تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

الخلائق ، ووحّده على اسم الجنس ؛ لأنّ كلّ أحد له كتاب على حدة ، «وجيء بالنبيئين» أي : ليشهدوا على أممهم ، و (الشُّهَداءِ) قيل : هو جمع «شاهد» وقيل : هو جمع «شهيد» في سبيل الله ، والأول أبين في معنى التّوعّد ، والضمير في قوله (بَيْنَهُمْ) عائد على العالم بأجمعه ، إذ الآية تدلّ عليهم ، و (زُمَراً) معناه : جماعات متفرقة ، واحدتها : زمرة.

وقوله : (فُتِحَتْ) جواب «إذا» ، والكلام هنا يقتضي أن فتحها إنما يكون بعد مجيئهم ، وفي وقوفهم قبل فتحها مذلّة لهم ، وهكذا هي حال السّجون ومواضع الثّقاف والعذاب ؛ بخلاف قوله في أهل الجنّة (وَفُتِحَتْ) ، فالواو مؤذنة بأنهم يجدونها مفتوحة كمنازل الأفراح والسّرور.

وقوله تعالى : (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ...) الآية ، في قوله : (مِنْكُمْ) أعظم في الحجّة ، أي : رسل من جنسكم ؛ لا يصعب عليكم مرامهم ، ولا فهم أقوالهم.

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(٧٥)

وقوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) : لفظ يعمّ كلّ من يدخل الجنة من المؤمنين الذين اتّقوا الشرك ، والواو في قوله : (وَفُتِحَتْ) مؤذنة بأنها قد فتحت قبل وصولهم إليها ، وقالت فرقة : هي زائدة وقال قوم : أشار إليهم ابن الأنباريّ ، وضعّف قولهم : هذه واو الثمانية ، وقد تقدّم الكلام عليها ، وجواب «إذا» فتحت ، وعن المبرّد : جواب «إذا» محذوف ، تقديره بعد قوله : (خالِدِينَ) : سعدوا وسقطت هذه الواو في مصحف ابن مسعود ، و (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحية ، و (طِبْتُمْ) معناه : أعمالا ومعتقدا ومستقرّا وجزاء ، (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) يريد : أرض الجنّة ، و (نَتَبَوَّأُ) معناه : نتخذ أمكنة ومساكن ، ثم وصف تعالى حالة الملائكة من العرش وحفوفهم به والحفوف الإحداق بالشّيء ، وهذه اللفظة مأخوذة من الحفاف ، وهو الجانب ، قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا معمر عن أبي إسحاق / عن عاصم بن ضمرة عن علي ؛ أنه تلا هذه الآية : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها) قال : وجدوا عند باب الجنّة شجرة يخرج من ساقها عينان ، فعمدوا إلى إحداهما كأنما أمروا بها ، فاغتسلوا بها ، فلم تشعث رؤوسهم بعدها أبدا ، ولم تتغيّر جلودهم بعدها أبدا كأنما دهنوا بالدّهن ، ثم عمدوا إلى الأخرى ، فشربوا منها ،

١٠١

فطهرت أجوافهم ، وغسلت كلّ قذر فيها ، وتتلقّاهم على كلّ باب من أبواب الجنّة ملائكة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ، ثم تتلقّاهم الولدان يطيفون بهم كما يطيف ولدان الدّنيا بالحميم ، يجيء من الغيبة يقولون : أبشر ، أعدّ الله لك كذا وكذا ، وأعدّ الله لك كذا ، ثم يذهب الغلام منهم إلى الزّوجة من أزواجه ، فيقول : قد جاء فلان باسمه الّذي كان يدّعي به في الدنيا ، فتقول له : أنت رأيته؟ فيستخفّها الفرح حتّى تقوم على أسكفّة بابها ، ثم ترجع ، فيجيء ، فينظر إلى تأسيس بنيانه من جندل اللؤلؤ أخضر وأصفر وأحمر ؛ من كلّ لون ثم يجلس فينظر ؛ فإذا زرابيّ مبثوثة ، وأكواب موضوعة ، ثمّ يرفع رأسه ـ فلولا أنّ الله قدّر ذلك ، لأذهب بصره ـ إنّما هو مثل البرق ؛ ثم يقول : الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، انتهى.

وقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) قالت فرقة معناه : أنّ تسبيحهم يتأتّى بحمد الله وفضله ، وقالت فرقة : تسبيحهم هو بترديد حمد الله ، وتكراره ، قال الثعلبيّ : متلذّذين لا متعبّدين مكلّفين (١).

وقوله تعالى : (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ختم للأمر ، وقول جزم عند فصل القضاء ، أي : أن هذا الملك / الحاكم العادل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه بين عباده ، ومن هذه الآية جعلت (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم ، قال قتادة : فتح الله أوّل الخلق بالحمد ، فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام : ١] وختم القيامة بالحمد في هذه الآية (٢).

قال* ع (٣) * : وجعل سبحانه (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فاتحة كتابه ؛ فبه يبدأ كلّ أمر وبه يختم ، وحمد الله تعالى وتقديسه ينبغي أن يكون من المؤمن ؛ كما قيل : [الطويل]

وآخر شيء أنت في كلّ ضجعة

وأوّل شيء أنت عند هبوبي (٤)

__________________

(١) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٤)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٣٦) برقم : (٣٠٢٦٤) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٦٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٤٢) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٤٤)

(٤) ينظر : المصدر السابق (٤ / ٥٤٤)

١٠٢

تفسير «سورة غافر»

[وهي] مكّية

روى أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : الحواميم ديباج القرآن (١) ، ومعنى هذه العبارة : أنّها خلت من الأحكام وقصرت على المواعظ والزّجر وطرق الآخرة محضا ، وعن ابن مسعود أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنّة ، فليقرإ الحواميم» (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)(٥)

قوله تعالى : (حم) : تقدّم القول في الحروف المقطّعة ، ويختصّ هذا الموضع بقول آخر قاله الضّحّاك والكسائيّ ؛ أنّ (حم) هجاء (حمّ) ـ بضم الحاء وتشديد الميم المفتوحة ـ ؛ كأنه يقول : حمّ الأمر ووقع تنزيل الكتاب من الله (٣) ، وقال ابن عبّاس : الر ، وحم ، ون ، هي حروف الرحمن مقطّعة في سور (٤) ، وسأل أعرابيّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حم ما هو؟ فقال : بدء أسماء ، وفواتح سور ، و (ذِي الطَّوْلِ) معناه : ذي / التطوّل والمنّ بكلّ نعمة ، فلا خير إلّا منه سبحانه ، فترتّب في هذه الآية وعيد بين وعدين ، وهكذا رحمته سبحانه تغلب غضبه ، قال* ع (٥) * : سمعت هذه النزعة من أبي ـ رحمه‌الله ـ وهو نحو من قول عمر ـ رضي الله عنه ـ : «لن يغلب عسر يسرين» (٦) * ت* : هو حديث ، والطّول : الإنعام ، وعبارة البخاريّ : الطّول : التّفضّل ، وحكى الثعلبيّ عن أهل الإشارة أنّه

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٤٣) ، وعزاه إلى أبي الشيخ ، وأبي نعيم ، والديلمي.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٤٥)

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٠) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٥)

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٣٧) برقم : (٣٠٢٦٥) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٠) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٥)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٤٦)

(٦) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٦)

١٠٣

تعالى : غافر الذّنب فضلا ، وقابل التّوب وعدا ، شديد العقاب عدلا ، لا إله إلّا هو إليه المصير فردا ، وقال ابن عبّاس : الطّول : السّعة ، والغنى (١) ، وتقلب الذين كفروا في البلاد : عبارة عن تمتّعهم بالمساكن والمزارع والأسفار وغير ذلك ، (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) أي : ليهلكوه ، كما قال تعالى : (فَأَخَذْتُهُمْ) ، والعرب تقول للقتيل : أخذ ، وللأسير كذلك ؛ قال قتادة : (لِيَأْخُذُوهُ) معناه : ليقتلوه (٢) ، و (لِيُدْحِضُوا) معناه ليزلقوا ويذهبوا ، والمدحضة : المزلّة ، والمزلقة.

وقوله : (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) : تعجيب وتعظيم ، وليس باستفهام عن كيفيّة وقوع الأمر.

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(٩)

وقوله سبحانه : «وكذلك حقّت كلمات ربك على الذين كفروا» الآية ، في مصحف ابن مسعود «وكذلك سبقت كلمة ربّك» (٣) والمعنى : وكما أخذت أولئك المذكورين فأهلكتهم ، فكذلك حقّت كلماتي على جميع الكفّار ، من تقدّم منهم ومن تأخّر أنّهم أصحاب النار.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ...) الآية ، أخبر الله سبحانه بخبر يتضمّن تشريف المؤمنين ، ويعظّم الرجاء لهم ، وهو أنّ الملائكة الحاملين للعرش والذين / حول العرش ؛ وهؤلاء أفضل الملائكة يستغفرون للمؤمنين ، ويسألون الله لهم الرحمة والجنّة ؛ وهذا معنى قوله تعالى في غير هذه الآية ، (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) [الفرقان : ١٦] أي سألته الملائكة ، قال* ع (٤) * : وفسّر

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٣٩) برقم : (٣٠٢٧١) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٠) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٤٥) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٤٠) برقم : (٣٠٢٧٧) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩١) عن ابن عبّاس ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٤٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٤٧) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٣٢)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥٤٧)

١٠٤

في هذه الآية المجمل الذي في قوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٥] ؛ لأنّ الملائكة لا تستغفر لكافر ، وقد يجوز أن يقال : إنّ استغفارهم لهم بمعنى طلب هدايتهم ، وبلغني أنّ رجلا قال لبعض الصالحين : ادع لي ، واستغفر لي ، فقال له : تب ، واتّبع سبيل الله يستغفر لك من هو خير منّي ، وتلا هذه الآية ، وقال مطرّف بن الشخّير : وجدنا أنصح العباد للعباد الملائكة ، وأغشّ العباد للعباد الشياطين (١) ، وتلا هذه الآية ، وروى جابر ؛ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أذن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة سنة (٢) ، قال الداوديّ : وعن هارون بن رياب قال : حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت حسن ، فأربعة يقولون : سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك ، وأربعة يقولون : سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك ، انتهى. وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أذن لي أن أحدّث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ، أنّ ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه [مسيرة] سبعمائة عام» (٣) ، انتهى ، وقد تقدّم.

وقولهم : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) معناه : وسعت رحمتك وعلمك كلّ شيء.

وقوله : «ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم» : روي عن سعيد / بن جبير في ذلك : أنّ الرجل يدخل الجنّة قبل قرابته ، فيقول : أين أبيّ؟ أين أمّي ، أين ابني ، أين زوجي ، فيلحقون به ؛ لصلاحهم ولتنبيه عليهم ، وطلبه إيّاهم ، وهذه دعوة الملائكة (٤).

وقولهم : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) معناه : اجعل لهم وقاية تقيهم السيئات ، واللّفظ يحتمل

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٤٣) برقم : (٣٠٢٨٤) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٣) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٤٩) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير.

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٤٥) كتاب «السنة» باب : في الجهمية والمعتزلة (٤٧٢٧) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (١٠ / ١٩٤ ـ ١٩٥) (٥٣٣٤).

وقال أبو نعيم في «الحلية» (٣ / ١٥٨) : غريب من حديث محمّد عن ابن عبّاس ، لم نكتبه إلا من حديث جعفر عن ابن عجلان ، وحديث جابر قد رواه عن محمّد غيره.

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» : رواه الطبراني في «الأوسط» ورجاله رجال «الصحيح».

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٤٢) برقم : (٣٠٢٨٢) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٣) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧٢)

١٠٥

أن يكون الدعاء في أن يدفع الله عنهم أنفس السيئات حتّى لا ينالهم عذاب من أجلها ، ويحتمل أن يكون الدعاء في دفع العذاب اللّاحق من السيئات ، فيكون في اللّفظ على هذا حذف مضاف ، كأنه قال : وقهم جزاء السيّئات ، قال الفخر (١) : وقوله تعالى : (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) يعني : من تق السيئات في الدنيا ، فقد رحمته في يوم القيامة ، انتهى ، وهذا راجع إلى التأويل الأول.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ)(١١)

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ...) الآية ، روي أنّ هذه الحال تكون للكفّار عند دخولهم النار ؛ فإنّهم إذا دخلوا (٢) فيها مقتوا أنفسهم وتناديهم ملائكة العذاب على جهة التوبيخ : لمقت الله إيّاكم في الدّنيا ؛ إذ كنتم تدعون إلى الإيمان فتكفرون ، أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم ، هذا هو معنى الآية ؛ وبه فسّر مجاهد وقتادة وابن زيد (٣) ، واللام في قوله : (لَمَقْتُ) يحتمل أن تكون لام ابتداء ، ويحتمل أن تكون لام قسم ، وهو أصوب ، و (أَكْبَرُ) خبر الابتداء ، واختلف في معنى قولهم : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ ...) الآية ، فقال ابن عبّاس وغيره : أرادوا موتة كونهم في الأصلاب ، ثم إحياءهم في الدنيا ، ثم إماتتهم الموت المعروف ، ثم إحياءهم يوم القيامة ، وهي كالتي في سورة البقرة (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً ...) (٤) [البقرة : ٢٨]

__________________

(١) ينظر : «تفسير الفخر الرازي» (٢٧ / ٣٤)

(٢) في د : ادخلوا.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٤٣) برقم : (٣٠٢٨٦) عن مجاهد ، وبرقم : (٣٠٢٨٧) عن قتادة ، وبرقم : (٣٠٢٨٩) عن ابن زيد ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٣) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٤٩) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن ، ولعبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٤٤) برقم : (٣٠٢٩٠) عن قتادة ، وبرقم : (٣٠٢٩٢) عن ابن عبّاس ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٣) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧٣) عن ابن مسعود ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٥٠) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود ، ولابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عبّاس ، ولعبد بن حميد عن أبي مالك ، ولعبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة.

١٠٦

الآية ، وقال السّدّيّ : أرادوا أنه / أحياهم في الدنيا ، ثم أماتهم ، ثم أحياهم في القبر وقت السّؤال ، ثم أماتهم فيه ، ثم أحياهم في الحشر (١) ، قال* ع (٢) * : هذا فيه الإحياء ثلاث مرار ، والأول أثبت ، وهذه الآية متّصلة المعنى بالتي قبلها ، وبعد قولهم : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) محذوف يدلّ عليه الظاهر ، تقديره : لا إسعاف لطلبتكم ، أو نحو هذا من الردّ.

(ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(١٤)

وقوله تعالى : (ذلِكُمْ) يحتمل أن يكون إشارة إلى العذاب الذي هم فيه ، أو إلى مقتهم أنفسهم أو إلى المنع والزّجر والإهانة.

وقوله تعالى : (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ) معناه بحالة توحيد ونفي لما سواه ، كفرتم ، وإن يشرك به اللّات والعزّى وغيرهما ، صدّقتم ، فالحكم اليوم بعذابكم وتخليدكم في النار لله ؛ لا لتلك التي كنتم تشركونها معه في الألوهيّة.

وقوله سبحانه : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ...) الآية مخاطبة للمؤمنين أصحاب نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم و «ادعوا» معناه : اعبدوا.

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(١٨)

وقوله تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) يحتمل أن يريد بالدرجات صفاته العلى ، وعبّر بما يقرب من أفهام السامعين ، ويحتمل أن يريد : رفيع الدرجات التي يعطيها للمؤمنين ، ويتفضّل بها على عباده المخلصين في جنّته ، و (الْعَرْشِ) هو الجسم المخلوق الأعظم الذي السموات السّبع والكرسيّ والأرضون فيه كالدنانير في الفلاة من الأرض.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٤٥) برقم : (٣٠٢٩٦) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٣) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٤٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧٣)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٤٩)

١٠٧

وقوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) قال الضّحّاك : الرّوح هنا هو : الوحي القرآن وغيره مما لم يتل (١) وقال قتادة والسّدّيّ : الرّوح : النّبوّة (٢) ومكانتها ؛ كما قال تعالى : (رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) [الشورى : ٥٢] وسمّى هذا روحا ؛ لأنه تحيا به / الأمم والأزمان كما يحيا الجسد بروحه ، ويحتمل أن يكون إلقاء الروح عامّا لكلّ ما ينعم الله به على عباده المهتدين في تفهيمه الإيمان والمعقولات الشريفة ، والمنذر بيوم التّلاق على هذا التأويل هو الله تعالى ، قال الزّجّاج : الرّوح كلّ ما فيه حياة الناس ، وكلّ مهتد حيّ ، وكلّ ضالّ كالميت.

وقوله : (مِنْ أَمْرِهِ) إن جعلته جنسا للأمور ف «من» للتّبعيض أو لابتداء الغاية ، وإن جعلت الأمر من معنى الكلام ف «من» إما لابتداء الغاية ، وإمّا بمعنى الباء ، ولا تكون للتبعيض بتّة ، وقرأ الجمهور : «لتنذر» بالتاء على مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ أبيّ بن كعب وجماعة : «لينذر» (٣) بالياء ، و (يَوْمَ التَّلاقِ) معناه : تلاقي جميع العالم بعضهم بعضا ، وذلك أمر لم يتّفق قطّ قبل ذلك اليوم.

وقوله : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ) معناه في براز من الأرض يسمعهم الدّاعي وينفذهم البصر.

وقوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) روي أنّ الله تعالى يقرّر هذا التقرير ، ويسكت العالم هيبة وجزعا ، فيجيب ـ هو نفسه بقوله : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، ثم يعلم الله تعالى أهل الموقف بأنّ اليوم تجزى كلّ نفس بما كسبت ، وباقي الآية تكرّر معناه ، فانظره في مواضعه.

ثم أمر الله تعالى نبيّه* ع* بإنذار العالم وتحذيرهم من يوم القيامة وأهواله ، و «الآزفة» : القريبة من أزف الشيء إذا قرب ، و (الْآزِفَةِ) في الآية : صفة لمحذوف قد علم واستقرّ في النفوس هوله ، والتقدير يوم الساعة الآزفة ، أو الطّامة : الآزفة ، ونحو هذا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٤٦) برقم : (٣٠٣٠١) عن الضحاك ، وبرقم : (٣٠٣٠٠) عن قتادة ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٥٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٥٠) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٤٧) برقم : (٣٠٣٠٣) عن السدي ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٥٠)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٥١) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٣٧) ، و «الدر المصون» (٦ / ٣٣)

١٠٨

وقوله سبحانه ـ : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) معناه : عند الحناجر ، أي / قد صعدت من شدّة الهول والجزع ، والكاظم الّذي يردّ غيظه وجزعه في صدره ، فمعنى الآية : أنهم يطمعون في ردّ ما يجدونه في الحناجر ، والحال تغالبهم ، و (يُطاعُ) في موضع الصفة ل (شَفِيعٍ) ؛ لأن التقدير : ولا شفيع مطاع ، قال أبو حيان (١) (يُطاعُ) في موضع صفة ل (شَفِيعٍ) ، فيحتمل أن يكون في موضع خفض على اللفظ ، أو في موضع رفع على الموضع ، ثم يحتمل النفي أن يكون منسحبا على الوصف فقط ، فيكون ثمّ شفيع ، ولكنّه لا يطاع ، ويحتمل أن ينسحب على الموصوف وصفته ، أي : لا شفيع فيطاع ، انتهى. وهذا الاحتمال الأخير هو الصواب ، قال* ع (٢) * : وهذه الآية كلّها عندي اعتراض في الكلام بليغ.

(يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(٢٠)

وقوله : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) متّصل بقوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ) [غافر : ١٧] وقالت فرقة : (يَعْلَمُ) متصل بقوله : (لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر : ١٦] وهذا قول حسن يقوّيه تناسب المعنيين ، ويضعّفه بعد الآية من الآية وكثرة الحائل ، والخائنة : مصدر كالخيانة ، ويحتمل أن تكون (خائِنَةَ) اسم فاعل ، أي : يعلم الأعين إذا خانت في نظرها ، قال أبو حيّان (٣) : والظاهر أن : (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : الأعين الخائنة ، كقوله : [البسيط]

 ................

وإن سقيت كرام الناس فاسقينا (٤)

أي : الناس الكرام ، وجوّزوا أن يكون (خائِنَةَ) مصدرا ، ك «العافية» أي : يعلم خيانة الأعين ، انتهى ، وهذه الآية عبارة عن علم الله ـ تعالى ـ بجميع الخفيّات ، فمن ذلك كسر

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٤٣٨)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٥٢)

(٣) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٤٣٩)

(٤) عجز بيت لبشامة بن حزن النهشلي وصدره :

إنا محيوك يا سلمى فحينا

 ..................

ينظر : «خزانة الأدب» (٨ / ٣٠٢) ، و «شرح ديوان الحماسة» للمرزوقي ص : (١٠٠) ، و «المقاصد النحوية» (٣ / ٣٧٠) ، و «البحر» (٧ / ٤٥٧) ، و «الدر المصون» (٦ / ١٣٦) ، والشاهد في قوله : «كرام الناس» حيث أضاف الصفة إلى الموصوف.

١٠٩

الجفون والغمز بالعين ، أو النظرة التي تفهم معنى ؛ ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لأصحابه في شأن رجل ارتدّ ثمّ جاء ليسلم : «هلّا قام إليه رجل منكم حين تلكّأت عنه ، فضرب عنقه؟ فقالوا : يا رسول الله ، ألا أو مأت إلينا؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (١) : ما ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين» (٢) ، وفي بعض الكتب المنزّلة من قول الله عزوجل / : أنا مرصاد الهمم أنا العالم بمجال الفكر وكسر الجفون ، وقال مجاهد : «خائنة الأعين» : مسارقة النظر إلى ما لا يجوز (٣) ، ثم قوّى تعالى هذا الإخبار بقوله : (وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) مما لم يظهر على عين ولا غيرها ، وأسند أبو بكر بن الخطيب عن مولى أمّ معبد الخزاعيّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يدعو : «اللهمّ طهّر قلبي من النفاق ، وعملي من الرياء ، ولساني من الكذب ، وعيني من الخيانة ؛ فإنّك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور» (٤) ، انتهى. قال القشيريّ في : «التحبير» ومن علم اطّلاع الحقّ ـ تعالى عليه ـ يكون مراقبا لربّه ؛ وعلامته أن يكون محاسبا لنفسه ، ومن لم تصحّ محاسبته ، لم تصحّ مراقبته ، وسئل بعضهم عمّا يستعين به العبد على حفظ البصر ، فقال : يستعين عليه بعلمه أنّ نظر الله إليه سابق على نظره إلى ما ينظر إليه ، انتهى.

وقوله سبحانه : (وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِ) أي : يجازي الحسنة بعشر والسيئة بمثلها ، وينصف المظلوم من الظالم ؛ إلى غير ذلك من أقضية الحقّ والعدل ، والأصنام لا تقضي بشيء ، ولا تنفّذ أمرا ، و (يَدْعُونَ) معناه : يعبدون.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ)(٢٥)

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) أخرجه النسائي (٧ / ١٠٥) كتاب «تحريم الدم» باب : الحكم في المرتد برقم : (٤٠٦٧) ، والحاكم (٢ / ٥٤) ، والدارقطني (٣ / ٥٩) ، والبيهقي (٨ / ٢٠٢) من حديث سعد بن أبي وقاص.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٠) برقم : (٣٠٣١٧) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٥) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٥٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٥٣) ، وعزاه السيوطي لعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٤) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٥ / ٢٦٨) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (٢ / ١٨٤) (٣٦٦٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٣٤٩) ، وعزاه إلى الحكيم الترمذي.

١١٠

وقوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) الضمير في : (يَسِيرُوا) لكفار قريش ، والآثار في الأرض هي المباني والمآثر والصيت الدّنيويّ ، وذنوبهم كانت تكذيب الأنبياء ، والواقي الساتر المانع ؛ مأخوذ من الوقاية ، وباقي الآية بيّن ، وخصّ تعالى هامان وقارون بالذّكر تنبيها على مكانهما من الكفر ؛ ولكونهما أشهر رجال فرعون ، / وقيل : إن قارون هذا ليس بقارون بني إسرائيل ، وقيل : هو ذلك ، ولكنّه كان منقطعا إلى فرعون خادما له مستغنيا معه.

وقوله : (ساحِرٌ) أي : في أمر العصا ، و (كَذَّابٌ) في قوله : إني رسول الله ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لما جاءهم موسى بالنبوّة والحقّ من عند الله ؛ قال هؤلاء الثّلاثة وأجمع رأيهم على أن يقتّل أبناء بني إسرائيل أتباع موسى ، وشبّانهم وأهل القوّة منهم ، وأن يستحيا النساء للخدمة والاسترقاق ، وهذا رجوع منهم إلى نحو القتل الأول الذي كان قبل ميلاد موسى ، ولكنّ هذا الأخير لم تتمّ لهم فيه عزمة ، ولا أعانهم الله تعالى على شيء منه ، قال قتادة : هذا قتل غير الأول الذي [كان] حذر المولود (١) ، وسمّوا من ذكرنا من بني إسرائيل أبناء ؛ كما تقول لأنجاد القبيلة أو المدينة وأهل الظّهور فيها : هؤلاء أبناء فلانة.

وقوله تعالى : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) عبارة وجيزة تعطي قوّتها أنّ هؤلاء الثلاثة لم يقدرهم الله تعالى على قتل أحد من بني إسرائيل ، ولا نجحت لهم فيهم سعاية.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٢) برقم : (٣٠٣٢١) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٥) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٥٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٥٤) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد.

١١١

سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ)(٣٣)

وقوله تعالى : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ...) الآية ، الظاهر من أمر فرعون أنه لمّا بهرتهم آيات موسى* ع* أنهدّ ركنه ، واضطربت معتقدات أصحابه ، ولم يفقد منهم من يجاذبه الخلاف في أمره ، وذلك بيّن من غير ما موضع من قصّتهما ، وفي هذه الآية على ذلك دليلان :

أحدهما : قوله : (ذَرُونِي) ؛ فليست هذه من ألفاظ الجبابرة المتمكّنين من إنفاذ أوامرهم.

والدليل الثاني : مقالة المؤمن وما صدع به ، وإنّ مكاشفته لفرعون أكثر من مساترته ، وحكمه بنبوّة موسى أظهر / من توريته في أمره ، وأمّا فرعون فإنما نحا إلى المخرقة والتمويه والاضطراب ، ومن ذلك قوله : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) أي : إني لا أبالي بربّ موسى ، ثم رجع إلى قومه يريهم النصيحة والحماية لهم ، فقال : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ) والدين : السلطان ؛ ومنه قول زهير : [البسيط]

لئن حللت بحيّ في بني أسد

في دين عمرو وحالت بيننا فدك (١)

وقرأ حمزة والكسائيّ وعاصم : «أو أن يظهر» وقرأ الباقون : «وأن يظهر» (٢) ؛ فعلى القراءة الأولى : خاف فرعون أحد أمرين ، وعلى الثانية : خاف الأمرين معا ، ولمّا سمع موسى مقالة فرعون دعا ، وقال : (إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ ...) الآية ، ثم حكى الله سبحانه مقالة رجل مؤمن من آل فرعون ؛ شرّفه بالذكر وخلّد ثناءه في الأمم غابر الدّهر ، قال* ع (٣) * : سمعت أبي ـ رحمه‌الله ـ يقول : سمعت أبا الفضل ابن الجوهري على المنبر يقول ؛ وقد سئل أن يتكلّم في شيء من فضائل الصحابة ، فأطرق قليلا ، ثمّ رفع رأسه ، وأنشد : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٥٥)

(٢) ينظر : «السبعة» (٥٦٩) ، و «الحجة» (٦ / ١٠٧) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٦٥) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٤٤) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢٠٥) ، و «العنوان» (١٦٧) ، و «حجة القراءات» (٦٢٩) ، و «شرح شعلة» (٥٧٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٣٦)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٥٥)

١١٢

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكلّ قرين بالمقارن مقتد (١)

ماذا تريد من قوم قرنهم الله بنبيّه ، وخصّهم بمشاهدة وحيه ، وقد أثنى الله تعالى على رجل مؤمن من آل فرعون ، كتم إيمانه وأسرّه ، فجعله تعالى في كتابه ، وأثبت ذكره في المصاحف ، لكلام قاله في مجلس من مجالس الكفر ، وأين هو من عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ ؛ إذ جرّد سيفه بمكّة ، وقال : والله ، لا أعبد الله سرّا بعد اليوم ، قال مقاتل : كان هذا المؤمن ابن عمّ فرعون (٢) ، قال الفخر (٣) : قيل : إنّه كان ابن عمّ لفرعون ، وكان جاريا مجرى وليّ العهد له ، ومجرى صاحب السّرّ له ، وقيل : كان قبطيّا من قوم / فرعون ، وقيل : إنه كان من بني إسرائيل ، والقول الأول أقرب ؛ لأن لفظ الآل يقع على القرابة والعشيرة ، انتهى.

قال الثعلبيّ : قال ابن عبّاس وأكثر العلماء : كان اسمه «حزقيل» (٤) ، وقيل : حزيقال ، وقيل : غير هذا ، انتهى.

وقوله : (يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) قال أبو عبيدة وغيره : (بَعْضُ) هنا بمعنى : «كل» (٥) ، وقال الزّجّاج : هو إلزام الحجّة بأيسر ما في الأمر (٦) ، وليس فيه نفي إصابة الكلّ ، قال* ع (٧) * : ويظهر لي أنّ المعنى : يصبكم القسم الواحد مما يعد به ، [لأنّه* ع* وعدهم إن آمنوا بالنّعيم ، وإن كفروا بالعذاب الأليم ، فإن كان صادقا ، فالعذاب بعض ما وعد به] (٨) ، وقول المؤمن : (يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ) استنزال لهم ووعظ.

وقوله : (فِي الْأَرْضِ) يريد أرض مصر ، وهذه الأقوال تقتضي زوال هيبة فرعون ؛

__________________

(١) البيت ذكره الخطابي في «العزلة» ص : (٦٩).

ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٥٦)

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٤) برقم : (٣٠٣٢٣) عن السدي ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٦) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٥٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧٧)

(٣) ينظر : «الفخر الرازي» (٢٧ / ٥٠)

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٦) عن ابن عبّاس ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٥٥) ، وعزاه لابن المنذر.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٦) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٥٦)

(٦) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٥٦)

(٧) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٥٦)

(٨) سقط في : د.

١١٣

ولذلك استكان هو ، وراجع بقوله : (ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى) واختلف الناس من المراد بقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) ، فقال الجمهور : هو المؤمن المذكور ؛ قصّ الله تعالى أقاويله إلى آخر الآيات ، وقالت فرقة : بل كلام ذلك المؤمن قد تمّ ؛ وإنما أراد تعالى : ب (الَّذِي آمَنَ) موسى* ع* محتجّين بقوّة كلامه ، وذكر عذاب الآخرة وغير ذلك ؛ ولم يكن كلام الأوّل إلا بملاينة لهم.

وقوله : (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) أي : مثل يوم من أيّامهم ؛ لأنّ عذابهم لم يكن في عصر واحد ، والمراد بالأحزاب المتحزّبون على الأنبياء ، و (مِثْلَ) الثاني : بدل من الأوّل ، والدّأب : العادة ، «ويوم التنادي» معناه : يوم ينادي قوم قوما ، ويناديهم الآخرون ؛ واختلف في التنادي المشار إليه ، فقال قتادة : هو نداء أهل الجنّة أهل النار ، (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) (١) [الأعراف : ٤٤] وقيل : هو النداء الذي يتضمّنه قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] قال* ع (٢) * : ويحتمل / أن يكون المراد التّذكير بكلّ نداء في القيامة فيه مشقّة على الكفّار والعصاة ؛ وذلك كثير. وقرأ ابن عبّاس والضّحّاك وأبو صالح : «يوم التناد» بشدّ الدال (٣) ؛ وهذا معنى آخر ليس من النداء ، بل هو من : ندّ البعير : إذا هرب ؛ وبهذا المعنى فسّر ابن عبّاس والسّدّيّ هذه (٤) الآية ، وروت هذه الفرقة ، في هذا المعنى حديثا أنّ الله تعالى إذا طوى السّموات نزلت ملائكة كلّ سماء ، فكانت صفّا بعد صفّ مستديرة بالأرض التي عليها الناس للحساب ؛ فإذا رأى الخلق هول القيامة ، وأخرجت جهنّم عنقا إلى أصحابها ، فرّ الكفّار وندّوا مدبرين إلى كلّ جهة ، فتردّهم الملائكة إلى المحشر ؛ لا عاصم لهم ، والعاصم : المنجي.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٦) برقم : (٣٠٣٣١) ، (٣٠٣٣٢) عن قتادة ، (٣٠٣٣٣) عن ابن زيد ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٥٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٥٦) ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٥٨)

(٣) وقرأ بها الكلبي.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٢٤٣) ، و «الشواذ» ص : (١٣٣) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٥٨) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٤٤) ، وزاد نسبتها إلى ابن مقسم ، والزعفراني. وهي في «الدر المصون» (٦ / ٣٩)

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧) برقم : (٣٠٣٣٥) عن الضحاك ، (٣٠٣٣٦) عن السدي ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٧) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٥٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٧٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٥٦) ، وعزاه لابن المبارك ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن الضحاك.

١١٤

قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ)(٤٠)

وقوله : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ ...) الآية ، قالت فرقة منهم الطبريّ (١) : يوسف المذكور هنا هو يوسف بن يعقوب ـ عليهما‌السلام ـ وروي عن وهب بن منبّه ؛ أن فرعون موسى هو فرعون يوسف عمّر إلى زمن موسى (٢) ، وروى أشهب عن مالك أنّه بلغه أنّ فرعون عمّر أربعمائة سنة وأربعين سنة ، وقالت فرقة : بل هو فرعون آخر.

وقوله : (كَبُرَ مَقْتاً) أي : كبر مقتا جدالهم عند الله ، فاختصر ذكر الجدال ؛ لدلالة تقدّم ذكره عليه ، وقرأ أبو عمرو وحده : «على كلّ قلب» بالتنوين ، وقرأ الباقون بغير تنوين (٣) ، وفي مصحف ابن مسعود (٤) : «على قلب [كلّ] (٥) متكبّر جبّار» ، ثم إن فرعون لما أعيته الحيل في مقاومة موسى ، نحا إلى المخرقة ، ونادى هامان وزيره أن يبني له صرحا ؛ فيروى أنه طبخ الآجرّ لهذا الصرح ، ولم يطبخ قبله ، وبناه ارتفاع أربعمائة ذراع ، فبعث الله جبريل فمسحه / بجناحه ، فكسره ثلاث كسر ، تفرّقت اثنتان ، ووقعت ثالثة في البحر ، و (الْأَسْبابَ) الطّرق ؛ قاله السّدّيّ (٦) ،

__________________

(١) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٥٨)

(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٥٩)

(٣) وقرأ بها : ابن ذكوان عن ابن عامر.

ينظر : «إعراب القراءات» (٢ / ٢٦٨) ، و «حجة القراءات» (٦٣٠) ، و «السبعة» (٥٧٠) ، و «الحجة» (٦ / ١٠٩) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٤٦) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢٠٦) ، و «العنوان» (١٦٧) ، و «شرح شعلة» (٥٧١) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٣٧)

(٤) ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٣٣) ، و «المحرر الوجيز» (٤ / ٥٥٩)

(٥) سقط في : د.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٠) برقم : (٣٠٣٤٢) عن أبي صالح ، و (٣٠٣٤٣) عن السدي ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٦٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٨٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٥٧) ، وعزاه لعبد بن حميد عن أبي صالح.

١١٥

وقال قتادة : أراد الأبواب (١) ، وقيل عنى لعلّه يجد مع قربه من السّماء سببا يتعلّق به.

وقرأ حمزة والكسائيّ وعاصم : «وصدّ عن السّبيل» ـ بضم الصاد وفتح الدال ـ ، عطفا على (زُيِّنَ) ، والباقون ـ بفتح الصاد (٢) ـ والتّباب : الخسران ؛ ومنه (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) [المسد : ١] وبه فسرها مجاهد وقتادة (٣) ، ثم وعظهم الذي آمن ، فدعا إلى اتّباع أمر الله.

وقوله : (اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ) يقوّي أنّ المتكلم موسى ، وإن كان الآخر يحتمل أن يقول ذلك ، أي : اتبعوني في اتباع موسى ، ثم زهّدهم في الدنيا ، وأنّها شيء يتمتّع به قليلا ، ورغّب في الآخرة ؛ إذ هي دار الاستقرار ، قال الغزّاليّ في «الإحياء» : من أراد أن يدخل الجنة بغير حساب ، فليستغرق أوقاته في التلاوة والذكر والتفكّر في حسن المآب ، ومن أراد أن ترجح كفّة حسناته وتثقل موازين خيراته ، فليستوعب في الطاعة أكثر أوقاته ، فإن خلط عملا صالحا وآخر سيّئا ، فأمره في خطر ، لكنّ الرجاء غير منقطع ، والعفو من كرم الله منتظر ، انتهى.

(وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤) فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٠) برقم : (٣٠٣٤٤) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٦٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٨٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٥٧) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد.

(٢) ينظر : «السبعة» (٥٧٠) ، و «الحجة» (٦ / ١١١) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٧٠) ، و «العنوان» (١٦٧) ، و «حجة القراءات» (٦٣٢) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٣٧)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦١) برقم : (٣٠٣٤٧) عن ابن عبّاس ، وبرقم : (٣٠٣٤٨) عن مجاهد ، و (٣٠٣٤٩) عن قتادة ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٦٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٨٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٥٧) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة ، ولابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

١١٦

ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(٥٦)

وقوله تعالى : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ ...) الآية ، قد تقدّم ذكر الخلاف ، هل هذه المقالات لموسى أو لمؤمن آل فرعون ، والدعاء إلى النجاة هو الدعاء إلى سببها ؛ وهو توحيد الله تعالى وطاعته ، وباقي الآية بيّن.

وقوله : (أَنَّما تَدْعُونَنِي) المعنى : وإنّ الذي تدعونني إليه من عبادة غير الله ليس له دعوة ، أي : قدر وحق يجب أن يدعى أحد إليه ثم توعّدهم بأنّهم سيذكرون قوله عند حلول / العذاب بهم ، والضمير في (فَوَقاهُ) يحتمل أن يعود على موسى ، أو على مؤمن آل فرعون ؛ على ما تقدّم من الخلاف.

وقال القائلون بأنه مؤمن آل فرعون : إن ذلك المؤمن نجا مع موسى* ع* في البحر ، وفرّ في جملة من فرّ معه من المتّبعين.

وقوله تعالى في آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا ...) الآية ، قوله : (النَّارُ) رفع على البدل من قوله : (سُوءُ) وقيل رفع بالابتداء ، وخبره (يُعْرَضُونَ) قالت فرقة : هذا الغدوّ والعشيّ هو في الدنيا ، أي : في كلّ غدوّ وعشيّ من أيام الدنيا يعرض آل فرعون على النار ، قال القرطبيّ في «التذكرة» (١) : وهذا هو عذاب القبر في البرزخ ، انتهى ؛ وكذا قال الإمام الفخر (٢) ، وروي في ذلك أنّ أرواحهم في أجواف طير سود تروح بهم وتغدو إلى النار ؛ وقاله الأوزاعيّ (٣) ـ عافانا الله من عذابه ـ ، وخرّج البخاريّ ومسلم عن

__________________

(١) ينظر : «التذكرة» (١ / ١٩١)

(٢) ينظر : «تفسير الرازي» (٢٧ / ٦٤)

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٦) برقم : (٣٠٣٧٠) عن الأوزاعي ، وبرقم : (٣٠٣٦٨) عن الهذيل بن شرحبيل (٣٠٣٦٩) عن السدي ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٩٩) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٦٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٨٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٥٩) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وهناد ، وعبد بن حميد عن هذيل بن شرحبيل ، ولعبد بن حميد عن الضحاك ، ولعبد الرزاق ، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود.

١١٧

ابن عمر ؛ أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ إن كان من أهل الجنّة ، فمن أهل الجنّة ، وإن كان من أهل النار ، فمن أهل النار ، يقال له : هذا مقعدك حتّى يبعثك الله إليه يوم القيامة» (١) ، انتهى.

وقوله [تعالى](وَيَوْمَ [تَقُومُ السَّاعَةُ]) (٢) أي : ويوم القيامة يقال : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) وآل فرعون : أتباعه وأهل دينه ، والضمير في قوله : (يَتَحاجُّونَ) لجميع كفار الأمم ، وهذا ابتداء قصص لا يختصّ بآل فرعون ، والعامل في : «إذ» فعل مضمر ، تقديره : اذكر ، ثم قال جميع من في النار لخزنتها : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) ؛ فراجعتهم الخزنة على معنى التّوبيخ والتقرير : (أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) ، فأقرّ الكفّار عند ذلك ، و (قالُوا / بَلى) ، أي : قد كان ذلك ، فقال لهم الخزنة عند ذلك : ادعوا أنتم إذن ، وهذا على معنى الهزء بهم.

وقوله تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) قيل : هو من قول الخزنة ، وقيل : هو من قول الله تعالى إخبارا منه لمحمّد* ع* ، ثم أخبر تعالى أنه ينصر رسله والمؤمنين في الدنيا والآخرة ، ونصر المؤمنين داخل في نصر الرسل ، وأيضا ، فقد جعل الله للمؤمنين الفضلاء ودّا ، ووهبهم نصرا إذا ظلموا ، وحضّت الشريعة على نصرهم ؛ ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ردّ عن أخيه في عرضه ، كان حقّا على الله أن يردّ عنه نار جهنّم» (٣) ،

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٢٨٦) كتاب «الجنائز» باب : الميت يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي (١٣٧٩) ، (٦ / ٣٦٦) كتاب «بدء الخلق» باب : ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (٣٢٤٠) ، (١١ / ٣٦٩) كتاب الرقاق ، باب : سكرات الموت (٦٥١٥) ، ومسلم (٤ / ٢١٩٩) كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب : عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه ، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه (٦٥ ـ ٦٦ / ٢٨٦٦) ، وابن حبان (٧ / ٤٠٠ ـ ٤٠١) ، كتاب «الجنائز» باب : ذكر الإخبار بأن أهل القبور تعرض عليهم مقاعدهم التي يسكنونها في كلّ يوم مرتين (٣١٣٠) ، ومالك (١ / ٢٣٩) كتاب «الجنائز» باب : جامع الجنائز (٤٧) ، وأحمد (٢ / ١١٣ ، ١١٦) ، والترمذي (٣ / ٣٧٥) كتاب «الجنائز» باب : ما جاء في عذاب القبر (١٠٧٢) ، والترمذي (٤ / ١٠٧) كتاب «الجنائز» باب : وضع الجريدة على القبر (٢٠٧٢) ، وابن ماجه (٢ / ١٤٢٧) كتاب «الزهد» باب : ذكر القبر والبلى (٤١٧٠) ، والطيالسي (١ / ١٥٣) كتاب «الجنائز» باب : ما جاء في حسن الظن بالله والكشف لكل إنسان عن مصيره (٧٣٦).

قال أبو عيسى : وهذا حديث حسن صحيح.

(٢) في د : ويوم القيامة.

(٣) أخرجه البيهقي (٨ / ١٦٨) كتاب «قتال أهل البغي» باب : ما جاء في الشفاعة والذب عن عرض أخيه المسلم من الأجر ، وأحمد (٦ / ٤٥٠) ، والترمذي (٤ / ٣٢٧) كتاب «البر والصلة» باب : ما جاء في الذب عن عرض المسلم برقم : (١٩٣١) ، وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» (٣ / ٥٠١) كتاب «الأدب وغيره» باب : الترهيب من الغيبة والبهت وبيانهما ، والترغيب في ردهما برقم : (٤١٩٤) عن أبي الدرداء ـ

١١٨

وقوله* ع* : «من حمى مؤمنا من منافق يغتابه ، بعث الله ملكا يحميه يوم القيامة» (١).

وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) يريد يوم القيامة ، قال الزّجّاج (٢) ، و (الْأَشْهادُ) : جمع شاهد ، وقال الطبري (٣) : جمع شهيد ، كشريف وأشراف ، و (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بدل من الأوّل ، والمعذرة ، مصدر ، كالعذر ، ثم أخبر تعالى بقصّة موسى وما آتاه من النبوة ، تأنيسا لمحمّد ، وضرب أسوة وتذكيرا بما كانت العرب تعرفه من أمر موسى ، فبيّن ذلك أن محمّدا ليس ببدع من الرسل ، والهدى : النّبوّة والحكمة ؛ التوراة تعمّ جميع ذلك.

وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) قال الطبريّ (٤) : (الْإِبْكارِ) : من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وقيل : من طلوع الشمس إلى ارتفاع الضّحى ، وقال الحسن : (بِالْعَشِيِ) يريد صلاة العصر ، (وَالْإِبْكارِ) يريد صلاة الصبح (٥).

وقوله تعالى : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) [أي : ليسوا على شيء ، بل في صدورهم كبر] (٦) وأنفة عليك ، ثمّ نفى أن يكونوا يبلغون آمالهم بحسب ذلك الكبر ، ثم أمره تعالى بالاستعاذة بالله في كلّ أمره من كلّ مستعاذ منه.

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(٥٩)

وقوله تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) : فيه توبيخ لهؤلاء

__________________

ـ كلهم بنحوه.

قال الترمذي : هذا حديث حسن.

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٨٧) ، كتاب «الأدب» باب : من رد عن مسلم غيبته برقم : (٤٨٨٣) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (١ / ٣٧٧) برقم : (١١٩٥)

(٢) ينظر : «معاني القرآن» (٤ / ٣٧٦)

(٣) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٧٠)

(٤) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٧١)

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٠١) ، وابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٦٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٦١) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة.

(٦) سقط في : د.

١١٩

الكفرة المتكبّرين ، كأنه قال : مخلوقات الله أكبر وأجلّ قدرا من خلق البشر ، فما لأحد منهم يتكبّر على خالقه ، ويحتمل أن يكون الكلام في معنى البعث ، وأنّ الذي خلق السموات والأرض قادر على خلق الناس تارة أخرى ، والخلق هنا : مصدر مضاف إلى المفعول ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) يعادلهم قوله : (وَلَا الْمُسِيءُ) وهو اسم جنس يعمّ المسيئين.

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ)(٦٠)

وقوله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) آية تفضّل ونعمة ووعد لأمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإجابة عند الدّعاء ؛ قال النوويّ : وروّينا في «كتاب الترمذيّ» عن عبادة بن الصامت ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلّا آتاه الله إيّاها أو صرف [عنه] من السّوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ، فقال رجل من القوم : إذن نكثر ، قال : الله أكثر» (١) : قال الترمذيّ : حديث حسن صحيح ، ورواه الحاكم في «المستدرك» من رواية أبي سعيد الخدريّ ، وزاد فيه : «أو يدّخر له من الأجر مثلها» (٢) ، انتهى ، قال ابن عطاء الله : لا يكن تأخّر أمد العطاء مع الإلحاح في الدّعاء موجبا ليأسك ؛ فهو ضمن لك الإجابة فيما يختار لك لا فيما تختار لنفسك ، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد ، انتهى ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله ـ عزوجل ـ : أنا عند ظنّ / عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني» رواه الجماعة إلّا أبا داود (٣) : واللفظ لمسلم ، انتهى من «السّلاح» ، وقالت فرقة : معنى (ادْعُونِي) : اعبدوني ، و (أَسْتَجِبْ) معناه : بالنّصر والثواب ؛ ويدلّ على هذا قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي ...)

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٦٦) كتاب «الدعوات» باب : في انتظار الفرج وغير ذلك ، برقم : (٣٥٧٣).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

(٢) أخرجه الحاكم (١ / ٤٩٣) كتاب «الدعاء» ، وأحمد (٣ / ١٨).

قال الحاكم : هذا الحديث صحيح الإسناد ، إلا أن الشيخين لم يخرجاه عن علي بن علي الرفاعي.

(٣) أخرجه البخاري (١٣ / ٣٩٥) كتاب «التوحيد» باب : قول الله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، وقوله عزوجل : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) برقم : (٧٤٠٥) ، وطرفاه في (٧٥٠٥ ، ٧٥٣٧) ، ومسلم (٤ / ٢٠٦١) كتاب «الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار» باب : الحث على ذكر الله تعالى ، وبرقم : (٢ / ٢٥٧٦) ، (٤ / ٢٠٦٨) (٢١ / ٢٦٧٥) ، والترمذي (٥ / ٥٨١) كتاب «الدعوات» باب : في حسن الظن بالله عزوجل ، برقم : (٣٦٠٣) ، وأحمد (٢ / ٢٥١).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

١٢٠