تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

١
٢

٣
٤

تفسير سورة يس

وهي مكيّة بإجماع

إلا أنّ فرقة قالت : إن قوله تعالى : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) نزلت في بني سلمة حين أرادوا أن ينتقلوا إلى جوار مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وورد في فضل يس آثار عديدة ، فعن معقل بن يسار ، أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قلب القرآن يس لا يقرؤها رجل يريد الله والدّار الآخرة إلّا غفر له ، اقرؤوها على موتاكم» (١) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في «المستدرك» ، وهذا لفظ النسائي ، وهو عند الباقين مختصر. انتهى من «السّلاح».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٧)

قوله عزوجل : (يس ـ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ـ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قد تقدّم الكلام في الحروف المقطّعة ، ويختص هذا الموضع بأقوال ، منها : أن ابن جبير قال : يس اسم من أسماء محمّد* ع (٢) * وقال ابن عبّاس : معناه : يا إنسان ، بالحبشية (٣).

وقال أيضا : هو بلغة طيّىء (٤) ، وقال قتادة : «يس» قسم و «الصراط» الطريق ، والمعنى : إنك على طريق هدى بيّن ومهيع رشاد (٥) ، واختلف المفسرون في قوله تعالى :

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٥)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٢٤) برقم : (٢٩٠٤٨) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٨٤) ، كلهم عن ابن عبّاس ، وعزاه السيوطي لابن مردويه عن ابن عبّاس ، وذكره ابن كثير (٣ / ٥٦٣) عن سعيد بن جبير.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٥) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٥)

(٥) ينظر : «تفسير القرطبي» (١٥ / ٥)

٥

(ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) فقال عكرمة : «ما» بمعنى : الذي (١) ، والتقدير : الشيء الذي أنذر آباؤهم من النار / والعذاب ، ويحتمل أن تكون «ما» مصدرية على هذا القول ، ويكون الآباء هم الأقدمون على مر الدهر.

وقوله : (فَهُمْ) مع هذا التأويل بمعنى : فإنّهم ، دخلت الفاء لقطع الجملة من الجملة ، وقال قتادة : «ما» نافية (٢) ، فالآباء على هذا هم الأقربون منهم ، وهذه الآية كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) [سبأ : ٤٤] وهذه النذارة المنفية : هي نذارة المباشرة ، كما قدّمنا ، و (حَقَّ الْقَوْلُ) معناه : وجب العذاب وسبق القضاء به ، وهذا فيمن لم يؤمن من قريش كمن قتل ببدر ، وغيرهم.

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(١٠)

وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً ...) الآية.

قال مكي : قيل : هي حقيقة في الآخرة إذا دخلوا النار (٣).

وقال ابن عبّاس وغيره : الآية استعارة لحال الكفرة الذين أرادوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسوء ، فجعل الله هذه مثلا لهم في كفّه إيّاهم عنه ومنعهم من إذايته حين بيّتوه (٤).

وقالت فرقة : الآية مستعارة المعاني من منع الله تعالى إيّاهم من الإيمان ، وحوله بينهم وبينه ، وهذا أرجح الأقوال ، و «الغلّ» : ما أحاط بالعنق على معنى التّثقيف والتّضييق والتّعذيب.

وقوله : (فَهِيَ) يحتمل أن تعود على الأغلال ، أي : هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان ، والذّقن : مجتمع اللّحيين ، فيضطرّ المغلول إلى رفع وجهه نحو السماء ، وذلك هو الإقماح ، وهو نحو الإقناع في الهيئة.

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٦)

(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٦)

(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٦)

(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٧)

٦

قال قتادة : المقمح : الرافع رأسه (١) ، ويحتمل ـ وهو قول الطبري (٢) ـ أن تعود (هي) على الأيدي ؛ وذلك أن الغلّ إنما يكون في العنق مع اليدين ، وروي أن في مصحف ابن مسعود (٣) وأبيّ «إنّا جعلنا في أيمانهم» وفي بعضها «في أيديهم» ، وأرى الناس عليّ بن أبي طالب الإقماح فجعل يديه تحت لحييه وألصقهما ورفع رأسه (٤) ، وقرأ الجمهور : «سدّا» ـ بضمّ السين في الموضعين ـ ، وقرأ حمزة والكسائيّ وغيرهما (٥) (سدّا) ـ بفتح السين ـ ، فقيل : هما بمعنى ، أي : حائلا يسدّ طريقهم ، وقال عكرمة : ما كان ممّا يفعله البشر فهو بالضمّ ، وما كان خلقة فهو بالفتح (٦) ، ومعنى الآية : أن طريق الهدى سدّ دونهم.

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ)(١٢)

وقوله تعالى : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ...) الآية ، «إنما» ليست للحصر هنا ؛ بل هي على جهة تخصيص من ينفعه الإنذار ، «واتباع الذكر» هو العمل بما في كتاب الله والاقتداء به. قال قتادة : الذكر : القرآن (٧).

وقوله : (بِالْغَيْبِ) ، أي : بالخلوات عند مغيب الإنسان عن أعين البشر. ثم أخبر ـ تعالى ـ بإحيائه الموتى ردّا على الكفرة ، ثم توعّدهم بذكر كتب الآثار وإحصاء كلّ شيء ، وكلّ ما يصنعه الإنسان فيدخل فيما قدّم ، ويدخل في آثاره ، لكنه سبحانه ؛ ذكر الأمر من الجهتين ؛ ولينبّه على الآثار التي تبقى ، وتذكر بعد الإنسان من خير وشر.

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٧) عن قتادة ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٦٤) عن أم زرع.

(٢) ينظر : «تفسير الطبري» (١٠ / ٤٢٦)

(٣) ينظر : «الكشاف» (٤ / ٦) ، و «المحرر» (٤ / ٤٤٧)

(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٧)

(٥) وقرأ بها حفص عن عاصم.

وفي قراءة الباقين قال قوم : ما كان من فعل بني آدم فهو السّد ، وما وجد مخلوقا فهو السّدّ. وعكس أبو عمرو.

ينظر : «إعراب القراءات» (٢ / ٢٢٩) ، و «السبعة» (٥٣٩) ، و «الحجة» (٦ / ٣٧) ، و «حجة القراءات» (٥٩٦) ، و «العنوان» (١٥٩) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٩٧)

(٦) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٧)

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٢٩) برقم : (٢٩٠٦٥) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٨٧).

وعزاه السيوطي لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

٧

وقال جابر بن عبد الله وأبو سعيد : إن هذه الآية نزلت في بني سلمة (١) ؛ على ما تقدم ، وقول النبي* ع* لهم : «دياركم تكتب آثاركم» ، والإمام المبين : قال قتادة وابن زيد : هو اللّوح المحفوظ (٢) ، وقالت فرقة : أراد صحف الأعمال.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(٢٧)

وقوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ...) الآية ، روي عن ابن عبّاس والزهري وعكرمة : أن القرية هنا هي أنطاكيّة (٣) ، واختلف في هؤلاء المرسلين ؛ فقال قتادة وغيره : كانوا من الحواريّين الذين بعثهم عيسى حين رفع ، وصلب الذي ألقي عليه شبهه ، فتفرّق الحواريّون في الآفاق ، فقصّ الله ـ تعالى ـ هنا قصّة الذين نهضوا إلى أنطاكيّة (٤).

وقالت فرقة : بل هؤلاء أنبياء من قبل الله عزوجل.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٢٩) برقم : (٢٩٠٧٢) عن جابر ، وعن أبي سعيد رقم : (٢٩٠٧٣) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٨) عن ابن عبّاس وجابر وأبي سعيد ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٦٥) عنهما ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٨٨) عن أبي سعيد ، وعزاه لعبد الرزاق ، والترمذي وحسنه ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ، وعن جابر بن عبد الله ، وعزاه لمسلم ، وابن مردويه.

(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٨) عن مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٣١) برقم : (٢٩٠٨٣) عن عكرمة ، وعن ابن عبّاس وغيره رقم في «تفسيره» (٣ / ٥٦٦) عنهم ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٨٩) عن ابن عبّاس ، والزهري ، وعكرمة ، وابن كثير للفريابي ، وعن عكرمة ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٣١) برقم : (٢٩٠٨٢) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٩٠) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

٨

قال* ع (١) * : وهذا يرجّحه قول الكفرة (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) فإنها محاورة إنما تقال لمن ادّعى الرسالة من الله تعالى ، والآخر محتمل ، وذكر المفسرون في قصص الآية أشياء يطول ذكرها والصحة فيها غير متيقّنة ، فاختصرته واللّازم من الآية أنّ الله تعالى بعث إليها رسولين ، فدعيا أهل القرية إلى عبادة الله وتوحيده ، فكذّبوهما فشدّد الله أمرهما بثالث ، وقامت الحجة على أهل القرية ، وآمن منهم الرجل الذي جاء يسعى ، وقتلوه في آخر أمره وكفروا ، وأصابتهم صيحة من السّماء فخمدوا ، وقرأ الجمهور (٢) : «فعزّزنا» بشدّ الزاي ، على معنى : قوّينا ، وشدّدنا ؛ وبهذا فسّره مجاهد وغيره (٣) ، وهذه الأمة أنكرت النبوّات بقولها : (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) قال بعض المتأولين : لما كذّب أهل القرية المرسلين أسرع فيهم الجذام.

وقال مقاتل : احتبس عنهم المطر ؛ فلذلك قالوا : (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) (٤) ، أي : تشاءمنا بكم ، والأظهر أن تطيّر هؤلاء إنّما كان بسبب ما دخل قريتهم من اختلاف كلمتهم وافتتان النّاس.

وقوله : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) جوابه محذوف ، أي : تطيّرتم ، قاله أبو حيان (٥) وغيره ، انتهى ، وقولهم ـ عليهم‌السلام ـ : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) ، معناه : حظّكم وما صار لكم من خير وشرّ معكم أي : من أفعالكم ومن تكسّباتكم ، ليس هو من أجلنا ، وقرأ حمزة والكسائيّ وابن عامر : «أإن ذكّرتم» بهمزتين (٦) ؛ الثانية مكسورة. وقرأ نافع وغيره بتسهيل الثانية ، وردّها ياء : «أين ذكّرتم». وأخبر تعالى عن حال رجل جاء من أقصى المدينة يسعى ؛ سمع المرسلين وفهم عن الله تعالى ، فدعا عند ذلك قومه إلى اتّباعهم والإيمان بهم ، إذ هو

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٤٩)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٤٩) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٣١٣) ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٧٧).

وقد قرأ أبو بكر بالتخفيف ، وقرأ بها الحسن ، وأبو حيوة ، وأبان ، والمفضل.

ينظر : «السبعة» (٥٣٩) ، و «الحجة» (٦ / ٣٨) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٣٠) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٠٤) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٦٦) ، و «العنوان» (١٥٩) ، و «حجة القراءات» (٥٩٧) ، و «شرح شعلة» (٥٥٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٩٨)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٣١) برقم : (٢٩٠٨٥) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٩)

(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٤٩) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩) ، ولم يعزه لأحد.

(٥) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٣١٤)

(٦) وقرأها هكذا حفص ، وقرأها المفضل مثل قراءة نافع ، يعني بتسهيل الهمزة الثانية.

ينظر : «السبعة» (٥٤٠) ، و «الحجة» (٦ / ٣٨) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٣٠) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٠٦) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ١٦٧) ، و «العنوان» (١٥٩) ، و «إتحاف» (٢ / ٣٩٨)

٩

الحقّ. فروي عن ابن عبّاس وغيره ، أن اسم هذا الرجل حبيب ، وكان نجّارا (١) وكان فيما قال وهب بن منبّه : قد تجذّم (٢).

وقيل : كان في غار يعبد ربّه فقال : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ...) الآية ، وذكر الناس في أسماء الرسل : صادق ، وصدوق ، وشلوم ، وغير هذا ، والله أعلم بصحّته ، واختلف المفسّرون في قوله (فَاسْمَعُونِ) فقال ابن عبّاس وغيره : خاطب بها قومه (٣) ، أي : على جهة المبالغة والتّنبيه.

وقيل : خاطب بها الرسل على جهة الاستشهاد بهم والاستحفاظ للأمر عندهم.

قال* ع (٤) * : وهنا محذوف تواترت به الأحاديث والروايات وهم أنهم قتلوه فقيل له عند موته : (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) فلما أقرّ الله عينه بما رأى من الكرامة قال : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ...) الآية ، قيل : / أراد بذلك الإشفاق والنصح لهم أي : لو علموا ذلك ، لآمنوا بالله تعالى ، وقيل : أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم به ، وبخزيهم ذلك ، وهذا موجود في جبلّة البشر إذا نال الشخص عزّا وخيرا في أرض غربة ودّ أن يعلم ذلك جيرانه وأترابه الذين نشأ فيهم ، كما قيل : [السريع]

العزّ مطلوب وملتمس

وأحبّه ما نيل في الوطن (٥)

قال* ع (٦) * : والتأويل الأول أشبه بهذا العبد الصالح ؛ وفي ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصح قومه حيّا وميّتا» ؛ وقال قتادة : نصحهم على حالة الغضب والرضاء وكذلك لا تجد المؤمن إلا ناصحا للناس(٧).

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٠) ، وأخرجه الطبري (١٠ / ٤٣٣) برقم : (٢٩٠٩٤) ، وذكره ابن كثير (٣ / ٥٦٨) ، والسيوطي (٥ / ٤٩١) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٣٣) برقم : (٢٩٠٩٤) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٦٨)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٣٥) برقم : (٢٩١٠١) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥١) ، وابن كثير في في «تفسيره» (٣ / ٥٦٨) كلهم عن ابن عبّاس ، وكعب ، ووهب.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٥١)

(٥) البيت من شواهد «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٥١)

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٥١)

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٣٦) برقم : (٢٩١٠٦) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٦٨) بنحوه.

١٠

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ)(٣٢)

وقوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ ...) الآية ، مخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها توعّد لقريش وتحذير أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بقوم حبيب النجّار.

قال مجاهد : لم ينزل الله عليهم من جند أراد أنه لم يرسل إليهم رسولا ولا استعتبهم (١) ، قال قتادة : والله ، ما عاتب الله قومه بعد قتله حتّى أهلكهم (٢).

وقال ابن مسعود : أراد : لم يحتج في تعذيبهم إلى جند ، بل كانت صيحة واحدة ؛ لأنهم كانوا أيسر وأهون من ذلك (٣) ، واختلف في قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) فقالت فرقة : «ما» نافية ، وقالت فرقة : «ما» عطف على جند ، أي : من جند ومن الذي كنّا منزلين على الأمم مثلهم قبل ذلك ، و «خامدون» أي : ساكنون موتى.

وقوله تعالى : (يا حَسْرَةً) الحسرة التلهّف : وذلك أن طباع كلّ بشر توجب عند سماع حالهم وعذابهم على الكفر وتضييعهم أمر الله ، أن يشفق ويتحسّر على العباد ، وقال الثّعلبيّ : قال الضّحّاك : إنها حسرة الملائكة على العباد في تكذيبهم الرسل ، وقال ابن عبّاس : حلّوا محلّ من يتحسّر عليه ، انتهى. وقرأ الأعرج (٤) وأبو الزناد ومسلم بن جندب : (يا حسرة) بالوقف على الهاء وهو أبلغ في معنى التحسّر والتّشفيق وهزّ النفس.

وقوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ ...) الآية ، تمثّل لفعل قريش ؛ وإيّاهم عنى

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٣٧) برقم : (٢٩١١١) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٦٩)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٣٧) برقم : (٢٩١١٣) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٦٩)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٣٧) برقم : (٢٩١١٤) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٦٩)

(٤) وقد استثقلها أبو الفتح ، وأطال الكلام حولها.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٢٠٨ ، ٢١١) ، و «مختصر الشواذ» (١٢٥) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٥٢) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٣١٨) ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٨١)

١١

بقوله : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) ، وقرأ جمهور الناس «لما جميع» ـ بتخفيف الميم ـ ، وذلك على زيادة «ما» للتأكيد والمعنى : لجميع ، وقرأ عاصم والحسن وابن جبير (١) (لمّا) ـ بشدّ الميم ـ ، قالوا : هي بمنزلة «إلّا» و (مُحْضَرُونَ) قال قتادة : محشّرون يوم القيامة (٢).

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)(٣٦)

وقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها ...) الآية ، و (آيَةٌ) : معناه وعلامة على الحشر وبعث الأجساد ، والضمير في (لهم) لكفّار قريش ، والضمير في (ثمره) قيل هو عائد على الماء الذي تضمّنه ذكر العيون ، وقيل : هو عائد على جميع ما تقدّم مجملا : كأنه قال : من ثمر ما ذكرنا «وما» في قوله : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) قال الطبري (٣) : هي اسم معطوف على الثمر ، أي : يقع الأكل من الثمر ، ومما عملته الأيدي بالغرس والزّراعة ونحوه.

وقالت فرقة : هي مصدرية وقيل : هي نافية ، والتقدير أنهم يأكلون من ثمره وهو شيء لم تعمله أيديهم ؛ بل هي نعمة من الله تعالى عليهم ، والأزواج : الأنواع من جميع الأشياء.

وقوله : (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) نظير قوله تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٨].

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٤٠)

__________________

(١) وقرأ بها ابن عامر ، وحمزة ، والكسائيّ.

ينظر : «معاني القراءات» (٢ / ٣٠٥) ، و «العنوان» (١٥٩) ، و «حجة القراءات» (٥٩٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٠٠) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٥٢) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٣١٩)

(٢) أخرجه الطبري (١٠ / ٤٣٩) برقم : (٢٩١١٩) ، بلفظ : أي هم يوم القيامة ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٢) ، والسيوطي في «تفسيره» (٥ / ٤٩٣) ، بلفظ : «يوم القيامة» ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر : «تفسير الطبري» (١٠ / ٤٤٠)

١٢

وقوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) هذه الآيات جعلها الله عزوجل أدلة على قدرته ووجوب الألوهية له ، و (نَسْلَخُ) معناه نكشط ونقشّر : فهي استعارة.

قلت : قال الهروي : قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أي : نخرجه منه إخراجا لا يبقى من ضوء النهار معه شيء ، انتهى. و (مُظْلِمُونَ) داخلون في الظلام ، ومستقرّ الشمس : ـ على ما في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من طريق أبي ذرّ ـ «بين يدي العرش تسجد فيه كلّ ليلة بعد غروبها» وهو في البخاري (١) ؛ وفي حديث آخر «أنّها تسجد / في عين حمئة» (٢) و (مَنازِلَ) منصوب على الظّرف وهي المنازل المعروفة عند العرب ، وهي ثمانية وعشرون منزلة يقطع القمر منها كلّ ليلة منزلة ، وعودته هي استهلاله رقيقا وحينئذ يشبه العرجون ، وهو الغصن من النخلة الذي فيه شماريخ التّمر ، فإنّه ينحني ويصفرّ إذا قدم ، ويجيء أشبه شيء بالهلال ؛ قاله الحسن (٣) ، والوجود يشهد له ، و (الْقَدِيمِ) معناه : العتيق الذي قد مرّ عليه زمن طويل ، و (يَنْبَغِي) هنا مستعملة فيما لا يمكن خلافه ؛ لأنها لا قدرة لها على غير ذلك ، وال «فلك» فيما روي عن ابن عبّاس متحرّك مستدير كفلكة المغزل فيه جميع الكواكب (٤) و (يَسْبَحُونَ) معناه : يجرون ويعومون.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ)(٤٦)

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٣ / ٤١٥) كتاب «التوحيد» باب : وكان عرشه على الماء وهو رب العرش العظيم برقم : (٧٤٢٤) ، (٨ / ٤٠٢) كتاب «التفسير» باب : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٤٨٠٢) ، (٦ / ٣٤٢ ـ ٣٤٣) ، كتاب «بدء الخلق» ، باب : صفة الشمس والقمر (بِحُسْبانٍ) (٣١٩٩) ، ومسلم (١ / ٤٥٣ ـ ٤٥٤) ـ الأبي ، كتاب «الإيمان» باب : الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان (٢٥٠ / ١٥٩) ، وأبو داود (٢ / ٤٣٣) ، كتاب «الحروف والقراءات» باب : (١) ، (٤٠٠٢) نحوه ، والترمذي (٤ / ٤٧٩) ، كتاب «الفتن» باب : ما جاء في طلوع الشمس من مغربها (٢١٨٦) ، والنسائي في «التفسير» (٢ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥) ، تفسير سورة يس (٤٥٠) ، والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٤٣٩) كتاب «التفسير» باب : قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) (١١٤٣٠ / ١).

قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) ينظر : الحديث السابق.

(٣) أخرجه الطبري (١٠ / ٤٤٢) برقم : (٢٩١٢٥) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٤٥٤) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٩٦) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٤٣) برقم : (٢٩١٣٧) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٧٣)

١٣

وقوله تعالى : «وآية لهم أنا حملنا ذرياتهم في الفلك» الآية ، ذكر الذرية لضعفهم عن السفر ، فالنعمة فيهم أمكن ، والضمير المتصل بالذريات ، هو ضمير الجنس ، كأنه قال : ذريات جنسهم أو نوعهم ؛ هذا أصح ما يتجه في هذا.

وأما معنى الآية ؛ فقال ابن عبّاس وجماعة : يريد بالذريات المحمولين : أصحاب نوح في السفينة ، ويريد بقوله : (مِنْ مِثْلِهِ) السفن الموجودة في جنس بني آدم إلى يوم القيامة ، وإيّاها أراد بقوله : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) (١) ، وقال مجاهد وغيره : المراد بقوله : «أنا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون» : السفن الموجودة في بني آدم إلى يوم القيامة ، ويريد بقوله : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) الإبل وسائر ما يركب ؛ فتكون المماثلة في أنه مركوب مبلّغ إلى الأقطار فقط ، ويعود قوله : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) على السفن الموجودة في الناس (٢) ، والصريخ ؛ هنا بمعنى المصرخ المغيث.

وقوله تعالى : (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) قال الكسائي : نصب (رَحْمَةً) على الاستثناء ، كأنه قال : إلّا أن نرحمهم.

وقوله : (إِلى حِينٍ) يريد إلى آجالهم المضروبة لهم ، ثم ابتدأ الإخبار عن عتوّ قريش بقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) قال قتادة ومقاتل : ما بين أيديهم : هو عذاب الأمم الذي قد سبقهم في الزمن (٣) ؛ وهذا هو النظر الجيد : وقال الحسن : خوّفوا بما مضى من ذنوبهم ؛ وبما يأتي منها (٤) ، قال* ع* : وهذا نحو الأول في المعنى.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ)(٥٠)

وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ...) الآية ، الضمير في قوله

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٥)

(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٥)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٤٧) برقم : (٢٩١٦٨) عن قتادة ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٤) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٥) كلاهما عن قتادة ومقاتل ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٤٩٨) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٤) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٥)

١٤

(لَهُمْ) لقريش ؛ وسبب الآية أن الكفار لمّا أسلم حواشيهم من الموالي وغيرهم ، والمستضعفين ، قطعوا عنهم نفقاتهم وصلاتهم ، وكان الأمر بمكة أوّلا فيه بعض الاتّصال في وقت نزول آيات الموادعة ، فندب أولئك المؤمنون قراباتهم من الكفار ، إلى أن يصلوهم وينفقوا عليهم ، ممّا رزقهم الله ؛ فقالوا عند ذلك : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ).

وقالت فرقة : سبب الآية أنّ قريشا شحّت بسبب أزمة على المساكين جميعا مؤمن وغير مؤمن ، فندبهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النفقة على المساكين ، وقولهم يحتمل معنيين :

أحدهما : يخرّج على اختيار لجهّال العرب ، فقد روي أن أعرابيّا كان يرعى إبله فيجعل السّمان في الخضب ، والمهازيل في المكان الجدب ، فقيل له في ذلك ؛ فقال : أكرم ما أكرم الله وأهين ما أهان الله ، فيخرّج قول قريش على هذا المعنى ، ومن أمثالهم : «كن مع الله على المدبر».

والتأويل الثاني : أن يكون كلامهم بمعنى الاستهزاء بقول محمّد* ع* : إنّ ثمّ إلها هو الرزّاق ، فكأنهم قالوا : لم لا يرزقهم إلهك الذي تزعم ، أي : نحن لا نطعم من لو يشاء هذا الإله الذي زعمت ، لأطعمه.

وقوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يحتمل أن يكون من قول الكفرة للمؤمنين ، أي : في أمركم لنا بالنفقة ؛ وفي غير ذلك من دينكم ، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى للكفرة. وقولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) أي : متى يوم القيامة.

وقيل : أرادوا : متى هذا العذاب الذي تتهدّدنا به ، و (ما يَنْظُرُونَ) أي : ينتظرون ، و «ما» نافية ، وهذه الصيحة هي صيحة القيامة ؛ وهي النفخة الأولى ، وفي حديث أبي هريرة (١) أن بعدها نفخة الصعق ، ثم نفخة الحشر ، وهي التي تدوم ؛ فما لها من فواق ، وأصل (يَخِصِّمُونَ) : يختصمون ، والمعنى : وهم يتحاورون ويتراجعون الأقوال بينهم ، وفي مصحف أبيّ بن كعب «يختصمون» (٢) ، (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) ؛ لإعجال الأمر ، بل تفيض أنفسهم ؛ حيث ما أخذتهم الصيحة.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ١١٦) كتاب «التفسير» باب : قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) برقم : (٤٦٠٤) ، ومسلم (٤ / ١٨٤٣) كتاب «الفضائل» باب : من فضائل موسى عليه‌السلام (١٥٩ / ٢٣٧٣)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٥٧) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٣٢٥) ، و «الدر المصون» (٥ / ٤٨٧)

١٥

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٥٤)

وقوله سبحانه : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) هذه نفخة البعث ، والأجداث : القبور ، و (يَنْسِلُونَ) أي يمشون مسرعين. وفي قراءة ابن مسعود (١) : «من أهبّنا من مرقدنا» ، وروي عن أبيّ بن كعب وغيره : أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر (٢).

قال* ع (٣) * : وهذا غير صحيح الإسناد ، وإنما الوجه في قولهم : (مِنْ مَرْقَدِنا) : أنها استعارة ؛ كما تقول في قتيل : هذا مرقده إلى يوم القيامة.

وقوله : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) جوّز الزّجّاج أن يكون «هذا» إشارة إلى المرقد ، ثم استأنف (ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) ويضمر الخبر «حق» أو نحوه ، وقال الجمهور : ابتداء الكلام : (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ) واختلف في هذه المقالة من قالها؟ فقال ابن زيد : هي من قول الكفرة (٤) ، وقال قتادة ومجاهد : هي من قول المؤمنين للكفار (٥).

وقال الفراء : هي من قول الملائكة (٦) ، وقالت فرقة : هي من قول الله ـ تعالى ـ على جهة التّوبيخ ، وباقي الآية بيّن.

__________________

(١) ينظر : «المحتسب» (٢ / ٢١٤) ، و «الكشاف» (٤ / ٢٠) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٥٨)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٥١) برقم : (٢٩١٨٠) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٧٤) ، والسيوطي في «تفسيره» (٥ / ٤٩٩) ، وعزاه لابن الأنباري عن أبيّ بن كعب.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٥٨)

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٥١) برقم : (٢٩١٨٦) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٧٤)

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٥١) برقم : (٢٩١٨٤) عن مجاهد ، وعن قتادة برقم : (٢٩١٨٥) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٥) عن مجاهد ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٧٤) عن غير واحد من السلف ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٠٠) ، وعزاه لهناد في «الزهد» وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري عن مجاهد ، ولعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة.

(٦) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٨) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٥) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٧٤) عن الحسن ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٠٠) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

١٦

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ)(٥٨)

وقوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) قال ابن عبّاس وغيره : هو افتضاض الأبكار (١).

وقال ابن عبّاس أيضا : هو سماع الأوتار (٢).

وقال مجاهد : معناه : نعيم قد شغلهم (٣).

قال* ع (٤) * : وهذا هو القول الصحيح ؛ وتعيين شيء دون شيء لا قياس له.

وقوله سبحانه : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ) جاء في «صحيح البخاري» وغيره عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة ربّه ، ورجل قلبه متعلّق بالمسجد ، ورجلان تحابّا في الله ، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه ، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال ؛ فقال : إنّي أخاف الله ، ورجل تصدّق بصدقة ؛ فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله تعالى خاليا ففاضت عيناه» (٥) انتهى. وهذا الظّلّ المذكور في الحديث ؛ هو في المحشر.

قال الشيخ ابن أبي جمرة (رضي الله عنه) : وظلال الآخرة ، ما فيها مباح ؛ بل كلّها قد تملكت بالأعمال التي عملها العاملون الذين هداهم الله تعالى ؛ فليس هناك لصعلوك الأعمال ظلّ ، انتهى ؛ وهو كما قال ، فشمّر عن ساق الجدّ ؛ إن أردت الفوز ؛ أيّها الأخ والسلام. و (الْأَرائِكِ) : السرر المفروشة ، قيل : ومن شرطها أن تكون عليها حجلة وإلّا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٥٢) عن عبد الله بن مسعود برقم : (٢٩١٨٧) ، وعن ابن عبّاس برقم : (٢٩١٨٨) ، وعن سعيد بن المسيب برقم : (٢٩١٩١) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٥) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٧٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٠٠) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه من طرق عن ابن عبّاس. ولعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» ، وابن المنذر عن ابن مسعود.

(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٧٥)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٥٢) برقم : (٢٩١٩٢) ، بلفظ : «في نعمة» ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٨)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٤٥٨)

(٥) تقدم تخريجه.

١٧

فليست بأريكة ؛ وبذلك قيّدها ابن عبّاس وغيره (١).

وقوله : (ما يَدَّعُونَ) بمنزلة ما يتمنّون.

قال أبو عبيدة : العرب تقول : ادّع عليّ ما شئت / بمعنى : تمنّ عليّ.

وقوله : (سَلامٌ) قيل : هي صفة ، أي : مسلّم لهم ، وخالص ، وقيل : هو مبتدأ ، وقيل : هو خبر مبتدإ.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(٦٥)

وقوله تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ) فيه حذف تقديره ؛ ونقول للكفرة ؛ «وامتازوا» معناه : انفصلوا وانحجزوا ؛ لأن العالم في الموقف إنما هم مختلطون. قلت : وهذا يحتاج إلى سند صحيح ، وفي الكلام إجمال ، ويوم القيامة هو مواطن ، ثم خاطبهم تعالى لما تميّزوا ، توبيخا وتوفيقا على عهده إليهم ومخالفتهم له ، وعبادة الشيطان هي طاعته والانقياد لإغوائه.

وقوله : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) إشارة إلى الشرائع ؛ إذ بعث الله آدم إلى ذريته ؛ ثمّ لم تخل الأرض من شريعة إلى ختم الرسالة بسيدنا محمّد خاتم النبيّين ، و «الجبل» : الأمة العظيمة ، ثم أخبر سبحانه نبيّه محمّدا* ع* أخبارا تشاركه فيه أمّته ؛ بقوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) وذلك أن الكفار يجحدون ، ويطلبون شهيدا عليهم من أنفسهم ؛ حسبما ورد في الحديث الصحيح ؛ فعند ذلك يختم الله ـ تعالى ـ على أفواههم ، ويأمر جوارحهم بالشّهادة ؛ فتشهد.

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ)(٦٩)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٥٤) عن ابن عبّاس برقم : (٢٩١٩٩) وعن مجاهد (٢٩٢٠٠) ، وعن عكرمة (٢٩٢٠٣) ، وعن قتادة (٢٩٢٠٥) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٥٩) ، وزاد نسبته للحسن ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٧٥)

١٨

وقوله سبحانه : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) الضمير في «أعينهم» لكفار قريش ، ومعنى الآية : تبيين أنّهم في قبضة القدرة ، وبمدرج العذاب.

قال الحسن وقتادة : أراد الأعين حقيقة (١) ، والمعنى : لأعميناهم ؛ فلا يرون كيف يمشون ؛ ويؤيد هذا مجانسة المسخ للعمى الحقيقيّ.

وقوله : (فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ) معناه : على الفرض والتقدير ، كأنّه قال : ولو شئنا لأعميناهم ، فأحسب أو قدّر أنّهم يسبقون الصراط ؛ وهو الطريق ، فأنّى لهم بالإبصار ، وقد أعميناهم ، وعبارة الثّعلبيّ : وقال الحسن والسدي : ولو نشاء لتركناهم عميا يتردّدون ؛ فكيف يبصرون الطريق حينئذ ، انتهى ، وقال ابن عبّاس : أراد : أعين البصائر (٢) ؛ والمعنى : لو شئنا لحتمنا عليهم بالكفر ؛ فلم يهتد منهم أحدا أبدا ، وبيّن تعالى في تنكيسه المعمّرين ، وأن ذلك مما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه ، وتنكيسه : تحوّل خلقه من القوة إلى الضّعف ؛ ومن الفهم إلى البله ، ونحو ذلك.

ثم أخبر تعالى عن حال نبيه محمّد* ع* رادّا على من قال من الكفرة : إنه شاعر وإن القرآن شعر ـ بقوله : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ ...) الآية.

(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (٧٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٦)

وقوله تعالى : «لتنذر من كان حيا» أي : حيّ القلب والبصيرة ، ولم يكن ميّتا لكفره ؛ وهذه استعارة ، قال الضحاك : (مَنْ كانَ حَيًّا) معناه : عاقلا (٣) ، (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ) معناه :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٥٩) عن الحسن برقم : (٢٩٢١٧) وعن قتادة (٢٩٢١٨) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٧٧) ، والسيوطي في «تفسيره» (٥ / ٥٠٤) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن الحسن.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٥٨) برقم : (٢٩٢١٦) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦١) ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٧٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٠٤) ، وعزاه السيوطي لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٦١) برقم : (٢٩٢٣١) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٨٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٠٦) ، وعزاه للبيهقي في «شعب الإيمان».

١٩

يحتّم العذاب ويجب الخلود.

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا) الآية. مخاطبة لقريش أيضا.

وقوله : (أَيْدِينا) عبارة عن القدرة ، والله تعالى منزّه عن الجارحة.

وقوله تعالى : (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) تنبيه على النعمة.

وقوله : (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) أي : يحضرون لهم في الآخرة على معنى التوبيخ والنقمة ، وسمّى الأصنام جندا ؛ إذ هم عدّة للنّقمة من الكفرة ، ثم آنس الله نبيّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) وتوعّد الكفرة بقوله : (إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ).

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٧٧) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٣)

وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ ...) الآية ، والصحيح في سبب نزول الآية هو ما رواه ابن وهب عن مالك ؛ وقاله ابن إسحاق وغيره أن أبيّ بن خلف ؛ جاء بعظم / رميم ، ففتّه في وجه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحياله ، وقال : من يحيي هذا يا محمّد (١) ؛ ولابيّ هذا مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقامات ومقالات إلى أن قتله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده يوم أحد ؛ طعنه بحربة في عنقه.

وقوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) يحتمل أن يكون نسيان الذّهول ، ويحتمل أن يكون نسيان التّرك ، والرميم : البالي المتفتّت ، وهو الرفات ، ثم دلّهم سبحانه على الاعتبار بالنّشأة الأولى ، ثم عقّب تعالى بدليل ثالث في إيجاد النار في العود الأخضر المرتوي ماء ، وهذا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٠ / ٤٦٤) برقم : (٢٩٢٤٠) عن مجاهد ، وبرقم : (٢٩٢٤٢) عن قتادة ، وذكره البغوي (٤ / ٢٠) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٤٦٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٣ / ٥٨١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٥٠٧) ، وعزاه لابن مردويه عن ابن عبّاس.

٢٠