تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

مجاهد : هذا عند الموت (١) ، وقال الحسن : هذا في يوم القيامة (٢) ، قال أبو عبيدة وجماعة من اللغويين : الخسوف والكسوف بمعنى واحد (٣) ، وقال ابن أبي أويس : الكسوف : ذهاب بعض الضوء ، والخسوف : ذهاب جميعه ، وروى عروة وسفيان أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تقولوا كسفت الشمس ، ولكن قولوا : خسفت» (٤) وقرأ ابن مسعود : «وجمع (٥) بين الشمس والقمر» واختلف في معنى الجمع بينهما فقال عطاء : يجمعان فيقذفان في النار (٦) ، وقيل : في البحر فيصيرا نار الله العظمى ، وقيل : يجمع الضّوءان فيذهب بهما ؛ قال الثعلبيّ : وقال علي وابن عبّاس : يجعلان في نور الحجب (٧) ، انتهى.

(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ)(١٣)

(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي : أين الفرار (كَلَّا لا وَزَرَ) أي : لا ملجأ ، و (الْمُسْتَقَرُّ) موضع الاستقرار.

وقوله تعالى : (يُنَبَّؤُا / الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [أي] : يعلم بكل ما فعل ، ويجده محصّلا ، وقال ابن عبّاس وابن مسعود : بما قدّم في حياته ، وما أخّر من سنة بعد مماته (٨).

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ)(١٩)

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٣١) ، رقم : (٣٥٥٦٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٥) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٣)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٣)

(٤) أخرجه مسلم (٢ / ٦٢٥) ، كتاب «الكسوف» باب : ما عرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار (١٣ / ٩٠٥)

(٥) هكذا في القرطبي (١٩ / ٦٣). وذكر ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٠٣) أنها قراءة ابن أبي عبلة.

(٦) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٣٢) ، رقم : (٣٥٥٦٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٢٢) ، وابن عطية (٥ / ٤٠٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٥) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر.

(٧) ذكره القرطبي (١٩ / ٦٣) ، وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (٨ / ٣٧٧)

(٨) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٣٥) ، رقم : (٣٥٥٩١) ، (٣٥٥٩٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٢٢) ، وابن عطية (٥ / ٤٠٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن مسعود ، وعزاه أيضا لابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

٥٢١

وقوله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) قال ابن عبّاس وغيره : أي : للإنسان على نفسه من نفسه بصيرة رقباء يشهدون عليه ، وهم جوارحه وحفظته (١) ، ويحتمل أن يكون المعنى : بل الإنسان على نفسه شاهد ؛ ودليله قوله تعالى : (كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٤] قال الثعلبيّ : قال أبان بن ثعلب : البصيرة والبيّنة والشاهد بمعنى واحد انتهى ، ونحوه للهرويّ ؛ قال* ع (٢) * : والمعنى على هذا التأويل الثاني : أنّ في الإنسان وفي عقله وفطرته حجّة وشاهدا مبصرا على نفسه.

(وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي : ولو اعتذر عن قبيح أفعاله ، فهو يعلمها ، قال الجمهور : والمعاذير هنا جمع معذرة ، وقال الضّحّاك والسّدّيّ : هي الستور بلغة اليمن ؛ يقولون للستر : المعذار (٣).

وقوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) الآية ، قال كثير من المفسرين ، وهو في «صحيح البخاريّ» عن ابن عبّاس قال : كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعالج من التّنزيل شدّة وكان ممّا يحرّك شفتيه ؛ مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، وأعلمه تعالى أنّه يجمعه له في صدره (٤).

وقوله : (وَقُرْآنَهُ) يحتمل أن يريد وقراءته ، أي : تقرأه أنت يا محمّد.

وقوله : (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي : قرأه الملك الرسول عنّا (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) ، قال البخاريّ : قال ابن عبّاس : (فَاتَّبِعْ) ، أي : اعمل به ، وقال البخاريّ أيضا / قوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) أي : تأليف بعضه إلى بعض (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي : ما جمع فيه ، فاعمل بما أمرك ، وانته عمّا نهاك عنه انتهى.

وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) قال قتادة وجماعة : معناه : أن نبيّنه لك (٥) ، وقال البخاريّ : أن نبينه على لسانك.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٣٦) ، رقم : (٣٥٦٠١) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٢٣) ، وابن كثير (٤ / ٤٤٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٦٧) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٠٤)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٣٨) ، رقم : (٣٥٦١٢) عن السدي ، وذكره البغوي (٤ / ٤٢٣) ، وابن عطية (٥ / ٤٠٤) ، والسيوطي (٦ / ٤٦٧) ، وعزاه لابن المنذر عن الضحاك بنحوه.

(٤) أخرجه البخاري (٨ / ٥٤٧ ـ ٥٤٨) ، كتاب «التفسير» باب : سورة القيامة (٤٩٢٧) ، (٨ / ٥٤٩) ، باب : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (٤٩٢٨)

(٥) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٥) ، وابن كثير (٤ / ٤٤٩) بنحوه.

٥٢٢

(كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(٢٥)

وقوله تعالى : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي : الدنيا وشهواتها ؛ قال الغزاليّ في «الإحياء» : اعلم أنّ رأس الخطايا المهلكة هو حبّ الدنيا ، ورأس أسباب النجاة هو التجافي بالقلب عن دار الغرور ، وقال رحمه‌الله : اعلم أنّه لا وصول إلى سعادة لقاء الله سبحانه في الآخرة إلّا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا ، ولا تحصل المحبة إلّا بالمعرفة ، ولا تحصل المعرفة إلّا بدوام الفكر ، ولا يحصل الأنس إلّا بالمحبة ودوام الذكر ، ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلّا بانقلاع حبّ الدنيا من القلب ، ولا ينقلع ذلك إلّا بترك لذّات الدنيا وشهواتها ، ولا يمكن ترك المشتهيات إلّا بقمع الشهوات ، ولا تنقمع الشهوات بشيء كما تنقمع بنار الخوف المحرقة للشهوات ، انتهى.

وقرأ ابن كثير (١) وغيره : «يحبّون» و «يذرون» بالياء على ذكر الغائب ، ولما ذكر سبحانه الآخرة ، أخبر بشيء من حال أهلها فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) أي : ناعمة ، والنضرة : النعمة وجمال البشرة ؛ قال الحسن : وحقّ لها أن تنضّر وهي تنظر إلى خالقها (٢).

وقوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) حمل جميع أهل السّنّة هذه الآية على أنّها متضمنة رؤية المؤمنين لله عزوجل بلا تكييف ولا تحديد / كما هو معلوم موجود ، لا يشبه الموجودات ، كذلك هو سبحانه مرئيّ لا يشبه المرئيّات في شيء ؛ فإنّه ليس كمثله شيء لا إله إلّا هو ، وقد تقدم استيعاب الكلام على هذه المسألة ، وما في ذلك من صحيح الأحاديث ، والباسرة : العابسة المغمومة النفوس ، والبسور : أشد العبوس ، وإنّما ذكر تعالى الوجوه ؛ لأنّه فيها يظهر ما في النفس من سرور أو غمّ ، والمراد أصحاب الوجوه ، والفاقرة : المصيبة التي تكسر فقار الظهر ؛ وقال أبو عبيدة : هي من فقرت [البعير] إذا وسمت أنفه بالنار (٣).

__________________

(١) وقرأ بها أبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب.

ينظر : «إعراب القراءات» (٢ / ٤١٦) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٠٦) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٨١) ، و «العنوان» (٢٠٠) ، و «حجة القراءات» (٧٣٦) ، و «شرح شعلة» (٦١٤) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٧٤)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٤٣) رقم (٣٥٦٥٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٢٤) ، وابن عطية (٥ / ٤٠٥) ، وابن كثير (٤ / ٤٥٠)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٥)

٥٢٣

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ)(٣٠)

وقوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ ...) زجر وتذكير أيضا بموطن من مواطن الهول ، وهي حالة الموت الذي لا محيد عنه ، و (بَلَغَتِ) يريد : النفس و (التَّراقِيَ) جمع ترقوة ، وهي عظام أعلى الصدر ، ولكل أحد ترقوتان ، لكن جمع من حيث أنّ النفس المرادة اسم جنس ، والتراقي هي موارية للحلاقيم ، فالأمر كله كناية عن حال الحشرجة ونزع الموت ـ يسّره الله علينا بمنّه ، وجعله لنا راحة من كلّ شرّ ـ واختلف في معنى قوله تعالى : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) فقال ابن عبّاس وجماعة : معناه : من يرقي ، ويطبّ ، ويشفي (١) ، ونحو هذا ممّا يتمناه أهل المريض ، وقال ابن عبّاس أيضا ، وسليمان التّيميّ ، ومقاتل : هذا القول للملائكة ، والمعنى : من يرقى بروحه ، أي : يصعد بها إلى السماء أملائكة الرحمة ، أم ملائكة العذاب (٢).

(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي : أيقن ، وهذا يقين فيما لم يقع بعد ؛ ولذلك استعملت فيه لفظة الظن.

وقوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال ابن المسيّب ، والحسن : هي حقيقة ، والمراد : ساقا الميّت عند تكفينه ، أي : لفّهما الكفن (٣) ، وقيل : هو التفافهما من شدة المرض ، وقيل غير هذا.

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى)(٣٣)

وقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) الآية : قال جمهور المتأولين : هذه الآية كلها إنّما نزلت في أبي جهل ؛ قال ـ عليه‌السلام (٤) : ثم كادت هذه الآية أن تصرّح به في قوله :

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٧) ، وعزاه لعبد بن حميد عن ابن عبّاس بنحوه.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٤٦) ، رقم : (٣٥٦٨٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٦) ، وابن كثير (٤ / ٤٥١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٧) ، وعزاه لابن أبي الدنيا في ذكر الموت ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس بنحوه.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٤٨) ، رقم : (٣٥٧٠٦ ـ ٣٥٧٠٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٢٥) ، وابن عطية (٥ / ٤٠٦) ، وابن كثير (٤ / ٤٥١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٨) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر عن الحسن.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٠٦)

٥٢٤

(يَتَمَطَّى) فإنّها كانت مشيته ، وقوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) تقديره : فلم يصدّق ولم يصلّ ف «لا» في الآية : نفي لا عاطفة.

ـ ص ـ : (فَلا صَدَّقَ) فيه دليل على أنّ «لا» تدخل على الماضي فتنفيه ؛ كقول الراجز : [من الرجز]

إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا

وأيّ عبد لك لا ألمّا (١)

انتهى.

و (صَدَّقَ) معناه : برسالة الله ودينه ، وذهب قوم إلى أنّه من الصدقة ، والأول أصوب و (يَتَمَطَّى) معناه : يمشي المطيطاء ، وهي مشية بتبختر ، وهي مؤخوذة من المطا وهو الظهر ؛ لأنّه يتثنى فيها ، زاد ـ ص ـ : وقيل : أصله يتمطط ، أي : يتمدد في مشيه ومدّ منكبيه ، انتهى.

(أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)(٤٠)

وقوله : (أَوْلى لَكَ) : وعيد.

(فَأَوْلى) وعيد ثان ، وكرّر ذلك ؛ تأكيدا ، ومعنى (أَوْلى لَكَ) الازدجار والانتهار ، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجرا ؛ ومنه فأولى لهم طاعة ، ويروى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبّب أبا جهل يوما في البطحاء وقال له : «إنّ الله يقول لك (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)» فنزل القرآن على نحوها (٢) ؛ وفي شعر الخنساء : [المتقارب]

__________________

(١) لأبي خراش في «الأزهية» ص : (١٥٨) ، و «خزانة الأدب» (٧ / ١٩٠) ، و «شرح أشعار الهذليين» (٣ / ١٣٤٦) ، و «شرح شواهد المغني» ص : (٦٢٥) ، و «لسان العرب» (١٢ / ١٠٤) (جمم) ، و «المقاصد النحويّة» (٤ / ٢١٦) ، ولأمية بن أبي الصلت في «الأغاني» (٤ / ١٣١ ، ١٣٥) ، و «خزانة الأدب» (٤ / ٤) ، و «لسان العرب» (١٢ / ٥٥٣) (لمم) ، ولأمية أو لأبي خراش في «خزانة الأدب» (٢ / ٢٩٥) ، و «لسان العرب» (١٢ / ٥٤٩) (لمم) ، وبلا نسبة في «الإنصاف» ص : (٧٦) ، و «جمهرة اللغة» ص : (٩٢) ، و «الجنى الداني» ص : (٢٩٨) ، و «لسان العرب» (١٥ / ٤٦٧) (لا) ؛ و «مغني اللبيب» (١ / ٢٤٤)

(٢) أخرجه النسائي في «الكبرى» (٦ / ٥٠٤) ، كتاب «التفسير» باب : قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١١٦٣٨ / ٢) ، والحاكم (٢ / ٥١٠) ، وابن جرير في «تفسيره» (١٢ / ٣٥١) (٣٥٧٣٤) نحوه ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٧٩) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والطبراني.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

٥٢٥

هممت بنفسي كلّ الهموم

فأولى لنفسي أولى لها (١)

وقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ) : توبيخ و (سُدىً) : معناه : مهملا لا يؤمر ولا ينهى ، ثم قرّر تعالى أحوال ابن آدم في بدايته التي إذا تأمّلت لم / ينكر معها جواز البعث من القبور عاقل ، والعلقة القطعة من الدم.

(فَخَلَقَ فَسَوَّى) أي : فخلق الله منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة ، فسواه شخصا مستقلا ، و (الزَّوْجَيْنِ) : النوعين ، ثم وقف تعالى توقيف توبيخ بقوله : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) روي : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال : بلى ، وروي أنّه كان يقول : «سبحانك اللهمّ وبحمدك ، بلى» (٢) انظر «سنن أبي داود».

__________________

(١) ينظر : البيت في «الديوان» (٨٢) ، و «الدر المصون» (٦ / ٤٣٣)

(٢) تقدم تخريجه في أول التفسير.

٥٢٦

تفسير سورة «الإنسان»

قيل : مكّيّة ، وقيل : مدنيّة

وقال الحسن وعكرمة : منها آية مكية (١) ، وهي [قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) والباقي مدنيّ.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً)(٥)

[قوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ...) الآية ، (هَلْ) في كلام العرب قد تجيء] (٢) بمعنى قد ؛ حكاه سيبويه ، لكنها لا تخلو من تقرير ، وبابها المشهور الاستفهام المحض ، والتقرير أحيانا ؛ قال ابن عبّاس : «هل» بمعنى «قد» ، والإنسان يراد به آدم (٣) ، وقال أكثر المتأولين : «هل» تقرير ، الإنسان : اسم جنس ، أي : إذا تأمّل كلّ إنسان نفسه علم بأنّه قد مرّ حين من الدهر عظيم لم يكن فيه شيئا مذكورا ، وهذا هو القوي أنّ الإنسان اسم جنس ، وأنّ الآية جعلت عبرة لكل أحد من الناس ؛ ليعلم أنّ الخالق له قادر على إعادته.

ـ ص ـ : (لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) في موضع حال من (الْإِنْسانِ) أو في موضع صفة ل (حِينٌ) والعائد عليه محذوف ، أي : لم يكن فيه ، انتهى.

وقوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ...) الآية ، الإنسان هنا : اسم جنس بلا خلاف ، وأمشاج معناه : أخلاط ؛ قيل : هو (أَمْشاجٍ) ماء الرجل بماء المرأة ، ونقل الفخر أنّ

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٤٢٦) ، وابن عطية (٥ / ٤٠٨)

(٢) سقط في : د.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٨)

٥٢٧

الأمشاج لفظ / مفرد ، وليس يجمع ، بدليل أنّه وقع صفة للمفرد ، وهو قوله : (نُطْفَةٍ) ، انتهى.

(نَبْتَلِيهِ) أي : نختبره بالإيجاد والكون في الدنيا ، وهو حال من الضمير في (خَلَقْنَا) كأنّه قال : مختبرين له بذلك.

وقوله تعالى : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) عطف جملة نعم على جملة نعم ، وقيل : المعنى : فلنبتليه جعلناه سميعا بصيرا و (هَدَيْناهُ) : يحتمل : أن يكون بمعنى أرشدناه ، ويحتمل : أن يكون بمعنى أريناه ، وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان ، وعبارة الثّعلبيّ : (هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) بيّنا له وعرّفناه طريق الهدى والضلال ، والخير والشر ؛ كقوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] انتهى.

وقوله تعالى : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) حالان ، وقسمتهما (إِمَّا) ، و (الْأَبْرارَ) : جمع بارّ ؛ قال الحسن : هم الذين لا يؤذون الذّرّ ، ولا يرضون الشرّ (١) ، قال قتادة : نعم قوم يمزج لهم بالكافور ، ويختم لهم بالمسك (٢) ، قال الفرّاء : يقال إنّ في الجنة عينا تسمى كافورا.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)(٨)

وقوله تعالى : (عَيْناً) قيل : هو بدل من قوله : (كافُوراً) وقيل : هو مفعول بقوله : (يَشْرَبُونَ) أي : ماء هذه العين من كأس عطرة كالكافور ، وقيل : نصب (عَيْناً) على المدح أو بإضمار «أعني».

قوله تعالى : (يَشْرَبُ بِها) بمنزلة [يشربها] ، فالباء زائدة ؛ قال الثعلبيّ : قال الواسطي : لمّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة ، انتهى.

قال ـ ص ـ : وقيل : الباء في (بِها) للإلصاق والاختلاط ، أي : يشرب بها عباد الله الخمر ؛ كما تقول : شربت الماء بالعسل ، انتهى.

وقوله تعالى : (يُفَجِّرُونَها) معناه : يفتقونها ويقودونها حيث شاؤوا / من منازلهم

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٠٩)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٥٧ ، ٣٥٨) ، رقم : (٣٥٧٦٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٢٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٣) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.

٥٢٨

وقصورهم ، فهي تجري عند كلّ أحد منهم ، وردّ بهذا الأثر ، وقيل : عين في دار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تفجر إلى دور الأنبياء والمؤمنين ؛ قال* ع (١) * : وهذا قول حسن ، ثم وصف تعالى حال الأبرار فقال : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي : ممتدّا متّصلا شائعا.

وقوله تعالى : (عَلى حُبِّهِ) يحتمل أن يعود الضمير على الطعام ، وهو قول ابن عبّاس (٢) ، ويحتمل أن يعود على الله تعالى ؛ قاله أبو سليمان الدّارانيّ (٣).

وقوله : (وَأَسِيراً) قال الحسن : ما كان أسراهم إلّا مشركين ؛ لأنّ في كلّ ذي كبد رطبة أجرا(٤).

* ت* : وفي «العتبية» سئل مالك عن الأسير في هذه الآية أمسلم هو أم مشرك ، فقال : بل مشرك ، وكان ببدر أسارى ، فأنزلت فيهم هذه الآية ؛ فقال ابن رشد : والأظهر حمل الآية على كلّ أسير ، مسلما كان أو كافرا ، انتهى يعني : وإن كان سبب نزولها ما ذكر فهي عامّة في كلّ أسير إلى يوم القيامة ، وقال أبو سعيد الخدريّ : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(مِسْكِيناً) [قال :] فقيرا (وَيَتِيماً) قال : لا أب له (وَأَسِيراً) قال : المملوك والمسجون» (٥) ، وأسند القشيريّ في رسالته عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكلّ شيء مفتاح ، ومفتاح الجنّة حبّ المساكين ، والفقراء الصبّر هم جلساء الله يوم القيامة» (٦) انتهى.

وروى الترمذيّ عن أنس أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهمّ ، أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة ، فقالت عائشة : لم يا رسول الله؟! قال : إنّهم يدخلون الجنّة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ، / يا عائشة ، لا تردّي المسكين ، ولو بشقّ تمرة ، يا عائشة ، أحبّي المساكين وقرّبيهم ، فإنّ الله يقرّبك يوم القيامة». قال أبو عيسى : هذا حديث غريب (٧) ، انتهى.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤١٠)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٤١٠)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤١٠)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٦٠) ، رقم (٣٥٧٨٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٢٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٤) ، وعزاه لسعيد بن المنصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن مردويه عن الحسن بنحوه.

(٥) ينظر : «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٥)

(٦) ينظر : «كنز العمال» (٦ / ٤٦٩) ، رقم : (١٦٥٨٧)

(٧) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٧٧ ، ٥٧٨) ، كتاب «الزهد» باب : ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل ـ

٥٢٩

(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً)(١٩)

__________________

ـ أغنيائهم (٢٣٥٢) ، والبيهقي (٧ / ١٢) ، كتاب «الصدقات» باب : ما يستدل به على أن الفقير أمسّ حاجة من المسكين.

قال الترمذي : هذا حديث غريب ـ يعني : ضعيف ، وهو مصطلح خاص به.

وفي الباب من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أخرجه الحاكم (٤ / ٣٢٢) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٨١) ، كتاب «الزهد» باب : مجالسة الفقراء (٤١٢٦) ، والخطيب (٤ / ١١١) (١٧٧٠) ، قال العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٢٠٦ ـ ٢٠٧) : رواه الترمذي ، وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري ، قال أحبوا المساكين ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقوله في دعائه ، ورواه الطبراني عن عطاء بسند ضعيف بلفظ : «اللهم توفني إليك فقيرا ، ولا توفني غنيا ، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» ، وأخرجه الحاكم في مستدركه» بزيادة «وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة» ، وقال صحيح الإسناد ، ورواه البيهقي في «الشعب» عن أبي سعيد بلفظ : «يا أيها الناس لا يحملنكم العسر على أن تطلبوا الرزق من غير حله» ، فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ، وذكره بالزيادة المذكورة ، وله شواهد ، فرواه الترمذي والبيهقي في «الشعب» بسند فيه منكر عند بعضهم عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» ، فقالت عائشة : لم يا رسول الله؟ قال : «إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا ، يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشقّ تمرة ، يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة» ، وقال : إنه غريب ، ورواه الطبراني في «الدعاء» بسند رجاله ثقات عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم أحيني مسكينا ، وتوفني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين» ، ومع وجود هذه الطرق لا يحسن الحكم عليه بالوضع ، وقال في «الدرر» رواه الترمذي عن أنس ، وابن ماجه عن أبي سعيد عن أبي عبادة ، وادعى ابن الجوزي ، وابن تيمية أنه موضوع ، وليس كما قالا انتهى ، وقال ابن حجر في «التحفة» إن الحديث ضعيف ومعارض بما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعاذ من المسكنة ، وفسّرت المسكنة المسئولة بسكون القلب ، وفسر شيخ الإسلام زكريا هذا الحديث فقال معناه طلب التواضع والخضوع ، وأن لا يكون من الجبابرة المتكبرين والأغنياء المترفين ، وقال البوصيري في «الزوائد» (٣ / ٢٧٥). هذا إسناد ضعيف ، أبو المبارك لا يعرف اسمه وهو مجهول ويزيد بن سنان التيمي أبو فروة ضعيف رواه أبو بكر بن أبي شيبة في «مسنده» هكذا. ورواه عبد بن حميد في «مسنده» ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا أبو خالد الأحمر فذكره بإسناده ومتنه. ورواه الحاكم في «المستدرك» من طريق خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه به ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد.

قلت : ورواه البيهقي في «سننه الكبرى» عن الحاكم به.

وله شاهد من حديث عبادة بن الصامت ، ومن حديث أنس بن مالك ، رواه البيهقي في «الكبرى».

ورواه ابن الجوزي في «الموضوعات» من طريق أبي خالد الأحمر.

٥٣٠

وقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ ...) الآية ، قال مجاهد ، وابن جبير : ما تكلموا به ، ولكنه علمه الله من قلوبهم ، فأثنى عليهم ؛ ليرغب في ذلك راغب (١) ، ووصف اليوم بعبوس تجوّز ، والقمطرير : هو في معنى العبوس والإربداد ؛ تقول : اقمطرّ الرجل : إذا جمع ما بين عينيه. غضبا ، وقال ابن عبّاس : يعبس الكافر يومئذ حتّى يسيل ما بين عينيه كالقطران (٢) ، وعبّر ابن عبّاس عن القمطرير بالطويل (٣) ، وعبّر عنه غيره بالشديد ؛ وذلك كله قريب في المعنى ، والنضرة : جمال البشرة وذلك لا يكون إلّا مع فرح النفس وقرة العين.

وقوله : (بِما صَبَرُوا) عامّ في الصبر عن الشهوات وعلى الطاعات والشدائد ، وفي هذا يدخل كلّ ما خصص المفسرون من صوم ، وفقر ، ونحوه.

وقوله سبحانه : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً ...) الآية ، عبارة عن اعتدال هوائها وذهاب ضرري الحرّ والقرّ ، والزّمهرير : أشدّ البرد ، والقطوف : جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب ونحوه ، والقوارير : الزجاج.

وقوله تعالى : (مِنْ فِضَّةٍ) يقتضي أنّها من زجاج ومن فضة ، وذلك متمكن ؛ لكونه من زجاج في شفوفه ومن فضة في جوهره ، وكذلك فضة الجنة شفّافة ، [قال القرطبيّ في «تذكرته» : وذلك أنّ لكل قوم من تراب أرضهم قوارير ، وأنّ تراب الجنة فضة ، فهي قوارير من فضة ؛ قاله ابن عبّاس (٤) ، انتهى] (٥).

وقوله تعالى : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي : على قدر ريّهم ؛ قاله مجاهد (٦) ، أو على قدر الأكفّ قاله الربيع (٧) ، وضمير (قَدَّرُوها) يعود إمّا على الملائكة ، أو على الطائفين ، أو على المنعمين.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٦١) ، رقم : (٣٥٧٨٧ ، ٣٥٧٨٨) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٢٨) ، وابن كثير (٤ / ٤٥٥) بنحوه

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٦١) ، رقم : (٣٥٧٨٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤١١)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٦٢) ، رقم : (٣٥٨٠٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤١١)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٦٥) ، رقم : (٣٥٨١٧) ، وذكره ابن كثير (٤ / ٤٥٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٧) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في «البعث» من طريق عكرمة ، عن ابن عبّاس بنحوه.

(٥) سقط في : د.

(٦) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٦٦) ، رقم : (٣٥٨٣١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤١٢) ، وابن كثير (٤ / ٤٥٦)

(٧) ذكره ابن عطية (٥ / ٤١٢) ، وابن كثير (٤ / ٤٥٦)

٥٣١

وقوله سبحانه : (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) «عينا» بدل من «كأس» أو من «عين» على القول الثاني ، و (سَلْسَبِيلاً) قيل : هو اسم بمعنى / السّلس المنقاد الجرية ، وقال مجاهد : حديدة الجرية (١) ، وقال آخرون : (سَلْسَبِيلاً) صفة لقوله : (عَيْناً) و (تُسَمَّى) بمعنى توصف وتشهر ، وكونه مصروفا مما يؤكد كونه صفة للعين لا اسما.

وقوله تعالى : (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) قال الإمام الفخر (٢) : وفي كيفية التشبيه وجوه :

أحدها : أنّهم شبّهوا في حسنهم ، وصفاء ألوانهم ، وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم في أنواع الخدمة ـ باللؤلؤ المنثور ، ولو كانوا صفّا لشبّهوا باللؤلؤ المنظوم ؛ ألا ترى أنّه تعالى قال : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ) فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين.

الثاني : أنّ هذا من التشبيه العجيب ؛ لأنّ اللؤلؤ إذا كان متفرقا يكون أحسن في المنظر ؛ لوقوع شعاع بعضه على بعض.

الثالث : أنّهم شبّهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه ؛ لأنّه أحسن وأجمل ، انتهى.

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً)(٢٢)

وقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) قال الفرّاء : التقدير : وإذا رأيت ما ثمّ رأيت نعيما ، فحذفت «ما» وكرّرت الرؤية ؛ مبالغة (وَمُلْكاً كَبِيراً) : وهو أنّ أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وخرّجه الترمذيّ ، وفي الترمذيّ أيضا من رواية أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أدنى أهل الجنّة الّذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة ، وتنصب له قبّة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء» (٣) انتهى ، وقال سفيان : الملك الكبير هو استئذان الملائكة ، وتسليمهم عليهم ،

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٦٨) ، رقم : (٣٥٨٤٣ ـ ٣٥٨٤٤ ، ٣٥٨٤٦) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٣٠) ، وابن عطية (٥ / ٤١٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٨) ، وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور ، وهناد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي عن مجاهد.

(٢) ينظر : «الفخر الرازي» (٣٠ / ٢٢٢)

(٣) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٩٥) ، كتاب «صفة الجنة» باب : ما جاء ما لأدنى أهل الجنة من الكرامة (٢٥٦٢).

قال أبو عيسى : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث رشدين.

٥٣٢

وتعظيمهم لهم ، قال الثعلبيّ : قال محمّد (١) بن علي الترمذي : يعني ملك التكوين إذا أرادوا شيئا كان ، انتهى.

* ت* : وجميع ما ذكر داخل في الملك / الكبير ، وقرأ نافع وحمزة : «عاليهم» وقرأ الباقون (٢) : «عاليهم» بالنصب ، والمعنى : فوقهم ، قال الثعلبيّ : وتفسير ابن عبّاس قال : أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها (٣) ، انتهى ، وقرأ حمزة والكسائيّ : «خضر وإستبرق» بالخفض فيهما (٤) ، وباقي الآية بيّن.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)(٢٦)

وقوله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ...) الآية تثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقوية لنفسه على أذى قريش ، والآثم هنا هو الكفور ، واللفظ أيضا يقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة أو كفور بالله ، ثم أمره تعالى بذكر ربه دأبا (بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ اللَّيْلِ) : بالسجود والتسبيح الذي هو الصلاة ، ويحتمل أن يريد قول : سبحان الله ، قال ابن زيد وغيره : كان هذا فرضا ثم نسخ (٥) ، وقال آخرون : هو محكم على وجه الندب ، وقال ابن العربيّ في «أحكامه» : أمّا قوله تعالى : (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) فإنّه عبارة عن قيام الليل ، وقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعله كما تقدم ، وقد يحتمل أن يكون هذا خطابا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد الجميع ، ثم نسخ عنّا ، وبقي عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأول أظهر ، انتهى.

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً)(٢٨)

__________________

(١) في د : مجاهد.

(٢) وقرأ بها أبان عن عاصم.

ينظر : «السبعة» (٦٦٤) ، و «الحجة» (٦ / ٣٥٤) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٢٢) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٠٩) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٨٨) ، و «العنوان» (٢٠١) ، و «حجة القراءات» (٧٣٩) ، و «شرح شعلة» (٦١٦) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٧٨)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤١٤)

(٤) ينظر : «السبعة» (٦٦٥) ، و «الحجة» (٦ / ٣٥٧) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٢٢) ، و «معاني القراءات» (٢ / ١٠٩) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٨٨ ـ ٨٩) ، و «حجة القراءات» (٧٤٠) ، و «شرح شعلة» (٦١٦) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٧٨)

(٥) ذكره القرطبي (١٩ / ٩٧) ، وأبو حيان في «البحر المحيط» (٨ / ٣٩٣) ، وابن عطية (٥ / ٤١٤)

٥٣٣

وقوله : (إِنَّ هؤُلاءِ) يعني كفّار قريش (يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) يعني : الدنيا ، واعلم أنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة ، وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ازهد في الدّنيا يحبّك الله ، وازهد فيما عند الناس يحبّك الناس» (١) رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة ، قال ابن الفاكهانيّ : قال القاضي أبو الوليد بن رشد : وأمّا الباعث على الزهد فخمسة أشياء :

أحدها : أنّها فانية شاغلة للقلوب عن التفكر في أمر الله تعالى.

والثاني : أنّها تنقص عند الله / درجات من ركن إليها.

والثالث : أنّ تركها قربة من الله تعالى وعلوّ مرتبة عنده في درجات الآخرة.

والرابع : طول الحبس والوقوف في القيامة للحساب والسؤال عن شكر النعيم.

والخامس : رضوان الله تعالى والأمن من سخطه ، وهو أكبرها ؛ قال الله عزوجل : (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) [التوبة : ٧٢] قال ابن الفاكهاني : ولو لم يكن في الزهد في الدنيا إلّا هذه الخصلة التي هي رضوان الله تعالى ـ لكان ذلك كافيا ـ ، فنعوذ بالله من إيثار الدنيا على ذلك ، وقد قيل : من سمّي باسم الزهد فقد سمّي بألف اسم ممدوح ، هذا مع ما للزاهدين من راحة القلب والبدن في الدنيا والآخرة ، فالزهّاد هم الملوك في الحقيقة ، وهم العقلاء ؛ لإيثارهم الباقي على الفاني ، وقد قال الشافعية : لو أوصى لأعقل الناس صرف إلى الزهاد ، انتهى من «شرح الأربعين حديثا» ، ولفظ أبي الحسن الماورديّ : وقد قيل : العاقل من عقل من الله أمره ونهيه حتّى قال أصحاب الشافعيّ فيمن أوصى بثلث ماله : لأعقل الناس أنّه يكون مصروفا للزّهّاد ؛ لأنهم انقادوا للعقل ، ولم يغتروا بالأمل ، انتهى ، والأسر الخلقة واتساق الأعضاء والمفاصل ، وعبارة البخاريّ : (أَسْرَهُمْ) : شدّة الخلق ، وكلّ شيء شددته من قتب أو غبيط فهو مأسور ، والغبيط شيء يركبه النساء شبه المحفة ، انتهى ؛ قال* ع (٢) * : ومن اللفظة : الإسار ، وهو القيد الذي يشدّ به الأسير ، ثم توعّدهم سبحانه بالتبديل ، وفي الوعيد بالتبديل احتجاج على منكري البعث ، أي : من هذه قدرته في الإيجاد والتبديل فكيف تتعذر عليه الإعادة؟!.

وقال الثعلبيّ : (بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) قال ابن عبّاس : يقول : أهلكناهم ، / وجئنا بأطوع لله منهم ، انتهى (٣).

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤١٥)

(٣) ذكره القرطبي (١٩ / ٩٩)

٥٣٤

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً)(٣١)

وقوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) القول فيها كالتي في سورة المزمل.

وقوله سبحانه : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) كلام واضح لا يفتقر إلى تفسير ، جعلنا الله ممن اهتدى بأنواره ، وعمّت عليه بركته في أفعاله وأقواله ؛ قال الباجيّ : قال بعض أهل داود الطائيّ : قلت له يوما : إنّك قد عرفت فأوصني ، قال : فدمعت عيناه ثم قال : يا أخي ، إنّما الليل والنهار مراحل يرحلها الناس مرحلة مرحلة ، حتّى تنتهي بهم إلى آخر سفرهم ، فإن استطعت أن تقدّم من أوّل مرحلة زادا لما بين يديك فافعل ؛ فإنّ انقطاع السفر قريب ، والأمر أعجل من ذلك ؛ فتزوّد لسفرك ، واقض ما أنت قاض من أمرك ، فكأنّ بالأمر قد بغتك ، ثم قام وتركني ، انتهى من «سنن الصالحين».

وقوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في نفوسهم ، ولا يردّ هذا وجود مالهم من الاكتساب ، وقرأ عبد الله (١) : «وما تشاءون إلّا ما شاء الله».

وقوله تعالى : (عَلِيماً حَكِيماً) معناه : يعلم ما ينبغي أن ييسر عبده إليه ، وفي ذلك حكمة لا يعلمها إلّا هو سبحانه.

__________________

(١) ينظر : «الشواذ» ص : (١٦٧) ، و «الكشاف» (٤ / ٦٧٦) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٤١٥) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٣٩٣)

٥٣٥

تفسير سورة «المرسلات»

[وهي] مكّيّة في قول الجمهور

وقيل : فيها من المدني قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) قال ابن مسعود : نزلت هذه السورة ونحن مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحراء ... الحديث (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً)(٦)

قوله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) يعني : الرياح يتبع بعضها بعضا ، قاله ابن عبّاس ، وابن مسعود ، ومجاهد ، وقتادة (٢) ، وقيل : المرسلات : الملائكة ، وقيل : جماعات الأنبياء ، و (عُرْفاً) معناه : إفضالا من الله تعالى ، ويحتمل أن يريد بقوله : (عُرْفاً) أي : متتابعة ، ويحتمل أن يريد / بالأمر المعروف ، ويحتمل أن يكون (عُرْفاً) بمعنى ، والمرسلات : الرياح التي يعرفها الناس ويعهدونها ، ثم عقّب بذكر الصنف الضّارّ منها ، وهي العاصفات الشديدة القاصفة للشجر وغيره ، واختلف في قوله : (وَالنَّاشِراتِ) فقال ابن مسعود ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة : هي الرياح تنشر رحمة الله ومطره (٣) ، وقيل : الملائكة ، وقيل غير هذا ، والفارقات قال ابن عبّاس وغيره : هي الملائكة تفرق بين الحقّ

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤١٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩١) ، وعزاه للحاكم ، وصححه ابن مردويه عن ابن مسعود بنحوه.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٧٧) ، رقم : (٣٥٨٨٠ ـ ٣٥٨٨١ ـ ٣٥٨٨٢ ـ ٣٥٨٨٣ ، ٣٥٨٨٥ ، ٣٥٨٨٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤١٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٢) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي العبيدين عن ابن مسعود ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٨٠) ، رقم : (٣٥٩١٠ ، ٣٥٩١٤ ، ٣٥٩١٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٣٢) ، وابن عطية (٥ / ٤١٧)

٥٣٦

والباطل والحلال والحرام (١) ، وقيل : هي آيات القرآن ، وأمّا الملقيات ذكرا فهي في قول الجمهور الملائكة ، وقال آخرون : هي الرسل ، والذكر : الكتب المنزّلة والشرائع ومضمناتها ، والمعنى : أنّ الذكر يلقى بإعذار وإنذار.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(١٥)

وقوله تعالى : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) هو الجواب الذي وقع عليه القسم ، والإشارة إلى البعث وأحوال القيامة ، والطّمس محو الأثر ، فطمس النجوم : ذهاب ضوءها ، وفرج السماء : هو بانفطارها وانشقاقها.

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي : جمعت لميقات يوم معلوم ، وقرأ أبو عمرو وحده (٢) : «وقّتت» والواو هي الأصل ؛ لأنّها من الوقت ، والهمزة بدل ؛ قال الفرّاء : كل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة ، جاز أن تبدل منها همزة ، انتهى.

وقوله تعالى : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) تعجيب وتوقيف على عظم ذلك اليوم وهوله ، ثم فسر ذلك بقوله : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) يعني : بين الخلق في منازعتهم وحسابهم ومنازلهم من جنة أو نار ، ومن هذه الآية انتزع القضاة الآجال في الحكومات ؛ ليقع فصل القضاء عند تمامها ، ثم عظّم تعالى يوم الفصل بقوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ) على نحو قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ٣] وغير ذلك ، ثم أثبت الويل للمكذّبين ، والويل : هو الحرب والحزن على نوائب تحدث بالمرء ، ويروى أنّه واد في جهنم.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٨١) ، رقم : (٣٥٩٢٥) بنحوه ، وذكره البغوي (٤ / ٤٣٢) ، وابن عطية (٥ / ٤١٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٢) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن عبّاس.

(٢) ينظر : «السبعة» (٦٦٦) ، و «الحجة» (٦ / ٣٦٤) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٢٨) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١١٢) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٩٢) ، و «العنوان» (٢٠٢) ، و «حجة القراءات» (٧٤٢) ، و «شرح شعلة» (٦١٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٨٠)

٥٣٧

(٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٣٧)

وقوله عزوجل : (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ...) الآية ، قرأ الجمهور : «نتبعهم» ـ بضم العين ـ على استئناف الخبر ، وروي عن أبي (١) عمرو : «نتبعهم» بجزم العين ؛ عطفا على «نهلك» وهي قراءة الأعرج ، فمن قرأ الأولى جعل الأولين الأمم التي تقدمت قريشا بأجمعها ، ثم أخبر أنّه يتبع الآخرين من قريش وغيرهم سنن أولئك إذا كفروا وسلكوا سبيلهم ، ومن قرأ الثانية جعل الأوّلين قوم نوح وإبراهيم ومن كان معهم ، والآخرين قوم فرعون وكلّ من تأخّر وقرب من مدّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي : في المستقبل ، فيدخل هنا قريش وغيرها ، وأمّا تكرار قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) في هذه السورة فقيل : ذلك لمعنى التأكيد فقط ، وقيل : بل في كلّ آية منها ما يقتضي التصديق ، فجاء الوعيد على التكذيب بذلك الذي في الآية ، والماء المهين : معناه الضعيف ، والقرار المكين : الرّحم وبطن المرأة ، والقدر (٢) المعلوم : هو وقت الولادة [ومعناه] معلوم عند الله ، وقرأ نافع والكسائيّ : «فقدّرنا» ـ بتشديد الدال ـ ، والباقون بتخفيفها ، وهما بمعنى من القدرة والقدر ومن التقدير والتوقيت.

* ت* : وفي كلام* ع* : تلفيف ، وقال غيره : فقدّرنا بالتشديد من التقدير وبالتخفيف من القدرة ، وهو حسن.

وقوله : (الْقادِرُونَ) يرجّح قراءة الجماعة إلّا أنّ ابن مسعود روى عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه فسّر «القادرون» بالمقدرين ، والكفات : الستر والوعاء الجامع للشيء بإجماع ؛ تقول : كفت الرجل شعره إذا جمعه بخرقة ، والأرض تكفت الأحياء على ظهرها ، وتكفت الأموات في بطنها ، وخرج الشعبيّ إلى جنازة فنظر إلى الجبّانة فقال : هذه كفات الموتى ، ثم نظر إلى البيوت فقال : وهذه كفات الأحياء.

قال / * ع (٣) * : ولما كان القبر كفاتا كالبيت ، قطع من سرق منه ، والرواسي : الجبال ، والشوامخ : المرتفعة ، والفرات : الصافي العذب ، والضمير في قوله : (انْطَلِقُوا)

__________________

(١) وقرأ بها الأعرج كما في «المحتسب» (٢ / ٣٤٦).

وينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٦٧) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٤١٨) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٣٩٧) ، و «الدر المصون» (٦ / ٤٥٦)

(٢) ينظر : «السبعة» (٦٦٦) ، و «الحجة» (٦ / ٣٦٥) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٢٨) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٩٣) ، و «العنوان» (٢٠٢) ، و «حجة القراءات» (٧٤٣) ، و «شرح شعلة» (٦١٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٨١)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤١٩)

٥٣٨

هو للمكذّبين الذين لهم الويل ، ثم بيّن المنطلق إليه ؛ قال عطاء : الظل الذي له ثلاث شعب هو دخان جهنم (١) ، وقال ابن عبّاس : هذه المخاطبة تقال يومئذ لعبدة الصليب (٢) إذا اتّبع كلّ أحد ما كان يعبد ، فيكون المؤمنون في ظل الله ولا ظل إلّا ظله ، ويقال لعبدة الصليب : انطلقوا إلى ظلّ معبودكم ، وهو الصليب له ثلاث شعب ، ثم نفى تعالى عنه محاسن الظل ، والضمير في (إِنَّها) لجهنم (تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) أي : مثل القصور من البنيان ؛ قاله ابن عبّاس وجماعة من المفسرين (٣) ، وقال ابن عبّاس أيضا : القصر خشب كنّا في الجاهلية ندّخره للشتاء (٤) ، وقرأ ابن عبّاس (٥) : «كالقصر» ـ بفتح الصاد ـ جمع قصرة وهي أعناق النخل والإبل ، وقال ابن عبّاس : جذور النخل (٦) ، واختلف في الجمالات : فقال جمهور من المفسرين : هي جمع جمال ؛ كرجال ورجالات ، وقال آخرون : أراد بالصّفر السود ، وقال جمهور الناس : بل الصفر : الفاقعة ؛ لأنّها أشبه بلون الشرر ، وقال ابن عبّاس : الجمالات : حبال السفن ، وهي الحبال العظام إذا جمعت مستديرة بعضها إلى بعض (٧) ، وقرأ ابن عبّاس (٨) : «جمالة» ـ بضم الجيم ـ من الجملة لا من الجمل ، ثم

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤١٩)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٤١٩ ـ ٤٢٠)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٨٧ ـ ٣٨٨) ، رقم : (٣٥٩٦٣ ـ ٣٥٩٦٤ ـ ٣٥٩٦٥) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٣٤) ، وابن عطية (٥ / ٤٢٠)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٨٨) ، رقم : (٣٥٩٦٦) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٣٤) ، وابن عطية (٥ / ٤٢٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٥) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، والبخاري ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والحاكم عن عبد الرحمن بن عابس عن ابن عبّاس بنحوه.

(٥) وقرأ بها سعيد بن جبير.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٦٧) ، و «المحتسب» (٢ / ٣٤٦) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٢٠) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٣٩٨) ، وزاد نسبتها إلى مجاهد ، والحسن ، وابن مقسم. وهي في «الدر المصون» (٦ / ٤٥٨)

(٦) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٨٨) ، رقم (٣٥٩٧١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٢٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٥) ، وعزاه لسعيد بن منصور عن ابن عبّاس بنحوه.

(٧) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٩٠) ، رقم : (٣٥٩٨٣ ـ ٣٥٩٨٤ ـ ٣٥٩٨٥) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٣٥) ، وابن عطية (٥ / ٤٢٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٤) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي ، والبخاري ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، والحاكم عن عبد الرحمن بن عابس عن ابن عبّاس بنحوه.

(٨) وقرأ بها أبو حيوة ، والسلمي ، والأعمش ، وأبو بحرية ، وابن أبي عبلة ، ورويس.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٦٧) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٢٠) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٣٩٨) ، و «المحتسب» (٢ / ٣٤٧) ، و «الدر المصون» (٦ / ٤٥٩)

٥٣٩

م خاطب تعالى نبيه* ع* بقوله : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ...) الآية ، وهذا في موطن خاص إذ يوم القيامة هو مواطن.

(هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٥)

وقوله تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ ...) مخاطبة للكفار يومئذ ، ثم وقفهم بقوله : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي : إن كان لكم حيلة أو مكيدة تنجيكم فافعلوها ، ثم ذكر سبحانه حالة المتقين وما أعدّ لهم ، والظلال في الجنة : عبارة عن / تكاثف الأشجار وجودة المباني وإلّا فلا شمس تؤذي هناك حتى يكون ظل يجير من حرّها.

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)(٥٠)

وقوله تعالى : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) استئناف خطاب لقريش على معنى : قل لهم يا محمّد ، وهذه صيغة أمر معناها التهديد والوعيد ، ومن جعل هذه الآية مدنية قال هي في المنافقين.

وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) قال قتادة والجمهور (١) ، هذه حال كفار قريش في الدنيا ؛ يدعوهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يجيبون ، وذكر الركوع عبارة عن جميع الصلاة ، وقيل : هي حكاية حال المنافقين في الآخرة يوم يدعون إلى السجود فلا يستطيعون ؛ على ما تقدّم ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (٢).

وقوله تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) يؤيد أن الآية كلّها في قريش ، والمراد بالحديث هنا : القرآن ، وروي عن يعقوب (٣) أنه قرأ : «تؤمنون» بالتاء من فوق على المواجهة ، ورويت عن ابن عامر.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٢١)

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ورويت عن ابن عامر.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٦٧) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٢٢)

٥٤٠