تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

الإيمان ، إن البذاذة من الإيمان» (١) قال أبو داود : يعني : التّقحّل ، وفسر أبو عمر بن عبد البرّ : «البذاذة» برثّ الهيئة ، ذكر ذلك في «التمهيد» ، وكذلك فسّرها غيره ، انتهى ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» من طريق الحسن عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه خرج في أصحابه إلى بقيع الغرقد ، فقال : «السّلام عليكم يا أهل القبور ، لو تعلمون ما نجّاكم الله منه ممّا هو كائن بعدكم! ثمّ أقبل على أصحابه ، فقال : هؤلاء خير منكم ؛ قالوا : يا رسول الله ، إخواننا ، أسلمنا كما أسلموا ، وهاجرنا كما هاجروا ، وجاهدنا كما جاهدوا ، وأتوا على آجالهم فمضوا فيها وبقينا في آجالنا ، فما يجعلهم خيرا منّا؟! قال : هؤلاء خرجوا من الدّنيا لم يأكلوا من أجورهم شيئا ، وخرجوا وأنا الشهيد عليهم ، وإنّكم قد أكلتم من أجوركم ، ولا أدري ما تحدثون من بعدي؟ قال : فلمّا سمعها القوم عقلوها وانتفعوا بها ، وقالوا : إنّا لمحاسبون بما / أصبنا من الدّنيا ، وإنه لمنتقص به من أجورنا» (٢) انتهى ، ، ومنها حديث ثوبان في «سنن أبي داود» : قال ثوبان : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة ، وأوّل من يدخل عليها فاطمة ، فقدم من غزاة ، وقد علّقت مسحا أو سترا على بابها ، وحلّت الحسن والحسين قلبين من فضّة ، فلم يدخل ، فظنّت أنّما منعه أن يدخل ما رأى ؛ فهتكت السّتر ، وفكّت القلبين عن الصبيّين وقطعتهما عنهما ، فانطلقا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبكيان ، فأخذهما منهما ، وقال : يا ثوبان ، اذهب بهما إلى آل فلان ؛ إنّ هؤلاء أهلي أكره أن يأكلوا طيّباتهم في حياتهم الدّنيا ، يا ثوبان ، اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج» انتهى (٣) ، ـ ص ـ : قرأ الجمهور : «أذهبتم» على الخبر ، أي : فيقال لهم : أذهبتم طيّباتكم ، وابن كثير بهمزة بعدها مدّة مطوّلة ، وابن عامر بهمزتين حقّقها ابن ذكوان ، وليّن الثانية هشام وابن كثير في رواية (٤) ، والاستفهام هنا على معنى التوبيخ والتقرير ، فهو خبر في المعنى ، ولهذا حسنت الفاء في قوله : (فَالْيَوْمَ) ، ولو كان استفهاما محضا لما دخلت الفاء ، انتهى ، و (عَذابَ الْهُونِ) هو الذي اقترن به هوان ، فالهون والهوان بمعنى.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٤٧٤) كتاب «الترجل» باب : (١) (٤١٦١) ، والحميدي (١ / ١٧٣) (٣٥٧) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٧٩) كتاب «الزهد» باب : من لا يؤبه له (٤١١٨) ، والحاكم (١ / ٩)

(٢) أخرجه ابن المبارك (١ / ١٧١) برقم : (٤٩٨)

(٣) أخرجه أبو داود (٢ / ٤٨٦ ـ ٤٨٧) كتاب «الترجل» باب : ما جاء في الانتفاع بالعاج ، (٤٢١٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣) ، وعزاه إلى أحمد ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٤) ينظر : «الحجة» (٦ / ١٨٨) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٢٠) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٨١) ، و «العنوان» (١٧٥) ، و «حجة القراءات» (٦٦٥) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٧٢)

٢٢١

ثم أمر تعالى نبيّه بذكر هود وقومه عاد ؛ على جهة المثال لقريش ، وقد تقدّم قصص عاد مستوفى في «سورة الأعراف» ، فلينظر هناك ، والصحيح من الأقوال أنّ بلاد عاد كانت باليمن ، ولهم كانت إرم ذات العماد ، و (بِالْأَحْقافِ) : جمع «حقف» وهو الجبل المستطيل المعوجّ / من الرمل.

وقوله سبحانه : (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ خَلَتِ) معناه : مضت إلى الأرض الخلاء ، و (النُّذُرُ) جمع نذير ، وقولهم : (لِتَأْفِكَنا) معناه : لتصرفنا ، وقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) تصميم منهم على التكذيب ، وتعجيز له في زعمهم.

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٢٦)

وقوله سبحانه : (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ...) الآية ، المعنى : قال لهم هود : إنّ هذا الوعيد ليس من قبلي ، وإنما الأمر فيه إلى الله ، وعلم وقته عنده ، وإنّما عليّ أن أبلغ فقط ، والضمير في (رَأَوْهُ) يحتمل أن يعود على العذاب ، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئيّ الطالع عليهم ، وهو الذي فسّره قوله : (عارِضاً) و «العارض» : هو ما يعرض في الجوّ من السحاب الممطر ؛ قال ابن العربيّ في «أحكامه» عند تفسيره قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) [البقرة : ٢٢٤] : كلّ شيء عرض ، فقد منع ، ويقال لما عرض في السماء من السحاب : «عارض» ؛ لأنّه منع من رؤيتها ومن رؤية البدر والكواكب ، انتهى ، وروي في معنى قوله : (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) ؛ أنّ هؤلاء القوم كانوا قد قحطوا مدّة ، فطلع هذا العارض من جهة كانوا يمطرون بها أبدا ، جاءهم من قبل واد لهم يسمونه المغيث ، قال ابن عبّاس : ففرحوا به ، وقالوا : هذا عارض ممطرنا ، وقد كذب هود فيما أوعد به ، فقال لهم هود* ع* : ليس الأمر كما رأيتم ، بل هو ما / استعجلتم به في قولكم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) [الأحقاف : ٢٢] ، ثم قال : (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) وفي قراءة ابن مسعود (١) : «ممطرنا قال هود : بل هو ريح» بإظهار المقدّر و (تُدَمِّرُ) معناه :

__________________

(١) ينظر : «المحتسب» (٢ / ٢٦٥) ، و «الكشاف» (٤ / ٣٠٧) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ١٠٢)

٢٢٢

تهلك ، و «والدمار» : الهلاك ، وقوله : (كُلَّ شَيْءٍ) ظاهره العموم ، ومعناه الخصوص في كلّ ما أمرت بتدميره ، وروي أنّ هذه الريح رمتهم أجمعين في البحر.

ثم خاطب جلّ وعلا قريشا على جهة الموعظة بقوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) ف «ما» بمعنى «الذي» ، و «إن» نافية وقعت مكان «ما» لمختلف اللفظ ، ومعنى الآية : ولقد أعطيناهم من القوّة والغنى والبسط في الأموال والأجسام ـ ما لم نعطكم ، ونالهم بسبب كفرهم هذا العذاب ؛ فأنتم أحرى بذلك ؛ إذا تماديتم في كفركم ، وقالت فرقة : «إن» شرطية ، والجواب محذوف ، تقديره : في الذي إن مكّنّاكم فيه طغيتم ، وهذا تنطّع في التأويل ، و «ما» نافية في قوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ؛ ويقوّي ذلك دخول «من» في قوله : (مِنْ شَيْءٍ) ، وقالت فرقة : بل هي استفهام ؛ على جهة التقرير ؛ و (مِنْ شَيْءٍ) ـ على هذا ـ تأكيد ؛ وهذا على غير مذهب سيبويه في دخول «من» في الجواب.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٢٨)

وقوله عزوجل : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى ...) الآية ، مخاطبة لقريش على جهة التمثيل (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) يعني : لهذه القرى.

وقوله سبحانه : (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ ...) الآية ، يعني : فهلا نصرتهم أصنامهم ، (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي : انتلفوا عنهم وقت / الحاجة (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) إشارة إلى قولهم في الأصنام : إنها آلهة.

وقوله : (وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) يحتمل أن تكون «ما» مصدرية ، فلا تحتاج إلى عائد ، ويحتمل أن تكون بمعنى «الذي» فهناك عائد محذوف ، تقديره : يفترونه.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٣)

وقوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ ...) الآية ، ابتداء وصف قصّة الجنّ ووفادتهم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد اختلفت الرواة هنا : هل هذا الجنّ هم الوفد أو

٢٢٣

المتجسّسون؟ واختلفت الروايات أيضا عن ابن مسعود وغيره في هذا الباب.

والتحرير في هذا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءه نفر من الجنّ دون أن يشعر بهم ، وهم المتجسّسون المتفرّقون من أجل رجم الشهب الذي حلّ (١) بهم ، وهؤلاء هم المراد بقوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ ...) [الجن : ١] الآية ، ثم بعد ذلك وفد عليه وفدهم ؛ حسبما ورد في ذلك من الآثار (٢).

وقوله : (نَفَراً) يقتضي أنّ المصروفين كانوا رجالا لا أنثى فيهم ، والنفر والرهط هم : القوم الذين لا أنثى فيهم.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) فيه تأدّب مع العلم ، وتعليم كيف يتعلّم (فَلَمَّا قُضِيَ) أي : فرغ من تلاوة القرآن واستماع الجن ، قال جابر بن عبد الله وغيره : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا قرأ عليهم سورة «الرحمن» فكان إذا قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٣] قالوا : لا بشيء من آلائك نكذّب ، ربّنا لك الحمد ، ولمّا ولّت هذه الجملة تفرّقت / على البلاد منذرة للجنّ ، وقولهم : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً) يعنون : القرآن.

* ت* : وقولهم : (مِنْ بَعْدِ مُوسى) يحتمل أنّهم لم يعلموا بعيسى ؛ قاله ابن عبّاس (٣) ، أو أنّهم على دين اليهود ، قاله عطاء (٤) ؛ نقل هذا الثعلبيّ ، ويحتمل ما تقدّم ذكره

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٥٣٧ ـ ٥٣٨) كتاب «التفسير» باب : سورة (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ) (٤٩٢١) ، ومسلم (٢ / ٤٠٣) ـ النووي ، كتاب «الصلاة» باب : الجهر بالقراءة في الصبح (١٤٩ ، ٤٤٩) ، والترمذي (٥ / ٤٢٦) كتاب «تفسير القرآن» باب : ومن سورة الجن (٣٣٢٣) ، وأحمد (١ / ٢٥٢)

(٢) أخرجها البخاري (٧ / ٢٠٨) كتاب «مناقب الأنصار» باب : ذكر الجن ، وقول الله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) (٣٨٦٠).

وعن عامر أنه سأل علقمة : «هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن؟ ...» الحديث. أخرجه مسلم (٢ / ٤٠٤) ـ النووي ، كتاب «الصلاة» باب : الجهر بالقراءة في الصبح (١٥٠ / ٤٥٠) ، وأبو داود (١ / ٦٩) كتاب «الطهارة» باب : الوضوء بالنبيذ (٨٥) نحوه ، والترمذي (١ / ٢٩) كتاب «الطهارة» باب : ما جاء في كراهية ما يستنجى به (١٨) نحوه ، (٥ / ٣٨٢) كتاب «تفسير القرآن» باب : ومن سورة الأحقاف (٣٢٥٨) نحوه.

وروي من حديث ابن عبّاس : أخرجه مسلم (٢ / ٤٠٥) ـ النووي ، كتاب «الصلاة» باب : الجهر بالقراءة في الصبح (١٥١ / ٤٥٠) ، وأخرجه أحمد (١ / ٣٩٨) ، وابن ماجه (١ / ١٣٥) ، كتاب «الطهارة وسننها» باب : الوضوء بالنبيذ (٣٨٤) نحوه ، وأبو داود (١ / ٦٩) كتاب «الطهارة» باب : الوضوء بالنبيذ (٨٤) مختصرا نحوه.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ١٠٦)

(٤) ذكره ابن عطية (٥ / ١٠٥)

٢٢٤

في غير هذا ، وأنّهم ذكروا المتّفق عليه ، انتهى.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) وهي التوراة والإنجيل ، وداعي الله هو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآمِنُوا بِهِ) أي : بالله (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ...) الآية.

* ت* : وذكر الثعلبيّ خلافا في مؤمني الجنّ ، هل يثابون على الطاعة ويدخلون الجنّة ، أو يجارون من النار فقط؟ الله أعلم بذلك ، قال الفخر : والصحيح أنّهم في حكم بني آدم يستحقّون الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية ، وهو قول مالك ، وابن أبي ليلى ؛ قال الضّحّاك : يدخلون الجنة ، ويأكلون ويشربون (١) ، انتهى ، وقد تقدّم ما نقلناه عن البخاريّ في سورة الأنعام ؛ أنّهم يثابون.

وقوله سبحانه : (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ ...) الآية : يحتمل أن يكون من تمام كلام المنذرين ، ويحتمل أن يكون من كلام الله عزوجل ، و «المعجز» : الذاهب في الأرض الذي يعجز طالبه ؛ فلا يقدر عليه.

وقوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا) الضمير لقريش ؛ وذلك أنّهم أنكروا البعث وعود الأجساد ، وهم مع ذلك معترفون بأنّ الله تعالى خلق السّموات والأرض ، فأقيمت عليهم الحجّة من أقوالهم ـ ص ـ : قال أبو حيّان (٢) : والباء في قوله : (بِقادِرٍ) زائدة ، انتهى.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ)(٣٥)

وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) المعنى : واذكر يوم ، وهذا وعيد لكفّار قريش وغيرهم ، / وهذا عرض مباشرة.

وقوله : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) أي : يقال لهم : أليس هذا بالحق؟ (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) فصدّقوا بذلك حيث لا ينفعهم التصديق ، فروي عن الحسن ؛ أنه قال : إنّهم ليعذّبون في النار ، وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنّه العدل (٣).

واختلف في تعيين أولي العزم من الرسل ، ولا محالة أنّ لكل نبيّ ورسول عزما وصبرا.

__________________

(١) ينظر : «تفسير البغوي» (٤ / ١٧٥)

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٦٦)

(٣) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٥ / ١٠٧)

٢٢٥

وقوله : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) معناه : ولا تستعجل لهم عذابا ؛ فإنّهم إليه صائرون ، ولا تستطل تعميرهم في هذه النعمة ؛ فإنّهم يوم يرون العذاب كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلّا ساعة لاحتقارهم ذلك ؛ لأنّ المنقضي من الزمان يصير عدما.

* ت* : وإذا علمت ـ أيّها الأخ ـ أنّ الدنيا أضغاث أحلام ، كان من الحزم اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد ، وحفظ الحواسّ ، ومراعاة الأنفاس ، ومراقبة مولاك ، فاتّخذه صاحبا ، وذر الناس جانبا ؛ قال أبو حامد الغزّاليّ ـ رحمه‌الله ـ : اعلم أنّ صاحبك الذي لا تفارقه في حضرك وسفرك ، ونومك ويقظتك ، بل في حياتك ، وموتك ـ هو ربّك ، ومولاك ، وسيّدك ، وخالقك ، ومهما ذكرته فهو جليسك ؛ إذ قال تعالى : «أنا جليس من ذكرني» ، ومهما انكسر قلبك حزنا على تقصيرك في حق دينك ، فهو صاحبك وملازمك ؛ إذ قال : «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» (١) فلو عرفته يا أخي حقّ معرفته لاتّخذته صاحبا ، وتركت الناس جانبا ، فإن لم تقدر / على ذلك في جميع أوقاتك ، فإيّاك أن تخلي ليلك ونهارك عن وقت تخلو فيه بمولاك ، وتلذّذ بمناجاته ، وعند ذلك فعليك بآداب الصّحبة مع الله تعالى ، وآدابها : إطراق الطّرف ، وجمع الهمّ ، ودوام الصمت ، وسكون الجوارح ، ومبادرة الأمر ، واجتناب النهي ، وقلّة الاعتراض على القدر ، ودوام الذّكر باللسان ، وملازمة الفكر ، وإيثار الحقّ ، واليأس من الخلق ، والخضوع تحت الهيبة ؛ والانكسار تحت الحياء ، والسّكون عن حيل الكسب ثقة بالضّمان ، والتوكّل على فضل الله معرفة بحسن اختياره ؛ وهذا كله ينبغي أن يكون شعارك ، في جميع ليلك ونهارك ، فإنّه آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك ، والخلق كلّهم يفارقونك في بعض أوقاتك ، انتهى من «بداية الهداية».

وقوله : (بَلاغٌ) يحتمل معاني :

أحدها : أن يكون خبر مبتدإ محذوف ، أي : هذا إنذار وتبليغ.

ويحتمل أن يريد : كأن لم يلبثوا إلّا ساعة كانت بلاغهم ، وهذا كما تقول : متاع قليل ، وقيل غير هذا ، وقرأ أبو مجلز وغيره (٢) : (بَلاغٌ) على الأمر ، وقرأ الحسن بن أبي

__________________

(١) ينظر : «إتحاف السادة المتقين» للزبيدي (٦٣)

(٢) وقرأ بها أبو سراج الهذلي.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٤٠) ، و «المحتسب» (٢ / ٢٦٨) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ١٠٨) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٦٨) ، و «الدر المصون» (٦ / ١٤٥)

٢٢٦

الحسن : (بَلاغٌ) بالخفض نعتا ل (نَهارٍ) (١).

وقوله سبحانه : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) وقرىء شاذا (٢) : (فَهَلْ يُهْلَكُ) ببناء الفعل للفاعل ، وفي هذه الآية وعيد محض ، وإنذار بيّن ؛ وذلك أنّ الله عزوجل جعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها ، وغفر الصغائر باجتناب الكبائر ، ووعد الغفران على التوبة ، فلن يهلك على الله إلّا هالك ؛ كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال الثعلبيّ : يقال : إن قوله تعالى : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أرجى آية في كتاب الله / عزوجل للمؤمنين.

__________________

(١) وقرأ بها عيسى.

ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٠٨) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٦٨) ، و «الدر المصون» (٦ / ١٤٥)

(٢) قرأ بها ابن محيصن ، وروي عنه كسر اللام. قال أبو الفتح : وأما «يهلك» بفتح الياء واللام جميعا فشاذة ، ومرغوب عنها ، لأن الماضي هلك ، فعل مفتوحة العين ، ولا يأتي يفعل ، بفتح العين فيهما جميعا إلا الشاذ.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٢٦٨) ، و «مختصر الشواذ» ص : (١٤١) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ١٠٨) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٦٨) ، و «الدر المصون» (٦ / ١٤٥)

٢٢٧

تفسير سورة محمّد

وهي مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ)(٣)

قوله عزوجل : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا) : إشارة إلى أهل مكّة الذين أخرجوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) الآية : إشارة إلى الأنصار الذين آووا ، ونصروا ، وفي الطائفتين نزلت الآيتان ؛ قاله ابن عبّاس ومجاهد (١) ، ثم هي بعد تعمّ كلّ من دخل تحت ألفاظها.

وقوله : (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي : أتلفها ، ولم يجعل لها نفعا.

* ت* : وقد ذكرنا في سورة «الصف» أنّ اسم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتسمّ به أحد قبله إلّا قوم قليلون ، رجاء أن تكون النبوّة في أبنائهم ، والله أعلم حيث يجعل رسالته ، قال ابن القطّان : وعن خليفة والد أبي سويد قال : سألت محمّد بن عديّ بن أبي ربيعة : كيف سمّاك أبوك محمّدا؟ قال : سألت أبي عمّا سألتني عنه ، فقال لي : كنت رابع أربعة من بني غنم أنا فيهم ، وسفيان بن مجاشع بن جرير ، وأمامة بن هند بن خندف. ويزيد بن ربيعة ، فخرجنا في سفرة نريد ابن جفنة ملك غسّان ، فلما شارفنا الشام ، نزلنا على غدير فيه شجرات ، وقربه شخص نائم ، فتحدّثنا فاستمع كلامنا ، فأشرف علينا ، فقال : إنّ هذه لغة ، ما هي لغة هذه البلاد ، فقلنا : نحن قوم من مضر ، فقال : من أي المضريّين؟ قلنا : من خندف ، قال : إنّه يبعث فيكم خاتم النبيّين ، فسارعوا إليه ، وخذوا بحظّكم منه ترشدوا ، قلنا : ما اسمه؟ قال : محمّد ، فرجعنا ، فولد لكلّ واحد منّا ابن سمّاه محمّدا ، وذكره

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٣٠٤) برقم : (٣١٣٣٤) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٧٧) عن ابن عبّاس ، وابن عطية (٥ / ١٠٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩) ، وعزاه إلى الفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه.

٢٢٨

المدائنيّ ، / انتهى.

وقوله تعالى في المؤمنين : (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) قال قتادة : معناه : حالهم (١) ، وقال ابن عبّاس : شأنهم (٢).

وتحرير التفسير في اللفظة أنّها بمعنى الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان ، وهو القلب ، فإذا صلح ذلك منه ، فقد صلح حاله ، فكأنّ اللفظة مشيرة إلى صلاح عقيدتهم ، وغير ذلك من الحال تابع ، فقولك : خطر في بالي كذا ، وقولك : أصلح الله بالك : المراد بهما واحد ؛ ذكره المبرّد ، والبال : مصدر كالحال والشأن ، ولا يستعمل منه فعل ، وكذلك عرفه لا يثنّى ولا يجمع ، وقد جاء مجموعا شاذّا في قولهم : «بآلات».

و (الْباطِلَ) هنا : الشيطان ، وكلّ ما يأمر به ؛ قاله مجاهد (٣) ، و (الْحَقَ) هنا : الشرع ومحمّد* ع*.

وقوله : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ) : الإشارة إلى الأتباع المذكورين من الفريقين.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ)(٩)

وقوله سبحانه : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ...) الآية : قال أكثر العلماء : إنّ هذه الآية وآية السّيف ، وهي قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] محكمتان ، فقوله هنا : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) بمثابة قوله هنالك : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، وصرّح هنا بذكر المنّ والفداء ، ولم يصرّح به هنالك ، فهذه مبيّنة لتلك ، وهذا هو القول القويّ ، وقوله : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) مصدر بمعنى

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٣٠٥) برقم : (٣١٣٣٧ ـ ٣١٣٣٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٠٩) ، وابن كثير (٤ / ١٧٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٣٠٤) برقم : (٣١٣٣٥) بمعناه ، (٣١٣٣٦) عن مجاهد ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٠٩) ، وابن كثير (٤ / ١٧٢)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٣٠٥) برقم : (٣١٣٤٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١١٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

٢٢٩

الفعل ، أي : فاضربوا رقابهم وعيّن من أنواع القتل أشهره ، والمراد : اقتلوهم بأيّ وجه أمكن ؛ وفي «صحيح مسلم» عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا» (١). وفي «صحيح البخاري» عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما اغبرّت / قدما عبد في سبيل الله ؛ فتمسّه النار» (٢) انتهى.

والإثخان في القوم أن يكثر فيهم القتلى والجرحى ، ومعنى : (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي : بمن لم يقتل ، ولم يترتّب فيه إلّا الأسر ، ومنّا وفداء : مصدران منصوبان بفعلين مضمرين.

وقوله : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) معناه : حتى تذهب الحرب وتزول أثقالها ، والأوزار : الأثقال ؛ ومنه قول عمرو بن معد يكرب : [من المتقارب]

وأعددت للحرب أوزارها

رماحا طوالا وخيلا ذكورا (٣)

واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تضع الحرب أوزارها ، فقال قتادة : حتى يسلّم الجميع (٤) ، وقال حذّاق أهل النظر : حتى تغلبوهم وتقتلوهم ، وقال مجاهد : حتى ينزل عيسى ابن مريم (٥) ، قال* ع (٦) * : وظاهر اللفظ أنّه استعارة يراد بها التزام الأمر أبدا ؛ وذلك أنّ الحرب بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها ، فجاء هذا كما تقول : أنا أفعل كذا وكذا إلى يوم القيامة ، وإنّما تريد أنّك تفعله دائما.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٠٥) كتاب «الإمارة» باب : من قتل كافرا ثم سدد ، حديث (١٣٠ / ١٨٩١) ، وأحمد (٢ / ٣٩٧) ، والبيهقي (٩ / ١٦٥) من حديث أبي هريرة.

(٢) أخرجه البخاري (٦ / ٣٥) كتاب «الجهاد والسير» باب : من اغبرت قدماه في سبيل الله ، وقول الله عزوجل : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ) ـ إلى قوله ـ (إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [التوبة : ١٢٠] (٢٨١١) ، والبيهقي (٩ / ١٦٢) كتاب «السير» باب : فضل المشي في سبيل الله.

(٣) البيت للأعشى ميمون بن قيس ، وهو في «ديوانه» (٧١) ، «مشاهد الإنصاف» (١ / ٢٥١) ، «التهذيب» (١٣ / ٢٤٤) (وزر) ، «اللسان» (وزر) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٧٥) منسوبا لعمرو بن معدي كرب ، وقال : أنشده ابن عطية لعمرو هذا ، وأنشده الزمخشري للأعشى. ينظر : «الكشاف» (٤ / ٣١٧) ، و «الدر المصون» (٦ / ١٤٧)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٣٠٨) برقم : (٣١٣٥٤ ـ ٣١٣٥٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١١١) ، وذكره ابن كثير (٤ / ١٧٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢١) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٣٠٨) برقم : (٣١٣٥٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١١١) ، وابن كثير (٤ / ١٨٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢١) ، وعزاه إلى الفريابي ، وعبد بن حميد.

(٦) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١١١)

٢٣٠

(وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) أي : بعذاب من عنده ، ولكن أراد سبحانه اختبار المؤمنين ، وأن يبلو بعض الناس ببعض ، وقرأ الجمهور : قاتلوا وقرأ عاصم بخلاف عنه : قتلوا ـ بفتح القاف والتاء ـ ، وقرأ أبو عمرو وحفص : (قُتِلُوا) ـ بضم القاف وكسر التاء (١) ـ ، قال قتادة : نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم أحد من المؤمنين (٢).

وقوله سبحانه : (سَيَهْدِيهِمْ) أي : إلى طريق الجنّة.

* ت* : ذكر الشيخ أبو نعيم الحافظ أنّ ميسرة الخادم قال : غزونا في بعض الغزوات ، فإذا فتى إلى جانبي ، وإذا هو مقنّع بالحديد ، فحمل على / الميمنة ، فثناها ، ثمّ على الميسرة حتى ثناها ، وحمل على القلب حتى ثناه ، ثم أنشأ يقول : [الرجز]

أحسن بمولاك سعيد ظنّا

هذا الّذي كنت له تمنّى

تنحّ يا حور الجنان عنّا

مالك قاتلنا ولا قتلنا

لكن إلى سيّدكنّ اشتقنا

قد علم السّرّ وما أعلنّا

قال : فحمل ، فقاتل ، فقتل منهم عددا ، ثم رجع إلى مصافّه ، فتكالب عليه العدوّ ، فإذا هو ـ رضي الله تعالى عنه ـ قد حمل على الناس ، وأنشأ يقول : [الرجز]

قد كنت أرجو ورجائي لم يخب

ألّا يضيع اليوم كدّي والطّلب

يا من ملا تلك القصور باللّعب

لولاك ما طابت ولا طاب الطّرب

ثم حمل ـ رضي الله عنه ـ فقاتل ، فقتل منهم عددا ، ثم رجع إلى مصافّه ، فتكالب عليه العدوّ فحمل ـ رضي الله عنه ـ في المرة الثالثة ، وأنشأ يقول : [الرجز]

يا لعبة الخلد قفي ثمّ اسمعي

مالك قاتلنا فكفّي وارجعي

ثمّ ارجعي إلى الجنان وأسرعي

لا تطمعي لا تطمعي لا تطمعي

فقاتل ـ رضي الله عنه ـ حتّى قتل ، ، انتهى من ابن عبّاد شارح «الحكم».

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٦٠٠) ، و «الحجة» (٦ / ١٩٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٢٣) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٨٥) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٧) ، و «العنوان» (١٧٦) ، و «حجة القراءات» (٦٦٦) ، و «شرح شعلة» (٥٨٥) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٧٥)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٣٠٩) برقم : (٣١٣٥٨ ـ ٣١٣٥٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١١١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم.

٢٣١

وقوله تعالى : (عَرَّفَها لَهُمْ) قال أبو سعيد الخدريّ ، وقتادة ، ومجاهد (١) : معناه : بيّنها لهم ، أي : جعلهم يعرفون منازلهم منها ، وفي نحو هذا المعنى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأحدكم بمنزله في الجنّة أعرف منه بمنزلة في الدّنيا» (٢) قال القرطبيّ في «التذكرة» : وعلى هذا القول أكثر المفسّرين قال : وقيل : إنّ هذا التعريف إلى المنازل هو بالدليل ، وهو الملك الموكّل بعمل العبد ، يمشي بين يديه ، ، انتهى ، وقالت فرقة : معناه : سمّاها لهم ، ورسمها كلّ منزل باسم صاحبه ، فهذا نحو من التعريف ، وقالت فرقة : معناه / شرّفها لهم ورفعها وعلّاها ، وهذا من الأعراف التي هي الجبال ، ومنه أعراف الخيل ، وقال مؤرّج وغيره : معناه : طيّبها ؛ مأخوذ من العرف ، ومنه طعام معرّف ، أي : مطيّب ، وعرّفت القدر : طيّبتها بالملح والتّابل ، قال أبو حيّان (٣) : «وأصلح بالهم» البال : الفكر ولا يثنّى ولا يجمع ، انتهى.

وقوله سبحانه : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) أي : دين الله (يَنْصُرْكُمْ) بخلق القوّة لكم وغير ذلك من المعاون ، (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي : في مواطن الحرب ، وقيل : على الصراط في القيامة.

وقوله : (فَتَعْساً لَهُمْ) معناه : عثارا وهلاكا لهم ، وهي لفظة تقال للعاثر ، إذا أريد به الشرّ ؛ قال ابن السّكّيت : التّعس : أن يخرّ على وجهه.

وقوله تعالى : (كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) يريد : القرآن (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) قال* ع (٤) * : ولا خلاف أنّ الكافر له حفظة يكتبون سيّئاته ، واختلف الناس في حسناتهم ، فقالت فرقة : هي ملغاة يثابون عليها بنعم الدنيا فقط ، وقالت فرقة : هي محصاة من أجل ثواب الدنيا ، ومن أجل أنّه قد يسلم فينضاف ذلك إلى حسناته في الإسلام ، وهذا أحد التأويلين في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحكيم بن حزام : «أسلمت على ما سلف لك من خير» (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٣٠٩ ـ ٣١٠) برقم : (٣١٣٦٠ ، ٣١٣٦٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١١١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٣) ، وعزاه إلى عبد بن حميد عن مجاهد ، وقتادة.

(٢) أخرجه البخاري (١١ / ٤٠٣) كتاب «الرقاق» باب : القصاص يوم القيامة ، وهي الحاقة ، لأن فيها الثواب ، وحواقّ الأمور ، برقم : (٦٥٣٥)

(٣) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٧٠)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١١٢)

(٥) أخرجه البخاري (٤ / ٤٨٠) كتاب «البيوع» باب : شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه (٢٢٢٠) ، (٥ / ٢٠٠) كتاب «العتق» باب : عتق المشرك (٢٥٣٨) ، (٣ / ٣٥٤) كتاب «الزكاة» باب : من تصدق في الشرك ثم أسلم (١٤٣٦) ، (١٠ / ٤٣٨) كتاب «الأدب» باب : من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم ـ

٢٣٢

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ)(١٢)

وقوله عزوجل : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : توقيف لقريش ، وتوبيخ و (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يريد : ثمود وقوم شعيب وغيرهم ، والدمار : الإفساد ، وهدم البناء ، وإذهاب العمران ، والضمير في قوله : (أَمْثالُها) يصحّ أن يعود على العاقبة ، ويصحّ أن يعود على الفعلة التي يتضمّنها قوله : (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ).

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية ، المولى : الناصر الموالي ، قال قتادة : نزلت هذه / الآية يوم أحد (١) ، ومنها انتزع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّه على أبي سفيان حين قال : «قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم» (٢).

وقوله سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) أي : أكلا مجرّدا عن الفكر والنظر ، وهذا كما تقول : الجاهل يعيش كما تعيش البهيمة ، والمعنى : يعيش عديم الفهم والنظر في العواقب.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ)(١٥)

وقوله سبحانه : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) يعني : مكّة (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) معناه : وقت الهجرة ، ويقال : إنّ هذه الآية نزلت إثر خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكّة ،

__________________

ـ (٥٩٩٢) ، ومسلم (١ / ٣٨٧ ـ ٣٨٨) ـ الأبي ، كتاب «الإيمان» باب : بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده (١٩٤ / ١٢٣) ، وأحمد (٣ / ٤٠٢ ، ٤٣٤) ، والبيهقي (٩ / ١٢٣) كتاب «السير» باب : ترك أخذ المشركين بما أصابوا ، وابن حبان (٢ / ٣٧ ـ ٣٨) كتاب «البر والإحسان» باب : ما جاء في الطاعات وثوابها ، ذكر إطلاق اسم الخير على الأفعال الصالحة إذا كانت من غير المسلمين (٣٢٩) ، والحميدي (١ / ٢٥٣) (٥٥٤) ، والطبراني في «الكبير» (٣ / ٢١٠) (٣٠٧٦) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (١٠ / ٤٥٣ ـ ٤٥٤) ، كتاب «الجامع» باب : حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٩٦٨٥)

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ١١٣)

(٢) تقدم.

٢٣٣

وقيل غير هذا (١).

وقوله سبحانه : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ...) الآية ، توقيف وتقرير ، وهي معادلة بين هذين الفريقين ، واللفظ عامّ لأهل هاتين الصفتين غابر الدّهر ، و (عَلى بَيِّنَةٍ) أي : على يقين وطريق واضحة وعقيدة نيّرة بيّنة.

وقوله سبحانه : (مَثَلُ الْجَنَّةِ ...) الآية ، قال النضر بن شميل وغيره (مَثَلُ) معناه : صفة ؛ كأنّه قال : صفة الجنة : ما تسمعون فيها كذا وكذا.

وقوله : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) معناه : غير متغيّر ؛ قاله ابن عبّاس وقتادة (٢) ، وسواء أنتن أو لم ينتن.

وقوله في اللبن : (لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) : نفي لجميع وجوه الفساد فيه.

وقوله : (لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) جمعت طيب الطّعم وزوال الآفات من الصداع وغيره ، وتصفية العسل مذهبة لمومه وضرره.

* ت* : وروّينا في «كتاب التّرمذيّ» عن حكيم بن معاوية عن أبيه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ في الجنّة بحر الماء ، وبحر العسل ، وبحر اللّبن ، وبحر الخمر ، ثمّ تشقّق الأنهار بعد» (٣) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، انتهى.

وقوله : (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي : من هذه الأنواع / لكنها بعيدة الشبه ؛ تلك لا عيب فيها ولا تعب.

وقوله : (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) معناه : وتنعيم أعطته المغفرة وسبّبّته ، وإلّا فالمغفرة إنّما هي قبل دخول الجنّة.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٣١٣) برقم : (٣١٣٧٢) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٤) ، وعزاه إلى عبد بن حميد ، وأبي يعلى ، وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٣١٣ ـ ٣١٤) برقم : (٣١٣٧٣ ـ ٣١٣٤٧) بمثله ومعناه ، وذكره ابن عطية (٥ / ١١٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة بمعناه.

(٣) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٩٩) كتاب «صفة الجنة» باب : ما جاء في صفة أنها الجنة (٢٥٧١) ، وأحمد (٥ / ٥) ، والبيهقي في «البعث والنشور» (٢٦٤) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥) ، وعزاه إلى ابن المنذر ، وابن مردويه.

قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

٢٣٤

وقوله سبحانه : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ ...) الآية ، قبله محذوف ، تقديره : أسكّان هذه ، أو تقديره : أهؤلاء المتقون كمن هو خالد في النار.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ)(٢١)

وقوله سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ) يعني بذلك : المنافقين (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً) ؛ على جهة الاستخفاف ، ومنهم من يقوله جهالة ونسيانا ، و (آنِفاً) معناه : مبتدئا ، كأنّه قال : ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه ، والمفسّرون يقولون : (آنِفاً) معناه : الساعة الماضية ، وهذا تفسير بالمعنى.

* ت* : وقال الثعلبيّ : (آنِفاً) أي : الآن ، وأصله الابتداء ، قال أبو حيّان (١) : (آنِفاً) بالمدّ والقصر : اسم فاعل ، والمستعمل من فعله : ائتنفت ، ومعنى : (آنِفاً) مبتدئا ، فهو منصوب على الحال ، وأعربه الزّمخشريّ ظرفا ، أي : الساعة ، قال أبو حيّان (٢) : ولا أعلم أحدا من النحاة عدّة من الظّروف ، انتهى ، وقال العراقيّ : (آنِفاً) أي : الساعة.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) أي : زادهم الله هدى ، ويحتمل : زادهم استهزاء المنافقين هدى ، قال الثعلبيّ : وقيل : زادهم ما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدى ؛ قال* ع (٣) * : الفاعل في (وَآتاهُمْ) يتصرّف القول فيه بحسب التأويلات المذكورة ، وأقواها أنّ الفاعل الله تعالى ، (وَآتاهُمْ) معناه : أعطاهم ، أي : جعلهم متّقين.

وقوله تعالى : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) يريد : المنافقين ، والمعنى : فهل ينتظرون؟ و (بَغْتَةً) معناه / فجأة.

وقوله : (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي : فينبغي الاستعداد والخوف منها ، والذي جاء من

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٧٩)

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١١٥)

٢٣٥

أشراط الساعة : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنّه آخر الأنبياء ، وقال* ع* : «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» (١) والأحاديث كثيرة في هذا الباب.

وقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ ...) الآية : إضراب عن أمر هؤلاء المنافقين ، وذكر الأهمّ من الأمر ، والمعنى : دم على علمك ، وهذا هو القانون في كلّ من أمر بشيء هو متلبّس به ، وكلّ واحد من الأمّة داخل في هذا الخطاب ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما قال عبد : لا إله إلّا الله مخلصا ، إلّا فتحت له أبواب الجنّة ، حتّى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر» (٢) ، رواه الترمذي والنسائيّ ، وقال

__________________

(١) يروى هذا الحديث عن جمع من الصحابة ، منهم : أنس بن مالك ، وجابر بن عبد الله ، وأبو هريرة ، وسهل بن سعد.

فأما حديث أنس رضي الله عنه : أخرجه البخاري (١١ / ٣٥٥) كتاب «الرقائق» باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين» (٦٥٠٤) ، ومسلم (٤ / ٢٢٦٨) ، كتاب «الفتن وأشراط الساعة» باب : قرب الساعة (١٣٣ ـ ١٣٤ / ٢٩٥١) ، والترمذي (٤ / ٤٩٦) كتاب «الفتن» باب : ما جاء في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين ـ يعني السبابة والوسطى ـ» (٢٢١٤) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٦ / ٢٨١) ، وأحمد (٣ / ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٣٠ ، ١٣١ ، ١٩٣ ، ٢١٨ ، ٢٢٢ ، ٢٣٧ ، ٢٧٤) ، قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

أما طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه : أخرجه مسلم (٣ / ٤١٨) ـ النووي كتاب «الجمعة» باب : تخفيف الصلاة والخطبة (٤٣ / ٨٦٧) ، والنسائي (٣ / ١٨٨) كتاب «الخطبة» باب : كيف الخطبة (١٥٧٨) ، وابن ماجه (١ / ١٧) «المقدمة» باب : (٧) (٤٥) ، وابن حبان (١ / ١٨٦) المقدمة : باب : الاعتصام بالسنة (١٠) ، وأبو يعلى (٤ / ٨٥) (٣٤٦ / ٢١١١) ، وابن خزيمة (٣ / ١٤٣) كتاب «جماع أبواب الآذان والخطبة في الجمعة» باب : صفة خطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدؤه فيها بحمد الله والثناء عليه (١٧٨٥) ، والبيهقي (٣ / ٢٠٦) ، كتاب «الجمعة» باب : رفع الصوت في الخطبة (٩ / ٢١٣) ، كتاب «الجمعة» باب : كيف يستحب أن تكون الجمعة ، وأحمد (٣ / ٣١٠ ـ ٣١١).

وفي الباب من حديث أبي هريرة : أخرجه البخاري (١١ / ٣٥٥) ، كتاب «الرقاق» باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين» (٦٥٠٥) ، وابن ماجه (٢ / ١٣٤) ، كتاب «الفتن» باب : أشراط الساعة (٤٠٤٠) ، وابن حبان (١٥ / ١٣ ـ ١٤) ، كتاب «التاريخ» باب : إخباره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يكون في أمته من الفتن والحوادث (٦٦٤١).

أما من طريق سهل بن سعد الساعدي : أخرجه البخاري (١١ / ٣٥٥) كتاب «الرقاق» باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين» (٦٥٠٣) ، (٩ / ٣٤٨) ، كتاب «الطلاق» باب : اللعان (٥٣٠٢) ، وأحمد (٤ / ٣٣٠ ، ٣٣١ ، ٣٣٥ ، ٣٣٨ ، ٣٠٩)

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٥٧٥) ، كتاب «الدعوات» باب : دعاء أم سلمة (٣٥٩٠) ، والنسائي (٦ / ٢٠٨) ـ «الكبرى» ، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب : أفضل الذكر وأفضل الدعاء (١٠٦٦٩ / ٣) ، والمنذري في «الترغيب والترهيب» (٢ / ٣٩٢) (٢٢٥٥) كلهم قال : «... أبواب السماء ...» ، وليس أبواب الجنة. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١١ / ٣٩٤) (٦٢٧١) نحوه.

قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

٢٣٦

الترمذيّ واللفظ له : حديث حسن غريب ، انتهى من «السلاح».

وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) أي : لتستنّ أمّتك بسنّتك.

* ت* : هذا لفظ الثعلبيّ ، وهو حسن ، وقال عياض : قال مكّيّ : مخاطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هاهنا هي مخاطبة لأمّته ، انتهى.

قال* ع (١) * : وروى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من لم يكن عنده ما يتصدّق به ، فليستغفر للمؤمنين والمؤمنات» (٢) وبوّب البخاريّ ـ رحمه‌الله ـ العلم قبل القول والعمل ؛ لقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

وقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ...) الآية : وواجب على كلّ مؤمن أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات ؛ فإنّها صدقة ، وقال الطبريّ وغيره (٣) : (مُتَقَلَّبَكُمْ) : متصرّفكم في يقظتكم (وَمَثْواكُمْ) منامكم ، وقال ابن عبّاس : (مُتَقَلَّبَكُمْ) تصرّفكم في حياتكم الدنيا (وَمَثْواكُمْ) : إقامتكم في قبوركم ، وفي آخرتكم (٤).

وقوله عزوجل : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ...) الآية : هذا ابتداء وصف حال المؤمنين ؛ على جهة المدح لهم ، ووصف حال المنافقين ؛ على جهة الذّمّ ؛ وذلك أنّ المؤمنين كان حرصهم على الدين يبعثهم على تمنّي ظهور الإسلام وتمنّي قتال العدوّ ، وكانوا يأنسون بالوحي ، ويستوحشون / إذا أبطأ ، وكان المنافقون على العكس من ذلك.

وقوله : (مُحْكَمَةٌ) معناه : لا يقع فيها نسخ ، وأمّا الإحكام الذي هو الإتقان ، فالقرآن كلّه سواء فيه ، والمرض الذي في قلوب المنافقين هو فساد معتقدهم ، ونظر الخائف المولّه قريب من نظر المغشيّ عليه ، وخسّسهم هذا الوصف والتشبيه.

وقوله تعالى : (فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ) «أولى» : وزنها أفعل ، من وليك الشيء يليك ، والمشهور من استعمال أولى أنّك تقول : هذا أولى بك من هذا ، أي : أحقّ ، وقد تستعمل العرب «أولى لك» فقط على جهة الاختصار ، لما معها من القول على جهة الزّجر والتّوعّد ،

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١١٦)

(٢) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٢١٣) كتاب «التوبة» باب : الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات.

قال الهيثمي : رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه من لم أعرفهم.

(٣) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٣١٨)

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٨٣) برقم : (١٩) ، وابن عطية (٥ / ١١٦)

٢٣٧

فتقول : أولى لك يا فلان ، وهذه الآية من هذا الباب ؛ ومنه قوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) [القيامة : ٣٤] وقالت فرقة : (فَأَوْلى) رفع بالابتداء ، و (طاعَةٌ) خبره ، قال* ع (١) * : وهذا هو المشهور من استعمال «أولى» ، وقيل غير هذا ، قال أبو حيّان (٢) : قال صاحب «الصحاح» : أولى لك : تهديد ووعيد ، قال أبو حيّان (٣) : والأكثر على أنّه اسم مشتقّ من الولي ، وهو القرب ، وقال الجرجانيّ : هو مأخوذ من الويل ، فقلب ، فوزنه «أفلع» ، انتهى.

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) : ناقضوا وعصوا ، قال البخاريّ : قال مجاهد : (عَزَمَ الْأَمْرُ) جدّ الأمر (٤). انتهى.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(٢٤)

وقوله سبحانه : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) مخاطبة لهؤلاء الذين في قلوبهم مرض ، والمعنى : فهل عسى أن تفعلوا إن تولّيتم غير أن تفسدوا في الأرض ، وتقطّعوا أرحامكم ، ومعنى (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : إن أعرضتم عن الحقّ ، وقيل المعنى : إن توليتم أمور الناس من الولاية ؛ وعلى هذا قيل : إنّها نزلت في بني هاشم ، وبني أميّة ذكره الثعلبيّ.

* ت* : وهو عندي بعيد لقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) فتعيّن التأويل / الأوّل ، والله أعلم.

وفي البخاريّ عن جبير بن مطعم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل الجنّة قاطع» (٥)

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١١٧)

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٨١)

(٣) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٨١)

(٤) أخرجه البخاري (٨ / ٤٤٢) كتاب «التفسير» باب : سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معلقا بصيغة الجزم ، ووصله الفريابي من طريق ابن أبي نجيح عنه.

(٥) أخرجه البخاري (١٠ / ٤٢٨) كتاب «الأدب» باب : إثم القاطع (٥٩٨٤) ، ومسلم (٤ / ١٩٨١) ، كتاب «البر والصلة والآداب» باب : صلة الرحم وتحريم قطيعتها (١٨ ـ ١٩ / ٢٥٥٦) ، وأبو داود (١ / ٥٣٠) ، كتاب «الزكاة» باب : في صلة الرحم (١٦٩٦) ، والترمذي (٤ / ٣١٦) ، كتاب «البر والصلة» باب : ما جاء في صلة الرحم (١٩٠٩) ، والبيهقي (٧ / ٢٧) ، كتاب «الصدقات» باب : الرجل يقسم صدقته على قرابته وجيرانه ، إذا كانوا من أهل السهمان ، كما جاء في صلة الرحم وحق الجار ، وأحمد (٤ / ٨٠ ، ٨٣ ، ٨٤) ، وابن حبان (٢ / ١٩٩) ، كتاب «البر والإحسان» باب : صلة الرحم وقطعها ، ذكر نفي دخول الجنة عن قاطع رحمه (٤٥٤) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (١١ / ١٦٩ ـ ١٧٠) ، كتاب «الجامع» باب : صلة ـ

٢٣٨

يعني : قاطع رحم ، وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سرّه أن يبسط له في رزقه ، وأن ينسأ له في أثره ـ فليصل رحمه» (١). ا ه ، وفي «صحيح مسلم» عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرّحم معلّقة بالعرش تقول : من وصلني وصله الله ، ومن قطعني قطعه الله» (٢) وفي رواية : «لا يدخل الجنّة قاطع» (٣) وفي طريق : «من سرّه أن يبسط عليه رزقه ، وينسأ له في أثره ، فليصل رحمه» (٤) وخرّجه البخاريّ من طريق أبي هريرة (٥) ؛ على ما تقدّم ، وخرّج البخاريّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله خلق الخلق ، حتّى إذا فرغ من خلقه ، قالت الرحم : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، قال : نعم ، أما ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى يا ربّ ، قال : فهو لك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فاقرؤوا إن شئتم : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (٦) ، وفي رواية : قال الله «من وصلك وصلته ، ومن قطعك قطعته» (٧) انتهى.

وروى أبو داود في «سننه» عن عبد الرحمن بن عوف قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قال الله عزوجل : أنا الرحمن ، وهي الرحم شققت لها من اسمي ، من وصلها وصلته ، ومن قطعها بتّته» (٨). انتهى.

__________________

ـ الرحم (٢٠٢٢٩) ، والطبراني (٢ / ١١٨ ، ١٢٠) (١٥٠٩ ، ١٥١٩) ، والحميدي (١ / ٢٥٤) (٥٥٧) ، والبخاري في «الأدب المفرد» (٢٧) باب : إثم قاطع الرحم (٦٤) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٧ / ٣٠٨)

(١) روى هذا الحديث أنس بن مالك ، وأبو هريرة رضي الله عنهما.

فأما حديث أنس : أخرجه البخاري (٤ / ٣٥٣) كتاب «البيوع» باب : من أحب البسط في الرزق (٢٠٦٧) ، ومسلم (٤ / ١٩٨٢) كتاب «البر والصلة والآداب» باب : صلة الرحم وتحريم قطيعتها (٢٠ ـ ٢١ / ٢٥٥٧) ، وأبو داود (١ / ٥٢٩) كتاب «الزكاة» باب : في صلة الرحم (١٦٩٣) ، والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٤٣٨) ، كتاب «التفسير» باب : سورة فاطر (١١٤٢٩ / ١).

وأما من طريق أبي هريرة رضي الله عنه : أخرجه البخاري (١٠ / ٤٢٩) ، كتاب «الأدب» باب : من بسط له في الرزق بصلة الرحم (٥٩٨٥)

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ١٩٨١) ، كتاب «البر والصلة والآداب» باب : صلة الرحم وتحريم قطيعتها (١٧ / ٢٥٥٥) عن عائشة.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

(٦) أخرجه البخاري (١٠ / ٤٣٠) ، كتاب «الأدب» باب : من وصل وصله الله ، برقم : (٥٩٨٧)

(٧) أخرجه البخاري (١٠ / ٤٣٠) ، كتاب «الأدب» باب : من وصل وصله الله ، (٥٩٩٨)

(٨) أخرجه أبو داود (١ / ٥٣٠) ، كتاب «الزكاة» باب : في صلة الرحم (١٦٩٥) ، والترمذي (٤ / ٣١٥) ، كتاب «البر والصلة» باب : ما جاء في قطيعة الرحم (١٩٠٧) ، والبيهقي (٧ / ٢٦) ، كتاب «الصدقات» باب : الرجل يقسم صدقته على قرابته وجيرانه إذا كانوا من أهل السهمين لما جاء في صلة الرحم وحق الجار.

٢٣٩

وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) إشارة إلى المرضى القلوب المذكورين.

وقوله : (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) : استعارة لعدم فهمهم.

وقوله عزّ من قائل : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ / الْقُرْآنَ ...) الآية : توقيف وتوبيخ ، وتدبّر القرآن زعيم بالتبيين والهدى لمتأمّله.

* ت* : قال الهرويّ : قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) معناه : أفلا يتفكّرون فيعتبرون ؛ يقال : تدبّرت الأمر : إذا نظرت في أدباره وعواقبه ، انتهى.

وقوله تعالى : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) معناه : بل على قلوب أقفالها ، وهو الرين الذي منعهم من الإيمان ، وروي أنّ وفد اليمن وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيهم شابّ ، فقرأ النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، فقال الفتى : عليها أقفالها حتّى يفتحها الله تعالى ويفرّجها ، قال عمر : فعظم في عيني ، فما زالت في نفس عمر ـ رضي الله عنه ـ حتّى ولي الخلافة فاستعان بذلك الفتى.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ)(٢٩)

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ ...) الآية : قال قتادة : نزلت في قوم من اليهود (١) ، وقال ابن عبّاس وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ، ثم نافقت قلوبهم (٢) ، والآية تعمّ كلّ من دخل في ضمن لفظها غابر الدّهر ، و (سَوَّلَ) معناه : رجّاهم سؤلهم وأمانيهم ، ونقل أبو الفتح عن بعضهم ؛ أنّه بمعنى دلّاهم مأخوذ من السّول ، وهو الاسترخاء والتّدلّي ، وقال العراقيّ (سَوَّلَ) أي : زيّن سوء الفعل.

__________________

قال الترمذي : هذا حديث صحيح.

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٨٤) ، وابن عطية في «تفسيره» (٥ / ١١٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٣) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٣٢٢) برقم : (٣١٤١٢) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٨٤) ، وابن عطية (٥ / ١١٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٣)

٢٤٠