تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

في البرزخ ، وذلك أنهم يرون مقاعدهم من النار غدوة وعشيّة ؛ فهم لم يزالوا مشاهدين لها ؛ نسأل الله العافية في الدارين بجوده وكرمه ، ثم عظّم تعالى قدر هول ذلك اليوم بقوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ* ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) الآية.

٥٦١

تفسير سورة «المطفّفين»

وهي مكّيّة في قول جماعة

وقال ابن عبّاس وغيره : هي مدنية ، وعنه : نزل بعضها بمكة ونزل أمر التطفيف بالمدينة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)(٣)

قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) الآية ، المطفّف الذي ينقص الناس حقوقهم ، والتطفيف : النّقصان ، أصله من الشيء الطفيف ، وهو النزر ، والمطفّف إنما يأخذ بالميزان أو بالمكيال شيئا خفيفا ، و (اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) معناه قبضوا منهم ، و (كالُوهُمْ) معناه : قبّضوهم ، و (يُخْسِرُونَ) معناه : ينقصون.

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)(٦)

وقوله سبحانه : (أَلا يَظُنُ) بمعنى : يعلم ويتحقق ، وقال ـ ص ـ : (أَلا يَظُنُ) ذكر أبو البقاء أن «لا» هنا هي النافية دخلت عليها همزة الاستفهام ، وليست «ألا» التي للتنبيه والاستفتاح ؛ لأن ما بعد «ألا» التنبيهيّة مثبت وهو هنا منفيّ ، انتهى ، ، وقيام الناس لرب العالمين يومئذ ، يختلف الناس فيه بحسب منازلهم ، وروي أنه يخفّف عن المؤمن حتى يكون على قدر الصلاة المكتوبة ، وفي هذا القيام هو إلجام العرق للناس ؛ كما صرّح به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح ، والناس أيضا فيه مختلفون بالتخفيف والتشديد ، قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا سليمان التّيميّ عن أبي عثمان النهدي عن سلمان ، قال : تدنى الشمس من الناس يوم القيامة حتى تكون من رؤوسهم قاب قوس أو قاب قوسين فتعطي حرّ عشر سنين ؛ وليس على أحد يومئذ طحربة ولا ترى فيه عورة مؤمن ولا مؤمنة ، ولا يضرّ حرّها يومئذ مؤمنا ولا مؤمنة ، وأما الآخرون ؛ أو قال الكفار فتطبخهم ، فإنما تقول أجوافهم غق غق ، قال نعيم : الطحربة : الخرقة / انتهى ، ، ونحو هذا للمحاسبي قال في «كتاب

٥٦٢

التوهّم» : فإذا وافى الموقف أهل السموات السبع والأرضين السبع ؛ كسيت الشمس حرّ عشر سنين ، ثم أدنيت من الخلائق قاب قوس أو قاب قوسين ، فلا ظلّ في ذلك اليوم إلا ظلّ عرش ربّ العالمين ، فكم بين مستظلّ بظل العرش وبين واقف لحرّ الشمس قد أصهرته ؛ واشتدّ فيها كربه وقلقه ، فتوهّم نفسك في ذلك الموقف ؛ فإنك لا محالة واحد منهم ، انتهى ، اللهمّ ، عاملنا برحمتك وفضلك في الدّارين ، فإنّه لا حول لنا ولا قوّة إلّا بك.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)(٧)

وقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ...) يعني : الكفار وكتابهم يراد به الذي فيه تحصيل أمرهم ، وأفعالهم ، ويحتمل عندي أن يكون المعنى وعدادهم وكتاب كونهم هو في سجين ؛ أي : هنالك كتبوا في الأزل ، واختلف في (سِجِّينٍ) ما هو؟ والجمهور أن سجينا بناء مبالغة من السّجن ، قال مجاهد : وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة (١).

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ)(٢٦)

وقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) تعظيم لأمر هذا السّجّين وتعجيب منه ، ويحتمل أن يكون تقرير استفهام ، أي : هذا مما لم تكن تعلمه قبل الوحي ، و (كِتابٌ مَرْقُومٌ) على القول الأول : مرتفع على خبر «إنّ» وعلى القول الثاني مرتفع على أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره : هو كتاب مرقوم ، ويكون هذا الكلام مفسّرا ل (سِجِّينٌ) ما هو؟ ، و (مَرْقُومٌ) معناه : مكتوب لهم بشرّ ، وباقي الآية بيّن ، ثم أوجب أنّ ما كسبوا من الكفر والعتو قد (رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : غطى عليها ؛ فهم مع ذلك لا يبصرون رشدا ، يقال :

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٨٦) (٣٦٦٠٠) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٥٨) ، وابن عطية (٥ / ٤٥١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٣٨) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه بنحوه.

٥٦٣

رانت الخمر على قلب شاربها ، وران الغشي على قلب المريض ، وكذلك الموت ، / قال الحسن وقتادة : الرّين الذّنب على الذنب حتى يموت القلب (١) ، وروى أبو هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الرجل إذا أذنب نكتت نكتة سوداء في قلبه ، ثم كذلك حتّى يتغطّى فذلك الران الذي قال الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) ، قال الفخر (٢) : قال أبو معاذ النحوي : الرّين سواد القلب من الذنوب ، والطّبع أن يطبع على القلب ، وهو أشدّ من الرين ، والإقفال أشدّ من الطبع ؛ وهو أن يقفل على القلب ، انتهى ، والضمير في قوله تعالى : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ) للكفار أي : هم محجوبون لا يرون ربّهم ، قال الشافعي : لما حجب الله قوما بالسّخط دلّ على أن قوما يرونه بالرّضى ، قال المحاسبي ـ رحمه‌الله ـ في كتاب «توبيخ النفس» : وينبغي للعبد المؤمن إذا رأى القسوة من قلبه أن يعلم أنها من الرين في قلبه فيخاف أن يكون الله تعالى لمّا حجب قلبه عنه بالرّين والقسوة أن يحجبه غدا عن النظر إليه ؛ قال تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ* كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) إحداهما تتلو الأخرى ؛ ليس بينهما معنى ثالث ، فإن اعترض للمريد خاطر من الشيطان ليقتطعه عن الخوف من الله تعالى ، حتى تحلّ به هاتان العقوبتان فقال إنما نزلتا في الكافرين ؛ فليقل فإنّ الله لم يؤمّن منهما كثيرا من المؤمنين ، وقد حذّر سبحانه المؤمنين أن يعاقبهم بما يعاقب به الكافرين ؛ فقال تعالى : (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [آل عمران : ١٣١] إلى غير ذلك من الآيات ، انتهى ، ولما ذكر الله تعالى أمر كتاب الفجار ، عقّب ذلك بذكر كتاب ضدّهم ؛ ليبيّن الفرق بين الصنفين ، واختلف في الموضع المعروف ب (عِلِّيِّينَ) ما هو؟ فقال ابن عبّاس : السّماء السّابعة تحت العرش (٣) ، وروي ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ، وقال الضحاك : هو سدرة المنتهى (٥) ، وقال ابن عبّاس أيضا : عليون : الجنة (٦).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٩٠) (٣٦٦٢٧) عن الحسن ، وعن قتادة برقم : (٣٦٦٤٠) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٦٠) ، وابن عطية (٥ / ٤٥٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٨٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٠) ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) ينظر : «الفخر الرازي» (٣١ / ٨٦)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٩٣) عن ابن عبّاس وعن كعب برقم : (٣٦٦٥٧) ، و (٣٦٦٤٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٦٠) ، وابن عطية (٥ / ٤٥٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٨٦) بنحوه.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٥٢)

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٩٤) ، (٣٦٦٥٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٦٠) ، وابن عطية (٥ / ٤٥٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد بن حميد من طريق الأجلح عن الضحاك رضي الله عنه.

(٦) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٩٤) ، (٣٦٦٥٨) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٦٠) ، وابن عطية (٥ / ٤٥٢) ، وابن كثير ـ

٥٦٤

وقوله تعالى : (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يعني الملائكة ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (١) ، و (يَنْظُرُونَ) معناه إلى ما عندهم من النعيم ، والنضرة : النعمة والرونق ، والرحيق : الخمر الصافية ، و (مَخْتُومٍ) يحتمل أنّه يختم على كؤوسه التي يشرب بها تهمّما وتنظفا ، والظاهر أنه مختوم شربه بالرائحة المسكية ؛ حسبما فسّره قوله : (خِتامُهُ مِسْكٌ) قال ابن عبّاس وغيره : خاتمة شربه مسك (٢) ، [وقرأ الكسائيّ (٣) : «خاتمة مسك»] ، ثم حرّض تعالى على الجنة بقوله : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ).

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)(٢٨)

وقوله تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) المزاج : الخلط ، قال ابن عبّاس وغيره : (تَسْنِيمٍ) : أشرف شراب في الجنة ، وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة ، وهي عين يشرب بها المقربون صرفا ويمزج رحيق الأبرار بها (٤) ؛ وهذا المعنى في «صحيح البخاري» ، وقال مجاهد ما معناه : أن تسنيما مصدر من سنّمت : إذا علوت ، ومنه السّنام ، فكأنه عين قد عليت على أهل الجنة فهي تنحدر ، وقاله مقاتل (٥) ، وجمهور المتأولين أنّ منزلة الأبرار دون منزلة المقربين ، وأن الأبرار هم أصحاب اليمين ، وأن المقربين هم السابقون.

وقوله : (يَشْرَبُ بِهَا) بمعنى يشربها.

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ)(٣٤)

__________________

ـ في «تفسيره» (٤ / ٤٨٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عن ابن عبّاس.

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٩٥) ، (٣٦٦٦٣) عن قتادة ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٥٣)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٩٨) ، (٣٦٦٨٣) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٦) ، وابن عطية (٥ / ٤٥٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٨٦)

(٣) ينظر : «الحجة» (٦ / ٣٨٦) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٥١) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٣١) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١٠٤) ، و «العنوان» (٢٠٥) ، و «حجة القراءات» (٧٥٤) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٩٧)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٠٠) ، (٣٦٧٠٠) ، وعن أبي صالح برقم : (٣٦٧٠٣) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٦٢) ، وابن عطية (٥ / ٤٥٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٨٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٤) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عبّاس بنحوه.

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٩٩) ، (٣٦٦٩١) عن مجاهد ، وابن عطية (٥ / ٤٥٣)

٥٦٥

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا) يعني في الدنيا ، (يَضْحَكُونَ) من المؤمنين ، روي أن هذه الآية نزلت في صناديد قريش وضعفة المؤمنين ، والضمير في (مَرُّوا) للمؤمنين ويحتمل أن يكون للكفار ، وأما ضمير (يَتَغامَزُونَ) فهو للكفار ؛ لا يحتمل غير ذلك ، و (فَكِهِينَ) أي : أصحاب فكاهة / ونشاط وسرور باستخفافهم بالمؤمنين ، وأما الضمير في (رَأَوْهُمْ) وفي (قالُوا) فقال الطبريّ (١) وغيره : هو للكفار ، وقال بعضهم : بل المعنى بالعكس ، وإنما المعنى وإذا رأى المؤمنون الكفّار قالوا : (إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) ، وما أرسل المؤمنون حافظين على الكفّار ، وهذا كلّه منسوخ على هذا التأويل ، * ت* : والأول أظهر.

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ)(٣٦)

وقوله تعالى : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي : إلى أعدائهم في النار ، قال كعب : لأهل الجنة كوى ينظرون منها (٢) ، وقال غيره : بينهم جسم عظيم شفّاف يرون معه حالهم ، * ت* : قال الهرويّ : قوله تعالى : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) ، قال أحمد بن يحيى : الأريكة : السرير في الحجلة ولا يسمّى منفردا أريكة ، وسمعت الأزهريّ يقول : كل ما اتّكئ عليه فهو أريكة ، انتهى ، (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي : جزاء ما كانوا يفعلون ، و (هَلْ ثُوِّبَ) تقرير وتوقيف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمّته.

__________________

(١) ينظر : «تفسير الطبري» (١٢ / ٥٠٢)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٠٢) ، (٣٦٧١١) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٦٢) ، وابن عطية (٥ / ٤٥٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٤٥) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة عن كعب.

٥٦٦

تفسير سورة «الانشقاق»

وهي مكّيّة بلا خلاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ)(٥)

قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) الآية ، هذه أوصاف يوم القيامة و (أَذِنَتْ) معناه : استمعت وسمعت أمر ربّها ؛ ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أذن الله لشيء أذنه لنبيّ يتغنّى بالقرآن» ، و (حُقَّتْ) (١) قال ابن عبّاس : معناه : وحقّ لها أن تسمع وتطيع (٢) ، ويحتمل أن يريد : وحقّ لها أن تنشق لشدة الهول وخوف الله تعالى ، ومدّ الأرض هي إزالة جبالها حتى لا يبقى فيها عوج ولا أمت ، وفي الحديث : «تمدّ مدّ الأديم» ، و (أَلْقَتْ ما فِيها) يعني : من / الموتى ؛ قاله الجمهور. وخرّج الختلي أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم في كتاب «الدّيباج» له بسنده عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله ـ عزوجل ـ : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض فأجلس جالسا في قبري ، فيقتح لي باب إلى السّماء بحيال رأسي حتّى أنظر إلى العرش ، ثمّ يفتح لي باب من تحتي ؛ حتّى أنظر إلى الأرض السّابعة ؛ حتّى أنظر إلى الثّرى ، ثمّ يفتح لي باب عن يميني حتّى أنظر إلى الجنّة ومنازل أصحابي ، وإنّ الأرض تحرّكت تحتي فقلت : ما لك أيّتها الأرض؟ قالت : إنّ ربّي أمرني أن ألقي ما في جوفي ، وأن أتخلّى ؛ فأكون كما كنت ؛ إذ لا شيء فيّ ، فذلك قول الله ـ عزوجل ـ : (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) ، (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي : سمعت وأطاعت ، وحقّ لها أن تسمع وتطيع» (٣) ، الحديث ، انتهى من «التذكرة» (٤) ، و (تَخَلَّتْ) معناه خلّت عمّا كان فيها لم تتمسّك منهم بشيء.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٥٦)

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٧) ، وعزاه إلى أبي القاسم الختلي في «الديباج».

(٤) ينظر : «التذكرة» (١ / ٢٥١)

٥٦٧

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ(٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً)(١٢)

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ ...) الآية ، الكادح : العامل بشدّة واجتهاد ، والمعنى : إنّك عامل خيرا أو شرا ، وأنت لا محالة ملاقيه ، أي : فكن على حذر من هذه الحال ، واعمل صالحا تجده ، وأما الضمير في (فَمُلاقِيهِ) فقال الجمهور : هو عائد على الربّ تعالى ، وقال بعضهم : هو عائد على الكدح* ت* : وهو ظاهر الآية ، والمعنى ملاق جزاءه ، والحساب اليسير : هو العرض ؛ ومن نوقش الحساب هلك ؛ كذا في الحديث الصحيح ، وعن عائشة : هو أن يعرف ذنوبه ثم يتجاوز عنه ، ونحوه في الصحيح عن ابن عمر ، انتهى ، وفي الحديث / عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في بعض صلاته : «اللهمّ حاسبني حسابا يسيرا ، فلمّا انصرف ؛ قلت : يا رسول الله ، ما الحساب اليسير؟ قال : أن ينظر في كتابه ويتجاوز عنه ؛ إنّه من نوقش الحساب ـ يا عائشة ـ يومئذ هلك ، وكلّ ما يصيب المؤمن يكفّر الله عنه حتّى الشوكة تشوكه» (١) ، قال صاحب «السلاح» : رواه الحاكم في «المستدرك» ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، انتهى ، وروى ابن عمر أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حاسب نفسه في الدّنيا ، هوّن الله عليه حسابه يوم القيامة» ؛ قال عزّ الدين بن عبد السّلام في اختصاره ل «رعاية المحاسبي» : أجمع العلماء على وجوب محاسبة النفس فيما سلف من الأعمال وفيما يستقبل منها ، «فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله» ، انتهى.

(وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) أي : الذين أعدّهم الله له في الجنة ، وأما الكافر فروي أنّ يده تدخل من صدره حتّى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها.

و (يَدْعُوا ثُبُوراً) معناه : يصيح منتحبا : وا ثبوراه ؛ وا حزناه ، ونحو هذا ، والثبور اسم جامع للمكاره ، كالويل.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٦ / ٤٨) ، وابن خزيمة (٢ / ٣٠) ، جماع أبواب الكلام المباح في الصلاة والدعاء والذكر ، ومسألة الرب عزوجل ـ وما يضاهي هذا ويقاربه : باب مسألة الرب جل وعلا ـ في الصلاة محاسبة يسيرة ، إذ المحاسبة بجميع ذنوبه والمناقشة به تهلك صاحبها (٨٤٩) ، والحاكم (١ / ٥٧ ـ ٢٥٥) ، (٤ / ٢٤٩ ، ٥٨٠).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه بهذا اللفظ ، إنما اتفقا على حديث أبي مليكة ، ومن نوقش الحساب عذب ، ووافقه الذهبي.

٥٦٨

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً)(١٥)

وقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) يريد في الدنيا ، (مَسْرُوراً) أي : تملّكه ذلك لا يدري إلا السرور بأهله دون معرفة ربه.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) معناه : أن لن يرجع إلى الله مبعوثا محشورا ، قال ابن عبّاس : لم أعلم ما معنى (يَحُورَ) ؛ حتّى سمعت امرأة أعرابيّة تقول لبنيّة لها : حوري ؛ أي : ارجعي (١) ، ـ ص ـ : (بَلى) إيجاب بعد النفي ، أي : بلى ؛ ليحورنّ أي : ليرجعنّ ، انتهى.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ)(٢٥)

وقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) «لا» / زائدة وقيل : «لا» ردّ على أقوال الكفار ، و (بِالشَّفَقِ) الحمرة التي تعقب غيبوبة الشمس مع البياض التابع لها في الأغلب ، و (وَسَقَ) معناه : جمع وضمّ ومنه الوسق أي : الأصوع المجموعة ، والليل يسق الحيوان جملة أي : يجمعها ويضمّها ، وكذلك جميع المخلوقات التي في الأرض والهواء من البحار والجبال والرياح وغير ذلك ، واتساق القمر كماله وتمامه بدرا ، والمعنى امتلأ من النور ، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر : «لتركبنّ» ـ بضم الباء (٢) ـ والمعنى : لتركبنّ الشدائد : الموت والبعث والحساب حالا بعد حال ، و «عن» تجيء بمعنى «بعد» كما يقال : ورث المجد كابرا عن كابر ، وقيل : غير هذا ، وقرأ حمزة والكسائيّ وابن كثير : «لتركبنّ» (٣) ـ بفتح الباء ـ على معنى أنت يا محمّد ، فقيل : المعنى حالا بعد حال من معالجة الكفار ، وقال ابن عبّاس :

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٠٩) (٣٦٧٤٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٥٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٨٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٨) ، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عبّاس بنحوه.

(٢) وقرأ بها عاصم.

ينظر : «السبعة» (٦٧٧) ، و «الحجة» (٦ / ٣٩١) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٥٥) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٣٤) ، و «شرح الطيبة» (٣ / ١٠٥) ، و «العنوان» (٢٠٥) ، و «حجة القراءات» (٧٥٦) ، و «شرح شعلة» (٦٢١) ، و «إتحاف» (٢ / ٦٠٠)

(٣) ينظر : مصادر القراءة السابقة.

٥٦٩

سماء بعد سماء في الإسراء (١) ، وقيل : هي عدة بالنّصر أي لتركبنّ أمر العرب قبيلا بعد قبيل ؛ كما كان ، وفي البخاري عن ابن عبّاس : (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) حالا بعد حال ؛ هكذا قال نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) ، انتهى ، ثم قال تعالى : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، أي : ما حجتهم مع هذه البراهين الساطعة ، و (يُوعُونَ) معناه : يجمعون من الأعمال والتكذيب كأنهم يجعلونها أوعية ، تقول وعيت العلم ، وأوعيت المتاع ، و (مَمْنُونٍ) معناه : مقطوع.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥١٥) عن الحسن ، وأبي العالية ، برقم : (٣٦٨٠٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٤٩) ، وعزاه للطيالسي ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن عبّاس بنحوه.

(٢) أخرجه الطبراني (١١ / ١٠١) ، (١١١٧٣)

٥٧٠

تفسير سورة «البروج»

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ)(٣)

الجمهور : أنّ «البروج» هي المنازل التي عرفتها العرب ، وقد تقدم الكلام عليها ، (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) : هو يوم القيامة باتفاق ؛ كما جاء في الحديث ، وإنما اختلف الناس في الشاهد والمشهود اختلافا كثيرا ، فقال ابن عبّاس : الشاهد : الله / والمشهود : يوم القيامة (١) ، وقال الترمذيّ : الشاهد : الملائكة الحفظة ، والمشهود [أي] عليه : الناس ، وقال أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ، * ت* : ولو صحّ لوجب الوقوف عنده.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٩)

وقوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) معناه فعل الله بهم ذلك ؛ لأنّهم أهل له ؛ فهو على جهة الدعاء بحسب البشر ، لا أنّ الله يدعو على أحد ، وقيل عن ابن عبّاس : معناه لعن وهذا تفسير بالمعنى ، وقال الثعلبي : قال ابن عبّاس : كل شيء في القرآن (قُتِلَ) فهو : لعن ، انتهى (٢) ، وقيل : هو إخبار بأنّ النار قتلتهم ؛ قاله ابن الربيع بن أنس (٣) ، ـ ص ـ : وجواب القسم محذوف أي : والسماء ذات البروج لتبعثنّ ، وقال المبرد : الجواب : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) ، وقيل الجواب : (قُتِلَ) واللام محذوفة أي : لقتل ، وإذا كان (قُتِلَ)

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٢٢) ، (٣٦٨٦٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٦٧) ، وابن عطية (٥ / ٤٦٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٥٣) ، وعزاه لابن جرير.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٦١)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٦١)

٥٧١

هو الجواب فهو خبر انتهى ، وصاحب الأخدود : مذكور في السّير وغيرها وحديثه في مسلم مطوّل وهو ملك دعا المؤمنين بالله إلى الرجوع عن دينهم إلى دينه ، وخدّ لهم في الأرض أخاديد طويلة ؛ وأضرم لهم نارا وجعل يطرح فيها من لم يرجع عن دينه ؛ حتى جاءت امرأة معها صبيّ فتقاعست ؛ فقال لها الطفل : يا أمّه ؛ اصبري فإنّك على الحق ، فاقتحمت النار.

وقوله : (النَّارِ) بدل من الأخدود وهو بدل اشتمال ، قال* ع (١) * : وقال الربيع بن أنس وأبو إسحاق وأبو العالية : بعث الله على أولئك المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم أبو نحو هذا ، وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافّتي الأخدود ؛ وعلى هذا يجيء (قُتِلَ) خبرا لا دعاء (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)(١٢)

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...) الآية ، فتنوهم ، أي : أحرقوهم ، * ت* : قال الهروي : قوله تعالى : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي : لهم / عذاب لكفرهم وعذاب بإحراقهم المؤمنين ، انتهى ، قال* ع (٣) * : ومن قال : إنّ هذه الآيات الأواخر في قريش جعل الفتنة الامتحان والتعذيب ، ويقوّي هذا التأويل بعض التقوية قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) ، لأنّ هذا اللفظ في قريش أشبه منه في أولئك ، والبطش : الأخذ بقوة.

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(٢٢)

وقوله : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) قال الضحاك وابن زيد : معناه : يبدىء الخلق بالإنشاء ، ويعيدهم بالحشر (٤) ، وقال ابن عبّاس ما معناه : إنّ ذلك عامّ في جميع الأشياء ،

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٦٢)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٢٥) ، (٣٦٨٧٥) عن الربيع بن أنس ، وذكره البغوي (٤ / ٤٧٠) ، وابن عطية (٥ / ٤٦٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٩٦)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٦٢)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٢٨) عن الضحاك ، برقم : (٣٦٨٨٥) ، وعن ابن زيد برقم : (٣٦٨٨٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٢)

٥٧٢

فهي عبارة على أنّه يفعل كلّ شيء ، أي : يبدىء كل ما يبدأ ويعيد كلّ ما يعاد ، وهذان قسمان يستوفيان جميع الأشياء (١) ، و (الْجُنُودِ) الجموع ، و (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) في موضع خفض على البدل من الجنود ، ثم ترك القول بحاله ، وأضرب عنه إلى الإخبار بأن هؤلاء الكفار بمحمّد وشرعه ؛ لا حجة لهم ولا برهان ؛ بل هو تكذيب مجرّد سببه الحسد ، ثم توعّدهم سبحانه بقوله : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي : عذاب الله ونقمته من ورائهم ، أي : يأتي بعد كفرهم وعصيانهم ، وقرأ الجمهور : «في لوح محفوظ» بالخفض صفة ل «لوح» وقرأ نافع (٢) : «محفوظ» بالرفع ، أي : محفوظ في القلوب لا يدركه الخطأ والتبديل.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٢)

(٢) ينظر : «السبعة» (٦٧٨) ، و «الحجة» (٦ / ٣٩٦) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٥٨) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٣٦) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١٠٦) ، و «العنوان» (٢٠٦) ، و «حجة القراءات» (٧٥٧) ، و «شرح شعلة» (٦٢١) ، و «إتحاف» (٢ / ٦٠١)

٥٧٣

تفسير سورة «والطّارق»

وهي مكّيّة بلا خلاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤)

أقسم الله تعالى بالسماء المعروفة في قول الجمهور ، وقيل : السماء هنا هو المطر ، (وَالطَّارِقِ) : الذي يأتي ليلا ، ثم فسّر تعالى هذا الطارق بأنّه : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) واختلف في (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) فقال الحسن / بن أبي الحسن ما معناه ؛ أنه اسم جنس ؛ لأنها كلّها ثاقبة ، أي : ظاهرة الضوء ، يقال : ثقب النجم إذا أضاء (١) ، وقال ابن زيد : أراد نجما مخصوصا ؛ وهو زحل (٢) ، وقال ابن عبّاس : أراد الجدي (٣) ، وقال ابن زيد أيضا : هو الثّريّا (٤) ، وجواب القسم في قوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ ...) الآية ، و «إن» هي المخففة من الثقيلة ، واللام في «لمّا» لام التأكيد الداخلة على الخبر ؛ هذا مذهب حذّاق البصريين ، وقال الكوفيون «إن» بمعنى «ما» النافية ، واللام بمعنى «إلا» فالتقدير : ما كلّ نفس إلا عليها حافظ ، ومعنى الآية فيما قال قتادة وغيره : إنّ على كلّ نفس مكلّفة حافظا يحصي أعمالها ويعدّها للجزاء عليها (٥) ، وقال أبو أمامة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير هذه الآية : «إنّ لكلّ نفس حفظة من الله يذبّون عنها كما يذبّ عن قصعة العسل الذّباب ، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين».

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ)(٧)

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٤)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٣٣) ، (٣٦٩٠٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٤)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٤)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٣٣) ، (٣٦٩٠٦) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٧٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦٠) ، وعزاه لابن جرير.

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٣٤) ، (٣٦٩١٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦٠) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.

٥٧٤

وقوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) توقيف لمنكري البعث على أصل الخلقة الدالّ على أن البعث جائز ممكن ، ثم بادر اللفظ إلى الجواب اقتضابا وإسراعا إلى إقامة الحجة ، فقال : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) قال الحسن وغيره : معناه : من بين صلب كلّ واحد من الرجل والمرأة ، وترائبه (١) ، وقال جماعة : من بين صلب الرجل وترائب المرأة [والتريبة من الإنسان : ما بين التّرقوة إلى الثدي ، قال أبو عبيدة معلّق الحلي إلى الصدر ، وقيل غير هذا (٢).

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(١٧)

وقوله تعالى : (إِنَّهُ (٣) عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) قال ابن عبّاس وقتادة : المعنى أن الله على ردّ الإنسان حيّا بعد موته لقادر (٤) ، وهذا أظهر الأقوال هنا وأبينها ، و (دافِقٍ) قال كثير من المفسرين : هو بمعنى مدفوق ، والعامل في (يَوْمَ) الرّجع من قوله : (عَلى رَجْعِهِ).

و (تُبْلَى السَّرائِرُ) معناه تختبر وتكشف بواطنها ، وروى أبو الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن / السرائر التي يبتليها الله من العباد : التوحيد ، والصلاة ، والزكاة ، والغسل من الجنابة ، قال* ع (٥) * : وهذه معظم الأمر ، وقال قتادة : الوجه في الآية العموم في جميع السرائر (٦) ، ونقل ابن العربي في «أحكامه» عن ابن مسعود : أنّ هذه المذكورات [من] الصلاة والزكاة والوضوء والوديعة كلّها أمانة ، قال : وأشدّ ذلك الوديعة تمثل له ، أي : لمن خانها على هيئتها يوم أخذها فترمى في قعر جهنم ، فيقال له : أخرجها ، فيتبعها فيجعلها في عنقه فإذا أراد أن يخرج بها زلّت منه فيتبعها ؛ فهو كذلك دهر الداهرين ، انتهى ، * ت* : قال أبو عبيد الهروي : قوله تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) الواحدة سريرة وهي الأعمال التي أسرّها

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٥)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٥)

(٣) سقط في : د.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٣٧) ، (٣٦٩٣٧) عن قتادة ، وذكره البغوي (٤ / ٤٧٣) ، وابن عطية (٥ / ٤٦٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦١) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٦٦)

(٦) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٦)

٥٧٥

العباد ، انتهى ، و (الرَّجْعِ) المطر وماؤه ، وقال ابن عبّاس : الرجع : السحاب فيه المطر (١) ، قال الحسن : لأنه يرجع بالرزق كلّ عام (٢) ، وقال غيره : لأنه يرجع إلى الأرض ، و (الصَّدْعِ) النبات ؛ لأن الأرض تتصدّع عنه ، والضمير في (إِنَّهُ) للقرآن ، و (فَصْلٌ) معناه : جزم فصل الحقائق من الأباطيل ، والهزل اللعب الباطل ، ثم أخبر تعالى عن قريش أنهم يكيدون في أفعالهم وأقوالهم بالنبي* ع* ، و (أَكِيدُ كَيْداً) وهذا على ما مرّ من تسمية العقوبة باسم الذنب ، و (رُوَيْداً) معناه : قليلا ؛ قاله قتادة (٣) ، وهذه حال هذه اللفظة ؛ إذا تقدمها شيء تصفه كقولك : سيرا رويدا ، أو تقدمها فعل يعمل فيها كهذه ، وأما إذا ابتدأت بها فقلت : رويدا يا فلان ؛ فهي بمعنى الأمر بالتماهل ، ـ ص ـ : (رُوَيْداً) قال أبو البقاء : نعت لمصدر محذوف ، أي : إمهالا رويدا ، و «رويدا» تصغير «رود» وأنشد أبو عبيدة : [البسيط]

يمشي ولا تكلم البطحاء مشيته

كأنّه ثمل يمشي على رود

أي : على مهل ورفق ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٣٨) ، (٣٦٩٤٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٩٨)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٣٨) ، (٣٦٩٤٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٦)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٤١) ، (٣٦٩٦٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٧)

٥٧٦

تفسير سورة «الأعلى»

وهي مكّيّة في قول الجمهور

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥)

(سَبِّحِ) في هذه الآية بمعنى : نزّه وقدّس وقل : جلّ سبحانه عن النقائص والغير جميعا ، وروى ابن عبّاس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه الآية ، قال : «سبحان ربّي الأعلى» (١) ، وكان ابن مسعود وابن عمر وابن الزبير يفعلون ذلك ، ولما نزلت قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في سجودكم» (٢) ، وعن سلمة بن الأكوع قال : ما سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستفتح دعاء إلّا استفتحه ب «سبحان ربّي الأعلى الوهّاب» (٣) رواه الحاكم في «المستدرك» ، وقال : صحيح الإسناد ، انتهى من «سلاح المؤمن».

و «سوّى» معناه : عدّل وأتقن.

وقوله : (فَهَدى) عامّ لوجوه الهدايات في الإنسان والحيوان ، وقال الفراء : معناه هدى وأضلّ ؛ والعموم في الآية أصوب ، و (الْمَرْعى) : النبات ، و «الغثاء» : ما يبس وجفّ وتحطّم من النبات ؛ وهو الذي يحمله السيل ، و «الأحوى» قيل هو الأخضر الذي عليه سواد من شدّة الخضرة والغضارة ، فتقدير الآية : الذي أخرج المرعى أحوى أي أسود من خضرته وغضارته فجعله غثاء عند يبسه ف (أَحْوى) : حال ، وقال ابن عبّاس : المعنى : فجعله غثاء أحوى أي أسود ؛ لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسودّ وتعفّن

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦٦)

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (١ / ٤٩٨). قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

٥٧٧

فصار أحوى ، فهذا صفة (١).

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى)(٧)

وقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) قال الحسن وقتادة ومالك بن أنس : هذه الآية في معنى قوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ...) [القيامة : ١٦] الآية ، وعده الله أن يقرئه وأخبره أنه لا ينسى نسيانا لا يكون بعده ذكر (٢) ، وقيل : بل المعنى : أنه أمره تعالى بأن لا ينسى على معنى التّثبيت والتأكيد ، وقال الجنيد : معنى (فَلا تَنْسى) لا تترك العمل / بما تضمّن من أمر ونهي.

وقوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) قال الحسن وغيره : معناه : مما قضى الله بنسخه ورفع تلاوته وحكمه (٣) ، وقال ابن عبّاس : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : أن ينسيكه ؛ ليسنّ به (٤) ؛ على نحو قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّي لأنسى أو أنسّى لأسنّ». قال* ع (٥) * : ونسيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ممتنع فيما أمر بتبليغه ؛ إذ هو معصوم فإذا بلغه ووعى عنه ؛ فالنسيان جائز على أن يتذكّر بعد ذلك ، أو على أن يسنّ ، أو على النسخ.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى)(١٣)

وقوله تعالى : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) معناه : نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك وأخراك من النصر والظفر ، ورفعة الرسالة وعلو المنزلة يوم القيامة ، والرفعة في الجنة ، ثم أمره تعالى بالتّذكير ، قال بعض الحذّاق : قوله تعالى : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش ، ثم أخبر تعالى أنّه سيذكّر من يخشى الله والدار الآخرة وهم العلماء والمؤمنون ، كلّ بقدر ما وفّق له ، ويتجنّب الذكرى ونفعها من سبقت له الشقاوة.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٤٤) ، (٣٦٩٧٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٠٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦٦) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس بنحوه.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٤٥) عن قتادة ، برقم : (٣٦٩٨٢) ، وابن عطية (٥ / ٤٦٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٠٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٦٧) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٤٥) ، (٣٦٩٨١) عن مجاهد ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٩)

(٤) ذكره أبو حيان (٨ / ٤٥٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٦٩)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٦٩)

٥٧٨

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧)

و (تَزَكَّى) معناه : طهّر نفسه ونماها بالخير ، ومن «الأربعين حديثا» المسندة لأبي بكر محمّد بن الحسين الآجري الإمام المحدث قال في آخرها : وحديث تمام الأربعين حديثا ؛ وهو حديث كبير جامع لكلّ خير ؛ حدّثنا أبو بكر جعفر بن محمّد الفريابيّ إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين ؛ قال : حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغسانيّ قال : حدثني أبي عن جدّي عن أبي إدريس الخولانيّ عن أبي ذرّ قال : «دخلت المسجد ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ، فجلست إليه فقال : يا أبا ذرّ ، للمسجد تحيّة ، وتحيّته ركعتان ؛ قم فاركعهما ، قال : فلمّا ركعتهما ، جلست إليه ، فقلت : يا رسول الله ، إنّك أمرتني بالصّلاة ، فما الصلاة؟ / قال : خير موضوع ، فاستكثر أو استقلل» الحديث ، وفيه : «قلت :

يا رسول الله ، كم كتابا أنزل الله ـ عزوجل ـ؟ قال : مائة كتاب وأربعة كتب ؛ أنزل الله : على شيث خمسين صحيفة ، وعلى خانوخ ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل على موسى قبل التّوراة عشر صحائف ، وأنزل التّوراة ، والإنجيل ، والزّبور ، والفرقان ، قال : قلت : يا رسول الله ، ما كانت صحف إبراهيم؟ قال : كانت أمثالا كلّها : أيّها الملك المسلّط المبتلى المغرور ، إنّي لم أبعثك لتجمع الدّنيا بعضها على بعض ، ولكنّي بعثتك لتردّ عنّي دعوة المظلوم ، فإنّي لا أردّها ولو من كافر ، وكان فيها أمثال : وعلى بعثتك لتردّ عنّي دعوة المظلوم ، فإنّي لا أردّها ولو من كافر ، وكان فيها أمثال : وعلى العاقل أن تكون له ساعة يناجي فيها ربّه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفكّر في صنع الله ـ عزوجل ـ إليه ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب ، وعلى العاقل ألّا يكون ظاعنا إلّا لثلاث : تزوّد لمعاد ، أو مؤونة لمعاش ، أو لذّة في غير محرّم ، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، ومن حسب كلامه من عمله ؛ قلّ كلامه إلّا فيما يعنيه ، قال : قلت : يا رسول الله ، فما كانت صحف موسى؟ قال : كانت عبرا كلّها : عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن أيقن بالقدر ، ثمّ هو ينصب ، وعجبت لمن رأى الدّنيا وتقلّبها بأهلها ؛ ثمّ اطمأنّ إليها ، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثمّ لا يعمل ، قال : قلت : يا رسول الله ، فهل في أيدينا شيء ممّا كان في أيدي إبراهيم وموسى ؛ ممّا أنزل الله عزوجل عليك؟ قال : نعم ، اقرأ يا أبا ذرّ («قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى* بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) إلى آخر هذه / [السورة ـ يعني : أنّ ذكر هذه الآيات لفي صحف إبراهيم وموسى ـ قال : قلت : يا رسول الله ؛ فأوصني ، قال : أوصيك بتقوى الله ـ عزوجل ـ فإنّه رأس أمرك ، قال : قلت : يا رسول الله ؛ زدني ؛ قال : عليك بتلاوة القرآن وذكر الله ـ عزوجل ـ ؛ فإنّه ذكر لك في السّماء

٥٧٩

ونور لك في الأرض ، قال : قلت : يا رسول الله ، زدني ، قال : وإيّاك وكثرة الضّحك ؛ فإنّه يميت القلب ، ويذهب بنور الوجه ، قال : قلت : يا رسول الله ؛ زدني ، قال : عليك بالجهاد ؛ فإنّه رهبانيّة أمّتي ، قال : قلت : يا رسول الله ؛ زدني ، قال : عليك بالصّمت إلّا من خير ؛ فإنّه مطردة للشّيطان وعون لك على أمر دينك» (١) انتهى.

وقوله تعالى : (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أي : وحّده وصلّى له الصلوات المفروضة وغيرها ، وقال أبو سعيد الخدري وغيره : هذه الآية نزلت في صبيحة يوم الفطر (٢) ، ف (تَزَكَّى) : أدّى زكاة الفطر ، (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) في طريق المصلّى ، وصلّى صلاة العيد ، ثم أخبر تعالى الناس أنهم يؤثرون الحياة الدنيا ، وسبب الإيثار حبّ العاجل والجهل ببقاء الآخرة وفضلها ، وروّينا في كتاب الترمذي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «استحيوا من الله حقّ الحياء ، قال : فقلنا : يا رسول الله ، إنّا نستحي والحمد لله ، قال : ليس ذلك ، ولكنّ الاستحياء من الله حقّ الحياء : أن تحفظ الرأس وما وعى ، وتحفظ البطن وما حوى ، ولتذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدّنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حقّ الحياء» (٣) انتهى ، قال الغزّاليّ : وإيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان ؛ ولذلك قال تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) ثمّ بيّن سبحانه أن الشرّ قديم في الطباع وأن ذلك مذكور في الكتب السالفة فقال : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى * صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) ، انتهى من «الإحياء».

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٧٠)

(٣) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٣٧) ، كتاب «صفة القيامة» باب : (٢٤) (٢٤٥٨) ، وأحمد (١ / ٣٨٧) ، والحاكم (٤ / ٣٢٣) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٤ / ٢٠٩) ، والشجري في «الأمالي» (٢ / ١٩٦ ـ ١٩٧) ، والطبراني في «معجمه الكبير» (١٠ / ١٠٢٩٠) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

قال الترمذي : هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمّد ا ه.

قال المزي في «تهذيب الكمال» (٢ / ٥) : قال أحمد بن محمّد بن القاسم بن محرز البغدادي ، عن يحيى بن معين : ليس به بأس ، وقال أحمد بن عبد الله العجلي : ثقة.

وقال أبو الفتح الأزدي : متروك ا ه من «تهذيب الكمال» ، وقال أيضا عن الصباح بن محمّد بن أبي حازم البجليّ (١٣ / ١١٠) من «تهذيب الكمال» : روى له الترمذي حديثا واحدا عن مرة عن ابن مسعود : «استحيوا من الله حق الحياء». وقال : غريب إنما نعرفه من هذا الوجه. ا ه.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي. وللحديث شاهد من حديث الحكم بن عمير ، أخرجه الطبراني (٣ / ٢٤٦) ، (٣١٩٢).

قال الهيثمي في «المجمع» (١٠ / ٢٧٨) : رواه الطبراني وفيه عيسى بن إبراهيم القرشي ، وهو متروك.

٥٨٠