تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

هو زناد العرب ، والنار موجودة في كلّ عود غير أنّها في المتخلخل المفتوح المسامّ أوجد ، وكذلك هو المرخ والعفار ، وجمع الضمير جمع من يعقل في قوله : (مِثْلَهُمْ) ؛ من حيث إن السموات والأرض متضمّنة من يعقل من الملائكة والثّقلين ؛ هذا تأويل جماعة ، وقيل : (مِثْلَهُمْ) عائد على الناس ، وباقي الآية بيّن.

٢١

تفسير سورة «الصافّات»

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (٣) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (٦) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (٧) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (٨) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ)(١٠)

قوله عزوجل : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) الآية ، أقسم تعالى في هذه الآية بأشياء من مخلوقاته ، قال ابن مسعود وغيره : «الصافات» هي الملائكة تصفّ في السماء في عبادة الله عزوجل (١).

وقالت فرقة : المراد : صفوف بني آدم في القتال في سبيل الله ، قال* ع (٢) * : واللفظ يحتمل أن يعمّ هذه المذكورات كلّها ، قال مجاهد : «والزاجرات» هي الملائكة تزجر السحاب وغير ذلك من مخلوقات الله تعالى (٣) ، وقال قتادة : «الزاجرات» هي آيات القرآن (٤) ، و (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) معناه : القارئات ، قال مجاهد : أراد الملائكة التي تتلو ذكره (٥) ،

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٦٧) عن مسروق برقم : (٢٩٢٤٧) وعن عبد الله (٢٩٢٤٨) ، وعن قتادة برقم : (٢٩٢٤٩) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٢) عن ابن عبّاس والحسن وقتادة ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٠) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن مسعود.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٦٥)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٦٧) برقم : (٢٩٢٥٢) عن مجاهد وبرقم : (٢٩٢٥٣) عن السدي ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥) عنهما ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٢) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٠) ، وعزاه لابن المنذر ، وأبي الشيخ في «العظمة» عن ابن عبّاس.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٦٨) برقم : (٢٩٢٥٤) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٢) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥) ، وابن كثير (٤ / ٢) عن الربيع بن أنس ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٠) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٦٨) برقم : (٢٩٢٥٥) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٢) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥)

٢٢

وقال قتادة : أراد بني آدم الذين يتلون كتبه المنزلة وتسبيحه وتكبيره ونحو ذلك (١) ، والمقسم عليه : قوله : (إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ).

وقوله : (مارِدٍ) قال العراقيّ : مارد سخط عليه ، وهكذا (مَرِيدٍ) [الحج : ٣] انتهى ؛ وهذا لفظه ، والملأ الأعلى : أهل السّماء الدنيا فما فوقها ، وسمّي الكلّ منهم أعلى ؛ بالإضافة إلى ملإ الأرض الذي هو أسفل ، والضمير في (يَسَّمَّعُونَ) للشياطين ، وقرأ حمزة ، وعاصم في رواية حفص : «لا يسّمّعون» ، ـ بشد السين والميم (٢) ، بمعنى : لا يتسمّعون ، فينتفي على قراءة الجمهور سماعهم ، وإن كانوا يستمعون ؛ وهو المعنى الصحيح ، ويعضده قوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٢](وَيُقْذَفُونَ) معناه : يرجمون ، والدّحور : الإصغار والإهانة ، لأن الدّحر هو الدّفع بعنف ، وقال البخاريّ : (وَيُقْذَفُونَ) يرمون (٣) و (دُحُوراً) مطردين ، وقال ابن عبّاس : «مدحورا» مطرودا (٤) ، انتهى ، والواصب : الدائم ؛ قاله مجاهد وغيره (٥) ، وقال أبو صالح : الواصب : الموجع (٦) ، ومنه الوصب ، والمعنى : هذه الحال هي الغالبة على جميع الشياطين إلا من شذّ فخطف خبرا أو نبأ ، (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) فأحرقه ، والثّاقب ، النافذ بضوئه وشعاعه المنير ؛ قاله قتادة وغيره (٧).

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ)(١٣)

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥)

(٢) وقرأ بها الكسائيّ.

ينظر : «السبعة» (٥٤٦) ، و «الحجة» (٦ / ٥٢) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٤٤) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣١٦) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٨٠) ، و «العنوان» (١٦١) ، و «حجة القراءات» (٦٠٥) ، و «شرح شعلة» (٥٦٢) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٠٨)

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٤٠٥) كتاب «التفسير» باب : سورة الصافات ، معلقا عن مجاهد.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٧٢) برقم : (٢٩٢٧١) عن مجاهد بلفظ : «مطرودين» ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٦) عن مجاهد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٧٣) برقم : (٢٩٢٧٦) عن مجاهد ، وبرقم : (٢٩٢٧٧) عن ابن عبّاس وبرقم : (٢٩٢٧٨) عن عكرمة ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١١) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٦) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٦)

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٧٤) برقم : (٢٩٢٨٠) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٧) عن قتادة ، والسدي ، وابن زيد.

٢٣

وقوله تعالى : (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) أي : فلا يمكنهم أن يقولوا إلا أنّ خلق من سواهم من الأمم والملائكة ، والجنّ والسّموات والأرض والمشارق والمغارب وغير ذلك ـ هو أشدّ من هؤلاء المخاطبين ، وبأن الضمير / في (خَلَقْنا) يراد به ما تقدم ذكره ، قال مجاهد وقتادة وغيرهما : ويؤيّده ما في مصحف ابن مسعود «أم من عددنا» (١) ؛ وكذلك قرأ الأعمش (٢).

وقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ) أي : خلق أصلهم وهو آدم* ع* ، واللّازب : اللازم : يلزم ما جاوره ويلصق به ، وهو الصلصال ، (بَلْ عَجِبْتَ) يا محمّد من إعراضهم عن الحق ، وقرأ حمزة والكسائيّ «بل عجبت» ـ بضم التاء ـ (٣) ؛ وذلك على أن يكون تعالى هو المتعجّب ومعنى ذلك من الله تعالى : أنه صفة فعل ، ونحوه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعجب الله من الشابّ ليست له صبوة» فإنّما هي عبارة عمّا يظهره الله ـ تعالى ـ في جانب المتعجّب منه من التعظيم أو التحقير حتّى يصير الناس متعجّبين منه ، قال الثعلبي : قال الحسين بن الفضل : التعجب من الله إنكار الشيء ، وتعظيمه ؛ وهو لغة العرب ، انتهى.

وقوله : (وَيَسْخَرُونَ) أي : وهم يسخرون من نبوّتك.

(وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ)(٢٦)

وقوله : (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) يريد بالآية : العلامة والدلالة ، وروي أنّها نزلت في ركانة وهو رجل من المشركين من أهل مكة ؛ لقيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جبل خال وهو يرعى غنما له ؛ وكان أقوى أهل زمانه ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ركانة ؛ أرأيت إن صرعتك ؛ أتؤمن بي؟ قال : نعم ، فصرعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا ، ثمّ عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها ،

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٦٧) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٣٣٩)

(٢) يعني : مخففة الميم.

ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٦٧) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٣٣٩) ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٩٧)

(٣) ينظر : «السبعة» (٥٤٧) ، و «الحجة» (٦ / ٥٣) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٤٥) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣١٧) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٨١) ، و «العنوان» (١٦١) ، و «حجة القراءات» (٦٠٦) ، و «شرح شعلة» (٥٦٢) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٠٨)

٢٤

ونحو ذلك مما اختلفت فيه ألفاظ الحديث ، فلمّا فرغ ذلك لم يؤمن ، وجاء إلى مكّة ، فقال : يا بني هاشم ، ساخروا بصاحبكم أهل الأرض ، فنزلت هذه الآية فيه وفي نظرائه ، و (يَسْتَسْخِرُونَ) قال مجاهد وقتادة : معناه : يسخرون (١) ، ثم أمر تعالى نبيّه أن يجيب تقريرهم واستفهامهم عن البعث ب (نَعَمْ) ، وأن يزيدهم في الجواب ، أنّهم مع البعث في صغار وذلّة واستكانة ، والدّاخر : الصّاغر الذليل ، وقد تقدّم بيانه غير ما مرّة ، والزّجرة الواحدة : هي نفخة البعث ، قال العراقيّ : الزّجرة : الصّيحة بانتهار ، انتهى. و (الدِّينِ) : الجزاء ، وأجمع المفسّرون على أن قوله تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ليس هو من قول الكفرة وإنما المعنى : يقال لهم.

وقوله : (وَأَزْواجَهُمْ) معناه : أنواعهم وضرباؤهم ؛ قاله عمر وابن عبّاس وقتادة (٢) ، ومعهم (ما كانُوا يَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ) من آدميّ رضي بذلك ، ومن صنم ووثن ؛ توبيخا لهم وإظهارا لسوء حالهم ، وقال الحسن : (أَزْواجَهُمْ) نساؤهم المشركات : وقاله ابن عبّاس أيضا (٣).

وقوله تعالى : (فَاهْدُوهُمْ) معناه : قدّموهم واحملوهم على طريق الجحيم ، ثم يأمر الله تعالى بوقوفهم ـ على جهة التّوبيخ لهم ـ والسؤال ، قال جمهور المفسرين : يسألون عن أعمالهم ويوقفون على قبحها ، وقد تقدّم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزول قدما عبد ...» الحديث ، قال* ع (٤) * : ويحتمل عندي أن يكون المعنى على نحو ما فسّره تعالى بقوله : (ما لَكُمْ لا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٧٧) برقم : (٢٩٣٠٢) عن قتادة وبرقم : (٢٩٣٠٣) عن مجاهد ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٣) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، ولعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٧٩) برقم : (٢٩٣١٢) عن عمر بن الخطاب وبرقم : (٢٩٣١٣) عن ابن عبّاس ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤) عن عمر ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٣) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وابن أبي شيبة ، وابن منيع في مسنده ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في «البعث» من طرق النعمان بن بشير عن عمر ، وللفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس ، ولعبد بن حميد ، وابن مردويه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٩) عن الحسن وابن عبّاس ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤) عن ابن عبّاس.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٦٩)

٢٥

تَناصَرُونَ) أي : إنهم مسؤولون عن امتناعهم عن التّناصر ؛ وهذا على جهة التّوبيخ ، وقرأ خلق (١) «لا تتناصرون».* ت* : قال عياض في «المدارك» : كان أبو إسحاق الجبنياني ظاهر الحزن ، كثير الدّمعة يسرد الصيام ، قال ولده أبو الطاهر : قال لي أبي : إن إنسانا بقي في آية سنة لم يتجاوزها ، وهي قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) فقلت له : أنت هو؟ فسكت ، فعلمت أنّه / هو ، وكان إذا دخل في الصلاة : لو سقط البيت الذي هو فيه ، ما التفت ، إقبالا على صلاته ، واشتغالا بمناجاة ربّه ، وكان رحمه‌الله من أشدّ الناس تضييقا على نفسه ؛ ثم على أهله ، وكان يأكل البقل البرّيّ والجراد إذا وجده ويطحن قوته بيده شعيرا ، ثم يجعله بنخالته دقيقا في قدر مع ما وجد من بقل بريّ وغيره ، حتّى إنّه ربّما رمى بشيء منه لكلب أو هرّ ؛ فلا يأكله ، وكان لباسه يجمعه من خرق المزابل ويرقّعه ، وكان يتوطّأ الرمل ، وفي الشتاء يأخذ قفاف المعاصر الملقاة على المزابل يجعلها تحته ، قال ولده أبو الطّاهر : وكنّا إذا بقينا بلا شيء نقتاته ، كنت أسمعه في اللّيل يقول : [البسيط]

مالي تلاد ولا استطرفت من نشب

وما أؤمّل غير الله من أحد

إنّ القنوع بحمد الله يمنعني

من التّعرّض للمنّانة النكد

انتهى.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ)(٣٤)

وقوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) هذه الجماعة التي يقبل بعضها على بعض هي جنّ وإنس ؛ قاله قتادة (٢) ، وتساؤلهم هو على معنى التّقريع واللّوم والتّسخط ، والقائلون : (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا) إما أن يكون الإنس يقولونها للشياطين ؛ وهذا قول مجاهد وابن زيد (٣) ، وإما أن يكون ضعفه الإنس يقولونها للكبراء والقادة ، واضطرب

__________________

(١) وقع في المطبوعة : «وقرأ خالد» ، وهو تحريف ، والصواب : خلق ، كما أثبتناه.

وينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٦٩)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٨١) برقم : (٢٩٣٢٧) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٥) ، وعزاه السيوطي لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٨١) برقم : (٢٩٣٢٨) عن مجاهد وبرقم : (٢٩٣٣١) عن ابن زيد ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٩) عنهما ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٥) ، كلاهما عن مجاهد ، وعزاه السيوطي لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد.

٢٦

المتأوّلون في معنى قولهم : (عَنِ الْيَمِينِ) ؛ فعبّر ابن زيد وغيره عنه بطريق الجنّة (١) ، ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى ، ولا يختصّ بنفس اللّفظة ، والذي يخصّها معان : منها أن يريد باليمين : القوة. أي : تحملوننا على طريق الضّلالة بقوة ، ومنها أن يريد باليمين. اليمن ، أي : تأتوننا من جهة النصائح والعمل الذي يتيمّن به ، ومن المعاني التي تحتملها الآية ؛ أن يريدوا : إنكم كنتم تجيئوننا من جهة الشهوات ، وأكثر ما يتمكّن هذا التأويل مع إغواء الشياطين ، وقيل : المعنى تحلفون لنا ، فاليمين على هذا : القسم ، وقد ذهب بعض العلماء في ذكر إبليس جهات بني آدم في قوله : (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الأعراف : ١٧] إلى ما ذكرناه من جهة الشهوات. ثم أخبر تعالى عن قول الجنّ المجيبين لهؤلاء بقولهم : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) ، أي : ليس الأمر كما ذكرتم ؛ بل كان لكم اكتساب الكفر ؛ وما كان لنا عليكم حجّة ، وبنحو هذا فسّر قتادة وغيره أنّه قول الجنّ إلى (غاوِينَ) (٢). ثم أخبر تعالى بأنهم جميعا في العذاب مشتركون ، وأنّ هذا فعله بأهل الجرم والكفر.

(إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (٣٥) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٣٩)

وقوله سبحانه : (إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ...) الآية ، قلت : جاء في فضل «لا إله إلّا الله» أحاديث كثيرة ؛ فمنها ما رواه أبو سعيد الخدريّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : قال موسى : يا ربّ ؛ علّمني شيئا أذكرك به ، وأدعوك به ، قال : قل يا موسى : «لا إله إلّا الله» قال : يا ربّ ، كلّ عبادك يقول هذا ، قال : قل : «لا إله إلّا الله» قال : إنّما أريد شيئا تخصّني به ، قال : يا موسى ، لو أنّ السّموات السّبع والأرضين السّبع في كفّة ، و «لا إله إلّا الله» في كفّة ـ مالت بهنّ «لا إله إلّا الله» (٣) ـ رواه النسائي وابن حبّان في

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٩)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٨٢) برقم : (٢٩٣٣٢) ، بلفظ : قال : قالت لهم الجن : (بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) حتى بلغ : (قَوْماً طاغِينَ) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٠)

(٣) أخرجه ابن حبان (١٤ / ١٠٢) كتاب «التاريخ» باب : ذكر سؤال كليم الله ربه أن يعلمه شيئا يذكره ، برقم : (٦٢١٨) ، والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٢٠٨ ـ ٢٠٩) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب : أفضل الذكر والدعاء ، برقم : (١٠٦٧٠ / ٤) ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ٥٢٨) ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» ص ١٠٢ ، ١٠٣ ، وأبو يعلى (٢ / ٥٢٨) ، برقم : (٤٢٠ / ١٣٩٣) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ٣٢٨). ـ

٢٧

«صحيحه» ، واللفظ لابن حبّان ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وقول لا إله إلّا الله / لا تترك ذنبا ولا يشبهها عمل» (١) ، رواه الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» وقال صحيح الإسناد ، انتهى من «السّلاح» ، والطائفة التي قالت : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) هي قريش وإشارتهم بالشاعر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فردّ الله عليهم بقوله : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) الذين تقدّموه ، ثم أخبر تعالى مخاطبا لهم بقوله : (إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ) الآية.

(إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ)(٤٨)

وقوله تعالى : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع وهؤلاء المؤمنون.

وقوله : (مَعْلُومٌ) معناه : عندهم.

وقوله : (بَيْضاءَ) يحتمل أن يعود على الكأس ، ويحتمل أن يعود على الخمر ، وهو أظهر ، قال الحسن : خمر الجنّة أشدّ بياضا من اللّبن (٢) ، وفي قراءة ابن مسعود (٣) : «صفراء» فهذا وصف الخمر وحدها ، والغول : اسم عامّ في الأذى ، وقال ابن عبّاس وغيره : الغول : وجع في البطن (٤) ، وقال قتادة هو صداع في الرأس (٥) و (يُنْزَفُونَ) من

__________________

ـ قال الحاكم : هذا حديث صحيح.

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٨٥) : رواه أبو يعلى ، ورجاله وثقوا ، وفيهم ضعف.

(١) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (١ / ٥١٤) ، وقال : صحيح.

(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٢)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٧٢) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٣٤٤) ، و «الدر المصون» (٥ / ٥٠١) ، و «مختصر الشواذ» ص : (١٢٨) ، وزاد نسبتها إلى الحسن والضحاك.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٨٥) برقم : (٢٩٣٤٩) عن ابن عبّاس ، وبرقم : (٢٩٣٥٠) عن مجاهد ، وبرقم : (٢٩٣٥١) عن ابن زيد ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٢) عنهم ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٦) أيضا عنهم ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٧) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس ، ولهناد ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن مجاهد ، ولعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٨٥) برقم : (٢٩٣٤٨) عن ابن عبّاس ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٢) عن ابن عبّاس ، وقتادة ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧) عنهما ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٦) أيضا عنهما ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس ، ولعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

٢٨

قولك : نزف الرجل إذا سكر ، وبإذهاب العقل فسّره ابن عبّاس (١) ، وقرأ حمزة والكسائيّ «ينزفون» بكسر الزاي (٢) من «أنزف» وله معنيان :

[أحدهما : سكر.

والثاني : نفد شرابه.

وهذا كله منفيّ عن أهل الجنّة.

و (قاصِراتُ الطَّرْفِ)] (٣) قال ابن عبّاس وغيره معناه على أزواجهن (٤) ، أي : لا ينظرن إلى غيرهم ، و (عِينٌ) : جمع «عيناء» ، وهي الكبيرة العينين في جمال.

(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ)(٥٣)

وقوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) قال ابن جبير والسّدّيّ : شبّه ألوانهنّ بلون قشر البيضة الداخليّ ، وهو المكنون (٥) ، أي المصون ، ورجّحه الطبريّ (٦) ، وقال الجمهور : شبّه ألوانهنّ بلون قشر البيضة من النعام ، وهو بياض قد خالطته صفرة حسنة ، و (مَكْنُونٌ) أي : بالريش ، وقال ابن عبّاس فيما حكى الطبريّ : «البيض المكنون» أراد به الجوهر

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٨٦) برقم : (٢٩٣٥٦) عن ابن عبّاس وبرقم : (٢٩٣٥٨) عن مجاهد ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٢) عن ابن عبّاس وقتادة ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، ولابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس.

(٢) ينظر : «السبعة» (٥٤٧) ؛ و «الحجة» (٦ / ٥٤) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٤٦) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣١٨) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٨٣) ، و «العنوان» (١٦١) ، و «حجة القراءات» (٦٠٨) ، و «شرح شعلة» (٥٦٢) ، و «إتحاف» (٢ / ٤١١)

(٣) سقط في : د.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٨٧) برقم : (٢٩٣٦٢) عن ابن عبّاس ، وبرقم : (٢٩٣٦٣) عن مجاهد ، وبرقم : (٢٩٣٦٤) عن السدي ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٣) وزاد نسبته لابن زيد وقتادة ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٧) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس ، ولعبد بن حميد عن مجاهد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٨٨) برقم : (٢٩٣٧١) عن سعيد بن جبير وبرقم : (٢٩٣٧٢) عن السدي.

(٦) ينظر : «تفسير الطبري» (١٠ / ٤٨٩)

٢٩

المصون (١) ، قال* ع (٢) * : وهذا يردّه لفظ الآية ، فلا يصحّ عن ابن عبّاس.

وقوله تعالى : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ* قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ ...) الآية ، هذا التّساؤل الذي بين أهل الجنّة هو تساؤل راحة وتنعّم ؛ يتذاكرون أمورهم في الجنّة وأمر الدنيا وحال الطّاعة والإيمان فيها ، ثم أخبر تعالى عن قول قائل منهم في قصّته ، وهو مثال لكلّ من له قرين سوء ، فيعطي هذا المثال التّحفّظ من قرناء السوء ، قال الثعلبيّ : قوله : (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) قال مجاهد : كان شيطانا (٣) ، انتهى ، وقال ابن عبّاس وغيره : كان هذان من البشر ؛ مؤمن وكافر (٤) ، وقال فرات بن ثعلبة البهرانيّ في قصص هذين : إنّهما كانا شريكين بثمانية آلاف دينار ، فكان أحدهما مشغولا بعبادة الله ، وكان الآخر كافرا مقبلا على ماله ، فحلّ الشركة مع المؤمن وبقي وحده لتقصير المؤمن في التّجارة ، وجعل الكافر كلّما اشترى شيئا من دار أو جارية أو بستان ونحوه ، عرضه على المؤمن وفخر عليه ، فيمضي المؤمن عند ذلك ، ويتصدّق بنحو ذلك ؛ ليشتري به من الله تعالى في الجنّة ، فكان من أمرهما في الآخرة ما تضمّنته هذه (٥) الآية ، وحكى السّهيليّ أن هذين الرجلين هما المذكوران في قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ ...) الآية [الكهف : ٣٢] انتهى ، و «مدينون» معناه : مجاوزون محاسبون ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٨٩) برقم : (٢٩٣٧٥) بلفظ : اللؤلؤ المكنون ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٧) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٧٣)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٩٠) برقم : (٢٩٣٧٩) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٨) ، وعزاه السيوطي للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٩٠) برقم : (٢٩٣٨٠) عن ابن عبّاس ، وذكره البغوي (٤ / ٢٨) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٨) ، كلاهما عن ابن عبّاس.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٩٠) برقم : (٢٩٣٨١) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٣) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥١٩) ، وعزاه السيوطي لسعيد بن منصور.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٩١) برقم : (٢٩٣٨٢) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٢١) ، وعزاه السيوطي لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن مجاهد ، ولعبد بن حميد عن قتادة.

٣٠

(قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (٥٥) قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (٥٦) وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٥٧) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٠) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ)(٦١)

وقوله تعالى : (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) الآية ، / في الكلام حذف ، تقديره : فقال لهذا الرجل حاضروه من الملائكة : إنّ قرينك هذا في جهنّم يعذّب فقال عند ذلك : (هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) يخاطب ب «أنتم» الملائكة أو رفقاءه في الجنة أو خدمته ؛ وكلّ هذا حكى المهدويّ ، وقرأ أبو عمرو في رواية حسين «مطلعون» بسكون الطاء وفتح النون (١) ، وقرىء شاذّا «مطلعون» ـ بسكون الطاء وكسر النون (٢) ـ ، قال ابن عبّاس وغيره : (سَواءِ الْجَحِيمِ) وسطه (٣) ، فقال له المؤمن عند ذلك : (تَاللهِ ، إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي : لتهلكني بإغوائك ، والرّدى : الهلاك ، وقول المؤمن : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) إلى قوله : (بِمُعَذَّبِينَ) يحتمل أن تكون مخاطبة لرفقائه في الجنّة ، لمّا رأى ما نزل بقرينه ، ونظر إلى حاله في الجنّة وحال رفقائه ؛ قدّر النعمة قدرها ، فقال لهم على جهة التوقيف على النعمة : أفما نحن بميّتين ولا معذّبين ، ويجيء على هذا التأويل قوله : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إلى قوله : (الْعامِلُونَ) متّصلا بكلامه خطابا لرفقائه ، ويحتمل قوله : (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) أن تكون

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٧٤).

ووقع في رواية أبي بكر بن مجاهد أن أبا عمرو قرأها مثل قراءة الباقين ، غير أنه قرأ : «فأطلع» مبنيا للمجهول.

ينظر : «السبعة» (٥٤٨) ، و «الحجة» (٦ / ٥٥ ـ ٥٦) ، و «مختصر الشواذ» ص : (١٢٨) ، و «المحتسب» (٢ / ٢١٩)

(٢) وقرأ بها أبو البرهسم ، وعمار بن عمار.

قال ابن عطية : وردّ هذه القراءة أبو حاتم وغيره ولحنوها ؛ وذلك أنها جمعت بين ياء الإضافة ونون المتكلم ، والوجه أن يقال : «مطلعيّ». ووجه القراءة أبو الفتح بن جني ، وقال : أنزل الفاعل منزل الفعل المضارع ، وأنشد الطبري [الوافر] :

وما أدري وظن كلّ ظن

أمسلمني إلى قومي شراحي

وقال الفراء : يريد شراحيل.

ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٧٤) ، و «المحتسب» (٢ / ٢٢٠) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٣٤٦) ، و «الدر المصون» (٥ / ٥٠٣)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٩١) برقم : (٢٩٣٨٥) عن ابن عبّاس ، وبرقم : (٢٩٣٨٧) عن الحسن ، وبرقم : (٢٩٣٨٩) عن قتادة ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨) عن ابن عبّاس ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٢١) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

٣١

مخاطبة لقرينه ؛ على جهة التوبيخ ، كأنّه يقول : أين الذي كنت تقول من أنّا نموت وليس بعد الموت عقاب ولا عذاب ، ويكون قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إلى قوله : (الْعامِلُونَ) يحتمل أن يكون من خطاب المؤمن لقرينه ؛ وإليه ذهب قتادة (١) ، ويحتمل أن يكون من خطاب الله ـ تعالى ـ لمحمّد* ع* وأمّته ، ويقوّي هذا قوله : (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) وهو حضّ على العمل ؛ والآخرة ليست بدار عمل.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (٦٤) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (٦٧) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ)(٧٢)

وقوله تعالى : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) المراد بالآية : تقرير قريش والكفار ، قال* ع (٢) * : وفي بعض البلاد الجدبة المجاورة للصّحارى ـ شجرة مرّة مسمومة لها لبن ، إن مسّ جسم أحد ؛ تورّم ومات منه في أغلب الأمر ؛ تسمّى شجرة الزّقّوم ، والتّزقّم في كلام العرب : البلع على شدّة وجهد.

وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) قال قتادة ومجاهد والسّدّيّ : يريد أبا جهل ونظراءه (٣) ، وقد تقدم بيان ذلك.

وقوله تعالى : (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) اختلف في معناه ؛ فقالت فرقة : شبّه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لها «رءوس الشياطين» ، وهي بناحية اليمن ، يقال لها : «الأستن» ، وقالت فرقة : شبّه برؤوس صنف من الحيّات يقال لها «الشّياطين» ، وهي ذوات أعراف ، وقالت فرقة : شبّه بما استقر في النفوس من كراهة رؤوس الشياطين وقبحها ؛ وإن كانت لا ترى ؛ لأن الناس إذا وصفوا شيئا بغاية القبح قالوا : كأنّه شيطان ؛ ونحو هذا قول امرئ القيس : [الطويل].

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٥)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٧٥)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٩٤) برقم : (٢٩٣٩٩) عن السدي ، وبرقم : (٢٩٤٠٠) عن مجاهد ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ١٠) عن مجاهد ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٢٢) ، وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد ، ولابن مردويه عن ابن عبّاس.

٣٢

أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي

ومسنونة زرق كأنياب أغوال (١)

فإنّما شبّه بما استقر في النفوس من هيئتها ، والشوب : المزاج والخلط ؛ قاله ابن عبّاس وقتادة (٢) ، والحميم : السّخن جدّا من الماء ؛ ونحوه ، فيريد به هاهنا شرابهم الذي هو طينة الخبال صديدهم وما ينماع منهم ؛ هذا قول جماعة من المفسرين.

وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) كقوله تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) [الرحمن : ٤٤] وقوله سبحانه : (إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ...) الآية ، تمثيل لقريش و (يُهْرَعُونَ) معناه : يسرعون ؛ قاله قتادة وغيره (٣) ، وهذا تكسّبهم للكفر وحرصهم عليه.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)(٧٦)

وقوله تعالى : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) يقتضي الإخبار بأنه عذّبهم ؛ ولذلك حسن الاستثناء في قوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) ونداء نوح تضمّن أشياء ؛ كطلب النصرة والدعاء على قومه وغير ذلك ، قال أبو حيان (٤) : وقوله : (فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) جواب قسم كقوله : [من الطويل]

يمينا لنعم السّيّدان وجدتما (٥)

 ...................

__________________

(١) من قصيدة أولها :

ألا عم صباحا أيها الطّلل البالي

وهل يعمن من كان في العصر الخالي

ينظر : «ديوانه» (٣٣) ، «معاهد التنصيص» (٢ / ٧) ، «الكامل» (٣ / ٩٦) ، «البحر المحيط» (٧ / ٣٦٣) ، و «الدر المصون» (٥ / ٥٠٦)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٩٥) برقم : (٢٩٤٠٢) عن ابن عبّاس ، وبرقم : (٢٩٤٠٤) عن قتادة ، و (٢٩٤٠٥) عن السدي ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٦) عنهما ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ١١) عن ابن عبّاس ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٢٢) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن عبّاس.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٩٦) برقم : (٢٩٤١٣) عن قتادة ، وبرقم : (٢٩٤١٤) عن السدي ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٢٣) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.

(٤) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٣٤٩)

(٥) صدر بيت لزهير بن أبي سلمى وعجزه :

 ..................

على كلّ حال من سجيل ومبرم

البيت في «ديوانه» ص : (١٤) ، و «الأشباه والنظائر» (٨ / ٢١٠) ، و «جمهرة اللغة» ص : (٥٣٤) ، و «خزانة الأدب» (٣ / ٦) ، (٩ / ٣٨٧) ، و «الدرر» (٤ / ٢٢٧) ، و «شرح عمدة الحافظ» ص : (٧٩٢) ، و «همع الهوامع» (٢ / ٤٢) ، وبلا نسبة في «خزانة الأدب» (٩ / ٣٩٠)

٣٣

والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : فلنعم المجيبون نحن ، انتهى.

(وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ)(٨٢)

وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) قال ابن عبّاس وقتادة : أهل الأرض كلّهم من ذرية نوح (١) ، وقالت فرقة : إنّ الله تعالى أبقى ذرية نوح ومدّ نسله ، وليس الأمر بأنّ أهل الدّنيا انحصروا إلى نسله ، بل في الأمم من لا يرجع إليه ، والأول أشهر عن علماء الأمّة ، وقالوا : نوح هو آدم الأصغر ، قال السّهيليّ : ذكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال في قوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) : [إنّهم] سام وحام ويافث (٢) ، انتهى.

وقوله تعالى : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) معناه : ثناء حسنا جميلا باقيا آخر الدّهر ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (٣) ، و (سَلامٌ) رفع بالابتداء مستأنف ، سلّم الله به عليه ليقتدي بذلك البشر.* ت* : قال أبو عمر في «التمهيد» : قال سعيد ـ يعني : ابن عبد الرحمن الجمحيّ ـ : بلغني أنه من قال حين يمسي : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) لم تلدغه عقرب ، ذكر هذا عند قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأسلميّ الذي لدغته عقرب : «أما لو أنّك قلت حين أمسيت : أعوذ بكلمات الله التّامّات من شرّ ما خلق لم تضرّك إن شاء الله» (٤) ، قال أبو

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٩٨) برقم : (٢٩٤٢٠) عن قتادة ، وبرقم : (٢٩٤٢١) عن ابن عبّاس ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ١٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٢٤) ، كلهم عن ابن عبّاس ، وقتادة ، وعزاه السيوطي لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، ولابن المنذر عن ابن عبّاس.

(٢) أخرجه الترمذي في «سننه» (٥ / ٣٦٥) ، كتاب «تفسير القرآن» باب : ومن سورة الصافات برقم :

(٣٢٣٠) ، والطبري (١٠ / ٤٩٧) برقم : (٢٩٤١٩) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٢٤) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث سعيد بن بشير.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٩٨) برقم : (٢٩٤٢٢) عن ابن عبّاس ، وبرقم : (٢٩٤٢٤) عن قتادة ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٧٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ١٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٢٤) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة ، ولابن المنذر عن ابن عبّاس.

(٤) هذا الحديث روي من طريق أبي هريرة ، وخولة بنت حكيم ، وعمرو بن العاص ، وسهيل بن أبي صالح عن أبيه.

أما طريق أبو هريرة : أخرجه مسلم (٤ / ٢٨١) «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» ، باب : في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره ، برقم : (٢٧٠٩) ، وأبو داود (٢ / ٤٠٦) كتاب «الطب» باب : كيف الرقى ، برقم : (٣٨٩٩) ، وابن حبان (٧ / ٣٨٦) ـ الموارد برقم : (٢٣٦٠) ولم يذكر نبأ الأسلميّ ،

٣٤

عمر : وروى [ابن وهب] (١) هذا الحديث عن مالك يعني : حديث : «أعوذ بكلمات الله التّامّات» بإسناده مثل ما في «الموطّإ» ، إلّا أنّه قال في آخره : «لم يضرّك شيء» (٢) انتهى.

وقوله تعالى : (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) قال جماعة من العلماء : إنّ الغرق عمّ جميع النّاس ، وأسندوا في ذلك أحاديث ، قالوا : ولم يكن الناس حينئذ بهذه الكثرة ؛ لأنّ عهد آدم كان قريبا ، وكانت دعوة نوح ونبوّته قد بلغت جميعهم ، لطول المدّة واللّبث فيهم ، فتمادوا على كفرهم ، ولم يقبلوا ما دعاهم إليه من عبادة الرحمن ؛ فلذلك أغرق الله جميعهم.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٨٧)

__________________

ـ والنسائي في «الكبرى» (٦ / ١٥٢) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب : ما يقول إذا خاف شيئا من الهوام حين يمسي ، برقم : (١٠٤٢٤ / ٤) ، وأبو يعلى (١٢ / ٤٤) برقم : (٨٤٨ / ٦٦٨٨) ، ومالك في «الموطأ» (٢ / ٩٥١) كتاب «الشعر» باب : ما يؤمر به من التعوذ ، برقم : (١١) ، وأحمد (٢ / ٣٧٥) ، وابن ماجه (٢ / ١١٦٢) كتاب «الطب» باب : رقية الحية والعقرب برقم : (٣٥١٨) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٧ / ١٤٣) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (١ / ٣٨٠).

أما الحديث من طريق خولة بنت حكيم : أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٨) كتاب «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» باب : في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره ، برقم : (٥٤ / ٢٧٠٨) ، (٥٥ / ٢٧٠٨) ، والنسائي في «الكبرى» (٦ / ١٤٤) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب : ما يقول إذا نزل منزلا ، برقم : (١٠٣٩٤ / ١ ـ ٢) ، والترمذي (٥ / ٤٩٦) كتاب «الدعوات» باب : ما جاء ما يقول إذا نزل منزلا ، برقم : (٣٤٣٧) ، وابن ماجه (٢ / ١١٧٤) ، كتاب «الطب» باب : الفزع والأرق وما يتعوذ منه ، برقم : (٣٥٤٧) ، وأحمد (٦ / ٣٧٧) ، والبيهقي في «السنن» (٥ / ٢٥٣) كتاب «الحج» باب : ما يقول إذا نزل منزلا ، ومالك في «الموطأ» (٢ / ٩٧٨) كتاب «الاستئذان» باب : ما يؤمر به من الكلام في السفر ، والدارمي (٢ / ٢٨٩) كتاب «الاستئذان» باب : ما يقول إذا نزل منزلا ، وعبد الرزاق في «المصنف» (٥ / ١٦٦) ، كتاب «المناسك» باب : ما يقول إذا نزل منزلا ، رقم : (٩٢٦١) ، وابن حبان (٦ / ٤١٨) ، كتاب «الصلاة» باب : ذكر الشيء الذي إذا قال المسافر في منزله أمن الضرر من كلّ شيء حتى يرتحل منه ، برقم : (٢٧٠٠).

ولم تأت من هذا الطريق قصة الأسلمي. قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب.

وأما طريق عمرو بن العاص : أخرجه أبو داود (٢ / ٤٠٥) ، كتاب «الطب» باب : كيف الرقى؟ رقم : (٣٨٩٣) نحو حديث أبي هريرة.

وأما طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه : أخرجه أبو داود (٢ / ٤٠٦) كتاب «الطب» باب : كيف الرقى؟ رقم : (٣٨٩٨)

(١) سقط في : د.

(٢) ينظر : الحديث السابق.

٣٥

وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) قال ابن عبّاس وغيره : الضمير عائد على نوح (١) ، والمعنى : في الدين والتّوحيد ، وقال الطبريّ وغيره عن الفرّاء : الضمير عائد على محمّد ، والإشارة إليه.

وقوله : (أَإِفْكاً) استفهام بمعنى التقرير ، أي : أكذبا ومحالا ، (آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ).

وقوله : (فَما ظَنُّكُمْ) توبيخ وتحذير وتوعّد.

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (٨٩) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ)(٩٠)

وقوله تعالى : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) روي أنّ قومه كان لهم عيد يخرجون إليه فدعوا إبراهيم* ع* إلى الخروج معهم ، فنظر حينئذ ، واعتذر بالسّقم ، وأراد البقاء ليخالفهم إلى الأصنام ، وروي أنّ علم النجوم كان عندهم منظورا فيه مستعملا ؛ فأوهمهم هو من تلك الجهة ، قالت فرقة : وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) من المعاريض الجائزة.

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ)(١٠٢)

وقوله تعالى : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) «راغ» معناه : مال.

وقوله : (أَلا تَأْكُلُونَ) هو على جهة الاستهزاء بعبدة تلك الأصنام ، ثم مال عند ذلك إلى ضرب / تلك الأصنام بفأس حتّى جعلها جذاذا ، واختلف في معنى قوله : (بِالْيَمِينِ) فقال ابن عبّاس : أراد يمنى يديه (٢) ، وقيل : أراد بقوّته ؛ لأنّه كان يجمع يديه معا بالفأس ، وقيل : أراد باليمين ، القسم في قوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) [الأنبياء : ٥٧] ، والضمير

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٩٩) برقم : (٢٩٤٢٧) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ١٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٢٥) كلهم عن ابن عبّاس ، وعزاه السيوطي لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٥٠٢) برقم : (٢٩٤٥٢) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٧٩)

٣٦

في «أقبلوا» لكفّار قومه و (يَزِفُّونَ) معناه : يسرعون ، واختلف المتأوّلون في قوله : (وَما تَعْمَلُونَ) فمذهب جماعة من المفسرين : أن «ما» مصدرية ، والمعنى : أنّ الله خلقكم وأعمالكم ، وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق الله تعالى أفعال العباد ؛ وهو مذهب أهل السّنّة (١) ، وقالت فرقة : «ما» بمعنى : الّذي ، و «البنيان» قيل : كان في موضع إيقاد النار ،

__________________

(١) المراد من أفعال العباد : المعنى الحاصل بالمصدر الذي هو متعلق الإيجاد والإيقاع ، أعني ما نشاهده من الحركات والسكنات مثلا ، لا المعنى المصدري الذي هو الإيجاد والإيقاع ، لأنه من الأمور اللاموجودة واللامعدودة المسماة بالحال كما ذهبت إليه مشايخ الحنفية ، واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين من الأشاعرة ؛ أو هو أمر اعتباري عند نفاة الحال ، فلا يتعلق به خلق ولا إيجاد وإلا لزم التسلسل ، وإطلاق المصدر على المعنى الحاصل بالمصدر ، وإن كان مجازا من قبيل إطلاق اللازم وإرادة الملزوم ، إلا أنه كثير الوقوع ، فلا يحتاج إلى قرينة. وتنقسم أفعال العباد إلى : اختيارية ، كحركة البطش ، وإلى : اضطرارية ، كحركة الارتعاش ، وإلى أفعال مباشرة ، وإلى أفعال متولدة ، كحركة المفتاح المتولدة من حركة اليد ، ثم إن أفعال العباد منها ما يتعلق بالجوارح ، ومنها ما يتعلق بالقلوب ، هذا كله بالنسبة للمستيقظ.

وأما أفعال النائم فقد اختلفوا فيها ، فقال بعضهم : إنها مقدورة مكتسبة للنائم ، والنوم لا يضاد القدرة ، وإن كان يضاد العلم وغيره من الإرادات ، وقال بعضهم : إنها غير مقدورة له ، وأن النوم يضاد القدرة كما يضاد العلم ، وبعضهم لا يقطع بكونها مكتسبة ، ولا بكونها ضرورية بل كلّ من الأمرين ممكن.

وقد استدل القائلون بأن أفعال النائم مقدورة له بما يأتي :

«أولا» : بأن النائم كان قادرا في يقظته ، وقدرته باقية ، والنوم لا ينافيها ، فوجب استصحاب حكمها.

«ثانيا» : بأن النائم إذا انتبه فهو على ما كان عليه في نومه ، ولا يتجدد أمر وراء زوال النوم ، وهو قادر بعد الانتباه ، وزوال النوم غير موجب للاقتدار ، ولا وجوده نافيا للقدرة.

«ثالثا» : قد يوجد من النائم ، ما لو وجد منه في حال اليقظة ، لكان واقعا على حسب الداعي والاختيار ، والنوم ، وإن نافى القصد فلا ينافي القدرة.

«رابعا» : نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم ، وحركة المرتعش ، وما ذاك إلا أن حركته مقدورة له ، وحركة المرتعش غير مقدورة له.

وقال النافون المقدرة : قولكم : النوم لا ينافي القدرة : دعوى كاذبة ؛ فإن النائم منفعل محضا متأثر صرفا ولهذا لا يمتنع ممن يؤثر فيه ، وقولكم : لم يتجدد له أمر غير زوال النوم ، غير مسلم به ؛ لأن التجدد :

زوال المانع من القدرة ، فعاد إلى ما كان عليه ؛ كمن أوثق غيره رباطا ، ومنعه من الحركة ، فإذا حلّ رباطه ، تجدد زوال المانع.

والتحقيق : أن حركة النائم ضرورية له غير مكتسبة ، وكما فرقنا في حق المستيقظ بين حركة ارتعاشه وحركة تصفيقه ، كذلك نجد تفرقة ضرورية بين حركة النائم وحركة المستيقظ وعلى كلّ حال فالمثبتون للقدرة وهم المعتزلة وبعض الأشعرية والنافون لها وهم : أبو إسحاق وغيره ، والمتوقفون في ذلك هم : جمهور الأشعرية ، والقاضي أبو بكر ، متفقون على أن أفعال النائم غير داخلة تحت التكليف.

أما أفعال الساهر فاختيارية ؛ لأنه وإن كان يفعل الفعل مع غفلته وذهوله ، فهو إنما يفعله بقدرته ؛ إذ لو كان عاجزا لما تأتى منه الفعل وله إرادة لكن غافل عنها ؛ فالإرادة شيء ، والشعور بها شيء آخر. ـ

٣٧

وقيل : بل كان للمنجنيق الذي رمي عنه ، والله أعلم.

__________________

ـ فالعبد قد يكون له إرادة وهو ذاهل عن شعوره بها ؛ لاشتغال محل التصور منه بأمر آخر منعه من الشعور بالإرادة ، فعملت عملها ، وهي غير مشعور بها ، وإن كان لا بد من الشعور عند كلّ جزء.

ومع كلّ فالفعل الاختياري يستلزم الشعور بالفعل في الجملة ، وأما الشعور به بالتفصيل فلا يستلزمه.

وأما زائل العقل بجنون أو سكر ، فليست أفعاله اضطرارية ، كأفعال الملجأ ، ولا اختيارية بمنزلة أفعال العاقل العالم بما يفعله ، بل هي نوع آخر يشبه الاضطرارية ، وأفعاله كفعل الحيوان وفعل الصبي الذي لا تمييز له ؛ إذ لكل واحد من هؤلاء داعية إلى الفعل يتصورها ، وإرادة يقصد بها ، وقدرة ينفذ بها ، فهذه أفعال طبيعية ، واقعة بالداعي والإرادة والقدرة ، وإن كانت الداعية التي فيهم غير داعية العاقل العالم بما يفعله ؛ لأنه يتصور ما في الفعل من الغرض ، ثم يريده ويفعله ، ولهذا لم يكلف أحد من هؤلاء بالفعل ، فأفعالهم لا تدخل تحت التكليف ، وليست كأفعال الملجأ ولا المكره.

وهي مضافة إليهم مباشرة ، وإلى خالق ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم خلقا.

فهي مفعولة وأفعال لهم.

لا خلاف في أن أفعال العباد اضطرارية ، مخلوقة لله تعالى ، ولا في أن الكلام اللفظي القائم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تقدير حدوثه مخلوق له تعالى. أما عند أهل السنّة فظاهر ، وأما عند المعتزلة ، فإما بنفي اختياريته ، أو باستثنائه من الكلية. وأما أفعال العباد الاختيارية ، فقد اختلفوا في الخالق لها ، فقالت الجبرية : الخالق لأفعال العباد الاختيارية هو الله فقط ولا دخل لقدرة العبد في فعله البتة ، بل هو مجبور ومقهور ، وأن حركته الاختيارية ، لا اختيار له فيها ، وأنها كحركة الأشجار عند هبوب الرياح ، وكحركة الأمواج ، وأن العبد كالريشة المعلقة في الهواء.

وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري : فعل العبد واقع بقدرة الله ، ومخلوق له ، وأن قدرة العبد لها دخل في الفعل الاختياري بالكسب والاختيار ، وأن الله قد جرت عادته بأن يخلق فعل العبد الاختياري مقارنا لقدرته ، وهذا هو الكسب عنده.

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني : أصل الفعل واقع بقدرة الله تعالى ، وأما وصفه فواقع بقدرة العبد ، كما في لطم اليتيم تأديبا وإيذاء ، فإن ذات اللطم واقعة بقدرة الله تعالى ، وكونه طاعة على الأول ومعصية على الثاني بقدرة العبد. والظاهر أنه لم يرد أن قدرة العبد مستقلة في خلق وصف الفعل ، وإلا لزم عليه ما لزم على المعتزلة ، بل أراد أن القدرة لها دخل في ذلك الوصف فهو بالنسبة إلى العبد طاعة ومعصية ، كذا ذكره المحقق الديواني ، وقد ورد على مذهبه : أن هذه الصفات أمور اعتبارية تلزم فعل العبد باعتبار موافقتها للشرع ، أو مخالفتها له ، فلا وجه لكون وصف الفعل واقعا بقدرة العبد ، وهذا مدفوع بأن كون الفعل طاعة أو معصية إنما هو بالنية والإرادة الجزئية والعزم ، وهي مقدورة للعبد وبسببها يكون الفعل طاعة أو معصية ، وهذا بعينه ما ذهب إليه الماتريدية.

وقال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني من أهل السنّة ، وكذا النجار من المعتزلة : إن أصل الفعل ووصفه ، واقع بمجموع القدرتين ، قدرة الله وقدرة العبد ، ثم الأستاذ إن أراد : أن قدرة العبد غير مستقلة بالتأثير وأنها إذا انضمت إليها قدرة الله تعالى صارت مستقلة بتوسط هذ الإعانة على ما قدره البعض فقريب من الحق ، وإن أراد أن كلا من القدرتين مستقلة بالتأثير كما اشتهر عنه في مذهبه فباطل ، لامتناع مؤثرين على أثر واحد ، وإن جوز اجتماعهما كما اشتهر عنه.

وقال صاحب المسايرة وهو الكمال بن الهمام : إن جميع ما يتوقف عليه أفعال الجوارح ، والنفوس من ـ

٣٨

__________________

ـ الميل والداعية والاختيار لا تأثير لقدرة العبد فيه ، وإنما محل قدرته العزم المصمم ، فإذا أوجد العبد ذلك العزم المصمم خلق الله له الفعل عقبه ، وهذا ينطبق على كلام القاضي أبي بكر الباقلاني ، لأن كون الفعل طاعة أو معصية إنما هو بالنية ، والإرادة الجزئية ، والعزم عنده «أي عند القاضي».

وقال بعض المحققين من أهل السنّة : الله خالق لفعل العبد الاختياري والعبد فاعل له حقيقة. وبيان ذلك أن الله خلق قدرة العبد وأذن لها أن تتصرف في المقدور حسب اختيار العبد فيكون الفعل مخلوقا لله ، لأنه واقع بالقدرة التي خلقها الله فيه ، وقد جعلها تتصرف في المقدور ويكون الفعل المقدور واقعا بالقدرة الحادثة ، ومضافا إلى العبد كسبا وفعلا حقيقة ، «ومثال ذلك» : أن العبد لا يملك التصرف في مال سيده ، ولو استبد بالتصرف في مال سيده لم ينفذ تصرفه ، فإذا أذن له في بيع ماله فباعه نفذ ، والبيع في التحقيق معزو إلى السيد من حيث إن سببه إذنه ، ولو لا إذنه لم ينفذ التصرف ، ولكن العبد يؤمر بالتصرف ، وينهى ويوبّخ على المخالفة ، فالعبد فعلها حقيقة والله خالقه ، وخالق ما فعل به من القدرة والإرادة ، وخالق فاعليته ، والعبد غير مستقل بالإيجاد ، لأن قدرته وإرادته جزء سبب أو شرط.

وقال الإمام فخر الدين محمّد بن عمر الرازي : المختار عندنا أن عند حصول القدرة والداعية المخصوصة يجب الفعل ، وعلى هذا التقدير يكون العبد فاعلا على سبيل الحقيقة ، ومع ذلك فتكون الأفعال بأسرها واقعة بقضاء الله تعالى وقدره ، وذلك أنا لما اعترفنا بأن الفعل واجب الحصول عند مجموع القدرة والداعي ؛ فقد اعترفنا بكون العبد فاعلا وجاعلا فلا يلزمنا مخالفة ظاهر القرآن ، وإذا قلنا بأن المؤثر في الفعل مجموع القدرة والداعي ، مع أن هذا المجموع حصل بخلق الله تعالى ، فقد قلنا بأن الكل بقضاء الله تعالى وقدره.

وقال جمهور المعتزلة : فعل العبد واقع بقدرته وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار.

وقال إمام الحرمين : فعل العبد واقع بقدرته وإرادته بالإيجاب استقلالا لا بالاختيار فيكون موافقا لمذهب الحكماء وهذا ما اشتهر عنه بين القوم ، ولكن تحقيق مذهبه أن الخالق لفعل العبد الاختياري هو الله تعالى كما صرح به في الإرشاد ، حيث قال : «اتفق أئمة السلف قبل ظهور البدع والأهواء على أن الخالق هو الله تعالى ولا خالق سواه ، وأن الحوادث كلها حدثت بقدرة الله تعالى من غير فرق بين ما تتعلق به قدرة العباد ، وبين ما لا تتعلق به ، فإن تعلق الصفة بشيء لا يستلزم تأثيرها فيه ، كالعلم بالعلوم ، والإرادة بفعل الغير ، فالقدرة الحادثة لا تؤثر في مقدورها ، واتفقت المعتزلة ومن تابعهم من أهل الزيغ على أن العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرهم».

واحتج أهل الحق القائلون بأن الله هو الخالق لأفعال العباد الاختيارية بآيات كثيرة تدل على أن الله هو الخالق لأفعال العباد ، وأنها داخلة تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه فمنها : قول الله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، [الزمر : ٦٢] وهذا عام لا يخرج عنه شيء من العالم ، أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته ، وليس مخصوصا بذاته وصفاته ، فإنه الخالق بذاته وصفاته وما سواه مخلوق له ، واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق ، وصفاته سبحانه داخلة في مسمى اسمه ، فإن الله سبحانه اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال ، المنزه عن كلّ صفة نقص ومثال ، والعالم قسمان : أعيان وأفعال ، وهو الخالق لأعيانه ، وما يصدر عنها من الأفعال ، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك فلا يخرج شيء منه عن علمه ، ولا عن قدرته ، ولا عن خلقه ومشيئته.

ومنها : قول الله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه‌السلام أنه قال لقومه : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ

٣٩

__________________

ـ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ـ ٩٦] أي عملكم «فما» مصدرية كما قدره بعضهم والاستدلال بها ظاهر ، ولكن ليس بقوي ، إذ لا تناسب بين إنكاره عليهم عبادة ما ينحتونه بأيديهم وبين إخبارهم ؛ لأن الله خالق لأعمالكم من عبادة تلك الآلهة ونحتها وغير ذلك فالأولى : أن تكون «ما» موصولة ، أي : والله خلقكم وخلق آلهتكم التي عملتموها بأيديكم فهي مخلوقة له لا لآلهة شركاء معه ، فأخبر أنه خلق معموله ، وقد «خلق» عملهم وصنعهم ، ولا يقال المراد مادته ، فإن مادته غير معمولة لهم ، وإنما يصير معمولا بعد عملهم. وقال بعضهم : لا مانع من جعل «ما» مصدرية لحصول الطباق مع المصدرية إذ المعنى : إنكم تعبدون منحوتا تصيرونه بعملكم صنما ، والحال أن الله تعالى خلقكم وخلق عملكم الذي به يصير المنحوت صنما ، فإنهم لم يعبدوا الأصنام من حيث كونها حجارة ، وإنما عبدوها من حيث أشكالها ، فهم في الحقيقة ، إنما عبدوا عملهم ، وبذلك تقام عليهم الحجة بأنهم وعملهم مخلوقان لله تعالى ، فكيف يعبد المخلوق مخلوقا مثله ، مع أن المعبود كسب العابد وعمله.

ولكن ينبغي أن يجعل هذا المصدر بمعنى المعمول أي : المعنى الحاصل بالمصدر ليصح تعلق الخلق به ، ثم تحمل الإضافة بمعونة المقام على الاستغراق ، لأن المقام مقام التمدح ، وإن كان أصل الإضافة للعهد ليتم المقصود إذ على تقدير : ألا تكون الإضافة للاستغراق يجوز أن يكون المراد ببعض المعمولات أمثال السرير بالنسبة إلى النجار فلا يتم المقصود ، وهو إثبات أن جميع أفعال العباد ، ومعمولاتهم مخلوقة له تعالى.

والرد على المعتزلة إذ لا خلاف لهم : في أن أمثال هذا المعمول من الجواهر مخلوقة له تعالى لا مدخل للعبد فيها ، وإنما الخلاف فيما يقع بكسب العبد ويسند إليه ، مثل الصوم ، والصلاة ، والزكاة ، والأكل ، والشرب ، والقعود ، ونحو ذلك : قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ، وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) ، فأخبر سبحانه : أنه هو الذي جعل السرابيل ، وهي الدروع والثياب المصنوعة ومادتها لا تسمى سرابيل إلا بعد صنع الآدميين لها ، فإذا كانت مجعولة لله فهي مخلوقة له بجملتها وصورتها ومادتها وهيئاتها ، ونظير هذا قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) [النحل : ٨٠].

فأخبر سبحانه : أن البيوت المصنوعة المستقرة والمتنقلة له ، وهي إنما صارت بيوتا بالصنعة الآدمية ، ومنها قوله تعالى ـ حكاية عن خليله إبراهيم أنه قال : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [إبراهيم : ٤٠] ، وقوله : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم : ٣٧] ، وقوله : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ، وَرَهْبانِيَّةً) [الحديد : ٧] ، وقوله : ـ حكاية عن زكريا ـ أنه قال عن ولده : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [مريم : ٦]. ومن السنة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اجعلني لك شكّارا ، لك ذكّارا ، لك رهّابا ، لك مطواعا ، مخبتا إليك ، أوّاها منيبا».

فسأل ربه أن يجعله كذلك ، وهذه كلها أفعال اختيارية ، واقعة بقدرة الله خلقا وبقدرة العبد كسبا.

احتج أهل الحق على أن العبد فاعل مختار بالمعقول ، والمنقول ، أما المعقول : فإن الإنسان ليدرك إدراكا حسيا ، ويعلم بضرورة العقل وبديهته ، علما لا يخالجه شك ، ولا يداخله مرية ، أن بين صحيح الأعضاء وبين من لا صحة لأعضائه فرقا كبيرا ، فإن صحيح الأعضاء بفعل القيام والقعود وسائر الحركات مختارا غير مكره ولا يضطر ولكن سقيم الأعضاء لم يفعله أصلا ، فهذا الفرق يدل على أن العبد فاعل مختار ، ـ

٤٠