تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

رأيت هذين فلم أصبر ، ثم أخذ في خطبته» (١) ، قال* ع (٢) * : وهذه ونحوها هي فتنة الفضلاء ، فأما فتنة الجهّال الفسقة ؛ فمؤدّية إلى كلّ فعل مهلك ، وفي «صحيحي البخاري ومسلم» عن أبي ذر قال : انتهيت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : «هم الأخسرون ، وربّ الكعبة ، هم الأخسرون ، وربّ الكعبة ، قلت : ما شأني أيرى فيّ شيئا؟ فجلست وهو يقول ؛ فما استطعت أن أسكت وتغشّاني ما شاء الله فقلت : من هم بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال : هم الأكثرون مالا إلّا من قال هكذا وهكذا وهكذا» (٣) وفي رواية : «إن الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة إلّا من قال بالمال ، هكذا وهكذا ، ـ وأشار ابن شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله ـ ، وقليل ما هم» انتهى ، واللفظ للبخاريّ.

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(١٨)

وقوله سبحانه : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) تقدّم الخلاف هل هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] أو ليست بناسخة ، بل هي مبيّنة لها ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٣٥٨) ، كتاب «الصلاة» باب : الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث (١١٠٩) ، والترمذي (٥ / ٦٥٩) ، كتاب «المناقب» باب : مناقب الحسن والحسين عليهما‌السلام (٣٧٧٤) ، والنسائي (٣ / ١٠٨) ، كتاب «الجمعة» باب : نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من خطبته وقطعه كلامه ورجوعه إليه يوم الجمعة (١٤١٣) ، (٣ / ١٩٢) ، كتاب «العيدين» باب : نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة (١٥٨٥) ، وابن ماجه (٢ / ١١٩٠) ، كتاب «اللباس» باب : لبس الأحمر للرجال (٣٦٠٠) ، وأحمد (٥ / ٣٥٤).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٢٠)

(٣) أخرجه البخاري (١١ / ٦٣) ، كتاب «الاستئذان» باب : من أجاب بلبيك وسعديك (٦٢٦٨) ، (١١ / ٥٣٣) ، كتاب «الأيمان والنذور ، باب : كيف كان يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦٦٣٩) ، ومسلم (٢ / ٦٨٦) ، كتاب «الزكاة» باب : تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة (٣٠ / ٩٩٠) ، والترمذي (٣ / ٣) ، كتاب «الزكاة» باب : ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منع الزكاة من التشديد (٦١٧) ، والنسائي (٥ / ١٠) ، كتاب «الزكاة» باب : التغليظ في حبس الزكاة (٢٤٤٠) ، وأحمد (٥ / ١٥٢ ، ١٥٨ ـ ١٥٩) ، والبيهقي (٤ / ٩٧) ، كتاب «الزكاة» باب : جماع أبواب صدقة البقر السائمة ، (١٠ / ٢٧) ، كتاب «الأيمان» باب : الحلف بالله عزوجل أو اسم من أسماء الله عزوجل ، وابن خزيمة (٤ / ٩) ، كتاب «الزكاة» باب : صفات ألوان عذاب مانع الزكاة إلى يوم القيامة ، قبل الفصل بين الخلق ، نعوذ بالله من عذابه (٢٢٥١) ، والحميدي (١ / ٧٧) ، برقم : (١٤٠) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٧ / ٣٦٤).

قال الترمذي : حديث حسن صحيح.

٤٤١

وأن المعنى : اتّقوا الله حقّ تقاته فيما استطعتم ؛ وهذا هو الصحيح ، قال الثعلبي : قال الربيع بن أنس : (مَا اسْتَطَعْتُمْ) أي : جهدكم ، وقيل : معناه : إذا أمكنكم الجهاد والهجرة ، فلا يفتننّكم الميل إلى الأموال والأولاد ، واسمعوا ما توعظون به ، وأطيعوا فيما تؤمرون به (١) ، انتهى.

وقوله سبحانه : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) تقدّم الكلام عليه ، وأسند أبو بكر بن الخطيب من طريق أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «السّخاء شجرة في الجنّة ، وأغصانها في الدّنيا ، فمن كان سخيّا أخذ بغصن منها ؛ فلم يتركه الغصن حتّى يدخله الجنّة ، والشحّ شجرة في النار وأغصانها في الأرض ، فمن كان شحيحا ، أخذ بغصن من أغصانها ، فلم يتركه الغصن حتّى يدخله النار» (٢) انتهى ، وباقي الآية بيّن.

__________________

(١) ذكره ابن كثير (٤ / ٣٧٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٤٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٢) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥) (١٠٨٧٥) عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جده ، و (١٠٨٧٧) عن أبي هريرة ، وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٥٤٥) ، وزاد نسبته إلى الديلمي في «الأفراد».

٤٤٢

تفسير سورة الطّلاق

وهي مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)(٣) (١)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) أي : إذا أردتم طلاقهنّ ؛ قاله الثعلبيّ وغيره : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) وطلاق النساء حلّ / عصمتهنّ ، وصورة ذلك وتنويعه مما لا يختصّ بالتفسير ، ومعنى (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي : لاستقبال عدّتهن ، وعبارة الثعلبيّ : أي : لطهرهنّ الذي يحصينه من عدّتهنّ ، وهو طهر لم يجامعها فيه ، انتهى ، قال* ع (٢) * : ومعنى الآية أن لا يطلّق أحد امرأته إلا في طهر لم يمسّها فيه ، وهذا على مذهب مالك ومن قال بقوله ؛ القائلين بأن الأقراء عندهم هي الأطهار ، فيطلّق عندهم المطلّق في طهر لم يمسّ فيه ، وتعتدّ به المرأة ، ثم تحيض حيضتين تعتدّ بالطهر الذي بينهما ثمّ تقيم في الطّهر الثّالث معتدّة به ، فإذا رأت أوّل الحيضة الثالثة حلّت ، ومن قال بأنّ الأقراء : الحيض وهم العراقيّون ، قال : (لِعِدَّتِهِنَ) معناه أن تطلّق طاهرا فتستقبل بثلاث حيض كوامل فإذا رأت الطّهر بعد الثالثة ، حلّت ، والأصل في منع طلاق الحائض حديث ابن عمر ، ثم أمر تعالى بإحصاء العدّة لما يلحق ذلك من أحكام الرجعة والسّكنى ، والميراث ، وغير ذلك ، وعبارة الثعلبي : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي : احفظوا عدد قروئها الثلاثة ونحوه تفسير ابن العربيّ ؛ قال :

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٢٣)

٤٤٣

قوله تعالى : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) معناه احفظوا الوقت الّذي وقع فيه الطّلاق لما يترتّب على ذلك من الأحكام ، انتهى من «أحكامه» ، ثم أخبر تعالى بأنهنّ أحقّ بسكنى بيوتهن التي طلّقن فيها فنهى سبحانه عن إخراجهنّ وعن خروجهنّ ، وسنة ذلك ألا تبيت عن بيتها ولا تغيب عنه نهارا إلا في ضرورة وما لا خطب له من جائز / التصرّف ، وذلك لحفظ النسب والتحرّز بالنساء ، واختلف في معنى قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فقال الحسن وغيره : ذلك الزّنا فيخرجن للحدّ (١) ، وقال ابن عبّاس : ذلك البذاء على الأحماء ، فتخرج ويسقط حقّها من المسكن ، وتلزم الإقامة في مسكن تتّخذه حفظا للنسب (٢) ، وفي مصحف (٣) أبيّ «إلا أن يفحشن عليكم» وعبارة الثعلبيّ : عن ابن عبّاس : «إلا أن تبذو على أهلها فيحلّ لهم إخراجها» ، انتهى ، وهو معنى ما تقدم ، وقرأ الجمهور : «مبيّنة» ـ بكسر الياء ـ ، تقول بان الشيء وبيّن بمعنى واحد إلا أن التضعيف للمبالغة ، وقرأ عاصم (٤) : «مبيّنة» ـ بفتح الياء ـ.

وقوله سبحانه : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إشارة إلى جميع أوامره في هذه الآية.

وقوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) قال قتادة وغيره : يريد به الرّجعة ، أي : أحصوا العدة وامتثلوا ما أمرتم به تجدوا المخلّص إن ندمتم ؛ فإنكم لا تدرون لعلّ الرجعة تكون بعد (٥).

وقوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) يريد به آخر القروء ، (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وهو حسن العشرة ، (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [وهو] أداء جميع الحقوق ، والوفاء بالشّروط حسب نازلة نازلة ، وعبارة الثعلبي : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي : أشرفن على انقضاء عدتهن ، انتهى وهو حسن.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ١٢٥ ـ ١٢٦) ، برقم : (٣٤٢٥٢) ، و (٣٤٢٥٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٢٣) ، وابن كثير (٤ / ٣٧٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٢) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٢٣) ، وابن كثير (٤ / ٣٧٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٢) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وابن راهويه ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن مردويه.

(٣) ينظر : «الكشاف» (٤ / ٥٥٥) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٢٣)

(٤) ينظر : «العنوان» (١٩٢) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٢٣) ، وإنما قرأ بها عاصم من رواية أبي بكر ، وكذلك قرأ بها ابن كثير.

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ١٢٨) ، بأرقام (٣٤٢٦٤ ، ٣٤٢٦٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٢٣) ، وابن كثير (٤ / ٣٧٨)

٤٤٤

وقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) يريد : على الرجعة وذلك شرط في صحة الرجعة ، وتمنع المرأة الزّوج من نفسها حتّى يشهد ، وقال ابن عبّاس : على الرجعة والطلاق معا (١) ، قال النخعي : العدل من لم تظهر منه ريبة (٢) ، والعدل حقيقة / الذي لا يخاف إلا الله.

وقوله سبحانه : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أمر للشهود.

وقوله : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ) إشارة إلى إقامة الشهادة ؛ وذلك أنّ فصول الأحكام تدور على إقامة الشهادة.

وقوله سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) قال بعض رواة الآثار ، نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي ؛ أسر ولده وقدر عليه رزقه ، فشكا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمره بالتّقوى ، فلم يلبث أن تفلّت ولده وأخذ قطيع غنم للقوم الذين أسروه ، فسأل عوف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتطيب له تلك الغنم؟ فقال : نعم (٣) ، قال أبو عمر بن عبد البر : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أبى الله ـ عزوجل ـ أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين إلّا من حيث لا يحتسبون» (٤) وقال* ع* لابن مسعود : «لا يكثر همّك ، يا عبد

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ١٢٩) ، برقم : (٣٤٢٧٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٢٤)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٢٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد.

(٣) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٩٢).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ا ه.

قال الذهبي ـ معقبا على كلام الحاكم ـ : بل منكر وعباد رافضي جبل ، وعبيد متروك ، قاله الأزدي. ا ه.

(٤) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (١ / ٣٤ ـ ٣٥) ، بلفظ : «أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يعلم» ، وقال في «التمييز» تبعا للأصل : أخرجه الديلمي من حديث أبي هريرة من رواية عمر بن راشد وهو ضعيف جدا ، وقال البيهقي : ضعيف بالمرة ، وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وزاد في الأصل : ورواه القضاعي في «مسنده» فقال : اجتمع أبو بكر ، وعمر ، وأبو عبيدة ، فتماروا في شيء ، فقال لهم علي : انطلقوا بنا إلى رسول الله ، فلما وقفوا عليه قالوا : يا رسول الله ، جئنا نسألك عن شيء ، فقال : «إن شئتم ، فسألوا ، وإن شئتم خبرتكم بما جئتم له» ، فقال لهم : «جئتم تسألوني عن الرزق من أين يأتي؟ وكيف يأتي؟» ، فذكر : أبي الله ـ الحديث المذكور ـ ، ورواه الديلمي كما في «الدرر» عن أبي هريرة : بلفظ : «أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب» ، ورواه العسكري ، وابن ماجه بسند ضعيف عن علي رفعه إنما تكون الصنيعة إلى ذي دين أو حسب ، وجهاد الضعفاء الحج ، وجهاد المرأة حسن التّبعل لزوجها ، والتودد نصف الإيمان ، وما علل أمر على اقتصاد ، واستنزلوا الرزق بالصدقة ، وأبي الله إلا أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين من حيث لا يحتسبوا. قال النجم : ولا يصح شيء منها انتهى. وأقول : الحديث بطرقه معناه صحيح وإن كان ضعيفا ، ففي التنزيل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) والمعنى : كما قال البيهقي وغيره : ـ أبي الله أن يجعل أرزاق ـ

٤٤٥

الله ؛ ما يقدّر يكن وما ترزق يأتك (١) ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «استنزلوا الرزق بالصّدقة» (٢) ، انتهى من كتابه المسمى ب «بهجة المجالس وأنس المجالس».

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) هذه الآيات كلّها عظة لجميع الناس ، ومعنى حسبه : كافيه. وقال ابن مسعود : هذه أكثر الآيات حضّا على التفويض لله (٣).

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) بيان ، وحضّ على التوكل ، أي : لا بدّ من نفوذ أمر الله ؛ توكلت أيّها المرء أو لم تتوكّل ؛ قاله مسروق ؛ فإن توكلت على الله كفاك وتعجّلت الراحة والبركة ، وإن لم تتوكّل وكلك إلى عجزك وتسخّطك ، وأمره سبحانه في الوجهين نافذ.

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى)(٦)

وقوله سبحانه : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ...) الآية ، «اللائي» جمع «التي» واليائسات من المحيض على مراتب ؛ محلّ بسطها كتب الفقه ، وروى إسماعيل بن خالد ؛ أنّ قوما منهم أبيّ بن كعب وخلّاد بن النعمان ، لما سمعوا قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] قالوا : يا رسول الله ؛

__________________

ـ عباده من حيث يحتسبون ، وهو كذلك ، فإن الله تعالى يرزق عباده على حيث يحتسبون تارة كالتجارة والحراثة ، وتارة يرزقهم من حيث لا يحتسبون ، كالرجل يصيب معدنا ، أو ركازا ، أو يرث قريبا له يموت ، أو يعطيه أحد مالا من غير استشراف نفس ولا سؤال ، وآية (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) ليس فيها حصر فليتأمل!!.

(١) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٥٢٣) ، وقال : رواه أبو نعيم عن خالد بن رافع ، وهو مختلف في صحبته ، والأصبهاني في «ترغيبه» عن مالك بن عمرو المغافري مرسلا ، ولأبي نعيم أيضا عن أنس قال : خدمت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين ، فما لامني فيما نسيت ولا فيما ضيّعت ، فإن لامني بعض أهله قال : دعوه ، فما قدّر فهو كائن ، وفي رواية : خدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين ، وكان بعض أهله إذا قال لي شيئا قال : دعوه ، فما قدّر سيكون.

(٢) انظر الحديث قبل السابق.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ١٣٢) ، برقم : (٣٤٢٩٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٢٤)

٤٤٦

فما عدّة من لا قرء لها ؛ من صغر أو كبر (١) ، فنزلت هذه الآية ، فقال قائل منهم : فما عدّة الحامل فنزلت : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) وهو لفظ يعمّ الحوامل المطلقات والمعتدّات من الوفاة ، والارتياب المذكور قيل : هو بأمر الحمل.

وقوله سبحانه : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ...) الآية ، أمر بإسكان المطلقات ولا خلاف في ذلك ؛ في التي لم تبتّ وأمّا المبتوتة ؛ فمالك يرى لها السّكنى لمكان حفظ النسب ، ولا يرى لها نفقة ؛ لأنّ النفقة بإزاء الاستمتاع ، وقال الثعلبيّ : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) أي : في مساكنكم التي طلقتموهنّ فيها ، انتهى ، والوجد السّعة في المال ، وأما الحامل فلا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها ؛ بتّت أو لم تبتّ ؛ لأنّها مبيّنة في الآية ، وإنما اختلفوا في نفقة الحامل المتوفّى عنها زوجها ، هل ينفق عليها من التّركة ، أم لا ، وكذلك النفقة على المرضع المطلقة واجبة ، وبسط ذلك في كتب الفقه.

وقوله سبحانه : (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) أي ليأمر كلّ واحد صاحبه بخير ، وليقبل كلّ أحد ما أمر به من المعروف.

وقوله سبحانه : (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) أي : تشطّطت (٢) المرأة في الحدّ الذي يكون أجرة على الرضاع ، فللزّوج أن يسترضع / بما فيه رفقه إلّا يقبل المولود غير أمّه ، فتجبر هي حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج في حالهما وغناهما.

* ت* : وهذا كله في المطلقة البائن ، قال ابن عبد السلام من أصحابنا : الضمير في قوله تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) عائد على المطلقات وكذلك قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) [البقرة : ٢٣٣] وأمّا ذات الزوج أو الرجعية ، فيجب عليها أن ترضع من غير أجر إلا أن تكون شريفة فلا يلزمها ذلك ، انتهى.

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٢٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٨) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن المنذر من طريق الثوري.

(٢) الشّطط : مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام أو غير ذلك من كلّ شيء.

ينظر : «لسان العرب» (٢٢٦٣)

٤٤٧

لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً)(١١)

وقوله سبحانه : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ...) الآية ، عدل بين الأزواج لئلا تضيع هي ولا يكلّف هو ما لا يطيق ، ثم رجّى تعالى باليسر تسهيلا على النفوس وتطييبا لها.

وقوله سبحانه : (وَكَأَيِّنْ) الثعلبي : وكأين ، أي : وكم من قرية ، (عَتَتْ) أي : عصت.

وقوله : (فَحاسَبْناها) قال* ع (١) * : قال بعض المتأولين : الآية في أحوال الآخرة ، أي : ثمّ هو الحساب والتعذيب والذوق وخسار العاقبة ، وقال آخرون : ذلك في الدنيا ، ومعنى (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) أي : لم تغتفر لهم زلّة ، بل أخذت بالدقائق من الذنوب ، ثم ندب تعالى أولي الألباب إلى التقوى تحذيرا.

وقوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً) اختلف في تقديره ، وأبين الأقوال فيه معنى أن يكون الذكر القرآن ، والرسول محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى وأرسل رسولا لكنّ الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول ؛ ونحا هذا المنحى السدي ، وسائر الآية بيّن (٢).

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(١٢)

وقوله سبحانه : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) لا خلاف بين العلماء أن السموات سبع وأمّا / الأرض فالجمهور : على أنها سبع أرضين ، وهو ظاهر هذه الآية ، وإنما المماثلة في العدد ، ويبيّنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «من غصب شبرا من أرض طوّقه الله من سبع أرضين» ، إلى غير هذا مما وردت به الروايات ، وروي عن قوم من العلماء أنهم قالوا : الأرض واحدة وهي مماثلة لكلّ سماء بانفرادها في ارتفاع جرمها ، وفي أن فيها عالما يعبد الله كما في كلّ سماء عالم يعبد الله.

وقوله سبحانه : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) الأمر هنا يعمّ الوحي وجميع ما يأمر به سبحانه

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٢٧)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ١٤٤) ، برقم : (٣٤٣٦٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٢٧)

٤٤٨

من تصريف الرياح ، والسحاب ، وغير ذلك من عجائب صنعه ؛ لا إله غيره ، وباقي السّورة وعظ وحضّ على توحيد الله ـ عزوجل ـ.

وقوله : (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عموم معناه الخصوص في المقدورات.

وقوله : (بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) عموم على إطلاقه.

٤٤٩

تفسير سورة التّحريم

وهي مدنيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً)(٥)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ...) الآية ، وفي الحديث من طرق ما معناه ؛ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء إلى بيت حفصة ، فوجدها قد مرّت لزيارة أبيها ، فدعا صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاريته ماريّة ، فقال معها ، فجاءت حفصة وقالت : يا نبيّ الله! أفي بيتي وعلى فراشي؟ فقال لها صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مترضّيا لها : «أيرضيك أن أحرّمها؟ قالت : نعم ؛ فقال : إنّي قد حرّمتها» ، قال ابن عبّاس : وقال مع ذلك : والله ، لا أطؤها أبدا ، ثم قال لها : لا تخبري بهذا أحدا (١) ، ثم إنّ حفصة قرعت الجدار الّذي بينها وبين عائشة ، وأخبرتها لتسرّها بالأمر ، ولم تر في إفشائه إليها حرجا ، واستكتمتها ، / فأوحى الله بذلك إلى نبيّه ، ونزلت الآية ، وفي حديث آخر عن عائشة أنّ هذا التحريم المذكور في الآية ؛ إنّما هو بسبب العسل الذي شربه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند زينب بنت جحش ، فتمالأت عائشة وحفصة وسودة على أن تقول له ؛ من دنا منها : إنّا نجد منك ريح مغافير ، أأكلت مغافير يا رسول الله؟ والمغافير : صمغ العرفط ، وهو حلو كريه الرائحة ، ففعلن ذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أكلت مغافير ، ولكنّي شربت عسلا ، فقلن له : جرست نحله العرفط (٢)؟ فقال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا أشربه أبدا ، وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة ، فدخل بعد ذلك على زينب فقالت : ألا أسقيك من ذلك العسل؟ فقال :

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ١٤٨ ـ ١٤٩) ، برقم : (٣٤٣٩٢) ، (٣٤٣٩٧) ، وذكره ابن كثير (٤ / ٣٨٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٦٧) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر.

(٢) العرفط : شجر الطلح ، وله صمغ كريه الرائحة ، فإذا أكلته النحل حصل في عسلها من ريحه.

ينظر : «المنهاج» (٣ / ٢١٨)

٤٥٠

لا حاجة لي به ، قالت عائشة : تقول سودة حين بلغنا امتناعه : والله ، لقد حرمناه ، فقلت لها : اسكتي ، قال* ع (١) * : والقول الأوّل أن الآية نزلت بسبب مارية أصحّ وأوضح ، وعليه تفقّه الناس في الآية ، ومتى حرّم الرجل مالا أو جارية فليس تحريمه بشيء* ت* : والحديث الثّاني هو الصحيح خرّجه البخاريّ ومسلم وغيرهما ، ودعا الله تعالى نبيّه باسم النبوّة الذي هو دالّ على شرف منزلته وفضيلته التي خصّه بها ، وقرّره تعالى كالمعاتب له على تحريمه على نفسه ما أحلّ الله له ، ثم غفر له تعالى ما عاتبه فيه ورحمه.

وقوله تعالى : (قَدْ فَرَضَ اللهُ) أي : بيّن وأثبت ، فقال قوم من أهل العلم : هذه إشارة إلى تكفير التّحريم ، وقال آخرون هي : إشارة إلى تكفير اليمين المقترنة بالتحريم ، والتّحلّة مصدر وزنها «تفعلة» وأدغم لاجتماع / المثلين ، وأحال في هذه الآية على الآية التي فسّر فيها الإطعام في كفارة اليمين بالله تعالى ، والمولى الموالي الناصر.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) يعني حفصة (حَدِيثاً) قال الجمهور الحديث هو قوله في أمر مارية ، وقال آخرون : بل هو قوله : إنّما شربت عسلا.

وقوله تعالى : (عَرَّفَ بَعْضَهُ) المعنى مع شدّ الراء : أعلم به وأنّب عليه وأعرض عن بعض ، أي : تكرّما وحياء وحسن عشرة ، قال الحسن : ما استقصى كريم قط (٢) ، والمخاطبة بقوله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) هي لحفصة وعائشة ، وفي حديث البخاريّ ، وغيره عن ابن عبّاس قال : قلت لعمر : من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : حفصة وعائشة (٣).

وقوله : (صَغَتْ قُلُوبُكُما) معناه مالت ، والصغي الميل ، ومنه أصغى إليه بأذنه ، وأصغى الإناء ، وفي قراءة ابن مسعود (٤) : «فقد زاغت قلوبكما» والزيغ : الميل وعرفه في خلاف الحقّ ، وجمع القلوب من حيث الاثنان جمع ، ـ ص ـ : (قُلُوبُكُما) القياس فيه : قلباكما مثنّى ، والجمع أكثر استعمالا وحسنه إضافته إلى مثنّى ، وهو ضميرهما ؛ لأنّهم كرهوا اجتماع تثنيتين ، انتهى ، ومعنى الآية إن تبتما فقد كان منكما ما ينبغي أن يتاب منه ، وهذا الجواب الذي للشّرط هو متقدم في المعنى ، وإنما ترتّب جوابا في اللفظ ، (وَإِنْ تَظاهَرا) معناه : تتعاونا وأصل : (تَظاهَرا) تتظاهرا ، و (مَوْلاهُ) أي : ناصره ، (وَجِبْرِيلُ)

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٣٠)

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٣٦٤) ، وابن عطية (٥ / ٣٣١)

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : «الكشاف» (٤ / ٥٦٦) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٣١) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٨٦) ، و «الدر المصون» (٦ / ٣٣٥)

٤٥١

وما بعده يحتمل أن يكون عطفا على اسم الله ، ويحتمل أن يكون جبريل رفعا بالابتداء وما بعده عطف عليه و (ظَهِيرٌ) هو الخبر ، وخرّج البخاريّ بسنده عن أنس قال : قال عمر : اجتمع نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الغيرة عليه فقلت لهنّ : عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجا خيرا منكنّ ، فنزلت هذه الآية (١) ، انتهى ، و (قانِتاتٍ) معناه مطيعات ، والسائحات قيل : معناه : صائمات ، وقيل : معناه : / مهاجرات ، وقيل : معناه ذاهبات في طاعة الله ، وشبّه الصائم بالسائح من حيث ينهمل السائح ولا ينظر في زاد ولا مطعم ، وكذلك الصائم يمسك عن ذلك ، فيستوي هو والسائح في الامتناع ، وشظف العيش لفقد الطّعام.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٩)

وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً ...) الآية ، (قُوا) معناه اجعلوا وقاية بينكم وبين النار ، وقوله : (وَأَهْلِيكُمْ) معناه بالوصيّة لهم والتقويم والحمل على طاعة الله ، وفي الحديث : «رحم الله رجلا قال : يا أهلاه صلاتكم ، صيامكم ، [زكاتكم] ، مسكينكم ، يتيمكم» (٢) * ت* : وفي «العتبية» عن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله أذن لي أن أتحدّث عن ملك من الملائكة ، إنّ ما بين شحمة أذنه وعاتقه لمخفق الطّير سبعين عاما» (٣) ، انتهى ، وباقي الآية في غاية الوضوح ، نجّانا الله من عذابه بفضله ، والتوبة فرض على كلّ مسلم ، وهي الندم على فارط المعصية ، والعزم على ترك مثلها في المستقبل ، هذا من المتمكن ، وأما غير المتمكّن كالمجبوب في الزّنا فالندم وحده يكفيه ، والتوبة عبادة كالصّلاة ، وغيرها ، فإذا تاب العبد وحصلت توبته بشروطها وقبلت ، ثم عاود الذنب فتوبته الأولى لا تفسدها عودة بل هي كسائر ما تحصّل من

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ١٥٥) ، برقم : (٣٤٤٢٥) ، (٣٤٤٢٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٣٢) ، وذكره ابن كثير (٤ / ٣٩٠)

(٢) ذكره الزيلعي في «تخريج الأحاديث والآثار» (٤ / ٦٦) ، وقال : غريب.

(٣) تقدم تخريجه.

٤٥٢

العبادات ، والنصوح بناء مبالغة من النصح ، أي : توبة نصحت صاحبها ، وأرشدته ، وعن عمر : التوبة النصوح : هي أن يتوب ثم لا يعود ولا يريد أن يعود (١) ، وقال أبو بكر الورّاق ، هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت كتوبة الذين خلّفوا. وروي / في معنى قوله تعالى : «يوم لا يخزي الله النبي» أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم تضرّع مرّة إلى الله ـ عزوجل ـ في أمر أمّته ، فأوحى الله إليه إن شئت جعلت حسابهم إليك ، فقال : يا ربّ ، أنت أرحم بهم ، فقال الله تعالى : إذن لا أخزيك فيهم (٢).

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) يحتمل : أن يكون معطوفا على النبيّ فيخرج المؤمنون من الخزي ، ويحتمل : أن يكون مبتدأ ، و (نُورُهُمْ يَسْعى) : جملة هي خبره ، وقولهم : (أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) قال الحسن بن أبي الحسن : هو عند ما يرون من انطفاء نور المنافقين (٣) حسبما تقدم تفسيره ، وقيل : يقوله من أعطي من النور بقدر ما يرى موضع قدميه فقط ، وباقي الآية بيّن مما تقدم في غير هذا الموضع.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ)(١٢)

وقوله سبحانه : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ ...) الآية ، هذان المثلان اللذان للكفار والمؤمنين معناهما : أنّ من كفر لا يغني عنه من الله شيء ولا ينفعه سبب ، وإنّ من آمن لا يدفعه عن رضوان الله دافع ولو كان في أسوأ منشأ وأخسّ حال ، وقول من قال : إنّ في المثلين عبرة لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعيد. قال ابن عبّاس وغيره : «خانتاهما» : أي في الكفر (٤) ، وفي أن امرأة نوح كانت تقول للناس : إنّه مجنون ، وأن امرأة لوط كانت تنمّ

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ١٥٦) ، برقم : (٣٤٤٤٤) ، والبغوي (٤ / ٣٦٧) ، وابن عطية (٥ / ٣٣٤) ، وابن كثير (٤ / ٣٩٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٦) ، وعزاه لعبد الرزاق ، والفريابي وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وهناد ، وابن منيع ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٣٤)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ١٥٩) ، برقم : (٣٤٤٥٧ ـ ٣٤٤٥٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٣٤) ، وابن كثير (٤ / ٣٩٢)

(٤) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٣٥) ، وابن كثير (٤ / ٣٩٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٧) ، وعزاه ـ

٤٥٣

إلى قومها خبر أضيافه ، قال ابن عبّاس : وما بغت زوجة نبيّ قطّ (١) ، وامرأة فرعون اسمها آسية ، وقولها : (وَعَمَلِهِ) تعني كفره وما هو عليه من الضّلالة.

وقوله : (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) الجمهور أنه فرج الدّرع ، وقال قوم : هو الفرج الجارحة وإحصانه صونه.

وقوله سبحانه : (فَنَفَخْنا فِيهِ) عبارة عن فعل جبريل ، / * ت* : وقد عكس ـ رحمه‌الله ـ نقل ما نسبه للجمهور في سورة الأنبياء فقال : المعنى واذكر الّتي أحصنت فرجها وهو الجارحة المعروفة ، هذا قول الجمهور ، انظر بقية الكلام هناك.

وقوله سبحانه : (مِنْ رُوحِنا) إضافة مخلوق إلى خالق ، ومملوك إلى مالك ، كما تقول بيت الله ، وناقة الله ، وكذلك الروح الجنس كلّه هو روح الله ، وقرأ الجمهور (٢) : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) بالجمع فيقوّي أن يريد التوراة ، ويحتمل أن يريد أمر عيسى ، وقرأ الجحدري (٣) : «بكلمة» فيقوّي أن يريد أمر عيسى ، ويحتمل أن يريد التوراة ، فتكون الكلمة اسم جنس ، وقرأ نافع (٤) وغيره : «وكتابه» وقرأ أبو عمرو وغيره : «وكتبه» ـ بضم التاء ـ والجمع ، وذلك كلّه مراد به التوراة والإنجيل ، قال الثعلبيّ : واختار أبو حاتم قراءة أبي عمرو بالجمع لعمومها ، واختار أبو عبيدة قراءة الإفراد ؛ لأن الكتاب يراد به الجنس ، انتهى ؛ وهو حسن ، (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) أي : من القوم القانتين ؛ وهم المطيعون العابدون ، وقد تقدّم بيانه.

__________________

ـ لعبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن أبي الدنيا ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عبّاس.

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ١٦١) ، برقم : (٣٤٤٦٢ ، ٣٤٤٦٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٣٦٨) ، وابن عطية (٥ / ٣٣٥) ، وابن كثير (٤ / ٣٩٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٧٧) ، وعزاه لابن المنذر.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٣٥ ـ ٣٣٦) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٩٠) ، و «الدر المصون» (٦ / ٣٣٩)

(٣) وقرأ بها مجاهد ، والحسن.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٥٩) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٣٦) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٩٠) ، و «الدر المصون» (٦ / ٣٣٩)

(٤) وقرأ بها ابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم في رواية أبي بكر ، والكسائيّ ، وحمزة. وقرأ بقراءة أبي عمرو ـ حفص عن عاصم ، وخارجة عن نافع.

ينظر : «السبعة» (٦٤١) ، و «الحجة» (٦ / ٣٠٤) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٧٦) ، و «حجة القراءات» (٧١٥) ، و «العنوان» (١٩٣) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٦١) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٤٩) ، و «معاني القراءات» (٣ / ٧٨)

٤٥٤

تفسير سورة الملك

[وهي] مكّيّة بإجماع

وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤوها عند أخذ مضجعه ؛ رواه جماعة مرفوعا (١) ، وروي أنّها تنجّي من عذاب القبر (٢) ، وتجادل عن صاحبها ، حتى لا يعذّب (٣) ، وروى ابن عبّاس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «وددت أنّ سورة «تبارك الّذي بيده الملك» في قلب كلّ مؤمن» (٤) ، * ت* : وقد خرّج مالك في «الموطّأ» : أنّها تجادل عن صاحبها ؛ وخرّج أبو داود / والترمذيّ والنسائي ، وأبو الحسن بن صخر ، وأبو ذر الهرويّ ، وغيرهم أحاديث في فضل هذه السورة نحو ما تقدّم ، ولو لا ما قصدته من الاختصار لنقلتها هنا ، ولكن خشية الإطالة منعتني من جلب كثير من الآثار الصحيحة ، في هذا المختصر ، وانظر الغافقي ؛ فقد استوفى

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨١) ، وعزاه إلى ابن مردويه.

(٢) أخرج الترمذي في هذا المعنى حديثا (٥ / ١٦٤) ، كتاب «فضائل القرآن» باب : ما جاء في فضل سورة الملك (٢٨٩٠) عن عبد الله بن عبّاس ، بلفظ : ضرب بعض أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنّه قبر ، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) حتّى ختمها ، فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إنّي ضربت خبائي على قبر ، وأنا لا أحسب أنّه قبر ، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الملك حتّى ختمها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي المانعة ، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر».

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

(٣) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٢ / ٤٩٨) عن عبد الله بن عبّاس ، بلفظ : «يؤتى الرجل في قبره ، فتؤتى رجلاه فتقول رجلاه : ليس لكم على ما قبلي سبيل ، كان يقوم يقرأ سورة الملك ، ثم يؤتى من قبل صدره ، أو قال : بطنه ، فيقول : ليس لكم على ما قبلي سبيل ، كان يقرأ بي سورة الملك ، ثم يؤتى رأسه فيقول : ليس لكم على ما قبلي سبيل ، كان يقرأ بي سورة الملك ، قال : فهي المانعة تمنع من عذاب القبر ، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب».

والبيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٤٩٤) (٢٥٠٩) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٤) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (١ / ٥٦٥) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٠) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه ، وعبد بن حميد ، والطبراني.

قال الحاكم : هذا إسناد عند اليمانيين صحيح ولم يخرجاه ، وتعقبه الذهبي في قوله ذلك ، وقال : لحفص واه.

٤٥٥

نقل الآثار في فضل هذه السورة.

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١)

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تَبارَكَ) من البركة وهي التزيّد في الخيرات ، قال الثعلبي : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) أي : تعالى وتعاظم وقال الحسن : تقدّس الذي بيده الملك في الدنيا والآخرة (١) ، وقال ابن عبّاس : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) : يعزّ من يشاء ويذل من يشاء (٢). انتهى.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ)(٥)

وقوله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ ...) الآية ، الموت والحياة معنيان يتعاقبان جسم الحيوان ، يرتفع أحدهما بحلول الآخر ، وما جاء في الحديث الصحيح من قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح على الصراط» (٣) الحديث ، فقال أهل العلم : إنّما ذلك تمثال كبش يوقع الله العلم الضّروريّ لأهل الدّارين أنّه الموت الذي ذاقوه في الدنيا ، ويكون ذلك التمثال حاملا للموت ، لا على أنه يحلّ الموت فيه فتذهب عنه حياة ، ثم يقرن الله تعالى في ذلك التمثال إعدام الموت.

وقوله سبحانه : (لِيَبْلُوَكُمْ) أي : جعل لكم هاتين الحالتين ليبلوكم ، أي : ليختبركم في حال الحياة ويجازيكم بعد الممات ، وقال أبو قتادة ، ونحوه عن ابن عمر ، قلت : يا رسول الله ، ما معنى قوله / تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)؟ فقال : يقول : أيّكم أحسن عقلا ، وأشدّكم لله خوفا ، وأحسنكم في أمره ونهيه نظرا ، وإن كانوا أقلّكم تطوّعا (٤) ، وقال ابن عبّاس وسفيان الثوري والحسن : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أزهدكم في

__________________

(١) ذكره القرطبي (١٨ / ١٣٤)

(٢) ذكره القرطبي (١٨ / ١٣٤) ، وابن عطية (٥ / ٣٣٧)

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٣٧)

٤٥٦

الدنيا (١) ، قال القرطبي (٢) : وقال السدي : (أحسنكم عملا) ، أي : أكثركم للموت ذكرا ، وله أحسن استعدادا ، ومنه أشدّ خوفا وحذرا ، انتهى من «التذكرة» ، ولله در القائل : [الطويل]

وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى

عن الشغل باللّذات للمرء زاجر

أبعد اقتراب الأربعين تربّص

وشيب فذاك منذر لك ذاعر

فكم في بطون الأرض بعد ظهورها

محاسنهم فيها بوال دواثر

وأنت على الدّنيا مكبّ منافس

لخطّابها فيها حريص مكاثر

على خطر تمسي وتصبح لاهيا

أتدري بماذا لو عقلت تخاطر

وإنّ امرأ يسعى لدنياه جاهدا

ويذهل عن أخراه لا شكّ خاسر

كأنّك مغترّ بما أنت صائر

لنفسك عمدا أو عن الرشد جائر

فجدّ ولا تغفل فعيشك زائل

وأنت إلى دار المنيّة صائر

ولا تطلب الدّنيا فإنّ طلابها

وإن نلت منها ثروة لك ضائر

وكيف يلذّ العيش من هو موقن

بموقف عدل يوم (٣) تبلى السّرائر

لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت

لعزّة ذي العرش الملوك الجبابر

انتهى ، ، و (طِباقاً) قال الزّجّاج : هو مصدر ، وقيل : جمع طبقة ، أو جمع طبق ، والمعنى : بعضها فوق بعض ، وقال إبان بن ثعلب : سمعت أعرابيا يذمّ رجلا فقال : شرّه طباق / وخيره غير باق ، وما ذكره بعض المفسرين في السموات من أنّ بعضها من ذهب وفضة وياقوت ونحو هذا ، ضعيف لم يثبت بذلك حديث.

وقوله سبحانه : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) معناه من قلّة تناسب ، ومن خروج عن إتقان ، قال بعض العلماء : خلق الرحمن ، معنيّ به السموات وإيّاها أراد بقوله : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) وبقوله : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ ...) الآية ، وقال آخرون : بل يعني به جميع ما خلق سبحانه من الأشياء فإنّها لا تفاوت فيها ، ولا فطور جارية على غير إتقان ، قال منذر بن سعيد : أمر الله تعالى بالنظر إلى السماء وخلقها ، ثم أمر بتكرير النظر ، وكذلك جميع المخلوقات متى نظرها ناظر ليرى فيها خللا أو نقصا فإنّ بصره ينقلب خاسئا

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٣٦٩) عن الحسن.

(٢) ينظر : «تفسير القرطبي» (١٨ / ١٣٥) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٢) ، وعزاه لابن أبي الدنيا ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٣) في د : حين.

٤٥٧

حسيرا ، ورجع البصر : ترديده في الشيء المبصر ، و (كَرَّتَيْنِ) معناه مرتين ، والخاسئ المبعد عن شيء أراده ، وحرص عليه ، ومنه قوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها) [المؤمنون : ١٠٨] وكذلك البصر يحرص على رؤية فطور أو تفاوت ، فلا يجد ذلك ، فينقلب خاسئا ، والحسير العييّ الكالّ.

وقوله تعالى : (بِمَصابِيحَ) يعني : النجوم ، قال الفخر (١) : ومعنى (السَّماءَ الدُّنْيا) أي : القريبة من الناس ، وليس في هذه الآية ما يدلّ على أنّ الكواكب مركوزة في السماء الدنيا ، وذلك لأنّ السموات إذا كانت شفّافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا ، أو كانت في سموات أخرى فوقها ، فهي لا بد أن تظهر في السماء الدنيا ، وتلوح فيها ، فعلى كلا التّقديرين فالسّماء (٢) الدّنيا مزيّنة بها ، انتهى.

وقوله : (وَجَعَلْناها) معناه وجعلنا منها ويوجب / هذا التأويل في الآية إنّ الكواكب الثابتة ، والبروج ، وكلّ ما يهتدى به في البرّ والبحر ؛ ليست براجمة ، وهذا نصّ في حديث السير قال الثعلبي : (رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) يرجمون بها إذا استرقوا السّمع فلا تخطئهم ، فمنهم من يقتل ومنهم من يخبل ، انتهى.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (١١)

وقوله تعالى : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) قال* ع (٣) * : تضمنت الآية أنّ عذاب جهنم للكفار المخلّدين ، وقد جاء في الأثر : أنه يمرّ على جهنم زمان تخفق أبوابها ، قد أخلتها الشفاعة ، والذي يقال في هذا أن جهنّم اسم تختصّ به الطبقة العليا من النار ، ثم قد تسمّى الطبقات كلها باسم بعضها ، فالتي في الأثر هي الطبقة العليا لأنّها مقر العصاة من المؤمنين ، والّتي في هذه الآية هي جهنم بأسرها ، أي : جميع الطبقات ، والشهيق أقبح ما يكون من صوت الحمار ، فاشتعال النار وغليانها يصوّت مثل ذلك.

وقوله : (تَكادُ تَمَيَّزُ) أي يزايل بعضها بعضا لشدّة الاضطراب ، و (مِنَ الْغَيْظِ)

__________________

(١) ينظر : «الفخر الرازي» (٣٠ / ٥٣)

(٢) في د : في السماء.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٣٩)

٤٥٨

معناه : على الكفرة بالله ، والفوج : الفريق من الناس ، وظاهر الآية أنّه لا يلقى في جهنّم أحد إلا سئل على جهة التوبيخ.

وقوله سبحانه : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) يحتمل أن يكون من قول الملائكة ، ويحتمل أن يكون من تمام كلام الكفار للنّذر ، قال الفخر (١) : وقوله ـ تعالى ـ عنهم : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) قيل إنما جمعوا بين السّمع والعقل ؛ [لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل] ، انتهى.

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ)(٢٠)

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) يحتمل معنيين : أحدهما بالغيب الذي / أخبروا به من النشر والحشر والجنة والنار ، فآمنوا بذلك وخشوا ربّهم فيه ؛ ونحا إلى هذا قتادة (٢) ، والمعنى الثاني : أنهم يخشون ربهم إذا غابوا عن أعين الناس ، أي : في خلواتهم في صلاتهم وعباداتهم.

وقوله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ ...) الآية ، خطاب لجميع الخلق ، و (ذَلُولاً) بمعنى مذلولة ، و (مَناكِبِها) قال مجاهد : هي الطّرق والفجاج (٣) ، وقال البخاري : (مَناكِبِها) : جوانبها ، قال الغزالي ـ رحمه‌الله ـ : جعل الله سبحانه الأرض ذلولا لعباده لا ليستقرّوا في مناكبها ، بل ليتّخذوها منزلا فيتزوّدون منها محترزين من مصائدها ومعاطبها ، ويتحقّقون أنّ العمر يسير بهم سير السفينة براكبها ، فالناس في هذا العالم سفر وأوّل منازلهم المهد ، وآخرها اللحد ، والوطن هو الجنّة أو النار ، والعمر مسافة السّفر ، فسنوه مراحله ، وشهوره

__________________

(١) ينظر : «تفسير الرازي» (٣٠ / ٥٧)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٤٠)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ١٦٩) ، برقم : (٣٤٥٠٥) ، وذكره البغوي (٤ / ٣٧١) ، وابن عطية (٥ / ٣٤١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٤) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر.

٤٥٩

فراسخه ، وأيامه أمياله ، وأنفاسه خطواته ، وطاعته بضاعته ، وأوقاته رؤوس أمواله ، وشهواته وأغراضه قطاع طريقه ، وربحه الفوز بلقاء الله ـ عزوجل ـ في دار السلام مع الملك الكبير والنعيم المقيم ، وخسرانه البعد من الله ـ عزوجل ـ مع الأنكال والأغلال والعذاب الأليم في دركات الجحيم ، فالغافل عن نفس واحد من أنفاسه ، حتى ينقضي في غير طاعة تقرّبه إلى الله تعالى زلفى متعرّض في يوم التّغابن لغبينة وحسرة ما لها منتهى ، ولهذا الخطر العظيم والخطب الهائل شمّر الموفّقون عن ساق الجدّ ، وودّعوا بالكلية ملاذّ النفس ، واغتنموا بقايا العمر ، فعمّروها بالطاعات ، بحسب تكرّر الأوقات ، انتهى ، قال الشيخ أبو مدين ـ رحمه‌الله ـ : عمرك نفس واحد فاحرص [أن يكون] لك / لا عليك ، انتهى ، والله الموفّق بفضله ، و (النُّشُورُ) : الحياة بعد الموت ، و (تَمُورُ) معناه : تذهب وتجيء ، كما يذهب التراب الموار في الريح ، والحاصب البرد وما جرى مجراه ، والنكير مصدر بمعنى الإنكار ، والنذير كذلك ومنه قول حسان بن ثابت : [الوافر]

فأنذر مثلها نصحا قريشا

من الرحمن إن قبلت نذيري (١)

ثم أحال ـ سبحانه ـ على العبرة في أمر الطير وما أحكم من خلقتها ، وذلك بيّن عجز الأصنام والأوثان عنه ، و (صافَّاتٍ) جمع صافّة ، وهي التي تبسط جناحها وتصفّه ، وقبض الجناح ضمّه إلى الجنب ، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)(٢٤)

وقوله سبحانه : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) هذا أيضا توقيف على أمر لا مدخل للأصنام فيه.

وقوله سبحانه : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) قال ابن عبّاس والضحاك ومجاهد : نزلت مثلا للمؤمنين والكافرين ؛ على العموم (٢) ، وقال قتادة : نزلت مخبرة عن حال القيامة ، وأنّ الكفار يمشون على وجوههم ، والمؤمنين يمشون على استقامة (٣) ، كما جاء

__________________

(١) البيت في «ديوانه» (٢٤٥) ، وفيه فأردف بدل فأنذر.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ١٧١) ، برقم : (٣٤٥١٠ ، ٣٤٥١٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٤٢)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ١٧١ ـ ١٧٢) ، برقم : (٣٤٥١٣ ، ٣٤٥١٥) ، وذكره البغوي (٤ / ٣٧٢) ، وابن عطية (٥ / ٣٤٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٥) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وعبد الرزاق ، وابن المنذر.

٤٦٠