المفسرين : يعني قرينه من زبانية جهنم ، أي : قال هذا العذاب الذي لدي لهذا الكافر ، حاضر ، وقال قتادة وابن زيد (١) : بل قرينه الموكّل بسوقه ، قال* ع (٢) * : ولفظ القرين اسم جنس ، فسائقه قرين ، وصاحبه من الزبانية قرين ، وكاتب سيئاته في الدنيا قرين ، والكلّ تحتمله هذه الآية ، أي : هذا الذي أحصيته عليه عتيد لديّ ، وهو موجب عذابه ، والقرين الذي في هذه الآية غير القرين الذي في قوله : (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) إذ المقارنة تكون على أنواع.

وقوله سبحانه : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) المعنى : يقال : ألقينا في جهنّم ، واختلف لمن يقال ذلك ، فقال جماعة : هو قول لملكين من ملائكة العذاب.

وقال عبد الرحمن بن زيد (٣) : هو قول للسائق والشهيد.

وقال جماعة من أهل العلم باللغة : هذا جار على عادة كلام العرب الفصيح أن يخاطب الواحد بلفظ الاثنين ؛ وذلك أنّ العرب كان الغالب عندها أن يترافق في الأسفار ونحوها ثلاثة ، فكلّ واحد منهم يخاطب اثنين ، فكثر ذلك في أشعارها وكلامها ، حتّى صار عرفا في المخاطبة ، فاستعمل في الواحد ، ومن هذا قولهم في الأشعار : [من الطويل]

خليليّ

 ................ (٤)

__________________

ـ قال العجلوني في «كشف الخفاء ومزيل الإلباس» : هو من قول علي بن أبي طالب ، لكن عزاه الشعراني في «الطبقات» لسهل التّستري ، ولفظه في ترجمته ومن كلامه : الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا ، وإذا ماتوا ندموا ، وإذا ندموا لم تنفعهم ندامتهم ا ه.

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ١٦٢)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٦٣)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ١٦٣)

(٤) مطلع قصيدة لامرىء القيس ؛ وتمام البيت :

 ....... مرّا بي على أمّ جندب

نقضّي لبانات الفؤاد المعذّب

ينظر : «ديوانه» ص : (٤١)

٢٨٧

و

صاحبيّ ......

 ................ (١)

 [من الطويل]

قفانبك ....

 ................ (٢)

ونحوه.

وقال بعض المتأولين : المراد «ألقين» ، فعوّض من النون ألف ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن : «ألقيا» بتنوين الياء (٣) ، و «عنيد» معناه : عاند عن الحق ، أي : منحرف / عنه.

وقوله تعالى : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) لفظ عامّ للمال والكلام الحسن والمعاونة على الأشياء ، و (مُعْتَدٍ) معناه : بلسانه ويده.

__________________

(١) وجاء منه قول أبي تمام [الكامل] :

يا صاحبي تقضّيا نطريكما

تريا وجوه الروض كيف تصوّر

وجاء منه مخاطبة الصاحب بالمثنى كقول الشاعر :

وقلت لصاحبي لا تحبسانا

بنزع أصوله واجدزّ شيحا

البيت من الوافر ، وهو لمضرّس بن ربعي في «شرح شواهد الشافية» ص : (٤٨١) ، وله أو ليزيد بن الطثريّة في «لسان العرب» (٥ / ٣١٩ ـ ٣٢٠) (جزز) ، و «المقاصد النحوية» (٤ / ٥٩١) ، وبلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (٨ / ٨٥) ، و «خزانة الأدب» (١١ / ١٧) ، و «سر صناعة الإعراب» ص : (١٨٧) ، و «شرح الأشموني» (٣ / ٨٧٤) ، و «شرح شافية ابن الحاجب» (٣ / ٢٢٨) ، و «شرح المفصل» (١٠ / ٤٩) ، والصاحبي في «فقه اللغة» ص : (١٠٩ ، ٢١٨) ، و «لسان العرب» (٤ / ١٢٥) (جرر) ، و «المقرب» (٢ / ١٦٦) ، و «الممتع في التصريف» (١ / ٣٥٧)

(٢) مطلع قصيدة لامرىء القيس ، وتمام البيت :

 ...... من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول وحومل

ينظر : «ديوانه» ص : (٨) ، و «الأزهية» ص : (٢٤٤) ، و «جمهرة اللغة» ص : (٥٦٧) ، و «الجنى الداني» ص : (٦٣ ـ ٦٤) ، و «خزانة الأدب» (١ / ٣٣٢ ، ٣ / ٢٢٤) ، و «الدرر» (٦ / ٧١) ، و «سرّ صناعة الإعراب» (٢ / ٥٠١) ، و «شرح شواهد الشافية» ص : (٢٤٢) ، و «شرح شواهد المغني» (١ / ٤٦٣) ، و «الكتاب» (٤ / ٢٠٥) ، و «لسان العرب» (١٥ / ٢٠٩) (قوا) ، (٤٢٨) ، و «مجالس ثعلب» ص : (١٢٧) ، و «همع الهوامع» (٢ / ١٢٩) ، وبلا نسبة في «الإنصاف» (٢ / ٦٥٦) ، و «أوضح المسالك» (٣ / ٣٥٩) ، و «جمهرة اللغة» ص : (٥٨٠) ، و «خزانة الأدب» (١١ / ٦) ، و «الدرر» (٦ / ٨٢) ، و «رصف المباني» ص : (٣٥٣) ، و «شرح الأشموني» (٢ / ٤١٧) ، و «شرح شافية ابن الحاجب» (٢ / ٣١٦) ، و «شرح قطر الندى» ص : (٨٠) ، والصاحبي في «فقه اللغة» ص : (١١٠) ، و «مغني اللبيب» (١ / ١٦١ ، ٢٦٦) ، و «المنصف» (١ / ٢٢٤) ، و «همع الهوامع» (٢ / ١٣١)

(٣) ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٤٥) ، و «المحتسب» (٢ / ٢٨٤) ، و «الكشاف» (٤ / ٣٨٧) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ١٦٤) ، و «البحر المحيط» (٨ / ١٢٥) ، و «الدر المصون» (٦ / ١٧٨)

٢٨٨

وقوله سبحانه : (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ ...) الآية ، يحتمل أن يكون (الَّذِي) بدلا من (كَفَّارٍ) ، أو صفة له ، ويقوى عندي أن يكون (الَّذِي) ابتداء ويتضمن القول حينئذ بني آدم والشياطين المغوين لهم في الدنيا ، ولذلك تحرّك القرين ، الشيطان المغوي ، فرام أن يبرىء نفسه ويخلصها بقوله : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ).

وقوله : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) ليست بحجة ؛ لأنّه كذب أن نفى الإطغاء عن نفسه جملة ، وهو قد أطغاه بالوسوسة والتزيين ، وأطغاه الله بالخلق والاختراع حسب سابق قضائه الذي هو عدل منه ، سبحانه لا ربّ غيره.

وقوله سبحانه : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) معناه : قال الله : لا تختصموا لديّ بهذا النوع من المقاولة التي لا تفيد شيئا (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) وهو ما جاءت به الرسل والكتب ، وجمع الضمير ؛ لأنّه مخاطبة لجميع القرناء ؛ إذ هو أمر شائع لا يقف على اثنين فقط.

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)(٣١)

وقوله سبحانه : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي : لا ينقض ما أبرمه كلامي من تعذيب الكفرة ، ثم أزال سبحانه موضع الاعتراض بقوله : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي : هذا عدل فيهم ؛ لأنّي أنذرت ، وأمهلت ، وأنعمت ، وقرأ الجمهور : «يوم نقول» بالنون ، وقرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر بالياء ، وهي قراءة أهل المدينة (١) ، قال* ع (٢) * : والذي يترجّح في قول جهنم : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أنّها حقيقة ، وأنّها قالت ذلك ، وهي غير ملأى ، وهو قول أنس بن مالك ، ويبين ذلك الحديث الصحيح ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله لجهنّم : هل امتلأت؟ وتقول : هل من مزيد؟! حتّى يضع الجبّار فيها قدمه ، فتقول : قط قط ، وينزوي بعضها إلى بعض» (٣) ولفظ البخاريّ عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٦٠٧) ، و «الحجة» (٦ / ٢١٣) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٢٧) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١٧) ، و «العنوان» (١٧٩) ، و «حجة القراءات» (٦٧٨) ، و «شرح شعلة» (٥٨٨) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٨٩)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٦٥)

(٣) أخرجه البخاري (١١ / ٥٥٤) كتاب «الأيمان والنذور» باب : الحلف بعزة الله وصفاته وكلماته ، برقم :

(٦٦٦١) ، ومسلم (٤ / ٢١٨٧) كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» : باب : النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (٣٧ ، ٣٧ ـ ٣٨ / ٢٨٤٨) ، والترمذي (٥ / ٣٩٠) كتاب «تفسير القرآن» باب : ومن سورة ق (٣٢٧٢) ، وأحمد (٣ / ١٣٤ ، ١٤١ ، ٢٢٩ ، ٢٣٠ ، ٢٣٤) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٥ / ١٢٧)

٢٨٩

تحاجّت الجنّة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبّرين والمتجبّرين ، وقالت الجنّة : ما لي ، لا يدخلني إلّا ضعفاء الناس وسقطهم؟! فقال الله للجنّة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنّار : إنّما أنت عذابي أعذّب بك من أشاء من عبادي ، ولكلّ واحدة منهما ملؤها ، فأمّا النار فلا تمتلىء حتّى يضع [الجبّار فيها قدمه] (١) فتقول : قط قط ، فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله عزوجل من خلقه أحدا ، وأمّا الجنّة فإنّ الله ينشىء لها خلقا» (٢) انتهى ، قال* ع (٣) * : ومعنى : «قدمه» ما قدّم لها من خلقه وجعلهم في علمه ساكنيها ؛ ومنه : (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [يونس : ٢] وملاك النظر في هذه الحديث أنّ الجارحة ، والتشبيه ، وما جرى مجراه ـ منتف كلّ ذلك عن الله سبحانه ، فلم يبق إلّا إخراج اللفظ على الوجوه السائغة في كلام العرب.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) معناه : قرّبت ، ولما احتمل أن يكون معناه بالوعد والإخبار رفع الاحتمال بقوله : (غَيْرَ بَعِيدٍ) قال أبو حيان (٤) : (غَيْرَ بَعِيدٍ) أي : مكانا غير بعيد ؛ فهو منصوب على الظرف ، وقيل : منصوب / على الحال من الجنة ، انتهى.

(هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(٣٧)

وقوله سبحانه : (هذا ما تُوعَدُونَ) يحتمل أن يكون معناه : يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة : هذا الذي كنتم توعدون به في الدنيا ، ويحتمل أن يكون خطابا للأمّة ؛ أي : هذا ما توعدون أيّها الناس (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) : والأوّاب : الرّجّاع إلى الطاعة وإلى مراشد

__________________

(٢٥٥١) عن أنس بن مالك نحوه.

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

(١) سقط في : د.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٤٦٠) كتاب «التفسير» باب : وتقول هل من مزيد (٤٨٥٠) ، ومسلم (٤ / ٢١٨٦ ـ ٢١٨٧) كتاب «الجنة وصفة نعيمها» باب : النار يدخلها الجبارون ، والجنة يدخلها الضعفاء (٣٥ ـ ٣٦ / ٢٨٤٦) ، (٢٨٤٧) نحوه ، والنسائي (٤ / ٤١٤ ـ ٤١٥) كتاب «النعوت» باب : قوله : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ، (٧٧٤٠ / ٨) ، وابن حبان (١٦ / ٤٨٢) كتاب «إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مناقب الصحابة» باب : وصف الجنة وأهلها (٧٤٤٧)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٦٥)

(٤) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ١٢٦)

٢٩٠

نفسه ، وقال ابن عبّاس وعطاء (١) : الأوّاب : المسبّح ؛ من قوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١٠] وقال المحاسبيّ (٢) : هو الراجع بقلبه إلى ربه ، وقال عبيد بن عمير (٣) : كنّا نتحدث أنّه الذي إذا قام من مجلسه استغفر الله ممّا جرى في ذلك المجلس ، وكذلك كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل (٤) ، والحفيظ معناه : لأوامر الله ، فيمتثلها ، ولنواهيه فيتركها ، وقال ابن عبّاس (٥) : حفيظ لذنوبه حتّى يرجع عنها ، والمنيب : الراجع إلى الخير المائل إليه ؛ قال الدّاووديّ (٦) : وعن قتادة (بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) قال : مقبل على الله سبحانه ، انتهى.

وقوله سبحانه : (ادْخُلُوها) أي : يقال لهم : ادخلوها.

وقوله عزوجل : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) خبر بأنّهم يعطون آمالهم أجمع ، ثم أبهم تعالى الزيادة التي عنده للمؤمنين المنعّمين ، وكذلك هي مبهمة في قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] وقد فسر ذلك الحديث الصحيح ، وهو قوله ـ عليه‌السلام ـ : «يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصّالحين : ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، بله ما اطّلعتم عليه (٧) قال* ع (٨) * : وقد ذكر الطبريّ وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديث مطولة ، وأشياء ضعيفة ؛ لأنّ / الله تعالى يقول : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ) وهم يعينونها تكلفا وتعسفا.

وقوله تعالى : (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي : ولجوا البلاد من أنقابها ؛ طمعا في النجاة من الهلاك (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي : لا محيص لهم ، وقرأ ابن عبّاس وغيره : «فنقّبوا» على

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٢٨) برقم : (٣١٩٢٦) عن ابن عبّاس ، وذكره البغوي (٤ / ٢٢٥) ، وابن عطية (٥ / ١٦٦)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ١٦٦)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ١٦٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٢٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٢٦) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن المنذر.

(٤) ذكره الهندي في «كنز العمال» (٧ / ١٥٣) برقم : (١٨٤٧٨) ، وعزاه إلى ابن السني عن عبد الله الحضرمي.

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٤٢٨) برقم : (٣١٩٣٣) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٢٥) ، وابن عطية (٥ / ١٦٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٢٦) ، وعزاه لابن جرير ، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن التميمي.

(٦) أخرجه الطبري (١١ / ٤٢٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٢٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر.

(٧) تقدم.

(٨) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٦٦)

٢٩١

الأمر لهؤلاء الحاضرين (١).

* ت* : وعبارة البخاريّ «فنقّبوا» : ضربوا (٢) ، وقال الداوديّ : وعن أبي عبيدة (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) : طافوا ، وتباعدوا ، انتهى.

وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) يعني : إهلاك من مضى (لَذِكْرى) أي : تذكرة ، والقلب عبارة عن العقل ؛ إذ هو محلّه ، والمعنى : لمن كان له قلب واع ينتفع به ، وقال الشبليّ : معناه : قلب حاضر مع الله ، لا يغفل عنه طرفة عين.

وقوله تعالى : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) معناه : صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة ، وأثبته في سماعها (وَهُوَ شَهِيدٌ) قال بعض المتأولين : معناه : وهو مشاهد مقبل على الأمر ، غير معرض ولا مفكّر في غير ما يسمع.

* ت* : ولفظ البخاريّ (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي : لا يحدث نفسه بغيره (شَهِيدٌ) أي : شاهد بالقلب ، انتهى ، قال المحاسبيّ في «رعايته» : وقد أحببت أن أحضّك على حسن الاستماع ؛ لتدرك به الفهم عن الله عزوجل في كلّ ما دعاك إليه ؛ فإنّه تعالى أخبرنا في كتابه أنّ من استمع كما يحبّ الله تعالى ويرضى ، كان له فيما يستمع إليه ذكرى ، يعني : اتعاظا ، وإذا سمّى الله عزوجل لأحد من خلقه شيئا فهو له كما سمّى ، وهو واصل إليه كما أخبر ؛ قال عزوجل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) قال مجاهد (٣) : شاهد القلب ، لا يحدّث نفسه بشيء ليس بغائب القلب ، فمن استمع إلى كتاب الله عزوجل ، أو إلى حكمة ، أو إلى علم ، أو إلى عظة ، لا يحدّث نفسه بشيء غير ما يستمع إليه ، قد أشهد قلبه ما استمع إليه ، يريد الله ـ عزوجل به ـ : كان له فيه ذكرى ؛ لأنّ الله تعالى قال ذلك ، فهو كما قال عزوجل ، انتهى كلام المحاسبيّ ، وهو درّ نفيس ، فحصّله ، واعمل به ترشد ، وقد وجدناه ، كما قال ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) وقرأ بها أبو العالية ، ويحيى بن يعمر ، ونصر بن سيار.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٢٨٥) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ١٦٧) ، و «البحر المحيط» (٨ / ١٢٧) ، وزاد نسبتها إلى أبي حيوة ، والأصمعي عن أبي عمرو. وهي في «الدر المصون» (٦ / ١٨١)

(٢) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٤٥٨) ، تفسير سورة (ق)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٣٣) برقم : (٣١٩٥٢) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٢٩) ، وعزاه للفريابي ، وابن جرير.

٢٩٢

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ)(٤٠)

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) الآية : خبر مضمّنه الرّدّ على اليهود الذين قالوا : إنّ الله خلق الأشياء كلها ، ثم استراح يوم السبت ، فنزلت : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) واللّغوب : الإعياء والنّصب.

وقوله تعالى : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي : ما يقوله الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم ، وعمّ بذلك جميع الأقوال الزائغة من قريش وغيرهم (وَسَبِّحْ) معناه : صلّ بإجماع من المتأولين.

* ت* : وفي الإجماع نظر ؛ وقد قال الثعلبيّ (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : قل سبحان الله والحمد لله ؛ قاله عطاء الخراسانيّ ، انتهى ، ولكن المخرّج في الصحيح إنما هو أمر الصلاة ، وقال ابن العربيّ في «أحكامه» (١) : قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) فيه أربعة أقوال :

أحدها : أنّه تسبيح الله في اللّيل ، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح : «من تعارّ من اللّيل فقال : لا إله إلّا الله» (٢) الحديث ، وقد ذكرناه في سورة «المزمل».

والثاني : أنّها صلاة الليل.

والثالث : أنّها ركعتا الفجر.

/ والرابع : أنّها صلاة العشاء الآخرة ، انتهى.

وقوله : (بِحَمْدِ رَبِّكَ) الباء للاقتران ، أي : سبّح سبحة يكون معها حمد ، و (قَبْلَ

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٤ / ١٧٢٧)

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٤٨) كتاب «التهجد» باب : فضل من تعارّ من الليل فصلّى (١١٥٤) ، وأبو داود (٢ / ٧٣٤) ، كتاب «الأدب» باب : ما يقول الرجل إذا تعار من الليل (٥٠٦٠) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٧٦) كتاب «الدعاء» باب : ما يدعو به إذا انتبه من الليل (٣٨٧٨) ، والترمذي (٥ / ٤٨٠) ، كتاب «الدعوات» باب : ما جاء في الدعاء إذا انتبه من الليل (٣٤١٤) ، وأحمد (٥ / ٣١٣) ، والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٢١٥) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب : ما يقول إذا انتبه من منامه (١٠٦٩٧ / ٩) ، وابن حبان (٦ / ٣٣١) كتاب

«الصلاة» باب : فصل في قيام الليل (٢٥٩٦).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب.

٢٩٣

وقوله : (بِحَمْدِ رَبِّكَ) الباء للاقتران ، أي : سبّح سبحة يكون معها حمد ، و (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) هي الصبح ، (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) : هي العصر ؛ قاله ابن زيد والناس (١) ، وقال ابن عبّاس (٢) : الظهر والعصر ، (وَمِنَ اللَّيْلِ) : هي صلاة العشاءين ، وقال ابن زيد (٣) : هي العشاء فقط ، وقال مجاهد (٤) : هي صلاة الليل.

وقوله : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) قال عمر بن الخطاب وجماعة (٥) : هي الرّكعتان بعد المغرب ، وأسنده الطبريّ عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦) قال* ع (٧) * : كأنّه روعي أدبار صلاة النهار ، كما روعي أدبار النجوم في صلاة الليل ، وقال ابن عبّاس أيضا ، وابن زيد ، ومجاهد (٨) : هي النوافل إثر الصلوات ، وهذا جار مع لفظ الآية ، وقرأ نافع ، وابن كثير ، وحمزة : «وإدبار» بكسر الهمزة ، وهو مصدر ، وقرأ الباقون بفتحها ، وهو جمع دبر ؛ كطنب وأطناب (٩) ، أي : وفي أدبار السجود ، أي : في أعقابه.

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ)(٤٥)

وقوله سبحانه : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) واستمع بمنزلة : وانتظر ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٣٥) برقم : (٣١٩٧٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٦٨)

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٢٢٦) ، وابن عطية (٥ / ١٦٨)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٣٥) برقم : (٣١٩٧١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٦٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣٠) ، وعزاه لابن جرير.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٤٣٥) برقم : (٣١٩٧٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٢٧) ، وابن عطية (٥ / ١٦٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣٠) ، وعزاه لابن جرير.

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٤٣٦) برقم : (٣١٩٧٥) عن علي رضي الله عنه ، وذكره البغوي (٤ / ٢٢٧) ، وابن عطية (٥ / ١٦٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٣٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣١) ، وعزاه لابن المنذر ، ومحمّد بن نصر.

(٦) أخرجه الطبري (١١ / ٤٣٧) برقم : (٣١٩٨٥)

(٧) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٦٩)

(٨) أخرجه الطبري (١١ / ٤٣٨) برقم : (٣١٩٩٧) عن ابن زيد ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٦٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣٠) ، وعزاه لابن جرير.

(٩) ينظر : «الحجة» (٦ / ٢١٣) ، و «السبعة» (٦٠٧) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٢٧) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١٧) ، و «حجة القراءات» (٦٧٨) ، و «العنوان» (١٧٩) ، و «شرح شعلة» (٥٨٨) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٨٩)

٢٩٤

وكذا ، أي : كن منتظرا له ، مستمعا له ، فعلى هذا فنصب «يوم» إنّما هو على المفعول الصريح.

وقوله سبحانه : (مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) قيل : وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ ملكا ينادي من السّماء : أيّتها الأجسام الهامدة ، والعظام البالية ، ـ والرّمم الذّاهبة ـ هلمّي إلى الحشر والوقوف بين يدي الله عزوجل» والصيحة : / هي صيحة المنادي ، والخروج : هو من القبور ، ويومه هو يوم القيامة ، ويوم الخروج في الدنيا : هو يوم العيد.

وقوله تعالى : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) : معادل لقول الكفرة : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) [ق : ٣].

وقوله سبحانه : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) وعيد محض للكفرة.

وقوله سبحانه : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) قال الطبري وغيره (١) : معناه : وما أنت عليهم بمسلّط ، تجبرهم على الإيمان.

وقال قتادة (٢) : هو نهي من الله تعالى عن التجبر ، والمعنى : وما أنت عليهم بمتعظم من الجبروت ، وروى ابن عبّاس أنّ المؤمنين قالوا : يا رسول الله ، لو خوّفتنا! فنزلت : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٣).

__________________

(١) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٤٣٩)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٤٤٠) برقم : (٣٢٠٠٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٣١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٧٢) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٤٠) برقم : (٣٢٠٠٥) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣٢)

٢٩٥

تفسير سورة «الذّاريات»

وهي مكّيّة بإجماع المفسّرين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ)(٧)

قوله عزوجل : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ...) الآية ، أقسم الله عزوجل بهذه المخلوقات ؛ تنبيها عليها ، وتشريفا لها ، ودلالة على الاعتبار فيها ، حتّى يصير الناظر فيها إلى توحيد الله عزوجل ، فقوله : (وَالذَّارِياتِ) : هي الرياح بإجماع و (ذَرْواً) نصب على المصدر ، و (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) قال عليّ : هي السحاب ، وقال ابن عبّاس وغيره (١) : هي السفن الموقورة بالناس وأمتعتهم ، وقال جماعة من العلماء : هي أيضا مع هذا جميع الحيوان الحامل ، وفي جميع ذلك معتبر ، و (فَالْجارِياتِ يُسْراً) قال عليّ وغيره (٢) : هي السفن في البحر ، وقال آخرون : هي السحاب ، وقال آخرون : هي الكواكب ؛ قال* ع (٣) * : واللفظ يقتضي جميع هذا ، و (يُسْراً) نعت لمصدر محذوف ، وصفات / [المصادر المحذوفة تعود أحوالا ، و (يُسْراً) معناه : بسهولة و «المقسّمات أمرا» : الملائكة ، والأمر هنا : اسم جنس ، فكأنّه قال : والجماعات التي تقسم أمور الملكوت ، من الأرزاق ، والآجال ، والخلق في الأرحام ، وأمر الرياح والجبال ، وغير ذلك ؛ لأنّ كلّ هذا إنّما هو بملائكة تخدمه ، وأنّث «المقسمات» من حيث أراد الجماعات ، وهذا القسم واقع على قوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٤٢) برقم : (٣٢٠٢١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٣١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣٣) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، والحارث بن أبي أسامة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في «المصاحف» ، والحاكم وصححه.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ١٧١)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٧١)

٢٩٦

لَصادِقٌ ...) الآية ، و (تُوعَدُونَ) يحتمل أن يكون من الوعد ، ويحتمل أن يكون من الإيعاد ، وهو أظهر ، و (الدِّينَ) : الجزاء ، وقال مجاهد : الحساب (١).

ثم أقسم تعالى بمخلوق آخر ، فقال : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) والحبك : الطرائق التي هي على نظام في الأجرام ، ويقال لما تراه من الطرائق في الماء والرمال إذا أصابته الريح : حبك ، ويقال لتكسّر الشعر : حبك ، وكذلك في المنسوجات من الأكسية وغيرها طرائق في موضع تداخل الخيوط هي حبك ؛ وذلك لجودة خلقة السماء ؛ ولذلك فسّرها ابن عبّاس وغيره (٢) بذات الخلق الحسن وقال الحسن (٣) : حبكها كواكبها.

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ)(١٢)

وقوله سبحانه : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) يحتمل أن يكون خطابا لجميع الناس ، أي : منكم مؤمن بمحمّد ، ومنكم مكذّب له ، وهو قول قتادة (٤) ، ويحتمل أن يكون خطابا للكفرة فقط ؛ لقول بعضهم : شاعر ، وبعضهم : كاهن ، وبعضهم : ساحر ، إلى غير ذلك ؛ وهذا قول ابن زيد (٥).

و (يُؤْفَكُ) معناه : يصرف ، أي : يصرف من الكفار عن كتاب الله من صرف ممّن غلبت عليه شقاوته ، وعرف الاستعمال في «أفك» إنّما هو في الصرف من خير إلى شرّ.

وقوله تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) دعاء عليهم ؛ كما تقول : قاتلك الله ، وقال بعض المفسرين. معناه : لعن الخرّاصون ، وهذا تفسير لا يعطيه اللفظ.

* ت* : والظاهر ما قاله هذا المفسّر ؛ قال عياض في «الشفا» وقد يقع القتل بمعنى اللعن ؛ قال الله تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) و (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [المنافقون : ٤]

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٤٤) برقم : (٣٢٠٣٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٢)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٤٤٥) برقم : (٣٢٠٤٠) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٢٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٣٢)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٤٥) برقم : (٣٢٠٥٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٢٩) ، وابن عطية (٥ / ١٧٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٣٢)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٤٤٦) برقم : (٣٢٠٦٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٣٢)

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٤٤٦) برقم : (٣٢٠٦١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٣)

٢٩٧

أي : لعنهم الله ، انتهى ، وقد تقدّم للشيخ عند قوله تعالى : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) [الفتح : ٦] قال : كلّ ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عزوجل ، فإنّما هو بمعنى إيجاب الشيء ؛ لأنّ الله تعالى لا يدعو على مخلوقاته ، انتهى بلفظه ، وظاهره مخالف لما هنا ، وسيبينه في «سورة البروج» ، والخرّاص : المخمّن القائل بظنّه ، والإشارة إلى مكذّبي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والغمرة : ما يغشى الإنسان ويغطيه ؛ كغمرة الماء ، و (ساهُونَ) معناه : عن وجوه النظر.

وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي : يوم الجزاء ، وذلك منهم على جهة الاستهزاء.

(يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ)(١٧)

وقوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) قال الزّجّاج (١) : التقدير : هو كائن يوم هم على النار يفتنون ، و (يُفْتَنُونَ) معناه : يحرقون ويعذّبون في النار ؛ قاله ابن عبّاس والناس (٢) ، وفتنت الذهب أحرقته ، و (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي : حرقكم وعذابكم ؛ قاله قتادة وغيره (٣).

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ...) الآية ، روى الترمذيّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يبلغ العبد أن يكون من المتّقين ، حتّى يدع ما لا بأس به ؛ حذرا لما به البأس» قال أبو عيسى : هذا حديث حسن (٤) ، انتهى ، وقوله سبحانه في المتقين : (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي : محصّلين ما أعطاهم ربّهم سبحانه من جناته ، ورضوانه ، وأنواع كراماته (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) : يريد في الدنيا (مُحْسِنِينَ) : بالطاعات] والعمل الصالح.

__________________

(١) ينظر : «معاني القرآن» (٥ / ٥٢)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٤٤٩) برقم : (٣٢٠٧٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٣٢)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٥٠) برقم : (٣٢٠٩٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٤)

(٤) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٣٤) كتاب «صفة القيامة» باب : (٩) (٢٤٥١) ، وابن ماجه (٢ / ١٤٠٩) كتاب «الزهد» باب : الورع والتقوى (٤٢١٥) ، والبيهقي (٥ / ٣٣٥) كتاب «البيوع» باب : كراهية مبايعة من أكثر ماله من الربا أو ثمن المحرم ، والطبراني (١٧ / ١٦٩) ، (٤٤٦) ، والحاكم (٤ / ٣١٩).

قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

٢٩٨

* ت* : وروى التّرمذيّ عن سعد بن أبي وقّاص ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أنّ ما يقلّ ظفر ممّا في الجنّة بدا لتزخرف له ما بين خوافق السّموات والأرض ، ولو أنّ رجلا من أهل الجنّة اطّلع ، فبدأ أساوره ، لطمس ضوء الشّمس ؛ كما تطمس الشّمس ضوء النّجوم» (١) انتهى ، ومعنى قوله : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أنّ نومهم كان قليلا ؛ لاشتغالهم بالصلاة والعبادة ، والهجوع : النوم ، وقد قال الحسن في تفسير هذه الآية : كابدوا قيام الليل ، لا ينامون منه إلّا قليلا (٢) ، وأمّا إعراب الآية فقال الضّحّاك في كتاب الطبريّ : ما يقتضي أنّ المعنى : كانوا قليلا في عددهم ، وتمّ خبر «كان» ، ثم ابتدأ (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) فما نافية و (قَلِيلاً) وقف حسن ، وقال جمهور النحويين : ما مصدريّة و (قَلِيلاً) خبر كان ، والمعنى : كانوا قليلا من الليل هجوعهم ، وعلى هذا الإعراب يجيء قول الحسن وغيره ، وهو الظاهر عندي أنّ المراد كان هجوعهم من الليل قليلا ؛ قيل لبعض التابعين : مدح الله قوما (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) ونحن قليلا من الليل ما نقوم! فقال : رحم الله امرأ رقد إذا نعس ، وأطاع ربّه إذا استيقظ.

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(٢١)

وقوله تعالى : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) قال الحسن (٣) : معناه : يدعون في طلب المغفرة ، ويروى أنّ أبواب الجنة تفتح سحر كلّ ليلة ، قال ابن زيد (٤) : السّحر : السّدس الآخر من الليل ، والباء في قوله (بِالْأَسْحارِ) بمعنى في ؛ قاله أبو البقاء ، انتهى ، ومن كلام [ابن] الجوزي في «المنتخب» : يا أخي ، علامة المحبّة طلب الخلوة بالحبيب ، وبيداء اللّيل / فلوات الخلوات ، لمّا ستروا قيام الليل في ظلام الدّجى ؛ غيرة أن يطّلع الغير عليهم ـ سترهم سبحانه بستر ـ ، (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] ، لمّا صفت خلوات الدّجى ، ونادى أذان الوصال : أقم فلانا ، وأنم فلانا ـ خرجت بالأسماء

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٧٨) ، كتاب «صفة الجنة» باب : ما جاء في صفة أهل الجنة ، وأحمد (١ / ١٧١) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (٦ / ٢٠٨) (٢١٩٠) ، وابن المبارك في «الزهد» (٢ / ١٢٦) (٤١٦).

قال الترمذي : هذا الحديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من حديث ابن لهيعة.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٤٥٣) برقم : (٣٢١١٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢٢٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣٤) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن جرير.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٤٥٦) برقم : (٣٢١٤٠) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٣٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٣٥) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن نصر ، وابن جرير ، وابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٤٥٦) برقم : (٣٢١٤٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٥)

٢٩٩

الجرائد ؛ وفاز الأحباب بالفوائد ، وأنت غافل راقد. آه لو كنت معهم! أسفا لك! لو رأيتهم لأبصرت طلائع الصّدّيقين في أول القوم ، وشاهدت ساقة المستغفرين في الرّكب ، وسمعت استغاثة المحبّين في وسط الليل ، لو رأيتهم يا غافل ، وقد دارت كؤوس المناجاة ؛ بين مزاهر التلاوات ، فأسكرت قلب الواجد ، ورقمت في مصاحف الوجنات. تعرفهم بسيماهم ، يا طويل النوم ، فاتتك مدحة (تَتَجافى) [السجدة : ١٦] ، وحرمت منحة (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) [آل عمران : ١٧] ، يا هذا ، إنّ لله تعالى ريحا تسمّى الصّبيحة مخزونة تحت العرش ، تهبّ عند الأسحار ، فتحمل الدعاء والأنين والاستغفار إلى حضرة العزيز الجبّار ، انتهى.

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ ...) الآية ، الصحيح أنّها محكمة وأنّ هذا الحق هو على وجه الندب ، و (مَعْلُومٌ) [المعارج : ٢٤] يراد به : متعارف ، وكذلك قيام الليل الذي مدح به ليس من الفرائض ، وأكثر ما تقع الفضيلة بفعل المندوبات ، والمحروم هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه ، فيناله حرمان وفاقة ، وهو مع ذلك لا يسأل ، فهذا هو الذي له حقّ في أموال الأغنياء ، كما للسائل حقّ ، وما وقع من ذكر الخلاف فيه فيرجع إلى هذا ، وبعد هذا محذوف تقديره : فكونوا / أيّها الناس مثلهم وعلى طريقهم ، (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ) : لمن اعتبر وأيقن.

وقوله سبحانه : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) إحالة على النظر في شخص الإنسان ، وما فيه من العبر ، وأمر النفس ، وحياتها ، ونطقها ، واتصال هذا الجزء منها بالعقل ؛ قال ابن زيد : إنّما القلب مضغة في جوف ابن آدم ، جعل الله فيه العقل ، أفيدري أحد ما ذلك العقل ، وما صفته ، وكيف (١) هو.

* ت* : قال ابن العربيّ في رحلته : اعلم أنّ معرفة العبد نفسه من أولى ما عليه وآكده ؛ إذ لا يعرف ربّه إلّا من عرف نفسه ؛ قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) وغير ما آية في ذلك ، ثم قال : ولا ينكر عاقل وجود الرّوح من نفسه ، وإن كان لم يدرك حقيقته ، كذلك لا يقدر أن ينكر وجود الباري سبحانه الذي دلّت أفعاله عليه ، وإن لم يدرك حقيقته ، انتهى.

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(٢٣)

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٤٦٠) برقم : (٣٢١٧٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٧٥)

٣٠٠