تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

سقف ، والمعارج : الأدراج التي يطلع عليها ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (١) ، و (يَظْهَرُونَ) معناه : يعلون ؛ ومنه حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ والشمس في حجرتها لم تظهر / بعد ، والسّرر : جمع سرير ، والزّخرف : قال ابن عبّاس ، والحسن ، وقتادة والسّدّيّ : هو الذهب (٢) ، وقالت فرقة : الزّخرف : التزاويق والنقش ونحوه ؛ وشاهده : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) [يونس : ٢٤] وقرأ الجمهور : (وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا) ـ بتخفيف الميم ـ من «لما» ؛ ف «إن» مخفّفة من الثقيلة ، واللام في «لما» داخلة ؛ لتفصل بين النفي والإيجاب ، وقرأ عاصم ، وحمزة ، وهشام بخلاف عنه ـ بتشديد الميم ـ من «لمّا» (٣) ؛ ف «إن» نافية بمعنى [«ما» ، و «لمّا» بمعنى] (٤) «إلّا» ، أي : وما كلّ ذلك إلّا متاع الحياة الدنيا ، وفي قوله سبحانه : (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) وعد كريم ، وتحريض على لزوم التقوى ، إذ في

__________________

ـ وفي الباب من حديث ابن عبّاس نحوه : أخرجه ابن حبان (٨ / ٢٠٩) ـ الموارد (٢٥٢٦) ، وابن حبان (١٤ / ٢٦٥) كتاب «التاريخ» باب : صفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخباره ، ذكر ما مثل المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه والدنيا بمثل ما مثل به (٦٣٥٢) ، وأحمد (١ / ٣٠١) ، والحاكم (٤ / ٣٠٩ ، ٣١٠) والطبراني (١١ / ٣٢٧) (١١٨٩٨) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٣١٢) (٧ / ١٠٤).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ا ه.

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٣٢٩) : ورجال أحمد رجال الصحيح غير هلال بن خباب ، وهو ثقة. ا ه.

وفي الباب من حديث ابن عمر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى فاطمة رضي الله عنها فوجد على بابها سترا ... إلى أن قال : «وما أنا والدنيا وما أنا والرقم ...» الحديث. أخرجه البخاري (٥ / ٢٧٠) كتاب «الهبة» باب : هدية ما يكره لبسها (٢٦١٣) ، وأبو داود (٢ / ٤٧٠) كتاب «اللباس» باب : في اتخاذ الستور (٤١٤٩) ، وأحمد (٢ / ٢١) ، وابن حبان في «صحيحه» (١٤ / ٢٦٧) كتاب «التاريخ» باب : صفته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخباره ، وذكر ما مثل به المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه والدنيا بمثل ما مثل به. (٦٣٥٣) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٣١٢) (١٠٤١٦)

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١٨٦) برقم : (٣٠٨٥٠ ، ٣٠٨٥٤) عن ابن عبّاس ، و (٣٠٨٥١) عن قتادة ، و (٣٠٨٥٢) عن السدي ، و (٣٠٨٥٣) عن قتادة ، و (٣٠٨٥٥) عن ابن زيد ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٤) ، وابن كثير (٤ / ١٢٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٢٢) ، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ١٨٦ ـ ١٨٧) برقم : (٣٠٨٥٨ ، ٣٠٨٦٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٤) ، وابن كثير (٤ / ١٢٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٢٢) ، وعزاه إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة.

(٣) ينظر : «السبعة» (٥٨٦) ، و «الحجة» (٦ / ١٤٩) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٩٧) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٦٤) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢٢٠) ، و «العنوان» (١٧١) ، و «حجة القراءات» (٦٤٩) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٥٦)

(٤) سقط في : د.

١٨١

الآخرة هو التباين الحقيقيّ في المنازل ؛ قال الفخر (١) : بيّن تعالى أنّ كلّ ذلك متاع الحياة الدنيا ، وأمّا الآخرة فهي باقية دائمة ، وهي عند الله وفي حكمه للمتّقين المعرضين عن حبّ الدنيا ، المقبلين على حبّ المولى ، انتهى.

(وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ)(٤٢)

وقوله عزوجل : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ) الآية ، وعشا يعشو معناه : قلّ الإبصار منه ، ويقال أيضا : عشي الرجل يعشى : إذا فسد بصره ، فلم ير ، أو لم ير إلّا قليلا ، فالمعنى في الآية : ومن يقلّ بصره في شرع الله ، ويغمض جفونه عن النظر في ذكر الرحمن ، أي : فيما ذكّر به عباده ، أي : فيما أنزله من كتابه ، وأوحاه إلى نبيّه.

وقوله : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) أي : نيسّر له ، ونعدّ ، وهذا هو العقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح ، وهذا كما يقال : إنّ الله تعالى يعاقب على المعصية بالتزيّد في المعاصي ، ويجازي على الحسنة بالتزيّد من الحسنات ، وقد روي هذا المعنى مرفوعا. قال ـ ص ـ : (وَمَنْ يَعْشُ) الجمهور بضم الشين (٢) ، أي : يتعام ويتجاهل ، ف (مَنْ) شرطية ، و (يَعْشُ) مجزوم بها ، و (نُقَيِّضْ) جواب (مَنْ) ، انتهى ، والضمير في قوله : (وَإِنَّهُمْ) عائد على الشياطين ، وفيما بعده عائد على الكفّار ، وقرأ نافع وغيره (٣) : «حتّى إذا جاءانا» ؛ على التثنية ، يريد : العاشي والقرين ؛ قاله قتادة وغيره (٤) ، وقرأ أبو عمرو وغيره : «جاءنا» يريد العاشي وحده (٥) ، وفاعل (قالَ) هو العاشي ، قال الفخر (٦) : وروي أنّ الكافر

__________________

(١) ينظر : «الرازي» (٢٧ / ١٨٢)

(٢) ينظر : «الدر المصون» (٦ / ٩٨)

(٣) وقرأ بها ابن كثير وابن عامر ، وأبو بكر.

ينظر : «السبعة» (٥٨٦) ، و «الحجة» (٦ / ١٥٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٩٧) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٦٥) ، و «شرح الطيبة» (٢ / ٢٢٢) ، و «العنوان» (١٧١) ، و «حجة القراءات» (٦٥٠) ، و «شرح شعلة» (٥٧٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٥٦)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ١٨٩) برقم : (٣٠٨٦٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٥)

(٥) ينظر : مصادر القراءة السابقة.

(٦) ينظر : «تفسير الفخر الرازي» (٢٧ / ١٨٣)

١٨٢

إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطان بيده ، فلم يفارقه حتّى يصيّرهما الله إلى النار ، فذلك حيث يقول : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) انتهى.

وقوله : (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) يحتمل معاني :

أحدها : أن يريد بعد المشرق من المغرب ، فسمّاهما مشرقين ؛ كما يقال القمران ، والعمران.

والثاني : أن يريد مشرق الشمس في أطول يوم ، ومشرقها في أقصر يوم.

والثالث : أن يريد بعد المشرقين من المغربين ، فاكتفى بذكر المشرقين.

قلت : واستبعد الفخر التأويل الثاني قال : لأنّ المقصود من قوله : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) المبالغة في حصول البعد ، وهذه المبالغة إنّما تحصل عند ذكر بعد لا يمكن وجود بعد أزيد منه ، والبعد بين مشرق الشتاء ومشرق الصيف ليس كذلك ، فيبعد حمل اللّفظ عليه ؛ قال : والأكثرون على التأويل الأوّل ، انتهى.

وقوله تعالى : (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ ...) الآية ، حكاية عن مقالة تقال لهم يوم القيامة ، وهي مقالة موحشة فيها زيادة تعذيب لهم ويأس من كلّ خير ، وفاعل (يَنْفَعَكُمُ) الاشتراك ، ويجوز أن يكون فاعل (يَنْفَعَكُمُ) التّبرّي الذي يدل عليه قوله : (يا لَيْتَ).

وقوله سبحانه : (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ...) الآية ، خطاب للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وباقي الآية / تكرّر معناه غير ما مرّة.

(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ)(٤٥)

وقوله تعالى : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) أي : بما جاءك من عند الله من الوحي المتلوّ وغيره.

وقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ) يحتمل أن يريد : وإنّه لشرف في الدنيا لك ولقومك يعني : قريشا ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (١) ، ويحتمل أن يريد : وإنّه لتذكرة وموعظة ، ف «القوم» على هذا أمّته بأجمعها ، وهذا قول الحسن بن أبي الحسن (٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١٩١) برقم : (٣٠٨٧٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٧) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٥٧)

١٨٣

وقوله : (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) قال ابن عبّاس وغيره : معناه : عن أوامر القرآن ونواهيه (١) ، وقال الحسن : معناه : عن شكر النعمة فيه (٢) ، واللفظ يحتمل هذا كلّه ويعمّه.

وقوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ...) الآية ، قال ابن زيد ، والزّهريّ : أما إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يسأل الرسل ليلة الإسراء عن هذا ؛ لأنّه كان أثبت يقينا من ذلك ، ولم يكن في شكّ ، وقال ابن عبّاس وغيره : أراد : واسأل أتباع من أرسلنا وحملة شرائعهم (٣) ، وفي قراءة ابن مسعود وأبيّ : «وسئل الّذين أرسلنا إليهم» (٤).

* ت* : قال عياض : قوله تعالى : «وسئل من أرسلنا من قبلك ...» الآية : الخطاب مواجهة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد المشركون ؛ قاله القتبيّ ، ثم قال عياض : والمراد بهذا ، الإعلام بأنّ الله عزوجل لم يأذن في عبادة غيره لأحد ؛ ردّا على مشركي العرب وغيرهم في قولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] انتهى.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ)(٥١)

وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ...) الآية ، ضرب مثل وأسوة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بموسى* ع* ولكفّار قريش بقوم فرعون.

وقوله : (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) أي : كالطوفان والجراد والقمّل والضفادع ، / وغير ذلك (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي : يتوبون ويرجعون عن كفرهم ، وقالوا لما عاينوا العذاب لموسى : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) [أي] : العالم ، وإنّما قالوا هذا على جهة التعظيم والتوقير ؛ لأنّ علم السحر عندهم كان علما عظيما ، وقيل : إنّما قالوا ذلك على جهة الاستهزاء ، والأوّل أرجح ، وقولهم : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي : إن نفعتنا دعوتك.

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ١٩٢) برقم : (٣٠٨٨٧) عن ابن زيد نحوه ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٧)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٧)

١٨٤

وقوله : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ...) الآية : مصر من بحر الإسكندريّة إلى أسوان بطول النيل ، والأنهار التي أشار إليها هي الخلجان الكبار الخارجة من النيل.

(أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ)(٥٦)

وقوله : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ) قال سيبويه : «أم» هذه المعادلة ، والمعنى : أفأنتم لا تبصرون؟ أم تبصرون ، وقالت فرقة : «أم» بمعنى «بل» ، وقرأ بعض الناس (١) : «أما أنا خير» حكاه الفرّاء ، وفي مصحف أبيّ بن كعب (٢) : «أم أنا خير أم هذا» و (مَهِينٌ) معناه : ضعيف ، (وَلا يَكادُ يُبِينُ) إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة ، وكانت أحدثت في لسانه عقدة ، فلمّا دعا في أن تحلّ ليفقه قوله ، أجيبت دعوته ، لكنّه بقي أثر كان البيان يقع معه ، فعيّره فرعون به.

وقوله : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) يقتضى أنّه كان يبين.

وقوله : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ) : يريد من السماء ، على معنى التكرمة ، وقرأ الجمهور : «أساورة» وقرأ حفص عن عاصم : «أسورة» (٣) وهو ما يجعل في الذّراع من الحلي ، وكانت عادة الرجال يومئذ لبس ذلك والتّزيّن به.

* ت* : وذكر بعض المفسرين عن مجاهد أنّهم كانوا إذا سوّدوا رجلا سوّروه بسوار ، وطوّقوه بطوق من ذهب ؛ علامة لسيادته ، فقال فرعون : هلا / ألقى ربّ موسى على موسى أساورة من ذهب ، أو جاء معه الملائكة مقترنين متتابعين ، يقارن بعضهم بعضا ، يمشون معه شاهدين له ، انتهى ، وقال* ع (٤) * : قوله : (مُقْتَرِنِينَ) : أي : يحمونه ، ويشهدون له ، ويقيمون حجّته.

* ت* : وما تقدّم لغيره أحسن ، ولا يشكّ أن فرعون شاهد من حماية الله لموسى

__________________

(١) ينظر : «الكشاف» (٤ / ٢٥٨) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٩) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٣)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٩)

(٣) ينظر : «الحجة» (٦ / ١٥١) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٠٠) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٦٦) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢٢٢) ، و «العنوان» (١٧١) ، و «حجة القراءات» (٦٥١) ، و «شرح شعلة» (٥٧٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٥٧)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٦٠)

١٨٥

أمورا لم يبق معه شكّ في أنّ الله قد منعه منه.

وقوله سبحانه : (آسَفُونا) معناه : أغضبونا بلا خلاف.

وقوله : (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً) «السلف» : الفارط المتقدّم ، أي : جعلناهم متقدّمين في الهلاك ؛ ليتّعظ بهم من بعدهم إلى يوم القيامة ، وقال البخاريّ : قال قتادة : (مَثَلاً لِلْآخِرِينَ) عظة (١) ، انتهى.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ)(٥٩)

وقوله سبحانه : (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً ...) الآية ، روي عن ابن عبّاس وغيره في تفسيرها ؛ أنّه لما نزلت : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [آل عمران : ٥٩] الآية ، وكون عيسى من غير فحل ـ قالت قريش : ما يريد محمّد من ذكر عيسى إلّا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى ، فهذا كان صدودهم (٢).

وقوله تعالى : (وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ ...) هذا ابتداء معنى ثان ، وذلك أنّه لما نزل : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] الآية ، قال [ابن] الزّبعرى ونظراؤه : يا محمّد ، أآلهتنا خير أم عيسى؟ فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى ؛ إذ هو خير منها ، وإذ قد عبد ، فهو من الحصب إذن ، فقال الله تعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) ومغالطة ، ونسوا أنّ عيسى لم يعبد برضا منه ، وقالت فرقة : المراد ب (هُوَ) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قول قتادة (٣) ، وفي مصحف [أبيّ] : «خير أم هذا» (٤) فالإشارة إلى / نبيّنا محمّد* ع* ، وقال ابن زيد وغيره : المراد ب (هُوَ) عيسى (٥) ، وهذا هو الراجح ، ثم أخبر تعالى عنهم أنّهم أهل خصام ولدد ، وأخبر عن عيسى بقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) أي : بالنبوّة والمنزلة العالية.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٤٢٨) كتاب «التفسير» باب : سورة الزخرف ، معلقا ، ووصله الفريابي عن مجاهد ، وزاد لمن بعدهم ، والحديث : أخرجه الطبري (١١ / ٢٠٠) برقم : (٣٠٩١٧) عن قتادة.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٢٠٠) برقم : (٣٠٩١٧ ـ ٣٠٩١٨ ـ ٣٠٩١٩) عن مجاهد وقتادة ، وذكره ابن عطية (٥ / ٦٠)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٦١)

(٤) تقدمت.

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٢٠٢) برقم : (٣٠٩٣٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٦١)

١٨٦

* ت* : وروّينا في «جامع الترمذيّ» عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلّا أوتوا الجدل ، ثم تلا هذه الآية : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)» (١) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، انتهى.

وقوله : (وَجَعَلْناهُ مَثَلاً) أي : عبرة وآية (لِبَنِي إِسْرائِيلَ) والمعنى : لا تستغربوا أن يخلق عيسى من غير فحل ؛ فإنّ القدرة تقتضي ذلك ، وأكثر منه.

(وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)(٦٢)

وقوله : (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ) معناه : لجعلنا بدلا منكم ، أي : لو شاء الله لجعل بدلا من بني آدم ملائكة يسكنون الأرض ، ويخلفون بني آدم فيها ، وقال ابن عبّاس ومجاهد : يخلف بعضهم بعضا (٢) ، والضمير في قوله : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ) قال ابن عبّاس وغيره : الإشارة به إلى عيسى (٣) ، وقالت فرقة : إلى محمّد ، وقال قتادة وغيره : إلى القرآن (٤).

* ت* : وكذا نقل أبو حيّان (٥) هذه الأقوال الثلاثة ، ولو قيل : إنّه ضمير الأمر والشأن ؛ استعظاما واستهوالا لأمر الآخرة ما بعد ، بل هو المتبادر إلى الذّهن ، يدلّ عليه : (فَلا تَمْتَرُنَّ بِها) ، والله أعلم ، وقرأ ابن عبّاس (٦) ، وجماعة : «لعلم» ـ بفتح العين

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٧٨ ـ ٣٧٩) كتاب «تفسير القرآن» باب : ومن سورة الزخرف (٣٢٥٣) ، وابن ماجه (١ / ١٩) المقدمة : باب : (٧) (٤٨) ، والحاكم في «المستدرك» (٢ / ١١٢) ، والطبراني في «الكبير» (٨ / ٣٣٣) (٨٠٦٧).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، إنما نعرفه من حديث حجاج بن دينار ، وحجاج ثقة مقارب الحديث ، وأبو غالب اسمه : حزوّر. ا ه.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ا ه.

قال الذهبي : صحيح.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٤٢٨) كتاب «التفسير» باب : سورة الزخرف ، معلقا وهو موصول عند عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ، والطبري (١١ / ٢٠٤) (٣٠٩٤٤) عن ابن عبّاس ، (٣٠٩٤٧) عن قتادة ، وابن عطية (٥ / ٦١)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٦١)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٢٠٥) برقم : (٣٠٩٦١) عن قتادة ، والحسن ، وذكره ابن عطية (٥ / ٦١)

(٥) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٢٦)

(٦) وقرأ بها أبو هريرة ، وقتادة ، والضحاك ، ومجاهد ، وأبو نضرة ، ومالك بن دينار.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٣٦) ، و «الكشاف» (٤ / ٢٦١) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٦١) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٦) ، و «الدر المصون» (٦ / ١٠٦)

١٨٧

واللام ـ أي : أمارة ، وقرأ عكرمة (١) : «للعلم» بلامين الأولى مفتوحة ، وقرأ أبيّ : «لذكر للسّاعة» (٢) فمن قال : إنّ الإشارة إلى عيسى حسن مع تأويله «علم» و «علم» ، أي : هو إشعار بالساعة ، وشرط / من أشراطها ، يعني : خروجه في آخر الزمان ، وكذلك من قال : الإشارة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : هو آخر الأنبياء ، وقد قال : «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» يعني السبابة والوسطى ، ومن قال : الإشارة إلى القرآن حسن قوله مع قراءة الجمهور ، أي : يعلمكم بها وبأهوالها.

وقوله : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : إشارة [إلى] الشرع.

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ)(٦٥)

وقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ) يعني : إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك ، وباقي الآية تكرّر معناه.

وقوله : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) حكاية عن عيسى* ع* ، إذ أشار إلى شرعه.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)(٦٧)

وقوله سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ) يعني : قريشا ، والمعنى : ينتظرون و (بَغْتَةً) معناه : فجأة ، ثم وصف سبحانه بعض حال القيامة ، فقال : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، وذلك لهول مطلعها والخوف المطيف بالناس فيها ؛ يتعادى ويتباغض كلّ خليل كان في الدنيا على غير تقى ؛ لأنّه يرى أنّ الضرر دخل عليه من قبل خليله ، وأمّا المتّقون فيرون أنّ النفع دخل من بعضهم على بعض ، هذا معنى كلام عليّ ـ رضي الله عنه ـ وخرّج البزّار عن ابن عبّاس قال : «قيل : يا رسول الله ، أيّ جلسائنا خير؟ قال : من ذكّركم بالله رؤيته ، وزادكم في علمكم منطقه ، وذكّركم بالله عمله» (٣) ا ه ، فمن مثل هؤلاء تصلح الأخوّة

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٦١) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٦) ، و «الدر المصون» (٦ / ١٠٦)

(٢) ينظر : «الكشاف» (٤ / ٢٦١) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٦١)

(٣) أخرجه أبو يعلى (٤ / ٣٢٦) (٢٤٣٧) من حديث ابن عبّاس ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٨١) ، وقال : رواه البزار عن شيخه علي بن حرب ولم أعرفه ، وبقية رجاله وثقوا.

وذكره الحافظ في «المطالب العالية» (٣٢٣٣) ، وعزاه إلى عبد بن حميد ، وأبي يعلى.

١٨٨

الحقيقية ، والله المستعان ، ومن كلام الشيخ أبي مدين ـ رضي الله عنه ـ : دليل تخليطك صحبتك للمخلّطين ، ودليل انقطاعك صحبتك للمنقطعين ، وقال ابن عطاء الله في «التنوير» : قلّ ما تصفو لك الطّاعات ، أو تسلم / من المخالفات ، مع الدخول في الأسباب ، لاستلزامها لمعاشرة الأضداد ؛ ومخالطة أهل الغفلة والبعاد ، وأكثر ما يعينك على الطاعات رؤية المطيعين ، وأكثر ما يدخلك في الذّنب رؤية المذنبين ، كما قال* ع* : «المرء على دين خليله ، فلينظر أحدكم من يخالل» (١) والنفس من شأنها التّشبّه والمحاكاة بصفات من قارنها ، فصحبة الغافلين معينة لها على وجود الغفلة ، انتهى ، وفي «الحكم الفارقيّة» : من ناسب شيئا انجذب إليه ؛ وظهر وصفه عليه ، وفي «سماع العتبيّة» قال مالك : لا تصحب فاجرا ؛ لئلا تتعلم من فجوره ، قال ابن رشد : لا ينبغي أن يصحب إلّا من يقتدى به في دينه وخيره ؛ لأنّ قرين السوء يردي ؛ قال الحكيم : [الطويل]

[إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم

ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي]

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكلّ قرين بالمقارن يقتدي

انتهى.

* ت* : وحديث : «المرء على دين خليله» أخرجه أبو داود ، وأبو بكر بن الخطيب وغيرهما ، وفي «الموطّإ» من حديث معاذ بن جبل ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : قال الله تبارك وتعالى : «وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ ، والمتجالسين فيّ ، والمتباذلين فيّ والمتزاورين فيّ» (٢) قال أبو عمر : إسناده صحيح عن أبي إدريس الخولانيّ عن معاذ ، وقد رواه جماعة عن معاذ ، ثم أسند أبو عمر من طريق أبي مسلم الخولاني ، عن معاذ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «المتحابّون في الله على منابر من نور في ظلّ العرش يوم لا ظلّ إلّا ظلّه» (٣) ، قال أبو مسلم : فخرجت فلقيت عبادة بن الصامت ، فذكرت له حديث

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٤ / ٥٨٩) كتاب «الزهد» باب : (٤٥) (٢٣٧٨) ، وأحمد (٢ / ٣٠٣) ، والحاكم (٤ / ١٧١).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

قال الحاكم : حديث أبي الحباب صحيح إن شاء الله تعالى ولم يخرجاه. ا ه.

قال الذهبي : صحيح إن شاء الله.

قال أبو نعيم في «الحلية» (٣ / ١٦٥) : غريب من حديث سعيد وصفوان تفرد به عنه فيما قيل محمّد بن إبراهيم الأسلمي.

(٢) أخرجه مالك (٢ / ٩٥٣ ـ ٩٥٤) كتاب «الشعر» باب : ما جاء في المتحابين في الله (١٦) ، وأحمد (٥ / ٢٤٧)

(٣) أخرجه الحاكم (٤ / ٤٢٠) ، وأحمد (٥ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

١٨٩

معاذ ، فقال : وأنا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكي عن ربّه : قال : «حقّت محبّتي على المتحابّين فيّ ، وحقّت محبّتي على المتزاورين فيّ ، وحقّت محبّتي على المتباذلين فيّ ، ، والمتحابّون في الله على منابر من نور في ظلّ العرش يوم لا ظلّ إلّا ظلّه» (١) انتهى من «التمهيد».

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ)(٧٣)

وقوله تعالى : (يا عِبادِ) المعنى : يقال لهم ، أي : للمتقين ، وذكر الطبريّ (٢) عن المعتمر عن أبيه أنه قال : سمعت أنّ الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلّا فزع ، فينادي مناد : يا عبادي ، لا خوف عليكم اليوم ، ولا أنتم تحزنون ، فيرجوها الناس كلّهم ، فيتبعها : (الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ) قال : فييئس منها جميع الكفّار.

وقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) نعت للعباد ، و (تُحْبَرُونَ) معناه : تنعمون وتسرّون ، و «الحبرة» : السرور ، و «الأكواب» : ضرب من الأواني ؛ كالأباريق ، إلّا أنها لا آذان لها ولا مقابض.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ)(٧٧)

وقوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ) يعني : الكفّار ، و «المبلس» : المبعد اليائس من الخير ؛ قاله قتادة وغيره (٣) ، وقولهم : (لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) أي : ليمتنا ربّك ؛ فنستريح ، فالقضاء في هذه الآية : الموت ؛ كما في قوله تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) [القصص : ١٥] ، وروي في تفسيره هذه الآية عن ابن عبّاس ؛ أنّ مالكا يقيم بعد سؤالهم ألف سنة ، ثم حينئذ

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٤ / ١٦٩) ، وأحمد (٥ / ٢٣٩) ، وابن حبان (٨ / ١٩١) (٢٥١٠) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٢ / ١٣١).

قال الحاكم : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ا ه. ووافقه الذهبي.

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٢٨٢) : رواه عبد الله بن أحمد ، والطبراني باختصار ، والبزار بعد حديث عبادة فقط ، ورجال عبد الله ، والطبراني وثقوا.

(٢) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٢٠٩)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٢١٢) برقم : (٣٠٩٨٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٦٤)

١٩٠

يقول لهم : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (١).

(لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)(٨٣)

وقوله سبحانه : (لَقَدْ جِئْناكُمْ) يحتمل أن يكون من تمام قول مالك لهم ، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى لقريش ، فيكون فيه تخويف فصيح بمعنى : انظروا كيف يكون حالكم؟!.

وقوله تعالى : (أَمْ / أَبْرَمُوا أَمْراً) أي : أحكموا أمرا في المكر بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) أي : محكمون أمرا في نصره ومجازاتهم ، والمراد ب «الرسل» هنا : الحفظة من الملائكة يكتبون أعمال العباد ، وتعدّ للجزاء يوم القيامة.

«واختلف في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) فقال مجاهد : المعنى إن كان لله ولد في قولكم ، فأنا أوّل من عبد الله ووحّده وكذّبكم (٢) ، وقال ابن زيد وغيره : «إن» : نافية بمعنى «ما» ؛ فكأنّه قال : قل ما كان للرحمن ولد (٣) ، وهنا هو الوقف على هذا التأويل ، ثم يبتدىء قوله : (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) قال أبو حاتم قالت فرقة : العابدون في الآية : من عبد الرجل : إذا أنف وأنكر ، والمعنى : إن كان للرحمن ولد في قولكم ، فأنا أوّل الآنفين المنكرين لذلك ، وقرأ أبو عبد الرحمن : «فأنا أوّل العبدين» قال أبو حاتم : العبد ـ بكسر الباء ـ : الشديد الغضب ، وقال أبو عبيدة : معناه : أول الجاحدين (٤) ، والعرب تقول : عبدني حقّي ، أي : جحدني ، وباقي الآية تنزيه لله سبحانه ، ووعيد للكافرين ، و (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) هو يوم القيامة ، هذا قول الجمهور ، وقال عكرمة وغيره : هو يوم بدر (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٢١٣) برقم : (٣٠٩٩١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٦٤)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٢١٥) برقم : (٣١٠٠٦) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥ / ٦٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ١٣٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٣٥) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وعبد بن حميد.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٢١٥) برقم : (٣١٠٠٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٦٥)

(٤) ذكره ابن عطية (٥ / ٦٦)

(٥) ذكره ابن عطية (٥ / ٦٦)

١٩١

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(٨٩)

وقوله جلّت عظمته : (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ ...) الآية ، آية تعظيم وإخبار بألوهيّته سبحانه ، أي : هو النافذ أمره في كلّ شيء ، وقرأ عمر بن الخطّاب ، وأبيّ ، وابن مسعود ، وغيرهم (١) : «وهو الّذي في السّماء الله وفي الأرض الله» وباقي الآية بيّن ، ثم [أعلم سبحانه] أنّ من عبد من دون الله لا يملك شفاعة يوم القيامة ، إلّا من شهد بالحق ، وهم الملائكة ، وعيسى / وعزير ؛ فإنّهم يملكون الشفاعة ؛ بأن يملّكها الله إيّاهم ؛ إذ هم ممّن شهد بالحقّ ، وهم يعلمونه ، فالاستثناء على هذا التأويل متّصل ، وهو تأويل قتادة (٢) ، وقال مجاهد وغيره : الاستثناء في المشفوع فيهم (٣) ، فكأنّه قال : لا يشفع هؤلاء الملائكة ، وعيسى ، وعزير إلّا فيمن شهد بالحق ، أي : بالتوحيد فآمن على علم وبصيرة ، فالاستثناء على هذا التأويل منفصل ، كأنّه قال : لكن من شهد بالحقّ ؛ فيشفع فيهم هؤلاء ، والتأويل الأوّل أصوب ، وقرأ الجمهور : «وقيله» بالنصب (٤) ، وهو مصدر ؛ كالقول ، والضّمير فيه لنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختلف في الناصب له ، فقالت فرقة : هو معطوف على قوله : (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) ولفظ البخاريّ (وَقِيلِهِ يا رَبِ) : تفسيره : أيحسبون أنّا لا نسمع سرّهم ونجواهم [و] لا نسمع قيله يا ربّ ، انتهى ، وقيل : العامل فيه (يَكْتُبُونَ) ونزل قوله تعالى : (وَقِيلِهِ يا رَبِ) بمنزلة شكوى محمّد* ع* واستغاثته من كفرهم وعتوّهم ، وقرأ حمزة وعاصم : «وقيله» بالخفض (٥) ؛ عطفا على الساعة.

__________________

(١) وقرأ بها علي ويحيى بن يعمر ، واليماني.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٣٧) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٦٦) ، وزاد نسبتها إلى جابر بن زيد ، وأبي الشيخ ، والحكم بن أبي العاصي ، وبلال بن أبي بردة ، وابن السميفع. وزاد أبو حيان (٨ / ٢٩) : عمر بن عبد العزيز ، وحميد ، وابن مقسم ، وهي في «الدر المصون» (٦ / ١٠٩)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٢١٨) برقم : (٣١٠١٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٦٦)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٦٦)

(٤) وقرأ برفعه الأعرج ، وأبو قلابة ، ومجاهد.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٢٥٨) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٦٧) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٣٠) ، وزاد نسبتها إلى الحسن ، وقتادة ، ومسلم بن جندب.

وينظر : «الدر المصون» (٦ / ١١٠) ، وقراءة السبعة ستأتي.

(٥) وقرأ الباقون بالنصب. قال السمين ، وأما قراءة النصب ففيها ثمانية أوجه : ـ

١٩٢

وقوله سبحانه : (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) : موادعة منسوخة (وَقُلْ سَلامٌ) تقديره : أمري سلام ، أي : مسالمة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

__________________

ـ «أحدها» : أنه منصوب على محل «السّاعة» ؛ كأنه قيل : إنه يعلم السّاعة ويعلم قيله كذا.

«الثاني» : أنه معطوف على «سرّهم ونجواهم» ، أي : لا يعلم سرّهم ونجواهم ولا يعلم قيله.

«الثالث» : عطف على مفعول «يكتبون» المحذوف ، أي : يكتبون ويكتبون قيله كذا أيضا.

«الرابع» : أنه عطف على مفعول «يعلمون» المحذوف ، أي : يعلمون ذلك ويعلمون قيله.

«الخامس» : أنه مصدر أي : قال قيله.

«السادس» : أن ينتصب بإضمار فعل ، أي : الله يعلم قيل برسوله وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

«السابع» : أن ينتصب على محل «بالحقّ» ، أي : شهد بالحقّ وبقيله.

«الثامن» : أن ينتصب على حذف حرف القسم كقوله :

 ...................

فذاك أمانة الله الثّريد

ينظر : «الدر المصون» (٦ / ١٠٩ ـ ١١٠) ، و «السبعة» (٥٨٩) ، و «الحجة» (٦ / ١٥٩) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٠٤) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٦٩) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢٢٧) ، و «العنوان» (١٧٢) ، و «حجة القراءات» (٦٥٥) ، و «شرح شعلة» (٥٧٩) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٦٠)

١٩٣

تفسير سورة الدّخان

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ)(٣)

(حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ...) الآية ، قوله : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) قسم أقسم الله تعالى به ، وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) يحتمل أن يقع القسم عليه ، ويحتمل أن يكون وصفا للكتاب ، ويكون الذي وقع القسم عليه (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) ، / واختلف في تعيين الليلة المباركة ، فقال قتادة ، والحسن ، وابن زيد : هي ليلة القدر (١) ، ومعنى هذا النزول أنّ ابتداء نزوله كان في ليلة القدر ؛ وهذا قول الجمهور ، ، وقال عكرمة : الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان (٢) ، قال القرطبيّ : الصحيح أنّ الليلة التي يفرق فيها كلّ أمر حكيم ، ليلة القدر من شهر رمضان ، وهي الليلة المباركة ، انتهى من «التذكرة» ، ونحوه لابن العربيّ.

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ)(١٧)

وقوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) معناه يفصل من غيره ويتخلّص ، فعن عكرمة أنّ الله تعالى يفصل ذلك للملائكة في ليلة النصف من شعبان (٣) ، وفي بعض

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٢٢٠) برقم : (٣١٠٢٦ ، ٣١٠٢٨) عن قتادة ، وابن زيد ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٤٨) عنهما ، وابن عطية (٥ / ٦٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٣٨) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٦٨)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٢٢٣) برقم : (٣١٠٣٩)

١٩٤

الأحاديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنّه قال : «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان ، حتّى إنّ الرجل لينكح ويولد له ، ولقد خرج اسمه في الموتى (١)» وقال قتادة ، والحسن ، ومجاهد : يفصل في ليلة القدر كلّ ما في العام المقبل ، من الأقدار ، والأرزاق ، والآجال ، وغير ذلك ، و (أَمْراً) نصب على المصدر (٢).

وقوله : (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) يحتمل أن يريد الرسل والأشياء ، ويحتمل أن يريد الرحمة التي ذكر بعد ، واختلف الناس في «الدخان» الذي أمر الله تعالى بارتقابه ، فقالت فرقة ؛ منها عليّ ، وابن عبّاس ، وابن عمر ، والحسن بن أبي الحسن ، وأبو سعيد الخدريّ : هو دخان يجيء قبل يوم القيامة ، يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضح رؤوس المنافقين والكافرين ، حتى تكون كأنّها مصليّة حنيذة (٣) ، وقالت فرقة ، منها ابن مسعود : هذا الدخان قد رأته قريش حين دعا عليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبع كسبع يوسف ، فكان الرجل يرى من الجوع دخانا بينه وبين السماء (٤) ؛ وما / يأتي من الآيات يؤيّد هذا التأويل ، وقولهم : (إِنَّا مُؤْمِنُونَ) كان ذلك منهم من غير حقيقة ، ثم قال تعالى : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي : من أين لهم التّذكّر والاتعاظ بعد حلول العذاب؟ (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) يعني : محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ف (تَوَلَّوْا عَنْهُ) ، أي : أعرضوا (وَقالُوا : مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ).

وقوله : (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) أي : إلى الكفر ، واختلف في يوم البطشة الكبرى ، فقالت فرقة : هو يوم القيامة ، وقال ابن مسعود وغيره : هو يوم بدر (٥).

(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ

__________________

(١) أخرجه الديلمي في «مسند الفردوس» (٢ / ١١٥) (٢٢٢٨) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٦) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (١٥ / ٦٩٤) (٤٢٧٨٠) وكلاهما عزاه إلى ابن زنجويه.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٢٢٢) برقم : (٣١٠٣٥) عن مجاهد ، (٣١٠٣٦ ـ ٣١٠٣٧) عن قتادة ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٤٨) ، وابن عطية (٥ / ٦٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن نصر ، والبيهقي عن قتادة.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٦٩)

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٤٤) ، وعزاه إلى البيهقي في «دلائل النبوة».

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٢٣٠) برقم : (٣١٠٧٠) عن ابن مسعود ، (٣١٠٧١) عن مسروق ، (٣١٠٧٢) عن ابن مسعود ، (٣١٠٧٣ ـ ٣١٠٧٤) عن مجاهد ، (٣١٠٧٥) عن أبي العالية ، (٣١٠٧٦) عن ابن عبّاس ، (٣١٠٧٩) عن أبي بن كعب ، (٣١٠٨٠) عن الضحاك ، وذكره ابن عطية (٥ / ٧٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٤٥) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه.

١٩٥

مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ)(٢٤)

وقوله : (أَنْ أَدُّوا) مأخوذ من الأداء ، كأنّه يقول : أن ادفعوا إليّ ، وأعطوني ، ومكّنوني من بني إسرائيل ، وإيّاهم أراد بقوله : (عِبادَ اللهِ) ، وقال ابن عبّاس : المعنى : اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحقّ (١) ، فعباد الله على هذا منادى مضاف ، والمؤدّى هي الطاعة ، والظاهر من شرع موسى* ع* أنّه بعث إلى دعاء فرعون إلى الإيمان ، وأن يرسل بني إسرائيل ، فلمّا أبى أن يؤمن ثبتت المكافحة في أن يرسل بني إسرائيل ، وقوله بعد : (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) كالنّصّ في أنّه آخر الأمر ، إنّما يطلب إرسال بني إسرائيل فقط.

وقوله : (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ ...) الآية : المعنى : كانت رسالته ، وقوله : (أَنْ أَدُّوا وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي : على شرع الله ، وعبّر بالعلوّ عن الطغيان والعتوّ ، و (أَنْ تَرْجُمُونِ) معناه : الرجم بالحجارة المؤدّي إلى القتل ؛ قاله قتادة وغيره (٢) ، وقيل : أراد الرجم بالقول ، والأول أظهر ؛ لأنّه الذي عاذ منه ، ولم يعذ من الآخر.

ـ قلت ـ : وعن ابن عمر قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استعاذ بالله فأعيذوه ، ومن سألكم بالله فأعطوه ، ومن استجار بالله فأجيروه ، ومن أتى إليكم بمعروف / فكافئوه ، فإن لم تقدروا فادعوا له حتّى تعلموا أن قد كافأتموه (٣)» ، رواه أبو داود ، والنسائيّ ، والحاكم ، وابن حبّان في «صحيحيهما» ، واللفظ للنّسائيّ ، وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ـ يعني البخاريّ ومسلما ـ ا ه من «السلاح».

وقوله : (فَاعْتَزِلُونِ) متاركة صريحة ، قال قتادة : أراد خلّوا سبيلي.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٧٠)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٢٣٣) برقم : (٣١٠٩٨ ـ ٣١٠٩٩) عن قتادة ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٥١) عنه ، وابن عطية في «تفسيره» (٥ / ٧١) ، وابن كثير (٤ / ١٤١)

(٣) أخرجه أبو داود (١ / ٥٢٤) كتاب «الزكاة» باب : عطية من سأل بالله عزوجل (١٦٧٢) ، (٢ / ٧٥٠) كتاب «الأدب» باب : في الرجل يستعيذ من الرجل (٥١٠٩) ، وأحمد (٢ / ٦٨ ، ١٢٧) ، والنسائي (٥ / ٨٢) كتاب «الزكاة» باب : من سأل بالله عزوجل (٢٥٦٧) ، والحاكم (١ / ٤١٢) ، وابن حبان (٨ / ١٩٩) كتاب «الزكاة» باب : المسألة والأخذ وما يتعلق به من المكافأة والثناء والشكر ، ذكر الأمر بالمكافأة لمن صنع إليه معروف (٣٤٠٨) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٩ / ٥٦).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، قد تابع عمار بن زريق على إقامة هذا الإسناد : أبو عوانة ، وجرير بن عبد الله الحميد ، وعبد العزيز بن مسلم القملي عن الأعمش.

١٩٦

وقوله : (فَدَعا رَبَّهُ) قبله محذوف ، تقديره : فما أجابوه لما طلب منهم.

وقوله : (فَأَسْرِ) قبله محذوف ، أي : قال الله له فأسر بعبادي ، قال ابن العربيّ في «أحكامه» (١) : السّرى : سير الليل ، و «الإدلاج» سير السّحر ، و «التّأويب» : سير النهار ، ويقال : سرى وأسرى ، انتهى.

واختلف في قوله تعالى : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) متى قالها لموسى؟ فقالت فرقة : هو كلام متّصل بما قبله ، وقال قتادة وغيره : خوطب به بعد ما جاز البحر (٢) ، وذلك أنّه همّ أن يضرب البحر ؛ ليلتئم ؛ خشية أن يدخل فرعون وجنوده وراءه ، و (رَهْواً) معناه : ساكنا كما جزته ، قاله ابن عبّاس (٣) ، وهذا القول هو الذي تؤيّده اللغة ؛ ومنه قول القطاميّ : [البسيط]

يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة

ولا الصدور على الأعجاز تتّكل (٤)

ومنه : [البسيط]

وأمّة خرجت رهوا إلى عيد

 ...................

أي : خرجوا في سكون وتمهّل.

فقيل لموسى* ع* : اترك البحر ساكنا على حاله من الانفراق ؛ ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٣٦)

__________________

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٤ / ١٦٩١)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٢٣٤) برقم : (٣١١٠١ ـ ٣١١٠٢) عن قتادة نحوه ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٥١) ، وابن عطية (٥ / ٧٢)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٢٣٤ ـ ٢٣٥) برقم : (٣١١٠٣ ، ٣١١٠٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٧٢) ، وابن كثير (٤ / ١٤١)

(٤) البيت في «ديوانه» ص : (٤) ، وينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٣١) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٧٢) ، و «الدر المصون» (٦ / ١١٥) ، في «المحرر» : «يمشون».

١٩٧

وقوله تعالى : (كَمْ تَرَكُوا) «كم» للتكثير ، أي : كم ترك هؤلاء المغترّون من كثرة الجنّات والعيون ، فروي أنّ الجنات كانت متّصلة / ضفّتي النيل جميعا من رشيد إلى أسوان ، وأمّا العيون فيحتمل أنّه أراد الخلجان ، فشبهها بالعيون ، ويحتمل أنّها كانت ونضبت ، ذكر الطّرطوشيّ في «سراج الملوك» له ، قال : قال أبو عبد الله بن حمدون : كنت مع المتوكّل لما خرج إلى دمشق ، فركب يوما إلى رصافة هشام بن عبد الملك ، فنظر إلى قصورها ، ثم خرج ، فنظر إلى دير هناك قديم حسن البناء بين مزارع وأشجار ، فدخله ، فبينما هو يطوف به إذ بصر برقعة قد ألصقت في صدره ؛ فأمر بقلعها ، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات : [الطويل]

أيا منزلا بالدّير أصبح خاليا

تلاعب فيه شمأل ودبور

كأنّك لم يسكنك بيض أوانس

ولم تتبختر في قبابك حور

وأبناء أملاك غواشم سادة

صغيرهمو عند الأنام كبير

إذا لبسوا أدراعهم فعوابس

وإن لبسوا تيجانهم فبدور

على أنّهم يوم اللّقاء ضراغم

وأنّهمو يوم النوال بحور

ليالي هشام بالرّصافة قاطن

وفيك ابنه يا دير وهو أمير

إذ العيش غضّ والخلافة لذّة

وأنت طروب والزّمان غرير

وروضك مرتاد ونورك مزهر

وعيش بني مروان فيك نضير

بلى فسقاك الغيث صوب سحائب

عليك لها بعد الرواح بكور

تذكّرت قومي فيكما فبكيتهم

بشجو ومثلي بالبكاء جدير

فعزّيت نفسي وهي نفس إذا جرى

لها ذكر قومي ـ أنّة وزفير

لعلّ زمانا جار يوما عليهم و

لهم بالّذي تهوى النفوس ـ يدور

فيفرح محزون وينعم بائس

ويطلق من ضيق الوثاق أسير

رويدك إنّ / الدّهر يتبعه غد

وإنّ صروف الدّائرات تدور

فلما قرأها المتوكّل ، ارتاع ، ثم دعا صاحب الدّير ، فسأله عمّن كتبها ، فقال : لا علم لي به ، وانصرف ، انتهى ، وفي هذا وشبهه عبرة لأولي البصائر المستيقظين ، اللهم ، لا تجعلنا ممّن اغترّ بزخارف هذه الدار!!.

[من الطويل]

١٩٨

ألا إنّما الدّنيا كأحلام نائم

وما خير عيش لا يكون بدائم

وقرأ جمهور الناس : «ومقام» ـ بفتح الميم ـ (١) ؛ قال ابن عبّاس وغيره : أراد المنابر (٢).

وعلى قراءة ضم الميم (٣) قال قتادة : أراد : المواضع الحسان من المساكن وغيرها (٤) ، والقول بالمنابر بعيد جدّا ، و «النّعمة» ـ بفتح النون ـ : غضارة العيش ولذاذة الحياة ، «والنعمة» ـ بكسر النون ـ : أعمّ من هذا كلّه ، وقد تكون الأمراض والمصائب نعما ، ولا يقال فيها : «نعمة» ـ بالفتح ـ ، وقرأ الجمهور : «فاكهين» (٥) ومعناه : فرحين مسرورين (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) أي : بعد القبط ، وقال قتادة : هم بنو إسرائيل (٦) ، وفيه ضعف ، وقد ذكر الثعلبيّ عن الحسن ؛ أنّ بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون (٧) ، واختلف المتأوّلون في معنى قوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ، فقال ابن عبّاس وغيره : وذلك أنّ الرجل المؤمن إذا مات ، بكى عليه من الأرض موضع عباداته أربعين صباحا ، وبكى عليه من السماء موضع صعود عمله ، قالوا : ولم يكن في قوم فرعون من هذه حاله ، فتبكي عليهم السماء والأرض (٨) ، قال ـ عليه‌السلام (٩) ـ : والمعنى الجيّد في الآية : أنّها استعارة فصيحة تتضمّن تحقير أمرهم ، وأنّه لم يتغير لأجل هلاكهم شيء ، ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ينتطح فيها عنزان» ، وفي الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم / أنّه قال : «ما مات

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٧٢) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٣٦) ، و «الدر المصون» (٦ / ١١٥)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٢٣٦) برقم : (٣١١١٥ ـ ٣١١١٦) عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وذكره ابن عطية (٥ / ٧٢) ، وابن كثير (٤ / ١٤١) عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٤٧) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.

(٣) وقرأ بها ابن هرمز ، وقتادة ، وابن السميفع ، ونافع في رواية خارجة.

ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٣٦) ، و «الدر المصون» (٦ / ١١٥)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٢٣٦) برقم : (٣١١١٧) عن قتادة نحوه ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٥١) ، وابن عطية (٥ / ٧٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٤٧) ، وعزاه إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٧٣) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٣٦) ، و «الدر المصون» (٦ / ١١٥)

(٦) أخرجه الطبري (١١ / ١٣٩) برقم : (٣١١١٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٧٣)

(٧) ذكره ابن عطية (٥ / ٧٣)

(٨) أخرجه الطبري (١١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨) برقم : (٣١١٢٢ ، ٣١١٢٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٧٣) ، وابن كثير (٤ / ١٤٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٤٧) ، وعزاه إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٩) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٧٣)

١٩٩

مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه ، إلّا بكت عليه السّماء والأرض ، ثمّ قرأ هذه الآية ، وقال : إنّهما لا يبكيان على كافر» (١) قال الداوديّ. وعن مجاهد : ما مات مؤمن إلّا بكت عليه السماء والأرض ، وقال : أفي هذا عجب؟! وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالرّكوع والسجود ، وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دويّ كدويّ النّحل؟! (٢) انتهى.

وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال : أخبرنا الأوزاعيّ قال : حدّثني عطاء الخراسانيّ ، قال : ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض ، إلّا شهدت له يوم القيامة ، وبكت عليه يوم يموت ، انتهى ، وروى ابن المبارك أيضا عن أبي عبيد صاحب سليمان «أنّ العبد المؤمن إذا مات تنادت بقاع الأرض : عبد الله المؤمن مات قال : فتبكي عليه السّماء والأرض ، فيقول الرحمن تبارك وتعالى : ما يبكيكما على عبدي؟ فيقولان : يا ربّنا ، لم يمش على ناحية منّا قطّ إلّا وهو يذكرك». ا ه.

و (مُنْظَرِينَ) أي : مؤخّرين و (الْعَذابِ الْمُهِينِ) : هو ذبح الأبناء ، والتّسخير ، وغير ذلك.

وقوله : (عَلى عِلْمٍ) أي : على شيء قد سبق عندنا فيهم ، وثبت في علمنا أنّه سينفذ ، ويحتمل أن يكون معناه : على علم لهم وفضائل فيهم على العالمين ، أي : عالمي زمانهم ؛ بدليل أنّ أمّة محمّد خير أمّة أخرجت للناس (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) : لفظ جامع لما أجرى الله من الآيات على يدي موسى ، ولما أنعم به على بني إسرائيل ، والبلاء في هذا الموضع : الاختبار والامتحان ؛ كما قال تعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] الآية ، و (مُبِينٌ) بمعنى : بيّن ثم ذكر تعالى قريشا على جهة الإنكار لقولهم وإنكارهم للبعث ، فقال : (إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ) أي : ما هي (إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي : بمبعوثين ، وقول قريش : (فَأْتُوا بِآبائِنا) مخاطبة للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلبوا منه أن يحيي الله لهم بعض آبائهم ، وسمّوا له قصيّا وغيره ، كي يسألوهم عمّا رأوا في آخرتهم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (١١ / ٢٣٨) برقم : (٣١١٢٩) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٧٤٨) ، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٢٣٨) برقم : (٣١١٢٥ ، ٣١١٢٨) عن مجاهد ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ١٤٢)

٢٠٠