تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

وقوله تعالى : (نِصْفَهُ) يحتمل : أن يكون بدلا من قوله قليلا ، ـ ص ـ : (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من الليل ، و (نِصْفَهُ) قيل : بدل من الليل وعلى هذا يكون استثناء (إِلَّا قَلِيلاً) منه ، أي : قم نصف الليل إلا قليلا منه ، والضمير في قوله : (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) ، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) عائد على النصف وقيل : (نِصْفَهُ) : بدل من قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) قال أبو البقاء ؛ وهو أشبه بظاهر الآية ، انتهى ، قال* ع (١) * : وكيف ما تقلّب المعنى فإنه أمر بقيام نصف الليل ، أو أكثر شيئا أو أقلّ شيئا ، فالأكثر عند العلماء لا يزيد على الثّلثين ، والأقلّ لا ينحطّ عن الثلث ، ويقوّي هذا حديث ابن عبّاس في مبيته في بيت ميمونة ؛ قال : فلما انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل ، قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال* ع (٢) * : ويلزم على هذا البدل الذي ذكرناه أن يكون نصف الليل قد وقع عليه الوصف بقليل ، وقد يحتمل عندي قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) أن يكون استثناء من القيام ، فنجعل الليل اسم جنس ثم قال : (إِلَّا قَلِيلاً) أي : إلا الليالي التي تخلّ بقيامها لعذر ، وهذا [النظر يحسن مع القول بالنّدب جدّا ، قال ـ ص ـ : وهذا [النّظر خلاف ظاهر الآية ، انتهى ، والضمير في (مِنْهُ) و (عَلَيْهِ) عائدان على] (٣) النصف.

وقوله سبحانه : (وَرَتِّلِ) : معناه في اللغة : تمهّل وفرّق بين الحروف ، لتبين ، والمقصد أن يجد الفكر فسحة للنّظر وفهم المعاني ، وبذلك يرقّ القلب ، ويفيض عليه النور والرحمة ، قال ابن كيسان : المراد : تفهمه تاليا له ، وروي في صحيح الحديث : أن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت بيّنة مترسّلة ، لو شاء أحد أن يعدّ الحروف لعدّها ، قال الغزاليّ في «الإحياء» : واعلم أنّ الترتيل والتّؤدة أقرب إلى التوقير والاحترام ، وأشدّ تأثيرا في القلب من الهدرمة والاستعجال ، والمقصود من القراءة التفكّر ، والترتيل معين عليه ، وللناس عادات مختلفة في الختم ، وأولى ما يرجع إليه في التقديرات قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من قرأ القرآن في أقلّ من ثلاث ، لم يفقهه» وذلك لأنّ الزيادة عليها تمنع الترتيل المطلوب ، وقد كره جماعة الختم في يوم وليلة ، والتفصيل في مقدار القراءة أنّه إن كان التالي من العبّاد السالكين طريق العمل ، فلا ينبغي له أن ينقص من ختمتين في الأسبوع ، وإن كان من السالكين بأعمال القلب وضروب الفكر ، / أو من المشغولين بنشر العلم فلا بأس أن يقتصر في الأسبوع على ختمة ، وإن كان نافذ الفكر في معاني القرآن فقد

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٨٧)

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) سقط في : د.

٥٠١

يكتفي في الشهر بمرة لحاجته إلى كثرة التّرديد والتأمّل ، انتهى ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» : قال : حدثنا إسماعيل عن أبي المتوكّل الناجي : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام ذات ليلة بآية من القرآن يكرّرها على نفسه» (١) ، انتهى.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)(١٠)

وقوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) يعني القرآن ، واختلف لم سمّاه ثقيلا ، فقال جماعة من المفسرين : لما كان يحلّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثقل الجسم ؛ حتّى إنّه كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته ؛ بركت به وحتّى كادت فخذه أن ترضّ (٢) فخذ زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ ، وقيل : لثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعده ووعيده ونحو ذلك ، وقال حذّاق العلماء : معناه : ثقيل المعاني من الأمر بالطاعات ، والتكاليف الشرعية من الجهاد ، ومزاولة الأعمال الصالحات دائما ، قال الحسن : إنّ الهذّ خفيف ولكنّ العمل ثقيل (٣) * ت* : والصواب عندي أن يقال : أما ثقله باعتبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو ما كان يجده* ع* من الثقل المحسوس وأما ثقله باعتبار سائر الأمة فهو ما ذكر من ثقل المعاني ، وقد زجر مالك سائلا سأله عن مسألة وقال : يا أبا عبد الله ؛ إنها مسألة خفيفة ؛ فغضب مالك وقال : ليس في العلم خفيف أما سمعت قول الله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) فالعلم كلّه ثقيل ، انتهى من «المدارك» لعياض.

وقوله سبحانه : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) قال ابن جبير وغيره : هي لفظة حبشيّة ؛ نشأ الرجل إذا قام من الليل (٤) ف (ناشِئَةَ) على هذا جمع ناشىء أي : قائم ، و (أَشَدُّ وَطْئاً) معناه : ثبوتا واستقلالا بالقيام ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وجماعة كابن عبّاس وابن الزبير

__________________

(١) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص : (٣٥) ، رقم : (١٠٤)

(٢) الرّضّ : الدّقّ الجريش. ينظر : «النهاية» (٢ / ٢٢٩)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٨١) ، رقم : (٣٥١٩٠) بنحوه ، والبغوي (٤ / ٤٠٨) بنحوه ، وابن عطية (٥ / ٣٨٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٣) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن نصر.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٨٢) ، رقم : (٣٥١٩٦) بنحوه عن ابن جبير عن ابن عبّاس. وذكره البغوي (٤ / ٤٠٨) ، وابن عطية (٥ / ٣٨٧) ، وابن كثير (٤ / ٤٣٥) ،

٥٠٢

وغيرهم (١) : «وطاء» ـ بكسر الواو ـ ممدودا على وزن «فعال» على معنى المواطأة والموافقة ، وهو أن يواطىء قلبه لسانه ، والمواطأة هي الموافقة ، فهذه مواطأة صحيحة ؛ لخلو البال من أشغال النهار ، وبهذا المعنى فسّر اللفظ مجاهد (٢) وغيره ، قال الثعلبيّ : واختار هذه القراءة أبو عبيد وقال جماعة : (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) ساعاته كلّها ، لأنّها تنشأ شيئا بعد شيء ، وقيل في تفسير (ناشِئَةَ اللَّيْلِ) غير هذا ، وقرأ أنس بن مالك «وأصوب قيلا» فقيل له : إنما هو (أَقْوَمُ) فقال : أقوم وأصوب واحد.

وقوله تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) أي : تصرّفا وتردّدا في أمورك ، ومنه السّباحة في الماء ، (وَتَبَتَّلْ) معناه : انقطع إليه انقطاعا ؛ هذا لفظ ابن عطاء على ما نقله الثعلبي ، انتهى ، وأما* ع (٣) * فقال : معناه انقطع من كلّ شيء إلا منه وأفزع إليه ، قال زيد بن أسلم : التبتّل : رفض الدّنيا (٤) ، ومنه بتل الحبل ، و (تَبْتِيلاً) مصدر على غير الصّدر ، قال أبو حيان (٥) : وحسنه كونه فاصلة ، انتهى ، قال ابن العربي في «أحكامه» : فالتبتّل المأمور به في الآية الانقطاع إلى الله تعالى بإخلاص العبادة ، وهو اختيار البخاريّ ، والتبتّل المنهي عنه في الحديث هو سلوك مسلك النصارى في ترك النكاح والتّرهب في الصوامع ، انتهى ، والوكيل القائم بالأمر الذي توكل إليه الأشياء.

وقوله : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) منسوخ بآية السيف.

(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً)(١٤)

وقوله سبحانه : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) الآية ، وعيد بيّن ، والمعنى لا تشغل بهم فكرك وكلهم إليّ ، والنعمة : غضارة العيش وكثرة المال والمشار إليهم كفار قريش أصحاب / القليب ببدر ، و (لَدَيْنا) بمنزلة «عندنا» والأنكال : جمع نكل ، وهو القيد

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٦٥٨) ، و «الحجة» (٦ / ٣٣٥) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٠٥) ، و «حجة القراءات» (٧٣٠) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٩٩) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٧٧) ، و «العنوان» (١٩٩) ، و «شرح شعلة» (٦١١) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٦٨)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٨٤) ، رقم : (٣٥٢١٩ ، ٣٥٢٢٠ ، ٣٥٢٢١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٥) ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٨٨)

(٤) ينظر : ابن عطية (٥ / ٣٨٨)

(٥) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٣٥٥)

٥٠٣

من الحديد ، ويروى أنّها قيود سود من النار ، والطّعام ذو الغصّة شجرة الزّقوم ، قاله مجاهد وغيره (١) ، وقال ابن عبّاس : شوك من نار يعترض في حلوقهم (٢) وكلّ مطعوم هنالك فهو ذو غصّة ، وروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية فصعق (٣) ، والرجفان الاهتزاز والاضطراب من فزع وهول ، و «المهيل» : اللّيّن الرخو الذي يذهب بالرّيح ، وقال البخاريّ : (كَثِيباً مَهِيلاً) رملا سائلا ، انتهى.

(إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً)(١٧)

وقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ ...) الآية ، خطاب للعالم لكن المواجهون قريش ، و (شاهِداً عَلَيْكُمْ) نحو قوله : (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] والوبيل : الشّديد الردى.

وقوله تعالى : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ) معناه : كيف تجعلون وقاية لأنفسكم ، و (يَوْماً) مفعول ب (تَتَّقُونَ) ، وقيل : هو مفعول ب (كَفَرْتُمْ) ويكون (كَفَرْتُمْ) بمعنى : جحدتم ، ف (تَتَّقُونَ) على هذا من التقوى ، أي : تتقون عذاب الله ، ويجوز أن يكون (يَوْماً) ظرفا والمعنى : تتقون عقاب الله يوما ، وعبارة الثعلبي : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ) أي كيف تتحصّنون من عذاب يوم يشيب فيه الطفل لهوله إن كفرتم ، ثم ذكر نحو ما تقدم ، انتهى ، وحكى ـ ص ـ : ، عن بعض الناس جواز أن يكون (يَوْماً) ظرفا أي : فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا ، * ت* : وهذا هو مراد* ع (٤) * ، قال أبو حيان (٥) : و (شِيباً) مفعول ثان ل (يَجْعَلُ) وهو جمع أشيب ، انتهى.

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً)(١٩)

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٨٩) ، رقم : (٣٥٢٦٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٦) ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٨٩) ، رقم : (٣٥٢٦٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٨٩) ، وابن كثير (٤ / ٤٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، في صفة النار ، وعبد الله في «زوائد الزهد» ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، وصححه البيهقي في «البعث».

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٦) ، وعزاه إلى أحمد في «الزهد» ، وهناد وعبد بن حميد ، ومحمّد بن نصر عن حمران به.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٨٩)

(٥) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٣٥٧)

٥٠٤

وقوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي ذات انفطار ، والانفطار التّصدّع والانشقاق ، والضمير في (بِهِ) قال منذر وغيره : عائد على اليوم ؛ وكذا قال ـ ص ـ : إن ضمير (بِهِ) يعود على اليوم والباء سببية / أو ظرفية ، انتهى ، وفي «صحيح مسلم» من رواية عبد الله بن عمرو : وذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بعث النار من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنّة ، قال : فذلك يوم يجعل الولدان شيبا ، وذلك (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] الحديث (١) ، انتهى ، وقيل : عائد على الله ، أي منفطر بأمره وقدرته ، والضمير في قوله : (وَعْدُهُ) الظاهر أنّه يعود على الله تعالى.

وقوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ...) الآية ، الإشارة ب «هذه» تحتمل : إلى ما ذكر من الأنكال والجحيم ، والأخذ الوبيل ، وتحتمل : أن تكون إلى السورة بجملتها ، وتحتمل : أن تكون إلى آيات القرآن بجملتها.

وقوله سبحانه : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ليس معناه إباحة الأمر وضدّه ، بل الكلام يتضمّن الوعد والوعيد ، والسبيل هنا سبيل الخير والطاعة.

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٠)

وقوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ...) الآية ، المعنى أنّ الله تعالى يعلم أنّك تقوم أنت وغيرك من أمّتك قياما مختلفا مرّة يكثر ومرّة يقلّ ، ومرة أدنى من الثلثين ،

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٤٤٠) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب : قصة يأجوج ومأجوج (٣٣٤٨) ، (٨ / ٢٩٥) ، كتاب «التفسير» باب : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) (٤٧٤١) ، (١١ / ٣٩٦) ، كتاب «الرقاق» باب : قول الله عزوجل : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (٦٥٣٠) ، (١٣ / ٤٦٢) ، كتاب «التوحيد» باب : قول الله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا. الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٧٤٨٣) ، ومسلم (٢ / ٦٤٢ ـ ٤٦٣) ـ الأبي ، كتاب «الإيمان» باب : يقول الله لآدم : أخرج بعث النار من كلّ ألف تسعمائة وتسعة وتسعين (٣٧٩) ، والنسائي (٦ / ٤٠٩) ـ «الكبرى» ، كتاب «التفسير» باب : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى ، وَما هُمْ بِسُكارى) (١١٣٣٩ / ١).

وفي الباب من حديث أبي هريرة في «الصحيح» :

أخرجه البخاري (١١ / ٣٨٥) ، كتاب «الرقاق» باب الحشر (٢٥٢٩)

٥٠٥

ومرة أدنى من النصف ، ومرة أدنى من الثلث ، وذلك لعدم تحصيل البشر لمقادير الزمان ، مع عذر النوم ، وتقدير الزمان حقيقة إنما هو لله تعالى ، وأما البشر فلا يحصي ذلك ، فتاب الله عليهم ، أي : رجع بهم من الثّقل إلى الخفّة وأمرهم بقراءة ما تيسّر ، ونحو هذا تعطي عبارة الفراء ، ومنذر فإنهما قالا : تحصوه تحفظوه ، وهذا التأويل هو على قراءة الخفض عطفا على الثلثين وهي قراءة أبي عمرو ونافع وابن عامر ، وأمّا من قرأ : «ونصفه وثلثه» بالنّصب عطفا على أدنى وهي قراءة باقي السبعة (١) ، فالمعنى عندهم أنّ الله تعالى قد علم أنهم يقدرون الزمان على نحو ما أمر به تعالى ، في قوله : (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) [المزمل : ٣ ـ ٤] فلم يبق إلا قوله : (أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) فمعناه لن يطيقوا قيامه / لكثرته وشدته ، فخفّف الله عنهم فضلا منه ؛ لا لعلّة جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقات ، ونحو هذا تعطي عبارة الحسن وابن جبير ؛ فإنهما قالا : تحصوه : تطيقوه (٢) ، وعبارة الثعلبيّ : ومن قرأ بالنّصب ؛ فالمعنى : وتقوم نصفه وثلثه ، قال الفراء : وهو الأشبه بالصّواب ؛ لأنه قال أقلّ من الثلثين ، ثم ذكر تفسير القلة لا تفسير أقلّ من القلة ، انتهى ، ولو عبّر الفرّاء بالأرجح ، لكان أحسن أدبا ، وعن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من تعارّ من اللّيل ، فقال : لا إله لا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد ، وهو على كلّ شيء قدير ، الحمد لله وسبحانه الله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلّا بالله» (٣) ثم قال : «اللهمّ ، اغفر لي ، أو دعا ، استجيب له ، فإن توضّأ ، ثمّ صلّى قبلت صلاته» ، رواه الجماعة إلا مسلما ، وتعارّ ـ بتشديد الراء ـ معناه : استيقظ ، انتهى من «السلاح».

وقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) قال الثعلبيّ أي : ما خفّ وسهل بغير مقدار من القراءة ، والمدّة ، وقيل : المعنى فصلّوا ما تيسّر فعبّر بالقراءة عنها.* ت* : وهذا هو الأصحّ عند ابن العربي ، انتهى ، قال* ع (٤) * : قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ

__________________

(١) ينظر : «الحجة» (٦ / ٣٣٦) ، و «إعراب القراآت» (٢ / ٤٠٧) ، و «معاني القراآت» (٢ / ١٠٠) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٧٧) ، و «العنوان» (١٩٩) ، و «حجة القراآت» (٧٣١) ، و «شرح شعلة» (٦١٢) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٦٩)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٩٣ ـ ٢٩٤) ، رقم : (٣٥٢٩٢ ـ ٣٥٢٩٣) ، عن الحسن ، ورقم (٣٥٢٩٤) عن سعيد ، وذكره البغوي (٤ / ٤١١) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٨) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٣) في د : بالله العلي العظيم.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٩٠)

٥٠٦

الْقُرْآنِ) هو أمر ندب في قول الجمهور ، وقال جماعة : هو فرض لا بدّ منه ولو خمسين آية ، وقال الحسن وابن سيرين : قيام الليل فرض (١) ولو قدر حلب شاة ، إلا أنّ الحسن قال : من قرأ مائة آية لم يحاجّه القرآن (٢) ؛ واستحسن هذا جماعة من العلماء ؛ قال بعضهم : والركعتان بعد العشاء مع الوتر داخلتان في امتثال هذا الأمر ؛ ومن زاد زاده الله ثوابا ، * ت* : ينبغي للعاقل المبادرة إلى تحصيل الخيرات قبل هجوم صولة الممات ، قال الباجيّ في «سنن الصالحين» له : قالت بنت الربيع بن خثيم لأبيها : يا أبت / ما لي أرى النّاس ينامون وأنت لا تنام ، قال : إنّ أباك يخاف البيات ، قال الباجيّ ـ رحمه‌الله تعالى ـ : ولي في هذا المعنى : [من الرجز]

قد أفلح القانت في جنح الدّجى

يتلو الكتاب العربيّ النيّرا

[فقائما وراكعا وساجدا

مبتهلا مستعبرا مستغفرا] (٣)

له حنين وشهيق وبكا

يبلّ من أدمعه ترب الثّرى

إنّا لسفر نبتغي نيل الهدى

ففي السّرى بغيتنا لا في الكرا

من ينصب اللّيل ينل راحته

عند الصباح يحمد القوم السّرى

انتهى ، والضرب في الأرض هو السّفر للتجارة ابتغاء فضل الله سبحانه ، فذكر الله سبحانه أعذار بني آدم التي هي حائلة بينهم وبين قيام الليل ، ثم كرّر سبحانه الأمر بقراءة ما تيسّر منه تأكيدا ، والصلاة والزكاة هنا هما المفروضتان ، فمن قال : إن القيام من الليل غير واجب ؛ قال : معنى الآية خذوا من هذا النفل بما تيسّر وحافظوا على فرائضكم ، ومن قال : إن شيئا من القيام واجب ؛ قال : قد قرنه الله بالفرائض ؛ لأنه فرض وإقراض الله تعالى هو إسلاف العمل الصالح عنده ، وقرأ جمهور الناس (٤) «هو خيرا» على أن يكون «هو» فصلا ، قال بعض العلماء : الاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية ، ومن قوله تعالى : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات : ١٧ ـ ١٨] قال

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٠)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٩٤) ، رقم : (٣٥٣٠١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٠ ـ ٣٩١)

(٣) سقط في : د.

(٤) وقرأ محمّد بن السميفع ، وأبو السمال : «هو خير» بالرفع.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٦٤) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٩١) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٣٥٩) ، و «الدر المصون» (٦ / ٤١٠)

٥٠٧

* ع (١) * : وعهدت أبي ـ رحمه‌الله ـ يستغفر الله إثر كلّ مكتوبة ثلاثا بعقب السلام ، ويأثر في ذلك حديثا ، فكان هذا الاستغفار من التقصير وتقلّب الفكر أثناء الصلاة ، وكان السلف الصالح يصلّون إلى طلوع الفجر ؛ ثم يجلسون للاستغفار.* ت* : وما ذكره* ع* : رحمه‌الله ـ عن أبيه رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن ثوبان قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا انصرف / من صلاته ، استغفر ثلاثا وقال : «اللهمّ ، أنت السّلام ومنك السّلام تباركت ذا الجلال والإكرام» (٢) ، قال الوليد : فقلت للأوزاعيّ : كيف الاستغفار؟ قال : تقول : أستغفر الله ، أستغفر الله ، أستغفر الله ، وفي رواية لمسلم من حديث عائشة : «يا ذا الجلال والإكرام» ، انتهى من «سلاح المؤمن».

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٩١)

(٢) أخرجه مسلم (٥ / ٢٦ / ١٣٥ ـ ١٣٦) ، وأبو داود (١ / ٤٧٤) ، كتاب «الصلاة» باب : ما يقول الرجل إذا سلّم (١٥١٢) ، والترمذي (٢ / ٩٥ ـ ٩٦) ، كتاب «الصلاة» باب : ما جاء إذا سلّم من الصلاة (٢٩٨ ـ ٢٩٩) ، وابن ماجه (١ / ٢٩٨) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب : ما يقال بعد التسليم (٩٢٤) ، وابن حبان (٥ / ٣٤٠ ـ ٣٤١) ، كتاب «الصلاة» باب : فصل في القنوط (٢٠٠٠ ـ ٢٠٠١) ، وأحمد (٦ / ١٨٤) ، والنسائي (٣ / ٦٩) ، كتاب «السهو» باب : الذكر بعد الاستغفار (١٣٣٨) ، وفي «الكبرى» (١ / ٣٩٧) ، كتاب «صفة الصلاة» باب : الاستغفار بعد السلام (١٢٦١).

قال الترمذي : حديث عائشة ، حديث حسن.

وفي الباب من حديث ثوبان : أخرجه أبو داود (١ / ٤٧٥) ، كتاب «الصلاة» باب : ما يقول الرجل إذا سلم (١٥١٣) ، والنسائي (٣ / ٦٩) ، كتاب «السهو» باب : الاستغفار بعد السلام (١٣٣٧) ، وفي «الكبرى» (١ / ٣٩٧) ، كتاب «صفة الصلاة» باب : الاستغفار بعد السلام (١٢٦١) ، والطيالسي (١ / ١٠٥) ، كتاب «الصلاة» باب : أذكار متنوعة تقال بعد الخروج من الصلاة (٤٧٦) ، وابن حبان (٥ / ٣٤٣ ـ ٣٤٤) ، كتاب «الصلاة» باب : فصل في القنوت.

٥٠٨

تفسير سورة المدّثّر

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)(٦)

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ) الآية ، اختلف في أول ما نزل من القرآن ، فقال الجمهور هو : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وهذا هو الأصحّ ، وقال جابر وجماعة هو : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (١) ، ـ ص ـ : والتّدثّر : لبس الدّثار ، وهو الثّوب الذي فوق الشعار ، والشعار الثّوب الذي يلي الجسد ؛ ومنه قوله : * ع* : «الأنصار شعار ، والناس دثار» انتهى.

وقوله تعالى : (قُمْ فَأَنْذِرْ) بعثة عامة إلى جميع الخلق.

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي : فعظم.

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال ابن زيد وجماعة : هو أمر بتطهير الثياب حقيقة (٢) ، وذهب الشافعيّ وغيره من هذه الآية إلى : وجوب غسل النجاسات من الثياب ، وقال الجمهور : هذه الألفاظ استعارة في تنقية الأفعال والنفس ، والعرض ، وهذا كما تقول : فلان طاهر الثوب ، ويقال للفاجر : دنس الثّوب ، قال ابن العربي في «أحكامه» : والذي يقول إنها الثياب المجازيّة أكثر ، وكثيرا ما تستعمله العرب ، قال أبو كبشة : [الطويل]

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٩٧) ، رقم : (٣٥٣٠٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٢ ، ٤١٣) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٢) ، وابن كثير (٤ / ٤٤٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٠) ، وعزاه للطيالسي ، وعبد الرزاق ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، وابن الضريس ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، وابن الأنباري في المصاحف.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠٠) ، رقم : (٣٥٣٣٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٣) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٢) ، وابن كثير (٤ / ٤٤١) بنحوه.

٥٠٩

ثياب بني عوف طهارى نقيّة

وأوجههم عند المشاهد غرّان (١)

يعني : بطهارة ثيابهم وسلامتهم من الدّناءات ، وقال غيلان بن سلمة الثقفيّ : [الطويل]

فإنّي بحمد الله لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنّع (٢)

وليس يمتنع أن تحمل الآية على عموم المراد فيها بالحقيقة (٣) والمجاز (٤) على ما بيّناه في أصول الفقه ، وإذا حملناها على الثياب المعلومة ؛ فهي تتناول معنيين : أحدهما : تقصير الأذيال ؛ فإنّها إذا أرسلت تدنّست ، وتقصير الذيل أنقى لثوبه وأتقى لربّه ، المعنى الثّاني : غسلها من النجاسة فهو ظاهر منها صحيح فيها ، انتهى ، قال الشيخ أبو الحسن الشاذليّ ـ رضي الله عنه ـ : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام ، فقال : يا عليّ ، طهّر ثيابك من الدّنس ، تحظ بمدد الله في كلّ نفس ، فقلت : وما ثيابي يا رسول الله؟ فقال : إنّ الله كساك [حلّة المعرفة ، ثمّ] (٥) حلّة المحبّة ، ثمّ حلة التّوحيد ، ثمّ حلّة الإيمان ، ثمّ حلّة

__________________

(١) البيت في «ديوانه» (٨٣) ، و «المحكم» (٤ / ١٧٥) ، و «العين» (٤ / ١٩) ، و «الصحاح» (طهر) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٣٦٣)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٩٢) ، «البحر المحيط» (٨ / ٣٦٣) ، القرطبي (١٩ / ٤٢)

(٣) ينظر : «البحر المحيط» للزركشي (٢ / ١٥٢) ، «سلاسل الذهب» له ص : (١٨٢) ، «التمهيد» للأسنوي ص : (١٨٥) ، «نهاية السول» له (٢ / ١٤٥) ، «منهاج العقول» للبدخشي (١ / ٣٢٧) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص : (٤٦) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (١ / ٢٢١) ، «المستصفى» للغزالي (١ / ٣٤١) ، «حاشية البناني» (١ / ٣٠٠) ، «الإبهاج» لابن السبكي (١ / ٢٧١) ، «الآيات البينات» لابن القاسم العبادي (٢ / ١٥٢) ، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني ص : (٦٨) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١ / ٣٩٣) ، «المعتمد» لأبي الحسين (١ / ١٤ ، ٢ / ٤٠٥) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٤ / ٤٣٧) ، «التحرير» لابن الهمام ص : (١٦٠) ، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (١ / ٧٢ ، ٢ / ٢)

(٤) ينظر : «البحر المحيط» للزركشي (٢ / ١٥٨) ، «سلاسل الذهب» له ص : (١٩٠) ، «التمهيد» للأسنوي ص : (١٨٥) ، «نهاية السول» له (٢ / ١٤٥) ، «منهاج العقول» للبدخشي (١ / ٣٥٤) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص : (٤٧) ، «التحصيل من المحصول»

للأرموي (١ / ٢٢١) ، «المستصفى» للغزالي (١ / ٣٤١) ، «حاشية البناني» (١ / ٣٠٤) ، «الإبهاج» لابن السبكي (١ / ٢٧١) ، «الآيات البينات» لابن القاسم العبادي (٢ / ١٥٢) ، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني ص : (٣٨٧) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١ / ٣٩٩) ، «المعتمد» لأبي الحسين (١ / ١٤ ، ٢ / ٤٠٥) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (٤ / ٤٣٧) ، «التحرير» لابن الهمام ص : (١٦٠) ، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (١ / ٧٣ ، ٢ / ٣) ، «كشف الأسرار» للنسفي (١ / ٢٢٦)

(٥) سقط في : د.

٥١٠

الإسلام ، فمن عرف الله صغر لديه كلّ شيء ، ومن أحبّ الله هان عليه كلّ شيء ، ومن وحّد الله ، لم يشرك به شيئا ، ومن آمن بالله أمن من كلّ شيء ، ومن أسلم لله قلّما يعصيه ، وإن عصاه ، اعتذر إليه ، وإذا اعتذر إليه ، قبل عذره ، قال : ففهمت حينئذ معنى قوله عزوجل : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) انتهى من «التنوير» لابن عطاء الله.

(وَالرُّجْزَ) يعني الأصنام والأوثان ، وقال ابن عبّاس : الرّجز السّخط (١) يعني : اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه ، واختلف في معنى قوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) فقال ابن عبّاس وجماعة : معناه لا تعط عطاء لتعطى أكثر منه (٢) ، فكأنه من قولهم : منّ إذا أعطى ، قال الضحاك : وهذا خاصّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومباح لأمّته ، لكن لا أجر لهم فيه (٣) ، وقال الحسن بن أبي الحسن : معناه ولا تمنن على الله بجدّك ، تستكثر أعمالك ، ويقع لك بها إعجاب (٤) ، قال* ع (٥) * : وهذا من المنّ الذي هو تعديد اليد وذكرها ، وقال مجاهد : معناه ولا تضعف تستكثر ما حمّلناك من أعباء الرسالة ، وتستكثر من الخير ؛ وهذا من قولهم حبل منين أي : ضعيف (٦).

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)(١٠)

(وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي لوجه ربّك وطلب رضاه فاصبر على أذى الكفار ، وعلى العبادة وعن الشهوات وعلى تكاليف النبوّة ، قال ابن زيد : وعلى حرب الأحمر ، والأسود (٧) ، ولقد حمّل أمرا عظيما صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والناقور : الذي ينفخ فيه ، وهو الصور ؛ قاله ابن عبّاس

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠٠) ، رقم : (٣٥٣٣٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٣)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠١) ، رقم : (٣٥٣٤٦) عن ابن عبّاس ، وغيره رقم : (٣٥٣٤٧) ، (٣٥٣٤٨) ، (٣٥٣٤٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٣) ، وابن كثير (٤ / ٤٤١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٢) ، وعزاه للطبراني.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠٢) ، رقم : (٣٥٣٦٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٤) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٣) ، وابن كثير (٤ / ٤٤١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٢) ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠٢) ، رقم : (٣٥٣٦٣) ، (٣٥٣٦٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٤) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٣)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٩٣)

(٦) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠٣) ، رقم : (٣٥٣٦٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٤) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٣) ، وابن كثير (٤ / ٤٤١). والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٢) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٧) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠٣) ، رقم : (٣٥٣٧٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٣)

٥١١

وعكرمة ؛ وهو فاعول من النقر (١) ، قال أبو حباب القصاب : أمّنا زرارة بن أوفى ؛ فلمّا بلغ (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) خرّ ميّتا ، قال الفخر (٢) : قوله تعالى : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي : على الكافرين ، لأنّهم يناقشون (غَيْرُ يَسِيرٍ) أي : بل كثير شديد فأمّا المؤمنون ؛ فإنّه عليهم يسير ؛ لأنّهم لا يناقشون ، قال ابن عبّاس : ولما قال تعالى : (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) دلّ على أنه يسير على المؤمنين (٣) ، وهذا هو دليل الخطاب ، ويحتمل أن يكون إنما وصفه تعالى بالعسر لأنّه في نفسه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين ، إلّا أنّه يكون هول الكفار فيه أكثر وأشدّ ، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله : (يَوْمٌ عَسِيرٌ) انتهى.

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ)(١٥)

وقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) الآية ، لا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، فروي أنّه كان يلقّب الوحيد أي : لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته ، فذكر الوحيد في جملة النعم التي أعطي ، وإن لم يثبت هذا فقوله تعالى : (خَلَقْتُ وَحِيداً) معناه : منفردا قليلا ذليلا ، والمال الممدود قال مجاهد وابن جبير : هو ألف دينار (٤) ، وقال سفيان : بلغني أنّه أربعة آلاف ؛ وقاله قتادة (٥) ، وقيل عشرة آلاف دينار ، قال* ع (٦) * : وهذا مدّ في العدد ، وقال عمر بن الخطاب : المال الممدود : الرّيع المستغلّ مشاهرة (٧).

(وَبَنِينَ شُهُوداً) أي حضورا ، قيل عشرة وقيل ثلاثة عشر ، قال الثعلبيّ / : أسلم منهم ثلاثة خالد بن الوليد ، وهشام ، وعمارة ، قالوا : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠٤) ، رقم : (٣٥٣٧٦) عن عكرمة ، ورقم : (٣٥٣٨٠) عن ابن عبّاس ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٢) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن عبّاس ، وعزاه أيضا لعبد بن حميد عن عكرمة.

(٢) ينظر : «الفخر الرازي» (٣٠ / ١٧٤)

(٣) ذكره الرازي (٣٠ / ١٧٤)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠٦) ، رقم : (٣٥٣٩٥ ـ ٣٥٣٩٦) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٤) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٤)

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠٦) ، رقم : (٣٥٣٩٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٤) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٤)

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٩٤)

(٧) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧) ، رقم : (٣٥٤٠٠ ، ٣٥٤٠٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٤)

٥١٢

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) قال سفيان : المعنى بسطت له العيش بسطا (١).

(كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ)(٢٨)

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع وزجر له على أمنيّته ، و (سَأُرْهِقُهُ) معناه أكلّفه بمشقة وعسر ، وصعود عقبة في نار جهنّم ، روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كلّما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب ، ثم يعود ، والصعود في اللغة : العقبة الشاقة.

وقوله تعالى مخبرا عن الوليد : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) الآية ، روى جمهور من المفسرين : أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ، ثم سمع كذلك مرارا ، حتى كاد أن يقارب الإسلام ، وقال : والله لقد سمعت من محمّد كلاما ما هو من كلام الإنس ، ولا هو من كلام الجنّ ، إنّ له الحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وإنّه يعلو ، وما يعلى ، فقالت قريش : صبأ الوليد والله لتصبأنّ قريش ، فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه فحاجّه أبو جهل وجماعة حتى غضب الوليد ، وقال : تزعمون أنّ محمّدا مجنون ، فهل رأيتموه يخنق قط؟ قالوا : لا ، قال : تزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه ينطق بشعر قط؟ قالوا : لا ، قال : تزعمون أنّه كاهن ، فهل رأيتموه يتكهن قط؟ قالوا ؛ لا ، قال : تزعمون أنّه كذاب ، فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب قط؟ قالوا : لا ، وكانوا يسمّونه قبل النبوة الأمين لصدقه ، فقالت قريش : ما عندك فيه؟ فتفكّر في نفسه ، فقال : ما أرى فيه شيئا مما ذكرتموه فقالوا : هو ساحر ، فقال : أما هذا فيشبه ، / وألفاظ الرواة هنا متقاربة المعاني من رواية الزهري وغيره.

وقوله تعالى : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) قال الثعلبيّ وغيره : (قُتِلَ) معناه : لعن ، انتهى.

(وَبَسَرَ) أي قطب ما بين عينيه واربدّ وجهه ثم أدبر عن الهدى بعد أن أقبل إليه ، وقال : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي : يروى ، أي : يرويه محمّد عن غيره.

و (سَقَرُ) هي الدّرك السادس من النار ، (لا تُبْقِي) على من ألقي فيها (وَلا تَذَرُ) غاية من العذاب إلا وصّلته إليه.

(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٠٧) ، رقم : (٣٥٤٠٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٤)

٥١٣

مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ)(٣٥)

وقوله تعالى : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قال ابن عبّاس وجمهور الناس : معناه مغيّرة للبشرات ومحرّقة للجلود مسوّدة لها (١) ، فالبشر جمع بشرة ، وقال الحسن وابن كيسان : (لَوَّاحَةٌ) بناء مبالغة من لاح يلوح إذا ظهر ، فالمعنى أنها تظهر للناس وهم البشر من مسيرة خمسمائة عام ، وذلك لعظمها وهولها وزفيرها (٢).

وقوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) لا خلاف بين العلماء أنهم خزنة جهنم المحيطون بأمرها الذين إليهم جماع أمر زبانيتها ، وروي أن قريشا لما سمعت هذا كثر لغطهم فيه ، وقالوا : ولو كان هذا حقا ، فإن هذا العدد قليل ، وقال أبو جهل : هؤلاء تسعة عشر ، وأنتم الدّهم أي : الشجعان : أفيعجز عشرة منا عن رجل منهم إلى غير هذا من أقوالهم السخيفة.

وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) تبيين لفساد أقوال قريش ، أي : إنا جعلناهم خلقا لا قبل لأحد من الناس بهم وجعلنا عدّتهم هذا القدر فتنة للكفار ليقع منهم من التعاطي والطّمع في المغالبة ما وقع ، وليستيقن أهل الكتاب ـ التوراة والإنجيل ـ أنّ هذا القرآن من عند الله ، إذ هم يجدون هذه العدة في كتبهم المنزّلة ، قال هذا المعنى ابن عبّاس وغيره (٣) ، وبورود الحقائق من عند الله ـ عزوجل ـ يزداد كلّ ذي إيمان إيمانا ، ويزول الريب عن المصدّقين من أهل الكتاب ومن المؤمنين.

/ وقوله سبحانه : (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ....) الآية ، نوع من الفتنة لهذا الصنف المنافق أو الكافر ، أي حاروا ولم يهتدوا لمقصد الحق ، فجعل بعضهم يستفهم بعضا عن مراد الله بهذا المثل ، استبعادا أن يكون هذا من عند الله ، قال الحسين بن الفضل : السورة مكيّة ولم يكن بمكة نفاق وإنّما المرض في هذه الآية الاضطراب وضعف الإيمان (٤) ، ثم قال تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) إعلاما بأن الأمر فوق ما يتوهّم ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣١١) ، رقم : (٣٥٤٣٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٦) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٥) ، وابن كثير (٤ / ٤٤٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٤١٦) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٦)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٣١٣) ، رقم : (٣٥٤٤٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٦)

(٤) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٦)

٥١٤

وأنّ الخبر إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلّها ، * ت* : صوابه أن يقول عن بعض المقدورات لا عن كلّها ؛ وهذا هو مراده ، ألا تراه قال في قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) [البقرة : ٢٥٥] قال : يعني بشيء من معلوماته ؛ لأنّ علمه تعالى لا يتجزّأ ، فافهم راشدا ، والسموات كلّها عامرة بأنواع من الملائكة ؛ كلّهم في عبادة متّصلة وخشوع دائم ، لا فترة في شيء من ذلك ، ولا دقيقة واحدة ، قال مجاهد : والضمير في قوله : (وَما هِيَ) للنار المذكورة ، أي : يذكّر بها البشر فيخافونها ، فيطيعون الله (١) ، وقال بعضهم : قوله : (وَما هِيَ) يراد بها الحال والمخاطبة والنذارة ، وأقسم تعالى بالقمر وما بعده تنبيها على النّظر في ذلك والفكر المؤدّي إلى تعظيمه تعالى وتحصيل معرفته تعالى مالك الكلّ وقوام الوجود ، ونور السموات والأرض ، لا إله إلّا هو العزيز القهار ، وأدبر الليل معناه ولّى ، وأسفر الصبح أضاء وانتشر ضوؤه ، قال ابن زيد وغيره : الضمير في قوله : (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) لجهنم ، ويحتمل أن يكون الضمير للنّذارة وأمر الآخرة ؛ فهو للحال والقصّة (٢) ، ـ ص ـ : والكبر جمع كبرى ، وفي* ع (٣) * : جمع كبيرة ولعلّه وهم من الناسخ ، انتهى.

(نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ)(٤١)

وقوله سبحانه : (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) قال الحسن : لا نذير أدهى من النار (٤) ، وقال ابن زيد : (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥).

وقوله سبحانه : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) قال الحسن : هو وعيد نحو قوله : (فَمَنْ / شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٦) [الكهف : ٢٩] ، ثم قوّى سبحانه هذا المعنى بقوله : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) : إذ لزم بهذا القول أنّ المقصّر مرتهن بسوء عمله ، وقال الضّحّاك : المعنى : كل نفس حقّت عليها كلمة العذاب ، ولا يرتهن تعالى أحدا

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣١٤) ، رقم : (٣٥٤٥٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٧) ، وابن كثير (٤ / ٤٤٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٧) ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٣١٦) ، رقم : (٣٥٤٦٣)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٩٧)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٣١٦) ، رقم : (٣٥٤٦٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٨) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٨)

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٣١٧) ، رقم : (٣٥٤٦٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٨) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٨)

(٦) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٨)

٥١٥

من أهل الجنة إن شاء الله (١).

وقوله تعالى : (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) استثناء ظاهره الانفصال ، تقديره : لكن أصحاب اليمين في جنات.

ـ ص ـ : (فِي جَنَّاتٍ) أي : هم في جنات ، فيكون خبر مبتدإ محذوف.

ـ م ـ : وأعربه أبو البقاء حالا من الضمير في (يَتَساءَلُونَ) ، انتهى.

قال ابن عبّاس : (أَصْحابَ الْيَمِينِ) هنا الملائكة (٢) ، وقال الضّحّاك : هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى (٣) ، وقال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين (٤).

* ت* : وأسند أبو عمر بن عبد البر عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ* إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) قال : أصحاب اليمين : أطفال المسلمين (٥) ، انتهى من «التمهيد».

(ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)(٤٩)

وقولهم : (ما سَلَكَكُمْ) أي : ما أدخلكم ، فيحتمل أن يكون من قول أصحاب اليمين الآدميين أو من قول الملائكة.

وقوله تعالى : (قالُوا) يعني الكفار (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ...) الآية ، وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان بالله ، والمعرفة به ، والخشوع له (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) يشمل الصدقة فرضا كانت أو نفلا ، والخوض مع الخائضين : عرّفه في الباطل والتكذيب بيوم الدين كفر صراح (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) يعني الموت ؛ قاله المفسرون.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣١٨) ، رقم : (٣٥٤٤٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٩٨)

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٤١٨) ، وابن عطية (٥ / ٣٩٨)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٩٨)

(٤) ذكره البغوي (٤ / ٤١٨) ، وابن عطية (٥ / ٤٩٨)

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٤١٨) ، رقم : (٣٥٤٧٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٨) ، وابن عطية (٥ / ٤٩٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٩) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم.

٥١٦

قال* ع (١) * : وعندي : أنّ اليقين صحّة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله والدار الآخرة ، وقد تقدم ذكر أحاديث الشفاعة ؛ قال الفخر (٢) : واحتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ الكفار يعذّبون بترك فروع الشريعة ، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول ، انتهى.

(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ)(٥٦)

وقوله تعالى في صفة الكفار / المعرضين : (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) إثبات لجهلهم ؛ لأنّ الحمر من جاهل الحيوان جدّا ، وفي حرف ابن مسعود (٣) : «حمر نافرة» قال ابن عبّاس وأبو هريرة وجمهور من اللغويين : القسورة : الأسد (٤) ، وقيل غير هذا ، (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي : من هؤلاء (أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي : يريد كلّ إنسان منهم أن ينزل عليه كتاب من الله ، ومنشرة ، أي : منشورة غير مطوية.

وقوله : (كَلَّا) ردّ على إرادتهم ، أي : ليس الأمر كذلك ، ثم قال : (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) المعنى : هذه هي العلة والسبب في إعراضهم ، فكان جهلهم بالآخرة سبب امتناعهم من الهدى حتى هلكوا ، ثم أعاد تعالى الرد والزجر بقوله : (كَلَّا) وأخبر أنّ هذا القول والبيان وهذه المحاورة بجملتها (تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ) : ووفقه الله لذلك ، ذكر معاده ؛ فعمل له ، ثم أخبر سبحانه أنّ ذكر الإنسان معاده وجريه إلى فلاحه ؛ إنّما هو كله بمشيئة الله تعالى ، وليس يكون شيء إلّا بها ، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير : «يذكرون» بالياء من تحت (٥).

وقوله سبحانه : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) خبر جزم معناه : أنّ الله عزوجل

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٩٩)

(٢) ينظر : «الفخر الرازي» (٣٠ / ١٨٦)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٩٩)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٢٢) ، رقم : (٣٥٥١٢ ، ٣٥٥١٥) ، وذكره البغوي (٤ / ٤١٩) عن أبي هريرة فقط ، وابن عطية (٥ / ٣٩٩) ، وابن كثير (٤ / ٤٢٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦١) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ولعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن أبي هريرة.

(٥) ينظر : «إعراب القراءات» (٢ / ٤١٣) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٠٤) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٨٠) ، و «العنوان» (١٩٩) ، و «شرح شعلة» (٦١٣) ، و «حجة القراءات» (٦٣٥) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٧٢)

٥١٧

أهل بصفاته العلى ونعمه التي لا تحصى لأن يتّقى ويطاع أمره ، ويحذر عصيانه ، وأنّه بفضله وكرمه أهل أن يغفر لعباده إذا اتّقوه ؛ روى ابن ماجه عن أنس : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) فقال : قال الله تعالى : أنا أهل أن أتّقى ، فلا يجعل معي إله آخر ، فمن اتّقاني فلم يجعل معي إلها آخر ، فأنا أهل أن أغفر له» وأخرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه ، وقال : حديث حسن (١) ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٤٣٧) ، كتاب «الزهد» باب : ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة (٤٢٩٩)

٥١٨

تفسير سورة القيامة

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ)(٩)

قوله عزوجل : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ / * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) هذه قراءة الجمهور ، وقرأ ابن كثير (١) : «لأقسم بيوم القيامة ولأقسم» فقيل : على قراءة الجمهور «لا» زائدة ، وقال الفرّاء : «لا» نفي لكلام الكفار ، وزجر لهم ، وردّ عليهم ، وجمهور المتأوّلين على أنّ الله تعالى أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ، أقسم سبحانه بيوم القيامة ؛ تنبيها منه على عظمه وهوله ؛ قال الحسن : النفس اللّوّامة : هي اللوامة لصاحبها في ترك الطاعة ونحو ذلك (٢) ، فهي على هذا ممدوحة ؛ ولذلك أقسم الله بها ، وقال ابن عبّاس وقتادة : اللوامة : هي الفاجرة ، اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا (٣) وأعراضها ، وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها ، والنفس في الآية اسم جنس.

قال* ع (٤) * : وكلّ نفس متوسطة ليست بالمطمئنّة ولا بالأمارة بالسوء فإنّها لوّامة في الطرفين ، مرة تلوم على ترك الطاعة ، ومرة تلوم على فوت ما تشتهي ، فإذا اطمأنّت خلصت وصفت ، قال الثعلبيّ : وجواب القسم محذوف تقديره : لتبعثنّ ، دلّ عليه قوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) أي : للإحياء والبعث ، والإنسان هنا الكافر المكذّب

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٦٦١) ، و «الحجة» (٦ / ٣٤٣) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤١٤) ، و «حجة القراءات» (٧٣٥) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٠٥) ، و «العنوان» (٢٠٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٧٣)

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٤٢١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٤) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٢)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٠٢)

٥١٩

بالبعث ، انتهى ، والبنان : الأصابع ، و (نُسَوِّيَ بَنانَهُ) معناه : نتقنها سويّة ؛ قاله القتبي ، وهذا كله عند البعث ، وقال ابن عبّاس وجمهور المفسرين : المعنى : بل نحن قادرون أن نسوي بنانه ، أي : نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخفّ البعير أو كحافر الحمار ، لا يمكنه أن يعمل بها شيئا ، ففي هذا توعّد ما ، والقول الأول أجرى مع رصف الكلام (١).

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) معناه : أنّ الإنسان إنّما يريد شهواته ومعاصيه ؛ ليمضي فيها أبدا راكبا رأسه ، ومطيعا أمله ، ومسوّفا توبته ؛ قال البخاريّ : (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) يقول : سوف أتوب ، سوف أعمل (٢) ، انتهى.

/ قال الفخر (٣) : قوله : (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) فيه قولان :

الأوّل : ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان ، لا ينزع عنه ؛ فعن ابن جبير : يقدم الذنب ، ويؤخّر التوبة (٤) ، يقول : سوف أتوب ، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوإ أعماله.

القول الثاني : (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) أي : يكذّب بما أمامه من البعث والحساب ؛ لأنّ من كذب حقّا كان مفاجرا ، والدليل على هذا القول قوله تعالى : (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أي : متى يكون ذلك ؛ تكذيبا له ، انتهى.

وسؤال الكفار (أَيَّانَ) هو على معنى التكذيب والهزء ، و (أَيَّانَ) بمعنى : متى ، وقرأ نافع وعاصم بخلاف : «برق البصر» ـ بفتح الراء (٥) ـ بمعنى : لمع وصار له بريق ، وحار عند الموت ، وقرأ أبو عمرو وغيره بكسرها بمعنى : شخص ، والمعنى متقارب ، قال

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢ / ٣٢٨) ، رقم : (٣٥٥٤٠ ـ ٣٥٥٤١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٢) ، وابن كثير (٤ / ٤٤٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٤) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : «فتح الباري» (٨ / ٥٤٧) ، كتاب «التفسير».

(٣) ينظر : «الفخر الرازي» (٣٠ / ١٩٢)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٣٠) ، رقم : (٣٥٥٥٥) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٢١) ، وابن عطية (٥ / ٤٠٢) ، وابن كثير (٤ / ٤٤٨)

(٥) وعاصم قرأها هكذا من رواية أبان.

ينظر : «السبعة» (٦٦١) ، و «الحجة» (٦ / ٣٤٥) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٠٦) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤١٤) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٨١) ، و «العنوان» (٢٠٠) ، و «حجة القراءات» (٧٣٦) ، و «شرح شعلة» (٦١٣) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٧٤)

٥٢٠