تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

وقتادة (١) ، والقرض : السلف ، والتضعيف من الله تعالى هو في الحسنات ، وقد مرّ ذكر ذلك ، والأجر الكريم الذي يقترن به رضي وإقبال ، وهذا معنى الدعاء ب «يا كريم» العفو ، أي : إنّ مع عفوه رضى وتنعيما.

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ)(١٣)

وقوله سبحانه : (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ...) الآية ، العامل في (يَوْمَ) قوله : (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) والرؤية هنا رؤية عين ، والجمهور أنّ النور هنا هو نور حقيقة ، وقد روي في هذا عن ابن عبّاس وغيره (٢) آثار مضمنها : أنّ كلّ مؤمن ومظهر للإيمان ، يعطى / يوم القيامة نورا فيطفأ نور كلّ منافق ، ويبقى نور المؤمنين ، حتى إنّ منهم من نوره يضيء كما بين مكّة وصنعاء ؛ رفعه قتادة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ، ومنهم من نوره كالنخلة السحوق ، ومنهم من نوره يضيء ما قرب من قدميه ؛ قاله ابن مسعود (٤) ، ومنهم من يهمّ بالانطفاء مرة ويبين مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية ، قال

__________________

ـ خديج ، وزيد بن ثابت ، وهما قاعدان معه على السرير ، فقال أبو سعيد : لو شاء هذان لحدثاك ، ولكن هذا يخاف أن تنزعه من عرافة قومه ، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة ، فسكتا ، فرفع مروان عليه الدّرة ليضربه ، فلما رأيا ذلك قالا : صدق.

أما قول ابن عمر : فأخرجه البخاري (٧ / ٢٦٧) ، في «مناقب الأنصار» باب : هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه إلى المدينة (٣٨٩٩) ، و (٧ / ٦٢٠) في «المغازي» باب : (٥٣) (٤٣٠٩ ، ٤٣١١) ، من طريق عطاء عن ابن عمر كان يقول : لا هجرة بعد الفتح.

وفي لفظ آخر : قلت لابن عمر رضي الله عنهما : إني أريد أن أهاجر إلى الشام. قال : لا هجرة ، ولكن جهاد ، فانطلق فاعرض نفسك ، فإن وجدت شيئا وإلّا رجعت.

وأما قول عمر : أخرجه النسائي (٧ / ١٤٦) ، في «البيعة» باب : الاختلاف في انقطاع الهجرة ، وأبو يعلى في «مسنده» (١٨٦) عن شعبة عن يحيى بن هانىء عن نعيم بن دجاجة قال : سمعت عمر يقول : لا هجرة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٦٧٥) ، برقم : (٣٣٦١٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٦٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٤٨) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٢٦١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥١) ، وعزاه لابن جرير ، وابن مردويه ، والبيهقي في «البعث».

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٠) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٤) أخرجه الحاكم موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه (٢ / ٤٧٨) ، ومثل هذا له حكم الرفع ؛ لأن ليس ـ

٣٨١

الفخر (١) : قال قتادة (٢) : ما من عبد إلّا وينادى يوم القيامة : يا فلان ، هذا نورك ، يا فلان ، لا نور لك ، نعوذ بالله من ذلك! واعلم أنّ العلم الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نورا من نور البصر ، وإذا كان كذلك ظهر أنّ معرفة الله تعالى هي النور في القيامة ، فمقادير الأنوار يوم القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا ، انتهى ، ونحوه للغزالي ، وخصّ تعالى بين الأيدي بالذكر ؛ لأنّه موضع حاجة الإنسان إلى النور ، واختلف في قوله تعالى : (وَبِأَيْمانِهِمْ) فقال بعض المتأولين : المعنى : وعن أيمانهم ، فكأنّه خصّ ذكر جهة اليمين ؛ تشريفا ، وناب ذلك مناب أن يقول : وفي جميع جهاتهم ، وقال جمهور المفسرين : المعنى : يسعى نورهم بين أيديهم ، يريد الضوء المنبسط من أصل النور ، (وَبِأَيْمانِهِمْ) : أصله ، والشيء الذي هو متّقد فيه ، فتضمن هذا القول أنّهم يحملون الأنوار ، وكونهم غير حاملين أكرم ؛ ألا ترى أنّ فضيلة عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنّما كانت بنور لا يحملانه ، هذا في الدنيا ، فكيف بالآخرة؟! * ت* : وفيما قاله* ع (٣) * : عندي نظر ، وأيضا فأحوال الآخرة لا تقاس على أحوال الدنيا!.

وقوله تعالى : (بُشْراكُمُ) أي : يقال لهم : بشراكم (جَنَّاتٌ) أي دخول جنات.

* ت* : وقد جاءت ـ بحمد الله ـ آثار بتبشير هذه الأمّة المحمّديّة ، وخرّج ابن ماجه قال : أخبرنا جبارة بن المغلّس ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن أبي بردة ، عن أبيه قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا جمع [الله] الخلائق يوم القيامة ، أذن لأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السّجود ، فسجدوا طويلا ، ثمّ يقال : ارفعوا رؤوسكم ، فقد جعلنا عدتكم فداءكم من النّار» (٤) ، قال ابن ماجه : وحدّثنا جبارة بن المغلّس ، حدثنا كثير بن سليمان : عن أنس بن مالك ، قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ هذه الأمّة أمّة مرحومة ، عذابها بأيديها ، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كلّ رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال : هذا فداؤك من

__________________

ـ مما يقال بالرأي ، وابن جرير (١١ / ٦٧٦) (٣٣٦١٦) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٠) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وتعقبه الذهبي ، وقال : بل على شرط البخاري فقط.

(١) ينظر : «تفسير الفخر الرازي» (٢٩ / ١٩٤) عن مجاهد.

(٢) ذكره ابن كثير في «تفسيره» عن جنادة بن أمية (٤ / ٣٠٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٠) ، وعزاه لابن المنذر عن يزيد بن شجرة.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٦١)

(٤) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٤٣٤) ، كتاب «الزهد» باب : صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤٢٩١) ، قال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد ضعيف لضعف جبارة بن المغلس.

٣٨٢

النّار» (١) ، وفي «صحيح مسلم» : «دفع الله لكلّ مسلم يهوديّا أو نصرانيّا فيقول : هذا فداؤك من النار» انتهى من «التذكرة» (٢).

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ) قيل : (يَوْمَ) هو بدل من الأول ، وقيل : العامل فيه «اذكر» ، قال* ع (٣) * : ويظهر لي أنّ العامل فيه قوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ويجيء معنى الفوز أفخم ؛ كأنّه يقول : إنّ المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا ، لأنّ ظهور المرء يوم خمول عدوّه ومضادّه أبدع وأفخم ، وقول المنافقين هذه المقالة المحكية ، هو عند انطفاء أنوارهم ، كما ذكرنا قبل ، وقولهم : «انظرونا» معناه : انتظرونا ، وقرأ حمزة وحده (٤) : «أنظرونا» ـ بقطع الألف وكسر / الظاء ـ ومعناه أخّرونا ؛ ومنه : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) ومعنى قولهم أخّرونا ، أي : أخّروا مشيكم لنا ؛ حتّى نلتحق فنقتبس من نوركم ، واقتبس الرجل : أخذ من نور غيره قبسا ، قال الفخر (٥) : القبس : الشعلة من النار والسراج ، والمنافقون طمعوا في شيء من أنوار المؤمنين ، وهذا منهم جهل ؛ لأنّ تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا ، وهم لم يقدموها ، قال الحسن : يعطى يوم القيامة كلّ أحد نورا على قدر عمله ، ثم يؤخذ من حجر جهنم وممّا فيها من الكلاليب والحسك ويلقى على الطريق ، ثم تمضي زمرة من المؤمنين ، وجوههم كالقمر ليلة البدر ، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء كوكب في السماء ، ثم على ذلك ، ثم تغشاهم ظلمة تطفئ نور المنافقين ، فهنالك يقول المنافقون للذين آمنوا : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) ، انتهى.

وقوله تعالى : (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) يحتمل أن يكون من قول المؤمنين [لهم] ، [ويحتمل أن يكون من قول] (٦) الملائكة ، والقول لهم : (فَالْتَمِسُوا نُوراً) : هو على معنى

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٤٣٤) ، كتاب «الزهد» باب : صفة أمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤٢٩٢) ، وأحمد (٤ / ٤٠٨).

قال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد ضعيف لضعف كثير وجبارة ، وقد أعله البخاري ، قد تقدم في الحديث الذي قبله.

(٢) ينظر : «التذكرة» للقرطبي (٢ / ٥٦٧ ـ ٥٦٨)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٦١)

(٤) ينظر : «السبعة» (٦٢٦) ، و «الحجة» (٦ / ٢٦٩) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٥٠) ، و «حجة القراءات» (٦٩٩) ، و «العنوان» (١٨٦) ، و «شرح شعلة» (٥٩٨) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٣٩) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٢١) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٥٥)

(٥) ينظر : «الفخر الرازي» (٢٩ / ١٦٩)

(٦) سقط في : د.

٣٨٣

التوبيخ لهم ، أي : إنّكم لا تجدونه ، ثم أعلم تعالى أنّه يضرب بينهم في هذه الحال بسور حاجز ، فيبقى المنافقون في ظلمة وعذاب.

وقوله تعالى : (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) أي : جهة المؤمنين (وَظاهِرُهُ) : جهة المنافقين ، والظاهر هنا : البادي ؛ ومنه قول الكتّاب : من ظاهر مدينة كذا ، وعبارة الثعلبيّ : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) : وهو حاجز بين الجنة والنار ، قال أبو أمامة الباهليّ (١) : فيرجعون إلى المكان الذي قسّم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم ، وقد ضرب بينهم / بسور ، قال قتادة (٢) : حائط بين الجنة والنار ، له باب (باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) ، يعني : الجنة ، (وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) يعني النار ، انتهى ، قال ـ ص ـ : قال أبو البقاء : الباء في (بِسُورٍ) زائدة ، وقيل : ليست بزائدة ، قال أبو حيان (٣) : والضمير في (باطِنُهُ) عائد على الباب ، وهو الأظهر لأنّه الأقرب ، وقيل : على سور ، أبو البقاء : والجملة صفة ل «باب» أو ل «سور» ، انتهى.

(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١٥)

وقوله تعالى : (يُنادُونَهُمْ) معناه : ينادي المنافقون المؤمنين : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) : في الدنيا ، فيردّ المؤمنون عليهم : (بَلى) : كنتم معنا ، ولكن عرّضتم أنفسكم للفتنة ، وهي حبّ العاجل والقتال عليه ، قال مجاهد (٤) : فتنتم أنفسكم بالنفاق و (تَرَبَّصْتُمْ) معناه هنا : بإيمانكم فأبطأتم به ، حتّى متّم ، وقال قتادة (٥) : معناه : تربصتم بنا وبمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدوائر ، وشككتم ، والارتياب : التشكك ، والأماني التي غرتهم هي قولهم : سيهلك محمّد هذا العام ، ستهزمه قريش ، ستأخذه الأحزاب ... إلى غير ذلك من أمانيهم ، وطول الأمل :

__________________

(١) ذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٣٠٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٠) ، وعزاه لابن المبارك ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن أبي إمامة الباهلي.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٦٧٨) ، برقم : (٣٣٦٢١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٦٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٢) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٢٢١)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٦٧٩) ، برقم : (٣٣٦٢٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٦٣)

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٦٧٩) ، برقم : (٣٣٦٣١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٦٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٣٠٩)

٣٨٤

غرار لكل أحد ، وأمر الله الذي جاء هو : الفتح وظهور الإسلام ، وقيل : هو موتهم على النفاق الموجب للعذاب ، و (الْغَرُورُ) : الشيطان بإجماع المتأولين ، وينبغي لكل مؤمن أن يعتبر هذه الآية في نفسه ، وتسويفه في توبته ، واعلم أيها الأخ أنّ الدنيا غرّارة للمقبلين عليها ، فإن أردت الخلاص والفوز بالنجاة ، فازهد فيها ، وأقبل على ما يعنيك من إصلاح دينك والتزود لآخرتك ، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» عن أبي الدرداء أنّه قال ـ يعني لأصحابه ـ : لئن حلفتم لي على رجل منكم / أنّه أزهدكم ، لأحلفنّ لكم أنّه خيركم (١) ، وروى ابن المبارك بسنده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «يبعث الله تبارك وتعالى يوم القيامة عبدين من عباده كانا على سيرة واحدة ، أحدهما مقتور عليه ، والآخر موسّع عليه [فيقبل المقتور عليه] (٢) إلى الجنّة ، ولا ينثني عنها حتّى ينتهي إلى أبوابها ، فيقول حجبتها : إليك إليك! فيقول : إذن لا أرجع ، قال : وسيفه في عنقه فيقول : أعطيت هذا السّيف في الدّنيا أجاهد به ، فلم أزل مجاهدا به حتّى قبضت وأنا على ذلك ، فيرمي بسيفه إلى الخزنة ، وينطلق ، لا يثنونه ولا يحبسونه عن الجنّة ، فيدخلها ، فيمكث فيها دهرا ، ثمّ يمرّ به أخوه الموسّع عليه فيقول له : يا فلان ، ما حبسك؟! فيقول : ما خلّي سبيلي إلّا الآن ، ولقد حبست ما لو أنّ ثلاثمائة بعير أكلت خمطا ، لا يردن إلّا خمسا وردن على عرقي لصدرن منه ريّا (٣)» انتهى.

وقوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ...) الآية : استمرار في مخاطبة المنافقين ؛ قاله قتادة وغيره (٤).

وقوله تعالى : (هِيَ مَوْلاكُمْ) قال المفسرون : معناه : هي أولى بكم ، وهذا تفسير بالمعنى ، وإنّما هي استعارة ؛ لأنّها من حيث تضمّهم وتباشرهم هي تواليهم وتكون لهم مكان المولى ، وهذا نحو قول الشاعر : [الوافر]

 ...................

تحيّة بينهم ضرب وجيع (٥)

__________________

(١) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (١٩٣) ، برقم : (٥٥٠)

(٢) سقط في : د.

(٣) أخرجه ابن المبارك في الزهد (١٩٥) ، برقم : (٥٥٦)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٦٨٠) ، برقم : (٣٣٦٣٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٦٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٣) ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٥) عجز بيت وصدره :

وخيل قد دلفت لها بخيل

 .................

وهو لعمر بن معد يكرب في «ديوانه» ص : (١٤٩) ، و «خزانة الأدب» (٩ / ٢٥٢ ، ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، ٢٦١ ، ـ

٣٨٥

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(١٦)

وقوله تعالى : (أَلَمْ يَأْنِ) : ابتداء معنى مستأنف ، ومعنى (أَلَمْ يَأْنِ) : ألم يحن ؛ يقال : أنى الشيء يأني إذا حان ، وفي الآية معنى الحضّ والتقريع ، قال ابن عبّاس : عوتب المؤمنون بهذه الآية (١) ، وهذه الآية كانت سبب توبة الفضيل وابن المبارك ، والخشوع : الإخبات والتضامن / وهي هيئة تظهر في الجوارح متى كانت في القلب ؛ ولذلك خصّ تعالى القلب بالذكر ، وروى شداد بن أوس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «أوّل ما يرفع من الناس الخشوع» (٢).

وقوله تعالى : (لِذِكْرِ اللهِ) أي : لأجل ذكر الله تعالى ووحيه ، أو لأجل تذكير الله إيّاهم وأوامره فيهم ، والإشارة في قوله : (أُوتُوا الْكِتابَ) إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى* ع* ولذلك قال : (مِنْ قَبْلُ) وإنّما شبّه أهل عصر نبيّ [بأهل عصر نبيّ].

وقوله : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) قيل : معناه : أمد الحياة ، وقيل : أمد انتظار القيامة ، قال الفخر (٣) : وقال مقاتل بن حيان : الأمد هنا : الأمل ، أي : لما طالت آمالهم ، لا جرم قست قلوبهم ، انتهى ، وباقي الآية بيّن.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(١٩)

__________________

ـ ٢٦٢ ، ٢٦٣) ، و «شرح أبيات سيبويه» (٢ / ٢٠٠) ، و «الكتاب» (٣ / ٥٠) ، و «نوادر أبي زيد» ص : (١٥٠) ، وبلا نسبة في «أمالي ابن الحاجب» (١ / ٣٤٥) ، و «الخصائص» (١ / ٣٦٨) ، و «شرح المفصّل» (٢ / ٨٠) ، و «الكتاب» (٢ / ٣٢٣) ، و «المقتضب» (٢ / ٢٠ ، ٤ / ٤١٣)

(١) ذكره البغوي (٤ / ٢٩٧) ، وابن عطية (٥ / ٢٦٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٣١٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٤) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

(٢) أخرجه الطبراني (٧ / ٣٥٤) ، برقم : (٧١٨٣) من طريق عمران القطان عن قتادة عن الحسن عن شداد بن أوس به.

قال الهيثمي في «المجمع» : عمران بن داود القطان ضعفه ابن معين ، والنسائي ، ووثقه أحمد ، وابن حبان.

(٣) ينظر : «تفسير الرازي» (٢٩ / ٢٠٠)

٣٨٦

وقوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ...) الآية ، مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين ندبوا إلى الخشوع ، وهذا ضرب مثل ، واستدعاء إلى الخير برفق وتقريب بليغ ، أي : لا يبعد عندكم أيّها التاركون للخشوع رجوعكم إليه وتلبسكم به ، فإنّ الله يحيي الأرض بعد موتها ، فكذلك يفعل بالقلوب ، يردّها إلى الخشوع بعد بعدها عنه ، وترجع هي إليه إذا وقعت الإنابة والتّكسّب من العبد بعد نفورها منه ، كما يحيي الأرض بعد أن كانت ميتة ، وباقي الآية بين ، و (الْمُصَّدِّقِينَ) : يعني به المتصدقين ، وباقي الآية بين.

* ت* : وقد جاءت آثار صحيحة في الحضّ على الصدقة ، قد ذكرنا منها جملة في هذا المختصر ، وأسند مالك في «الموطأ» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنّه قال : «يا نساء المؤمنات ، لا تحقرنّ إحداكنّ لجارتها ، ولو كراع شاة محرقا» (١) وفي «الموطأ» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم / «ردّوا السّائل ولو بظلف محرّق» (٢) قال ابن عبد البر في «التمهيد» : ففي هذا الحديث الحضّ على الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها ، وفي قول الله عزوجل : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) [الزلزلة : ٧] : أوضح الدلائل في هذا الباب ، وتصدقت عائشة ـ رضي الله عنها ـ بحبتين من عنب ، فنظر إليها بعض أهل بيتها فقالت : لا تعجبن ؛ فكم فيها من مثقال ذرة ، ومن هذا الباب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتّقوا النار ، ولو بشقّ تمرة ، ولو بكلمة طيّبة» (٣) وإذا كان الله عزوجل يربي الصدقات ، ويأخذ الصدقة بيمينه فيربّيها ، كما يربّي أحدنا فلوّه أو فصيله ـ فما بال من عرف هذا يغفل عنه! وما التوفيق إلّا بالله ، انتهى من «التمهيد» ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال : أخبرنا حرملة بن عمران أنّه سمع يزيد بن أبي حبيب يحدّث

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٤٥٩) ، كتاب «الأدب» باب : لا تحقرن جارة جارتها (٦٠١٧) ، ومسلم (٢ / ٧١٤) ، كتاب «الزكاة» باب : الحث على الصدقة ولو بالقليل (٩٠ / ١٠٣٠) ، والترمذي (٤ / ٤٤١) ، كتاب «الولاء والهبة» باب : في حث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التهادي (٢١٣٠) ، وأحمد (٢ / ٢٦٤ ، ٤٣٢ ، ٤٩٣ ، ٥٠٦) ، والبيهقي (٤١ / ١٧٧) كتاب «الزكاة» باب : التحريض على الصدقة وإن قلت ، (٦ / ١٦٩) ، كتاب «الهبات» باب : التحريض على الهبة والهدية صلة بين الناس.

(٢) أخرجه النسائي (٥ / ٨١) ، كتاب «الزكاة» باب : رد السائل (٢٥٦٥) ، وأحمد (٤ / ٧٠) ، والبيهقي (٤ / ١٧٧) ، وابن حبان (٣ / ٧٢٣) ـ الموارد (٨٢٥) ، وابن خزيمة (٤ / ١١١) (٢٤٧٢)

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ٣٣٢) ، كتاب «الزكاة» باب : اتقوا النار ولو بشق تمرة ، والقليل من الصدقة (١٤١٧) (١١ / ٤٠٨) كتاب «الرقاق» باب : من نوقش الحساب عذب (٦٥٤٠) ، (١٣ / ٤٨٢) ، كتاب «التوحيد» باب : كلام الرب عزوجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (٧٥١٢) ، ومسلم (٢ / ٧٠٣) ، كتاب «الزكاة» باب : الحث على الصدقة ولو بشق تمرة ، أو كلمة طيبة ، فإنها حجاب من النار (٦٦ ، ٧٧ ، ٧٨ ، ٦٨ / ١٠١٦) ، وابن حبان (٢ / ٢٢٠) ، كتاب «البر والإحسان» باب : حسن الخلق (٤٧٣) ، (٢ / ٤٤٠) كتاب «الرقاق» باب : الخوف والتقوى (٦٦٦) ، (٧ / ٤٣) ، كتاب «الصلاة» باب : صلاة الجمعة (٢٨٠٤) ، وأحمد (٤ / ٢٥٦) ، والنسائي (٥ / ٧٥) ، كتاب «الزكاة» باب : القليل من الصدقة (٢٥٥٣).

٣٨٧

أنّ أبا الخير حدثه : أنّه سمع عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «كلّ امرئ في ظلّ صدقته حتّى يفصل بين الناس» (١) قال يزيد : فكان أبو الخير لا يخطئه يوم إلّا تصدق فيه بشيء ، ولو كعكة أو بصلة أو كذا ، انتهى ، و (الصِّدِّيقُونَ) : بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق ؛ على ما ذكر الزّجّاج (٢).

وقوله تعالى : (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) : اختلف في تأويله فقال ابن مسعود وجماعة : (وَالشُّهَداءُ) : معطوف على : (الصِّدِّيقُونَ) والكلام متّصل ، ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاتصال ، فقال بعضها : وصف الله المؤمنين بأنّهم صديقون وشهداء ، فكلّ مؤمن شهيد ؛ / قاله مجاهد (٣) ، وروى البراء بن عازب أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مؤمنو أمّتي شهداء ، وتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (٤) وإنّما خصّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر الشهداء السبعة تشريفا لهم ؛ لأنّهم في أعلى رتب الشهادة ؛ ألا ترى أنّ المقتول في سبيل الله مخصوص أيضا من السبعة بتشريف ينفرد به ، وقال بعضها : (الشُّهَداءُ) هنا : من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد ، فكأنّه قال : هم أهل الصدق والشهداء على الأمم ، وقال ابن عبّاس ، ومسروق ، والضحاك (٥) : الكلام تامّ في قوله : (الصِّدِّيقُونَ) ، وقوله : (وَالشُّهَداءُ) : ابتداء مستأنف ،

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ١٤٧ ـ ١٤٨) ، وأبو يعلى (٣ / ٣٠٠ ـ ٣٠١) رقم (١٧٦٦) ، وابن خزيمة (٤ / ٩٤) رقم : (٢٤٣١) ، وابن حبان (٨١٧) ـ موارد ، والحاكم (١ / ٤١٦) ، والبيهقي (٤ / ١٧٧) ، كتاب «الزكاة» باب : التحريض على الصدقة وإن قلّت ، وأبو نعيم في «الحلية» (٨ / ١٨١) ، والبغوي في «شرح السنة» (٣ / ٤٠٢) ـ بتحقيقنا ، كلهم من طريق ابن المبارك وهو في «الزهد» له ص : (٢٢٧) رقم (٦٤٥) عن حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرجل في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس وكان أبو الخير لا يأتي عليه يوم إلّا تصدق فيه بشيء ولو كعكة ولو بصلة.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان.

وقال الهيثمي في «المجمع» (٣ / ١١٣) : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجال أحمد ثقات.

وصححه السيوطي في «الجامع الصغير» (٦٢٨٢) ، وقال المناوي في «الفيض» (٥ / ١٣) : وقال ـ أي الذهبي ـ في «المهذب» : إسناده قوي.

(٢) ينظر : «معاني القرآن» (٥ / ١٢٦)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٦٨٣) ، برقم : (٣٣٦٥٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٩٨) ، وابن عطية (٥ / ٢٦٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٣١٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٦) ، وعزاه لابن جرير.

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٦٨٣) عن ابن عبّاس برقم : (٣٣٦٤٦) ، وعن مسروق برقم : (٣٣٦٤٧) ، وعن الضحاك برقم : (٣٣٦٥٠) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٩٨) ، وابن عطية (٥ / ٢٦٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٣١١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٦) ، وعزاه لابن جرير.

٣٨٨

ثم اختلفت هذه الفرقة في معنى هذا الاستئناف ، فقال بعضها : معنى الآية : والشهداء بأنّهم صديقون حاضرون عند ربهم ، وعنى بالشهداء الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ.

* ت* : وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية ، وقال بعضها : قوله : (وَالشُّهَداءُ) ابتداء يريد به الشهداء في سبيل الله ، واستأنف الخبر عنهم بأنّهم : (عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) فكأنّه جعلهم صنفا مذكورا وحده.

* ت* : وأبين هذه الأقوال الأوّل ، وهذا الأخير ، وإن صحّ حديث البراء لم يعدل عنه ، قال أبو حيان (١) : والظاهر أنّ (الشُّهَداءُ) مبتدأ خبره ما بعده ، انتهى.

وقوله تعالى (وَنُورُهُمْ) قال الجمهور : هو حقيقة حسبما تقدم.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ)(٢٠)

وقوله سبحانه : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) هذه الآية وعظ ، وتبيين لأمر الدنيا وضعة منزلتها ، والحياة الدنيا في هذه الآية : عبارة عن الأشغال والتصرفات والفكر / التي هي مختصة بالحياة الدنيا ، وأمّا ما كان من ذلك في طاعة الله تعالى ، وما كان في الضرورات التي تقيم الأود وتعين على الطاعات ـ فلا مدخل له في هذه الآية ، وتأمل حال الملوك بعد فقرهم ، يبن لك أنّ جميع ترفههم لعب ولهو ، والزينة : التحسين الذي هو خارج عن ذات الشيء ، والتفاخر بالأموال والأنساب وغير ذلك على عادة الجاهلية ، ثم ضرب الله عزوجل مثل الدنيا ، فقال : (كَمَثَلِ غَيْثٍ ...) الآية : وصورة هذا المثال أنّ الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك ، فيشبّ في النعمة ، ويقوى ، ويكسب المال والولد ، ويغشاه الناس ، ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط ، ويشيب ، ويضعف ويسقم ، وتصيبه النوائب في ماله وذريته ، ويموت ، ويضمحلّ أمره ، وتصير أمواله لغيره ، وتتغير رسومه ؛ فأمره مثل مطر أصاب أرضا ، فنبت عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق ، ثم هاج ، أي : يبس ، واصفرّ ، ثم تحطم ، ثم تفرق بالرياح واضمحل.

وقوله : (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) أي : الزراع ؛ فهو من كفر الحبّ ، أي : ستره ، وقيل : يحتمل أن يعني الكفار بالله ، لأنّهم أشدّ إعجابا بزينة الدنيا ، ثم قال تعالى : (وَفِي الْآخِرَةِ

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٢٢٢)

٣٨٩

عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ ...) الآية : كأنّه قال : والحقيقة هاهنا ، وذكر العذاب أوّلا ؛ تهمّما به من حيث الحذر في الإنسان ، ينبغي أن يكون أولا ، فإذا تحرز من المخاوف مدّ حينئذ أمله ، فذكر تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه ، وهو المغفرة والرضوان ، وعبارة الثعلبيّ : (ثُمَّ يَهِيجُ) أي : يجفّ (وَفِي الْآخِرَةِ / عَذابٌ شَدِيدٌ) : لأعداء الله (وَمَغْفِرَةٌ) : لأوليائه ، وقال الفرّاء (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ) أي : إمّا عذاب شديد ، وإمّا مغفرة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) : هذا تزهيد في العمل للدنيا ، وترغيب في العمل للآخرة ، انتهى ، وهو حسن ، وعن طارق قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعمت الدّار الدّنيا لمن تزوّد منها لآخرته ، وبئست الدّار لمن صدّته عن آخرته ، وقصّرت به عن رضا ربّه ، فإذا قال العبد : قبّح الله الدّنيا قالت الدّنيا : قبّح الله أعصانا لربّه» (١). رواه الحاكم في «المستدرك» ، انتهى من «السلاح» ، ولا يشك عاقل أنّ حطام الدنيا مشغل عن التأهب للآخرة ؛ قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» : وقد روي مرفوعا : «لكلّ أمّة فتنة ، وفتنة أمّتي المال» (٢) قال أبو عمر : ثم نقول : إنّ الزهد في الحلال ، وترك الدنيا مع القدرة عليها ـ أفضل من الرغبة فيها في حلالها ، وهذا ما لا خلاف فيه بين علماء المسلمين قديما وحديثا ، والآثار الواردة عن الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم من علماء المسلمين في فضل الصبر والزهد فيها ، وفضل القناعة ، والرضا بالكفاف ، والاقتصار على ما يكفي دون التكاثر الذي يلهي ويطغي ـ : أكثر من أن يحيط بها كتاب ، أو يشمل عليها باب ، والّذين زوى الله عنهم الدنيا من الصحابة ، أكثر من الذين فتحها عليهم أضعافا مضاعفة ، وقد روينا عن عبد الرحمن بن عوف أنّه لما حضرته الوفاة بكى بكاء شديدا ، وقال : كان مصعب بن عمير خيرا منّي ؛ توفّي ولم يترك ما يكفّن فيه ، / وبقيت بعده حتى أصبت من الدنيا وأصابت منّي ، ولا أحسبني إلّا سأحبس عن أصحابي بما فتح الله عليّ من ذلك ، وجعل يبكي حتى

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٤ / ٣١٢).

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وتعقبه الذهبي ، وقال : بل منكر ، وعبد الجبار لا يعرف ، روى عنه يحيى بن أيوب العابد.

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٦٩) ، كتاب «الزهد» باب : ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال (٢٣٣٦) ، وابن حبان (٨ / ١٢٨) ـ الموارد (٢٤٧٠) ، والنسائي كما في «التحفة» (٨ / ٣٠٩) (١١١٢٩) ، والحاكم (٤ / ٣١٨).

قال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب ، إنما نعرفه من حديث معاوية بن صالح.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

قال ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (٢ / ٧٩٨) ، وهذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال العقيلي : ليس له أصل من وجه يثبت. ا ه.

٣٩٠

فاضت نفسه ، وفارق الدنيا رحمة الله عليه ، فإن ظنّ ظانّ جاهل أنّ الاستكثار من الدنيا ليس به بأس ، أو غلب عليه الجهل ؛ فظنّ أنّ ذلك أفضل من طلب الكفاف منها ، وشبّه عليه بقول الله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [الضحى : ٨] فيما عدّده سبحانه على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نعمه عنده ـ فإنّ ذلك ليس كما ظنّ ؛ بل ذلك غنى القلب ، دلّت على ذلك الآثار الكثيرة ؛ كقوله عليه‌السلام : «ليس الغنى عن كثرة العرض ، وإنّما الغنى غنى النّفس» (١) انتهى.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)(٢٣)

وقوله سبحانه : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ...) الآية : لما ذكر تعالى المغفرة التي في الآخرة ، ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة ، وهذه الآية حجّة عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات ، وقد استدلّ بها بعضهم على أنّ أوّل أوقات الصلوات أفضل ؛ لأنّه يقتضي المسارعة والمسابقة ، وذكر سبحانه العرض من الجنة ؛ إذ المعهود أنّه أقلّ من الطول ، وقد ورد في الحديث : «أنّ سقف الجنّة العرش» وورد في الحديث : «أنّ السّموات السّبع في الكرسيّ كالدّرهم في الفلاة ، وأنّ الكرسيّ في العرش كالدّرهم في الفلاة» (٢).

* ت* : أيها الأخ ، أمرك المولى سبحانه بالمسابقة والمسارعة ؛ رحمة منه وفضلا ، فلا تغفل عن امتثال أمره وإجابة دعوته : [الخفيف]

السّباق السّباق قولا وفعلا

حذر النفس حسرة / المسبوق

ذكر صاحب «معالم الإيمان ، وروضات الرضوان» في مناقب صلحاء القيروان ، قال : ومنهم أبو خالد عبد الخالق المتعبد ، كان كثير الخوف والحزن ، وبالخوف مات ؛ رأى يوما خيلا يسابق بها ، فتقدمها فرسان ، ثم تقدم أحدهما على الآخر ، ثم جدّ التالي حتى سبق الأول ، فتخلّل عبد الخالق الناس حتّى وصل إلى الفرس السابق ، فجعل يقبّله ويقول : بارك الله فيك ، صبرت فظفرت ، ثم سقط مغشيّا عليه ، انتهى.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) تقدم تخريجه.

٣٩١

وقوله سبحانه : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ...) الآية : قال ابن زيد وغيره (١) : المعنى : ما حدث من حادث ، خير وشرّ ، فهذا على معنى لفظ أصاب ، لا على عرف المصيبة ؛ فإنّ عرفها في الشر ، وقال ابن عبّاس (٢) ما معناه : أنّه أراد عرف المصيبة ، فقوله : (فِي الْأَرْضِ) يعني : بالقحوط ، والزلازل ، وغير ذلك و (فِي أَنْفُسِكُمْ) : بالموت ، والأمراض ، وغير ذلك.

وقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ) معناه : إلّا والمصيبة في كتاب و (نَبْرَأَها) معناه : نخلقها ؛ يقال : برأ الله الخلق ، أي : خلقهم ، والضمير عائد على المصيبة ، وقيل : على الأرض ، وقيل : على الأنفس ؛ قاله ابن عبّاس وجماعة (٣) ، وذكر المهدويّ جواز عود الضمير على جميع ما ذكر ، وهي كلّها معان صحاح.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : يريد تحصيل الأشياء كلها في كتاب ، وقال الثعلبي : وقيل المعنى : إنّ خلق ذلك وحفظ جميعه ، على الله يسير ، انتهى.

وقوله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) معناه : فعل الله هذا كلّه ، وأعلمكم به ؛ ليكون سبب تسليتكم وقلّة اكتراثكم بأمور الدنيا ، فلا تحزنوا على فائت ، ولا تفرحوا الفرح المبطر بما آتاكم / منها ، قال ابن عبّاس (٤) : ليس أحد إلّا يحزن أو يفرح ، ولكن من أصابته مصيبة فليجعلها صبرا ، ومن أصابه خير فليجعله شكرا ؛ وفي «صحيح مسلم» عن أبي سعيد وأبي هريرة ، أنّهما سمعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ، ولا سقم ولا حزن ، حتّى الهمّ يهمّه ـ إلّا كفّر به من سيّئاته» (٥) ، وفي «صحيح مسلم» عن

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٦٨٦) ، برقم : (٣٣٦٦٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٦٨)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٢٦٨)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٦٨٥) ، برقم : (٣٣٦٥٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٦٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٧) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٦٨٧) ، برقم : (٣٣٦٦٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٦٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٧) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٥) أخرجه البخاري (١٠ / ١٠٧) ، كتاب «المرضى» باب : ما جاء في كفارة المريض وقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٥٦٤١ ـ ٥٦٤٢) ، ومسلم (٤ / ١٩٩٢ ، ١٩٩٣) ، كتاب «البر والصلة والآداب» باب : ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك ، حتى الشوكة يشاكها (٥٢ / ٢٥٧٣) ، وأحمد (٢ / ٣٠٣ ، ٣٣٥) ، (٣ / ١٨ ـ ١٩ ، ٤٨) عن أبي هريرة ، (٢ / ٣٠٣ ، ٣٣٥) ، (٣ / ١٨ ـ ١٩ ، ٤٨) عن أبي سعيد ، والبيهقي (٣ / ٣٧٣) ، كتاب «الجنائز» باب : ما ينبغي لكل مسلم أن يستشعره من ـ

٣٩٢

عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها ، إلّا كتبت له بها درجة ، ومحيت عنه بها خطيئة» (١) ، وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة قال : لمّا نزلت : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [النساء : ١٢٣] بلغت من المسلمين مبلغا شديدا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سدّدوا وقاربوا ، ففي كلّ ما يصاب به المسلم كفّارة حتّى النكبة ينكبها والشوكة يشاكها» (٢) ، انتهى ، وقد تقدم كثير في هذا المختصر من هذا المعنى ، فالله المسئول أن ينفع به كلّ من حصّله أو نظر فيه.

وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) : يدلّ على أنّ الفرح المنهيّ عنه إنّما هو ما أدّى إلى الاختيال والفخر ، وأمّا الفرح بنعم الله المقترن بالشكر والتواضع ، فإنّه لا يستطيع أحد دفعه عن نفسه ، ولا حرج فيه ، والله أعلم.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٢٧)

وقوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) قال بعضهم : هو خبر مبتدإ محذوف تقديره : هم الذين يبخلون ، وقال بعضهم : هو في موضع نصب ؛ صفة ل (كُلَ) ، وإن كان نكرة فهو يخصّص نوعا ما ؛ فيسوغ لذلك وصفه بالمعرفة ، وهذا مذهب الأخفش ، و (الْكِتابَ) هنا : اسم جنس لجميع الكتب المنزّلة ، (وَالْمِيزانَ) : العدل / في تأويل الأكثرين.

__________________

ـ الصبر على الأمراض والأوجاع والأحزان ، لما فيها من الكفارات والدرجات ، عنهما جميعا ، وابن الشجري في «أماليه» (٢ / ٢٧٩) عن أبي سعيد ، والبخاري في «الأدب المفرد» (١٤٥) (٤٨٨)

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ١٠٧) كتاب «المرضى» باب : ما جاء في كفارة المريض ، وقوله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٥٦٤٠) ، ومسلم (٤ / ١٩٩٢ / ١٩٩٣) ، كتاب «البر والصلة والآداب» باب : ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك ، حتى الشوكة يشاكها (٤٦ ، ٥١ / ٢٥٧٢). والبيهقي (٣ / ٣٧٣) ، كتاب «الجنائز» باب : ما ينبغي لكل مسلم أن يستشعره من الصبر على جميع ما يصيبه من الأمراض والأوجاع ، والأحزان لما فيها من الكفارات ، والدرجات ، وأحمد (٦ / ٢٤٧ ، ٢٤٨) ، وابن الشجري في «الأمالي» (٢ / ٢٧٩)

(٢) ينظر : السابق.

٣٩٣

وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) عبّر سبحانه عن خلقه الحديد بالإنزال ؛ كما قال : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) [الزمر : ٦] الآية ، قال جمهور من المفسرين : الحديد هنا أراد به جنسه من المعادن وغيرها ، وقال حذّاق من المفسرين : أراد به السلاح ، ويترتب معنى الآية بأنّ الله أخبر أنّه أرسل رسلا ، وأنزل كتبا ، وعدلا مشروعا ، وسلاحا يحارب به من عاند ، ولم يقبل هدى الله ؛ إذ لم يبق له عذر ، وفي الآية ـ على هذا التأويل ـ حضّ على القتال في سبيل الله وترغيب فيه.

وقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) يقوّي هذا التأويل.

وقوله : (بِالْغَيْبِ) معناه : بما سمع من الأوصاف الغائبة عنه فآمن بها ، وباقي الآية بين.

وقوله سبحانه : و (قَفَّيْنا) معناه : جئنا بهم بعد الأولين ، وهو مأخوذ من القفا ، أي : جيء بالثاني في قفا الأوّل ، فيجيء الأول بين يدي الثاني ، وقد تقدم بيانه.

وقوله سبحانه : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً) : الجعل في هذه الآية بمعنى الخلق.

وقوله : (ابْتَدَعُوها) : صفة لرهبانية ، وخصّها بأنّها ابتدعت ؛ لأنّ الرأفة والرحمة في القلب ، لا تكسّب للإنسان فيها ، وأمّا الرهبانية فهي أفعال بدن مع شيء في القلب ، ففيها موضع للتّكسّب ، ونحو هذا عن قتادة (١) ، والمراد بالرأفة والرحمة حبّ بعضهم في بعض وتوادّهم ، والمراد بالرهبانية : رفض النساء ، واتخاذ الصوامع والديارات ، والتفرد للعبادات ، وهذا هو ابتداعهم ، ولم يفرض الله ذلك عليهم ، لكنهم فعلوا ذلك ؛ ابتغاء رضوان الله ؛ هذا تأويل جماعة ، وقرأ ابن مسعود (٢) : / «ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها» وقال مجاهد (٣) : المعنى : كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله ، فالاستثناء على هذا متّصل ، واختلف في الضمير الذي في قوله : (فَما رَعَوْها) من المراد به؟ فقال ابن زيد وغيره (٤) : هو عائد على الذين ابتدعوا الرهبانيّة ، وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكلّ من بدأ بتطوّع ونفل ، وأنّه

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٦٩٠) ، برقم : (٣٣٦٧٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٧٠)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٧٠)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٢٧٠)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٦٩٢) ، برقم : (٣٣٦٧٨) ، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٧٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٩) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه ، وابن نصر.

٣٩٤

يلزمه أن يرعاه حقّ رعيه ، وقال الضّحّاك وغيره (١) : الضمير للأخلاف الذي جاؤوا بعد المبتدعين لها ، وروّينا في «كتاب الترمذيّ» عن كثير بن عبد الله المزنيّ ، عن أبيه ، عن جدّه : «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لبلال بن الحارث : اعلم ، قال : ما أعلم يا رسول الله؟ قال : اعلم يا بلال! قال : ما أعلم يا رسول الله؟ قال : أنّه من أحيا سنّة من سنّتي قد أميتت بعدي ، فإنّ له من الأجر مثل من عمل بها ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن ابتدع بدعة ضلالة ، لا يرضى الله ورسوله بها ـ كان عليه مثل آثام من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا» (٢). قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، انتهى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢٩)

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) قالت فرقة : الخطاب بهذه الآية لأهل الكتاب ، ويؤيده الحديث الصحيح : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي» الحديث (٣) ، وقال آخرون : الخطاب للمؤمنين من هذه الأمة ، ومعنى (آمِنُوا بِرَسُولِهِ) أي : اثبتوا على ذلك ودوموا عليه ، (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) أي : نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه ، قال أبو موسى : (كِفْلَيْنِ) : ضعفين بلسان الحبشة ، والنور هنا : إمّا أن يكون وعدا بالنور الذي / يسعى بين الأيدي يوم القيامة ، وإمّا أن يكون استعارة للهدى الذي يمشى به في طاعة الله.

وقوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ ...) الآية : روي أنّه لما نزل هذا الوعد المتقدم للمؤمنين ، حسدهم أهل الكتاب على ذلك ، وكانت اليهود تعظّم دينها وأنفسها ، وتزعم أنّهم أحبّاء الله وأهل رضوانه ، فنزلت هذه الآية معلمة أنّ الله فعل ذلك ، وأعلم به ؛ ليعلم أهل الكتاب أنّهم ليسوا كما يزعمون ، و «لا» في قوله : (لِئَلَّا) زائدة ، وقرأ ابن عبّاس والجحدريّ (٤) : «ليعلم أهل الكتاب» ، وروى إبراهيم

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٦٩٢) ، برقم : (٣٣٦٨١) عن ابن عبّاس رضي الله عنهما ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٧٠)

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٥) ، كتاب «العلم» باب : ما جاء في الأخذ بالسنة ، واجتناب البدع (٢٦٧٧). قال الترمذي : هذا حديث حسن وللحديث شواهد في الصحيح.

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) وقرأ بها عبد الله.

٣٩٥

التيمي عن ابن عبّاس : «كي يعلم» وروي عن حطّان الرقاشيّ أنه قرأ (١) : «لأن يعلم».

وقوله تعالى : (أَلَّا يَقْدِرُونَ) معناه : أنّهم لا يملكون فضل الله ، ولا يدخل تحت قدرهم ، وباقي الآية بيّن.

__________________

ـ ينظر : «الشواذ» (١٥٣) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٧١) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٢٧) ، وزاد نسبتها إلى ابن مسعود ، وعكرمة ، وعبد الله بن سلمة ، وهي في «الدر المصون» (٦ / ٢٨٢)

(١) ينظر : مصادر القراءة السابقة.

٣٩٦

تفسير سورة المجادلة

وهي مدنيّة إلّا أنّ النقّاش حكى أنّ قوله تعالى :

(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ ...) الآية ، مكّيّ

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٤)

قوله عزوجل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ...) الآية : اختلف الناس في اسم هذه المرأة على أقوال ، واختصار ما رواه ابن عبّاس والجمهور «أنّ أوس بن الصّامت الأنصاريّ ، أخا عبادة بن الصامت ، ظاهر من امرأته خولة بنت خويلد ، وكان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبّدة ، فلما فعل ذلك أوس جاءت زوجته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إنّ أوسا أكل شبابي ، ونثرت له بطني ، فلمّا كبرت ومات أهلي ، ظاهر منّي! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : / ما أراك إلّا حرّمت عليه ، فقالت : يا رسول الله ، لا تفعل ؛ فإنّي وحيدة ليس لي أهل سواه ، فراجعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل مقالته فراجعته ، فهذا هو جدالها ، وكانت في خلال جدالها تقول : اللهمّ إليك أشكو حالي وانفرادي وفقري إليه» ، وروي أنّها كانت تقول : اللهمّ ، إنّ لي منه صبية صغارا ، إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا ، فهذا هو اشتكاؤها إلى الله ، فنزلت الآية ،

٣٩٧

فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أوس ، وأمره بالتّكفير ، فكفّر بالإطعام ، وأمسك أهله» (١) قال ابن العربي في «أحكامه» (٢) : والأشبه في اسم هذه المرأة أنّها خولة بنت ثعلبة ، امرأة أوس بن الصامت ، وعلى هذا اعتمد الفخر ؛ قال الفخر (٣) : هذه الواقعة تدلّ على أنّ من انقطع رجاؤه من الخلق ، ولم يبق له في مهمّه أحد إلّا الخالق ـ كفاه الله ذلك المهم ، انتهى ، والمحاورة : مراجعة القول ومعاطاته ، وفي مصحف ابن مسعود (٤) : «تحاورك في زوجها» والظّهار : قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمّي ، يريد في التحريم ؛ كأنّها إشارة إلى الركوب ، إذ عرفه في ظهور الحيوان ، وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ، فردّ الله بهذه الآية على فعلهم ، وأخبر بالحقيقة من أنّ الأمّ هي الوالدة ، وأمّا الزوجة فلا يكون حكمها حكم الأمّ ، وجعل الله سبحانه القول بالظهار منكرا وزورا ، فهو محرّم ، لكنّه إذا وقع لزم ؛ هكذا قال فيه أهل العلم ، لكنّ تحريمه تحريم المكروهات جدّا ، وقد رجّى الله تعالى بعده بأنّه عفوّ غفور مع الكفّارة.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ يَعُودُونَ ...) الآية.

* ت* : اختلف في معنى العود ، والعود في «الموطّإ» : العزم على / الوطء والإمساك معا ، وفي «المدوّنة» : العزم على الوطء خاصّة.

وقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ، قال الجمهور : وهذا عامّ في نوع المسيس الوطء والمباشرة ، فلا يجوز لمظاهر أن يطأ ، ولا أن يقبّل أو يلمس بيده ، أو يفعل شيئا من هذا النوع إلّا بعد الكفارة ؛ وهذا قول مالك رحمه‌الله.

وقوله تعالى : (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) : إشارة إلى التحذير ، أي : فعل ذلك ؛ عظة لكم لتنتهوا عن الظهار.

وقوله سبحانه : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) : قال الفخر (٥) : الاستطاعة فوق الوسع ؛ والوسع فوق الطاقة ، فالاستطاعة هي أن يتمكّن الإنسان من الفعل على سبيل السهولة ، انتهى ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٢٦٥) ، كتاب «الطلاق» باب : في الظهار ، حديث (٢٢١٣)

(٢) ينظر : «أحكام القرآن» (٤ / ١٧٤٥)

(٣) ينظر : «تفسير الرازي» (٢٩ / ٢١٨)

(٤) ينظر : «الشواذ» ص : (١٥٤) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٧٣)

(٥) ينظر : «تفسير الرازي» (٢٩ / ٢٢٧)

٣٩٨

وفروع الظهار مستوفاة في كتب الفقه ، فلا نطيل بذكرها.

وقوله سبحانه : (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) الآية : إشارة إلى الرخصة والتسهيل في النقل من التحرير إلى الصوم والإطعام ، ثم شدّد سبحانه بقوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي : فالتزموها ، ثم توعّد الكافرين بقوله : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧)

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا ...) الآية : نزلت في قوم من المنافقين واليهود ، كانوا يتربّصون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمؤمنين الدوائر ، ويتمنّون فيهم المكروه ، ويتناجون بذلك ؛ وكبت الرجل : إذا بقي خزيان يبصر ما يكره ، ولا يقدر على دفعه ، وقال قوم منهم أبو عبيدة : أصله كبدوا ، أي : أصابهم داء في أكبادهم ، فأبدلت الدّال تاء ، وهذا غير قويّ ، و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : منافقوا الأمم الماضية ، ولفظ البخاريّ : (كُبِتُوا) : أحزنوا.

وقوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ / مُهِينٌ* يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) : العامل في (يَوْمَ) قوله : (مُهِينٌ) ، ويحتمل أن يكون فعلا مضمرا تقديره : اذكر.

وقوله تعالى : (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) أي : بعلمه وإحاطته وقدرته ، وعبارة الثعلبيّ (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) : يعلم ويسمع نجواهم ، يدل على ذلك افتتاح الآية وخاتمتها ، انتهى.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٠)

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ ...) الآية ، قال ابن

٣٩٩

عبّاس (١) : نزلت في اليهود والمنافقين ، (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ) : هو قولهم : السّام عليكم ، يريدون الموت ، ثم كشف الله تعالى خبث طويّتهم والحجّة التي إليها يسترحون ، وذلك أنّهم كانوا يقولون : لو كان محمّد نبيّا لعذبنا بهذه الأقوال التي تسيئه ، وجهلوا أنّ أمرهم مؤخّر إلى عذاب جهنم.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ ...) الآية : وصيّة منه سبحانه للمؤمنين ألّا يتناجوا بمكروه ، وذلك عامّ في جميع الناس إلى يوم القيامة.

وقوله : (إِنَّمَا النَّجْوى) أي : بالإثم (مِنَ الشَّيْطانِ) وقرأ نافع وأهل المدينة (٢) : «ليحزن» ـ بضم الياء وكسر الزاي ـ والفعل مسند إلى الشيطان ، وقرأ أبو عمرو وغيره : «ليحزن» ـ بفتح الياء وضم الزاي ـ ، ثم أخبر تعالى أنّ الشيطان أو التناجي الذي هو منه ، ليس بضارّ أحدا إلّا أن يكون ضرّ بإذن الله ، أي : بأمره وقدره ، ثم أمر بتوكّل المؤمنين عليه تبارك وتعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٢)

وقوله تعالى : «يا أيّها الّذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجلس ...» الآية ، وقرأ عاصم (٣) : «في المجالس» قال زيد بن أسلم وقتادة (٤) : هذه الآية نزلت بسبب تضايق الناس

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ١٤) برقم : (٣٣٧٦٠) عن مجاهد ، و (١٢ / ١٥) عن ابن عبّاس برقم : (٣٣٧٦٤) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٧٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٠) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

(٢) وقرأ بقراءة أبي عمرو ـ الحسن ، وعاصم.

ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٧٨)

(٣) يعني : جعله عاما في المجالس ، وأما قراءة الباقين على التوحيد ، فمعناها : في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة.

ينظر : «السبعة» (٦٢٩) ، و «الحجة» (٦ / ٢٨٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٥٥) ، و «حجة القراءات» (٧٠٤) ، و «العنوان» (١٨٧) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٤٦) ، و «شرح شعلة» (٦٠٠) ، «إتحاف» (٢ / ٥٢٧) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٦٠)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ١٨) ، برقم : (٣٣٧٧٦) عن قتادة ، وذكره البغوي (٤ / ٣١٩) ، وابن عطية (٥ / ٢٧٨)

٤٠٠