تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ...) الآية ، قيل : إنّها نزلت في بني إسرائيل الذين تقدّم ذكرهم الآن ، وروي أنّ قوما من قريظة والنضير كانوا يعدون المنافقين في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخلاف عليه بنصر ومؤازرة ؛ فذلك قولهم : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) وقرأ الجمهور : «أسرارهم» ـ بفتح الهمزة ـ ، وقرأ حمزة والكسائيّ وحفص : «إسرارهم» ـ بكسرها (١) ـ.

وقوله سبحانه : (فَكَيْفَ إِذا / تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) يعني : ملك الموت وأعوانه ، والضمير في (يَضْرِبُونَ) للملائكة ، وفي نحو هذا أحاديث تقتضي صفة الحال ، و (ما أَسْخَطَ اللهَ) : هو الكفر ، والرضوان : هنا الحقّ والشرع المؤدّي إلى الرضوان.

وقوله سبحانه : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) الآية ، توبيخ للمنافقين وفضح لسرائرهم ، والضّغن : الحقد ، وقال البخاريّ : قال ابن عبّاس : «أضغانهم» حسدهم (٢) ، انتهى.

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ)(٣٢)

وقوله سبحانه : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ ...) الآية ، لم يعيّنهم سبحانه بالأسماء والتعريف التامّ ؛ إبقاء عليهم وعلى قراباتهم ، وإن كانوا قد عرفوا بلحن القول ، وكانوا في الاشتهار على مراتب كابن أبيّ وغيره ، والسّيما : العلامة ، وقال ابن عبّاس والضّحّاك : إنّ الله تعالى قد عرّفه بهم في سورة براءة بقوله : (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً) (٣)

__________________

(١) وحجة من أفرد قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ) [التوبة : ٧٨] فلما أفرد السر ولم يجمع فكذلك قال : «إسرارهم». وأما الآخرون ، فكأنهم جمعوا للاختلاف في ضروب السر ، وقد قيل : إنه جمع فأخرج الأسرار بعددهم ، كما قال بعدها : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ).

ينظر : «حجة القراءات» (٦٦٩) ، و «السبعة» (٦٠١) ، و «الحجة» (٦ / ١٩٦) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٢٦) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٨٧) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١٠) ، و «العنوان» (١٧٦) ، و «حجة القراءات» (٦٦٩) ، و «شرح شعلة» (٥٨٦) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٧٨)

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٤٤٢) ، كتاب «التفسير» باب : سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معلقا بصيغة الجزم ، ووصله ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عبّاس ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٨٥) ، والسيوطي (٦ / ٥٤) ، وعزاه إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٣٢٤) برقم : (٣١٤١٦ ـ ٣١٤١٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٢٠)

٢٤١

[التوبة : ٨٤] وفي قوله : «قل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوّا» [التوبة : ٨٣] قال* ع* : وهذا في الحقيقة ليس بتعريف تامّ ، ثم أخبر تعالى أنّه سيعرفهم في لحن القول ، أي : في مذهب القول ومنحاه ومقصده ، واحتجّ بهذه الآية من جعل الحدّ في التعريض بالقذف.

ـ ص ـ : قال أبو حيان (١) : «ولتعرفنهم» اللام جواب قسم محذوف ، انتهى.

وقوله سبحانه : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) مخاطبة للجميع من مؤمن وكافر.

وقوله سبحانه : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ ...) الآية ، كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى ، وقال : اللهم لا تبتلنا فإنك إن بلوتنا فضحتنا ، وهتكت أستارنا.

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ ...) الآية ، قالت فرقة : نزلت في بني إسرائيل ، وقالت / فرقة : نزلت في قوم من المنافقين ، وهذا نحو ما تقدم ، وقال ابن عبّاس : نزلت في المطعمين في سفرة بدر (٢) ، وقالت فرقة : بل هي عامّة في كلّ كافر.

وقوله : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) تحقير لهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ)(٣٥)

وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) روي أنّ هذه الآية نزلت في بني أسد من العرب ، وذلك أنّهم أسلموا ، وقالوا للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : نحن آثرناك على كلّ شيء ، وجئناك بأنفسنا وأهلينا ، كأنّهم يمنّون بذلك ، فنزل فيهم : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ...) (٣) الآية ، ونزلت فيهم هذه الآية وظاهر الآية العموم.

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ...)

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٨٤)

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٧٦) ، وابن عطية (٥ / ١٢١)

(٣) أخرجه النسائي في «الكبرى» (٦ / ٤٦٧) ، كتاب «التفسير» باب : قوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) (١١٥١٩ / ١) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١١٣) ، وعزاه إلى البزار ، وابن مردويه.

٢٤٢

الآية ، روي أنّها نزلت بسبب أنّ عديّ بن حاتم قال : يا رسول الله ، إنّ حاتما كانت له أفعال برّ فما حاله؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو في النار فبكى عديّ ، وولّى فدعاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار» ونزلت هذه الآية في ذلك (١) ، وظاهر الآية العموم في كلّ ما تناولته الصفة.

وقوله سبحانه : (فَلا تَهِنُوا) معناه : لا تضعفوا (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) أي : إلى المسالمة ، وقال قتادة : معنى الآية : لا تكونوا أولى الطائفتين ضرعت للأخرى (٢) : قال* ع (٣) * وهذا حسن ملتئم مع قوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١].

(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) : في موضع الحال ، المعنى : فلا تهنوا وأنتم في هذه الحال ، ويحتمل أن يكون إخبارا بمغيب أبرزه الوجود بعد ذلك ، والأعلون : معناه الغالبون والظاهرون من العلوّ.

وقوله : (وَاللهُ مَعَكُمْ) معناه : / بنصره ومعونته ويتر معناه : ينقص ويذهب ، والمعنى : لن يتركم ثواب أعمالكم.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ)(٣٨)

وقوله سبحانه : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) تحقير لأمر الدنيا.

وقوله : (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) معناه : هذا هو المطلوب منكم ، لا غيره ؛ لا تسألون أموالكم ، ثم قال سبحانه منبّها على خلق ابن آدم : (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) والإحفاء هو أشدّ السؤال ، وهو الذي يستخرج ما عند المسئول كرها.

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ٢٥٨) بلفظ : قلت : يا رسول الله ، إن أبي كان يصل الرحم ويفعل كذا وكذا ، قال : «إن أباك أراد أمرا فأدركه».

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٣٢٦ ، ٣٢٧) برقم : (٣١٤٢٦ ، ٣١٤٢٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٢٢)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٢٢)

٢٤٣

* ت* : وقال الثعلبيّ : (فَيُحْفِكُمْ) أي : يجهدكم ويلحف عليكم.

وقوله : (تَبْخَلُوا) جزما على جواب الشرط (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي : يخرج الله أضغانكم ، وقرأ يعقوب : «ونخرج» بالنون ، والأضغان : معتقدات السوء (١) ، وهو الذي كان يخاف أن يعتري المسلمين ، ثم وقف الله تعالى عباده المؤمنين على جهة التوبيخ لبعضهم بقوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) وكرر «هاء» التنبيه ؛ تأكيدا.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي : بالثواب (وَاللهُ الْغَنِيُ) أي : عن صدقاتكم (وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إلى ثوابها.

* ت* : هذا لفظ الثعلبيّ ، قال* ع* : يقال : بخلت عليك بكذا ، وبخلت عنك بمعنى أمسكت عنك ، وروى التّرمذيّ عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «السّخيّ قريب من الله ، قريب من الجنّة ، قريب من الناس ، بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الجنّة ، بعيد من الناس ، قريب من النار ، ولجاهل سخيّ أحبّ إلى الله من عابد بخيل» ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن. غريب ، انتهى (٢).

وقوله سبحانه : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) قالت فرقة : هذا الخطاب لجميع المسلمين والمشركين والعرب حينئذ ، والقوم الغير هم فارس ، وروى أبو هريرة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن هذا وكان سلمان إلى جنبه فوضع يده على فخذه وقال : «قوم هذا ؛

__________________

(١) وقرأ بها ابن عبّاس.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٤٢) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ١٢٣) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٨٥) ، و «الدر المصون» (٦ / ١٥٨)

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ٣٠٢) كتاب «البر والصلة» باب : ما جاء في السخاء ، حديث (١٩٦١) ، والعقيلي في «الضعفاء» (٢ / ١١٧) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٤٢٩) (١٠٨٥٢) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (٢ / ١٨٠) ـ بتحقيقنا ، كلهم من طريق سعيد بن محمّد الوراق عن يحيى بن سعيد عن الأعرج ، عن أبي هريرة مرفوعا.

قال الترمذي : هذا حديث غريب ، لا نعرفه من حديث يحيى بن سعيد عن الأعرج عن أبي هريرة إلا من حديث سعيد بن محمّد ، وقد خولف سعيد بن محمّد في رواية هذا الحديث عن يحيى بن سعيد إنما يروى عن يحيى بن سعيد عن عائشة شيء مرسل. ا ه.

وقال العقيلي : ليس لهذا الحديث أصل من حديث يحيى ولا غيره وقال ابن الجوزي : لا يصح ، المتهم به سعيد بن محمّد الوراق ، قال يحيى : ليس بشيء ، وقال النسائي : ليس بثقة. وقال البيهقي : تفرد به سعيد بن محمّد وهو ضعيف. ـ

٢٤٤

__________________

ـ وقال السيوطي في «اللآلئ المصنوعة» (٢ / ٩١) (قلت) أخرجه الترمذي ، وابن حبان في «روضة العقلاء» ، والبيهقي في «شعب الإيمان» ، والخطيب في كتاب «البخلاء» من طريق عن سعيد الوراق به ، وقال ابن حبان : غريب ، وقال البيهقي : تفرد به سعيد بن محمّد الوراق وهو ضعيف ، والله أعلم.

ا ه. وللحديث شواهد من حديث عائشة ، وأنس ، وجابر.

حديث عائشة :

أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «اللآلئ» (٢ / ٩٢) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٤٢٨ ـ ٤٢٩) (١٠٨٥٠) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (٢ / ١٨١) ـ بتحقيقنا ، من طريق سعيد بن مسلمة ، حدثنا يحيى بن سعيد عن محمّد بن إبراهيم التيمي عن عائشة مرفوعا بلفظ : «السخي قريب من الله قريب من الناس بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس قريب من النار ، والجاهل السخي أحب إلى الله من العاقل البخيل». قال ابن الجوزي : سعيد بن مسلمة ، قال يحيى : ليس بشيء ، وقال ابن حبان : منكر الحديث جدا فاحش الخطأ ، وقال ابن عدي : ليس لهذا الحديث أصل من حديث يحيى بن سعيد ولا غيره ، وقال الدارقطني : لهذا الحديث طرق لا يثبت منها شيء بوجه ا ه.

وللحديث طريق آخر عن عائشة :

أخرجه الخطيب في كتاب «البخلاء» كما في «اللآلئ» (٢ / ٩٢) ، وابن الجوزي في «الموضوعات» (٢ / ١٨١) من طريق خالد بن يحيى القاضي عن غريب بن عبد الواحد القرشي عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عائشة مرفوعا.

وقال ابن الجوزي : خالد وغريب مجهولان.

وقال السيوطي : أقره صاحب «الميزان» على أن اسمه غريب ، والذي في كتاب «البخلاء» للخطيب : عنبسة بن عبد الواحد. ا ه.

وأخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٤٢٨) (١٠٨٤٧) من طريق تليد بن سليمان ، وسعيد بن مسلمة عن يحيى بن سعيد عن محمّد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص عن عائشة مرفوعا.

وقال البيهقي : تليد وسعيد ضعيفان.

وأقره صاحب «اللآلئ» (٢ / ٩٢).

حديث أنس :

أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢ / ١٨٠) ـ بتحقيقنا ، من طريق محمّد بن تميم ، حدثنا قبيصة بن محمّد عن موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا : «لما خلق الله الإيمان قال : «إلهي ، قوني ، فقواه بحسن الخلق ، ثم خلق الكفر فقال الكفر : إلهي قوني ، فقواه بالبخل ، ثم خلق الجنة ، ثم استوى على العرش ، ثم قال : ملائكتي فقالوا : ربنا ، لبيك وسعديك قال : السخي قريب من جنتي قريب من ملائكتي بعيد من النار ، والبخيل بعيد مني بعيد من ملائكتي قريب من النار».

قال ابن الجوزي : المتهم به محمّد بن تميم قال ابن حبان : كان يضع الحديث.

وقال السيوطي في «اللآلئ» (٢ / ٩٢) محمّد بن تميم يضع.

حديث جابر :

أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٤٢٨) (١٠٨٤٨) من طريق سعيد بن مسلمة ، عن جعفر بن محمّد عن أبيه ، عن جابر مرفوعا.

٢٤٥

لو كان الدّين في الثّريّا لناله رجال من أهل فارس» (١).

__________________

ـ وقد تقدم ضعف سعيد : وللحديث شاهد أيضا من حديث ابن عبّاس : أخرجه تمام في فوائده كما في «اللآلئ» (٢ / ٩٣) ، وفيه محمّد بن زكريا الغلابي.

قال الدارقطني : يضع الحديث.

ينظر : «تنزيه الشريعة» (١ / ١٠٥).

والحديث : ذكره السيوطي في «الجامع الصغير» (٤ / ١٣٨) ـ فيض ، برقم : (٤٨٠٤) ، من حديث أبي هريرة ، وجابر ، وعائشة ، ورمز له بالضعف ، ووافقه المناوي في «شرحه» وقال المناوي في «الفيض» (٤ / ١٣٨ ـ ١٣٩) : (السخي قريب من الله) أي : من رحمته وثوابه ، فليس المراد قرب المسافة ، تعالى الله عنه ، إذ لا يحل الجهات ، ولا ينزل الأماكن ، ولا تكتنفه الأقطار ، (قريب من الناس) أي : من محبتهم فالمراد : قرب المودة ، (قريب من الجنة) لسعيه فيما يدنيه منها ، وسلوكه طريقها ، فالمراد هنا قرب المسافة ، وذلك جائز عليها ؛ لأنها مخلوقة ، وقربه منها : برفع الحجاب بينه وبينها ، وبعده عنها :

كثرة الحجب ، فإذا قلّت الحجب بينك وبين الشيء. قلت مسافته ، أنشد بعضهم :

يقولون لي دار الأحبة قد دنت

وأنت كئيب إن ذا لعجيب

فقلت وما تغني ديار قريبة

إذا لم يكن بين القلوب قريب

والجنة والنار محجوبتان عن الخلق بما حفتا به من المكاره والشهوات ، وطريق هتك هذه الحجب مبينة في مثل : «الإحياء» ، و «القوت» من كتب القوم ، (بعيد من النار والبخيل بعيد من الله) أي : من رحمته ، (بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار) ، وقال الغزالي : والبخل ثمرة الرغبة في الدنيا ، والسخاء ثمرة الزهد والثناء على الثمرة ثناء على المثمر لا محالة ، والسخاء : ينشأ من حقيقة التوحيد والتوكل والثقة بوعد الله وضمانه للرزق ، وهذه أغصان شجرة التوحيد التي أشار إليها الحديث ، والبخل : ينشأ من الشرك وهو الوقوف مع الأسباب والشك في الوعد ، قال الطيبي : التعريف في السخي والبخيل للعهد الذهني وهو ما عرف شرعا أن السخي من هو والبخيل من هو ، وذلك أن من أدى الزكاة فقد امتثل أمر الله ، وعظمه ، وأظهر الشفقة على خلقه ، وواساهم بماله ، فهو قريب من الله وقريب من الناس ، فلا تكون منزلته إلا الجنة ، ومن لم يكن كذلك فبالعكس ؛ ولذلك كان جاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل ، كما قال : (ولجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل) فخولف ليفيد أن الجاهل غير العابد السخي أحب إلى الله من العابد العالم البخيل ، فيالها من حسنة غطت على عيبين عظيمين ، ويا لها من سيئة حطت حسنتين خطيرتين ، على أن الجاهل السخي سريع الانقياد بما يؤمر به من نحو تعلم ، وإلى ما ينهى عنه بخلاف العالم البخيل ، (تنبيه) قال الراغب : من شرف السخاء والجود ، أن الله قرن اسمه بالإيمان ، ووصف أهله بالفلاح ، والفلاح أجمع لسعادة الدارين ، وحق للجود أن يقترن بالإيمان ، فلا شيء أخص منه به ولا أشد مجانسة له فمن صفة المؤمن : انشراح الصدر (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) ، وهما من صفة الجواد والبخيل لأن الجواد يوصف بسعة الصدر والبخيل بضيقه ا ه.

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٥١٠) كتاب «التفسير» باب : قوله : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) (٤٨٩٧) ، ومسلم (٤ / ١٩٧٢) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب : فضل فارس (٢٣٠ ـ ٢٣١ / ٢٥٤٦) ، وأحمد (٢ / ٣٠٩)

٢٤٦

وقوله سبحانه : (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) معناه : في الخلاف والتولي والبخل بالأموال ونحو هذا ، وحكى الثعلبيّ قولا أنّ القوم الغير هم الملائكة.

* ت* : وليس لأحد مع الحديث : إذا صحّ نظر ، ولو لا الحديث لاحتمل أن يكون الغير ما يأتي من الخلف بعد ذهاب السّلف ، على ما ذكر في غير هذا الموضع.

٢٤٧

تفسير سورة الفتح

وهي مدنيّة

هذه السورة نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم منصرفه من الحديبيّة ، وفي ذلك أحاديث كثيرة عن أنس (١) وابن مسعود غيرهما (٢) ، وفي تلك السفرة قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر : «لقد أنزلت عليّ اللّيلة سورة هي أحبّ إليّ من الدّنيا وما فيها» خرّجه البخاريّ وغيره.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)(٤)

قوله عزوجل : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ...) الآية ، قال قوم : يريد فتح مكّة ، وقال جمهور الناس ، وهو الصحيح الذي تعضده قصة الحديبية : إنّ قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) إنّما معناه هو ما يسرّ الله عزوجل لنبيّه في تلك الخرجة من الفتح البيّن الذي استقبله ، ونزلت السورة مؤنسة للمؤمنين ؛ لأنّهم كانوا استوحشوا من ردّ قريش لهم ومن تلك المهادنة التي جعلها / الله سببا للفتوحات ، واستقبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك السفرة أنّه هادن عدوّه ريثما يتقوّى هو ، وظهرت على يديه آية الماء في بئر الحديبية ؛ حيث وضع فيه

__________________

(١) أخرجه البخاري (٧ / ٥١٦) كتاب «المغازي» باب : غزوة الحديبية ، قول الله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨] (٤١٧٢) ، (٨ / ٤٤٧) كتاب «التفسير» باب : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (٤٨٣٤) ، ومسلم (٣ / ٤١٣) كتاب «الجهاد والسير» باب : صلح الحديبية في الحديبية (٩٧ ، ٩٧ / ١٧٨٦) ، والترمذي (٥ / ٣٨٥ ـ ٣٨٦) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة الفتح (٣٢٦٣) ، وأحمد (٣ / ١٧٣) ، وابن ماجه (٢ / ٩٢ ، ٩٤) كتاب «البر والإحسان» باب : ما جاء في الطاعات وثوابها (٣٧٠ ـ ٣٧١) ، والبيهقي (٥ / ٢١٧) كتاب «الحج» باب : المحصر يذبح ويحل حيث أحصر.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٤٤٦) كتاب «التفسير» باب : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (٤٨٣٣) ، والترمذي (٥ / ٣٨٥) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة الفتح (٣٢٦٢) ، والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٤٦١) ، كتاب «التفسير» باب : قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (١٤٩٩ / ١) ، وأحمد (١ / ٣١) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٤ / ١٥٤) كلهم عن عمر بن الخطاب.

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب ، رواه بعضهم عن مالك مرسلا.

٢٤٨

سهمه ، وثاب الماء حتى كفى الجيش ، واتّفقت بيعة الرضوان ، وهي الفتح الأعظم ؛ قاله جابر بن عبد الله والبراء بن عازب (١) ، وبلغ هديه محلّه ؛ قاله الشعبيّ (٢) ، واستقبل فتح خيبر ، وامتلأت أيدي المؤمنين ، وظهرت في ذلك الوقت الروم على فارس ، فكانت من جملة الفتح ؛ فسرّ بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو والمؤمنون ؛ لظهور أهل الكتاب على المجوس ، وشرّفه الله بأن أخبره أنّه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، أي : وإن لم يكن ذنب.

* ت* : قال الثعلبيّ : قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) قال أبو حاتم : هذه لام القسم ، لما حذفت النون من فعله كسرت ، ونصب فعلها ؛ تشبيها بلام «كي» ، انتهى.

قال عياض : ومقصد الآية أنّك مغفور لك ، غير مؤاخذ بذنب ، إن لو كان ، انتهى.

قال أبو حيان (٣) : (لِيَغْفِرَ) اللام للعلّة ، وقال* ع* : هي لام الصيرورة ، وقيل : هي لام القسم ، وردّ بأنّ لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها ، وأجيب بأنّ الكسر قد علّل بالحمل على «لام كي» وأمّا الحركة فليست نصبا ؛ بل هي الفتحة الموجودة مع النون ، بقيت بعد حذفها دالّة على المحذوف ، وردّ بأنّه لم يحفظ من كلامهم : والله ليقوم ولا بالله ليخرج زيد ، انتهى.

وفي «صحيح البخاريّ» عن أنس بن مالك : «إنّا فتحنا لك فتحا مبينا» : الحديبية (٤) ، انتهى.

وقوله سبحانه : (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) أي : / بإظهارك وتغليبك على عدوّك ، والرضوان في الآخرة والسّكينة فعيلة من السكون ، وهو تسكين قلوبهم لتلك الهدنة مع قريش حتّى اطمأنّت ، وعلموا أنّ وعد الله حق.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٣٣٤) برقم : (٣١٤٦١ ـ ٣١٤٦٢) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٨٨) عن البراء بن عازب ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٢٥) ، وابن كثير (٤ / ١٨٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٨)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ١٢٥)

(٣) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٩٠)

(٤) أخرجه البخاري (٨ / ٤٤٧) كتاب «التفسير» باب : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (٤٨٣٤) ، والطبري (١١ / ٣٣٣) (٣١٤٥٨) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٨٨) ، وابن عطية ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٨) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة ، وابن مردويه ، والبيهقي.

٢٤٩

ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)(٧)

وقوله سبحانه : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ...) الآية ، روي في معنى هذه الآية أنّه لمّا نزلت : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف : ٩] تكلّم فيها أهل الكفر ، وقالوا : كيف نتّبع من لا يعرف ما يفعل به وبالناس؟! فبيّن الله في هذه السورة ما يفعل به بقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) فلمّا سمعها المؤمنون قالوا : هنيئا لك يا رسول الله ، لقد بيّن الله لك ما يفعل بك ، فما يفعل بنا؟ فنزلت : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) إلى قوله : (مَصِيراً) فعرّفه الله ما يفعل به وبالمؤمنين وبالكافرين ، وذكر النقاش أنّ رجلا من «عكّ» قال : هذا الذي لرسول الله ، فما لنا؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هي لي ولامّتي كهاتين ، وجمع بين إصبعيه».

وقوله : (وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) هو من ترتيب الجمل في السرد ، لا ترتيب وقوع معانيها ؛ لأنّ تكفير السيئات قبل إدخالهم الجنة.

وقوله : (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) قيل : معناه : من قولهم : (لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ ...) [الفتح : ١٢] الآية ، وقيل : هو كونهم يعتقدون الله بغير صفاته العلى.

وقوله : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) [أي : دائرة السوء] (١) الذي أرادوه بكم في ظنّهم السوء ، ويقال للأقدار والحوادث التي هي في طيّ الزمان : دائرة ، / لأنّها تدور بدوران الزمان.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)(٩)

وقوله سبحانه : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً ...) الآية ، من جعل الشاهد محصّل الشهادة من يوم يحصلها ، فقوله : (شاهِداً) حال واقعة ، ومن جعل الشاهد مؤدّي الشهادة فهي حال مستقبلة ، وهي التي يسميها النحاة المقدّرة ، والمعنى : شاهدا على الناس بأعمالهم ، وأقوالهم حين بلّغت ، (وَمُبَشِّراً) : أهل الطاعة برحمة الله ، (وَنَذِيراً) : من عذاب الله أهل المعصية ، ومعنى (تُعَزِّرُوهُ) تعظموه وتكبروه ؛ قاله ابن عبّاس (٢) ، وقرأ ابن عبّاس

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٣٣٧) برقم : (٣١٤٦٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٢٩)

٢٥٠

وغيره : تعزّزوه بزاءين من العزّة (١) ، قال الجمهور : الضمير في (تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي (تُسَبِّحُوهُ) لله عزوجل ، والبكرة : الغدوّ ، والأصيل : العشيّ.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(١٠)

وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) : يريد في بيعة الرضوان ، وهي بيعة الشجرة ، حين أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأهبة لقتال قريش ، لما بلغه قتل عثمان بن عفان ، رسوله إليهم ، وذلك قبل أن ينصرف من الحديبيّة ، وكان في ألف وأربعمائة ، وبايعهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصبر المتناهي في قتال العدوّ إلى أقصى الجهد حتى قال سلمة بن الأكوع وغيره : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الموت (٢) ، وقال عبد الله بن عمر ، وجابر بن عبد الله : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ألّا نفرّ (٣) ، والمبايعة في هذه الآية مفاعلة من البيع ؛ لأنّ الله تعالى اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة ، ومعنى (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) أنّ صفقتهم إنما يمضيها ويمنح / الثمن الله تعالى.

* ت* : وهذا تفسير لا يمسّ الآية ، ولا بدّ ، وقال الثعلبيّ : «إنما يبايعون الله» أي : أخذك البيعة عليهم عقد الله عليهم ، انتهى ، وهذا تفسير حسن.

وقوله تعالى : (يَدُ اللهِ) قال جمهور المتأولين : اليد بمعنى النعمة ، إذ نعمة الله في نفس هذه المبايعة لما يستقبل من محاسنها «فوق أيديهم» : التي مدّوها لبيعتك ، وقيل : المعنى : قوّة الله فوق قواهم في نصرك.

* ت* : وقال الثعلبيّ : «يد الله فوق أيديهم» أي : بالوفاء والعهد ، وقيل : بالثواب ، وقيل : «يد الله» : في المنّة عليهم «فوق أيديهم» : في الطاعة عند المبايعة ، وهذا حسن قريب من الأول.

وقوله تعالى : (فَمَنْ نَكَثَ) أي : فمن نقض هذا العهد ، فإنما يجني على نفسه ومن

__________________

(١) وقرأ بها محمّد بن السميفع اليماني.

ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٢٩) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٩٢). وقال السمين : وقرأ الجحدري «تعززوه» كالعامة إلا أنه بزاءين من العزة. «الدر المصون» (٦ / ١٦٠)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٣٤٨) برقم : (٣١٥٢٠) عن عمرو بن الأشج.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٣٤٩) برقم : (٣١٥٢٧) عن قتادة ، وذكره ابن كثير (٤ / ١٨٦) عن جابر بن عبد الله.

٢٥١

أوفى بما عاهد عليه الله فسنؤتيه أجرا عظيما ، وهو الجنة.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً)(١٧)

وقوله سبحانه : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) قال مجاهد وغيره (١) : هم جهينة ومزينة ، ومن كان حول المدينة من الأعراب ؛ وذلك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمرا ، استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ؛ ليخرجوا معه ؛ حذرا من قريش ، وأحرم بالعمرة ، وساق معه الهدي ؛ ليعلم الناس أنه لا يريد حربا ، فتثاقل عنه هؤلاء المخلّفون ، ورأوا أنّه [يستقبل] (٢) عدوّا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة ، وهم الأحابيش ، ولم يكن تمكّن إيمان هؤلاء المخلّفين ، فقعدوا / عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وتخلّفوا وقالوا : لن يرجع محمّد ولا أصحابه من هذه السفرة ، ففضحهم الله في هذه الآية ، وأعلم نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم ، واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، فكان كما أخبر الله سبحانه ، فقالوا : «شغلتنا أموالنا وأهلونا عنك فاستغفر لنا» وهذا منهم خبث وإبطال ، لأنّهم قالوا ذلك مصانعة من غير توبة ولا ندم ؛ فلذلك قال تعالى : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ثم قال تعالى لنبيّه* ع* : (قُلْ) : لهم (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي : من يحمي منه أموالكم وأهليكم إن أراد بكم فيها سوءا ، وفي مصحف ابن مسعود (٣) : إن أراد بكم سوءا

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٣٤٠) برقم : (٣١٤٨٤) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٦١) ، وابن عطية (٥ / ١٣٠)

(٢) سقط في : د.

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٣٠)

٢٥٢

ثم ردّ عليهم بقوله : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) ثم فسّر لهم العلّة التي تخلّفوا من أجلها بقوله : (بَلْ ظَنَنْتُمْ ...) الآية ، و (بُوراً) معناه : هلكى فاسدين ، والبوار الهلاك ، والبور في لغة «أزد عمان» : الفاسد ، ثم رجى سبحانه بقوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ثم إنّ الله سبحانه أمر نبيّه [على] ما روي [بغزو] خيبر ، ووعده بفتحها ، وأعلمه أنّ المخلّفين إذا رأوا مسير رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إلى يهود ـ وهم عدوّ مستضعف ـ طلبوا الكون معه ؛ رغبة في عرض الدنيا والغنيمة ، فكان كذلك.

وقوله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) معناه : أن يغيروا وعده لأهل الحديبيّة بغنيمة / خيبر ، وقال ابن زيد (١) : كلام الله هو قوله تعالى : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) ، قال* ع* : وهذا ضعيف ؛ لأنّ هذه الآية نزلت في غزوة تبوك في آخر عمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآية هذه السورة نزلت عام الحديبية ، وأيضا فقد غزت جهينة ومزينة بعد هذه المدّة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني غزوة الفتح ، فتح مكّة.

* ت* : قال الثعلبي : وعلى التأويل الأوّل عامّة أهل التأويل ، وهو أصوب من تأويل ابن زيد.

وقوله : (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) يريد وعده قبل باختصاصهم بها ، وباقي الآية بين.

وقوله سبحانه : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال قتادة وغيره : هم هوازن ومن حارب النبيّ* ع* يوم حنين (٢) ، وقال الزّهريّ وغيره (٣) : هم أهل الردّة وبنو حنيفة باليمامة ، وحكى الثعلبيّ عن رافع بن خديج أنّه قال : والله لقد كنّا نقرأ هذه الآية فيما مضى ، ولا نعلم من هم حتّى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة ، فعلمنا أنّهم هم المراد (٤) ، وقيل : هم فارس والروم ، وقرأ الجمهور : «أو يسلمون» (٥) على القطع أي : أو

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٣٤٣) برقم : (٣١٤٩٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٣١)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٣٤٥) برقم : (٣١٥٠٤ ـ ٣١٥٠٥) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٩٢) ، وابن عطية (٥ / ١٣٢)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٣٤٥) برقم : (٣١٥٠٦) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٩٢) ، وابن عطية (٥ / ١٣٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٦) ، وعزاه إلى ابن المنذر ، والطبراني.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٩٢) ، وابن عطية (٥ / ١٧٦)

(٥) وقرأ أبي بن كعب فيما حكى الكسائيّ : «أو يسلموا» بنصب الفعل على تقدير : أو يكون أن يسلموا ، ـ

٢٥٣

هم يسلمون دون حرب ، قال ابن العربي (١) : والذين تعيّن قتالهم حتى يسلموا من غير قبول جزية ، هم العرب في أصحّ الأقوال ، أو المرتدون ، فأمّا فارس والروم فلا يقاتلون إلى أن يسلموا ؛ بل إن بذلوا الجزية قبلت منهم ، وهذه الآية إخبار بمغيب ؛ فهي من معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهى من «الأحكام».

وقوله : (فَإِنْ تُطِيعُوا) أي : فيما تدعون إليه ، وباقي الآية بيّن.

ثم ذكر تعالى أهل / الأعذار ، ورفع الحرج عنهم ، وهو حكم ثابت لهم إلى يوم القيامة ، ومع ارتفاع الحرج فجائز لهم الغزو ، وأجرهم فيه مضاعف ، وقد غزا ابن أمّ مكتوم [وكان يمسك الراية في بعض حروب القادسية ، وقد خرّج النسائيّ هذا المعنى ، وذكر ابن أمّ مكتوم] (٢) رحمه‌الله.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً)(٢٠)

وقوله عزوجل : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ ...) الآية ، تشريف لهم ـ رضي الله عنهم ـ وقد تقدّم القول في المبالغة ومعناها ، وكان سبب هذه المبايعة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أن يبعث إلى مكّة رجلا يبيّن لهم أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يريد حربا ؛ وإنّما جاء معتمرا ، فبعث إليهم خداش بن أميّة الخزاعيّ ، وحمله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جمل له يقال له : الثعلب ، فلما كلّمهم عقروا الجمل ، وأرادوا قتل خداش فمنعته الأحابيش ، وبلغ ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأراد بعث عمر بن الخطاب ، فقال له عمر : يا رسول الله ، إنّي أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكّة من بني عديّ أحد يحميني ، ولكن ابعث عثمان ؛ فهو أعزّ بمكّة منّي ، فبعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذهب ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاصي فنزل عن دابّته فحمله عليها ، وأجاره حتى بلغ

__________________

ـ ومثله قول امرئ القيس [الطويل] :

فقلت له لا تبك عينك إنما

تحاول ملكا أو تموت فتعذرا

ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٣٢) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٩٤) ، وزاد نسبتها إلى زيد بن علي ، وهي في «الدر المصون» (٦ / ١٦٢)

(١) ينظر : «أحكام القرآن» (٤ / ١٧٠٥)

(٢) سقط في : د.

٢٥٤

الرسالة ، فقالوا له : إن شئت يا عثمان أن تطوف بالبيت فطف به ، فقال : ما كنت لأطوف حتى يطوف به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم إنّ بني سعيد بن العاصي حبسوا عثمان على جهة المبرة ، فأبطأ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت الحديبيّة من مكّة على نحو عشرة أميال ، فصرخ صارخ من عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قتل عثمان ، فجثا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم / والمؤمنون ، وقالوا : لا نبرح ـ إن كان هذا ـ حتى نناجز القوم ، ثم دعا الناس إلى البيعة فبايعوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يتخلّف عنها إلّا الجد بن قيس المنافق ، وجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على يده ، وقال : هذه يد لعثمان (١) ، وهي خير ، ثم جاء عثمان سالما والشجرة سمرة كانت هنالك ذهبت بعد سنين.

وقوله سبحانه : (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) قال الطبريّ (٢) ، ومنذر بن سعيد : معناه : من الإيمان وصحّته ، والحبّ في الدين والحرص فيه ، وقرأ الناس : «وأثابهم» (٣) قال هارون : وقد قرأت : «وآتاهم» بالتاء بنقطتين (٤) ، والفتح القريب : خيبر ، والمغانم الكثيرة : فتح خيبر.

وقوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ ...) الآية ، مخاطبة للمؤمنين ، ووعد بجميع المغانم التي أخذها المسلمون ويأخذونها إلى يوم القيامة ؛ قاله مجاهد وغيره (٥).

وقوله : (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) يريد خيبر ، وقال زيد بن أسلم وابنه : المغانم الكثيرة : خيبر (٦) ، وهذه إشارة إلى البيعة والتّخلّص من أمر قريش ، وقاله ابن عبّاس (٧).

__________________

(١) ورد ذكر البيعة في حديث ابن عمر ، أخرجه البخاري (٦ / ٢٧١) كتاب «فرض الخمس» باب : إذا بعث الإمام رسولا في حاجة أو أمره بالمقام هل يسهم له؟ (٣١٣٠) وأطرافه في (٣٦٩٨ ، ٣٧٠٤ ، ٤٠٦٦ ، ٤٥١٣ ، ٤٥١٤ ، ٤٦٥٠ ، ٧٠٩٥) ، والترمذي (٥ / ٦٢٩) ، كتاب «المناقب» باب : في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (٣٧٠٦) ، وأحمد (٢ / ١٢٠) ، وأبو يعلى في «مسنده» (٩ / ٤٥٠) (١٨٥ / ٥٥٩٩).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٣٥٠)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٣٤) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٩٦)

(٤) قرأ بها الحسن ونوح القارئ.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٤٢) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٩٦)

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٣٥١) برقم : (٣١٥٣٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٣٤) ، وابن كثير (٤ / ١٩١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٠)

(٦) أخرجه الطبري (١١ / ٣٥١) برقم : (٣١٥٣٤) عن ابن زيد ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٣٥)

(٧) أخرجه الطبري (١١ / ٣٥١) برقم (٣١٥٣٧) وذكره ابن عطية (٥ / ١٣٥) ، وابن كثير (٤ / ١٩١)

٢٥٥

وقوله سبحانه : (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) قال قتادة : يريد كفّ أيديهم عن أهل المدينة في مغيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين (١) ، (وَلِتَكُونَ آيَةً) أي : علامة على نصر المؤمنين ، وحكى الثعلبيّ عن قتادة أنّ المعنى : كفّ الله غطفان ومن معها حين جاؤوا لنصر خيبر (٢) ، وقيل : أراد كفّ قريشا.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٢٦)

وقوله سبحانه : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) قال ابن عبّاس : الإشارة إلى بلاد فارس والروم (٣) ، وقال قتادة والحسن : الإشارة إلى مكّة (٤) ، وهذا قول يتّسق معه المعنى ويتأيّد /.

وقوله : قد أحاط الله بها معناه : بالقدرة والقهر لأهلها ، أي : قد سبق في علمه ذلك ، وظهر فيها أنّهم لم يقدروا عليها.

* ت* : قوله : وظهر فيها إلى آخره كلام غير محصل ، ولفظ الثعلبيّ : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) أي : وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقدروا عليها ، قد أحاط الله بها لكم حتّى يفتحها عليكم ، وقال ابن عبّاس (٥) : علم الله أنّه يفتحها لكم ، قال مجاهد (٦) : هو ما فتحوه حتى اليوم ، ثم ذكر بقيّة الأقوال ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٣٥٢) برقم : (٣١٥٣٨ ـ ٣١٥٣٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٣٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٧٧) ، وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ١٣٥)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٣٥٣) رقم (٣١٥٤١) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٩٨) وابن عطية (٥ / ١٣٥)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٣٥٤) برقم : (٣١٥٥١ ـ ٣١٥٥٢) عن قتادة ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٩٨) ، وابن عطية (٥ / ١٣٥) ، وابن كثير (٤ / ١٩١) عن قتادة ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧١) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وعبد بن حميد.

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٩٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ١٩٢)

(٦) أخرجه الطبري (١١ / ٣٥٣) برقم : (٣١٥٤٥) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٩٨)

٢٥٦

وقوله سبحانه : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني (١) : كفار قريش في تلك السنة (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

وقوله : سنة الله أي : كسنّة الله ، إشارة إلى وقعة بدر ، وقيل : إشارة إلى عادة الله من نصر الأنبياء ، ونصب «سنة» على المصدر.

وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ...) الآية ، روي في سببها أنّ قريشا جمعت جماعة من فتيانها ، وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل ، وخرجوا يطلبون غرّة في عسكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختلف الناس في عدد هؤلاء اختلافا متفاوتا ؛ فلذلك اختصرته ، فلمّا أحسّ بهم المسلمون بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أثرهم خالد بن الوليد ، وسمّاه يومئذ سيف الله في جملة من الناس ، ففرّوا أمامهم ، حتّى أدخلوهم بيوت مكّة ، وأسروا منهم جملة ، فسيقوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنّ عليهم وأطلقهم (٢) ؛ قال الواحديّ : وكان ذلك سبب الصلح بينهم ، انتهى.

وقوله سبحانه : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : أهل مكة (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي : منعوكم من العمرة ، وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج من المدينة إلى الحديبية في / ذي القعدة سنة ست يريد العمرة وتعظيم البيت وخرج معه بمائة بدنة وقيل بسبعين فأجمعت قريش لحربه وغوروا المياه التي تقرب من مكة فجاء صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزل على بئر الحديبية وحينئذ وضع سهمه في الماء فجرى غمرا حتى كفى الجيش ثم بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم عثمان كما تقدم وبعثوا هم رجالا آخرهم سهيل بن عمرو وبه انعقد الصلح على أن ينصرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعتمر من قابل فهذا صدهم إياه وهو مستوعب في السير ، و (الْهَدْيَ) معطوف على الضمير في «صدوكم» [أي] وصدوا الهدي ، و (مَعْكُوفاً) حال ، ومعناه : محبوسا ، تقول عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته ، وحبس الهدي من قبل المشركين هو بصدهم ، ومن قبل المسلمين لرؤيتهم ونظرهم في أمرهم ؛ لأجل أن يبلغ الهدي محلّه ، وهو مكّة والبيت ، وهذا هو حبس المسلمين ، وذكر تعالى العلّة في أن صرف المسلمين ، ولم يمكنهم من دخول مكّة في تلك الوجهة ، وهي أنّه كان بمكة مؤمنون من رجال ونساء خفي إيمانهم ، فلو استباح المسلمون بيضتها أهلكوا أولئك المؤمنين ؛ قال قتادة (٣) : فدفع الله عن المشركين بأولئك

__________________

(١) في د : يبتغي.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٣٥٦) برقم : (٣١٥٦٠) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٥) ، وعزاه إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن أبزي.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٣٦٣) برقم : (٣١٥٧٣) ، وذكره البغوي (٤ / ٢٠٤) ، وابن عطية (٥ / ١٣٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٦) ، وعزاه لابن جرير.

٢٥٧

المؤمنين ، والوطء هنا : الإهلاك بالسيف وغيره ؛ ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ اشدد وطأتك على مضر(١)» قال أبو حيّان (٢) : (وَلَوْ لا رِجالٌ) جوابها محذوف ؛ لدلالة الكلام عليه ، أي : ما كفّ أيديكم عنهم ، انتهى ، والمعرّة : السوء والمكروه اللاحق ؛ مأخوذ من العرّ والعرّة وهو الجرب الصعب اللّازم ، واختلف / في تعيين هذه المعرّة ، فقال الطبريّ (٣) : وحكاه الثعلبيّ : هي الكفّارة ، وقال منذر : المعرّة : أن يعيبهم الكفّار ، ويقولوا : قتلوا أهل دينهم ، وقال بعض المفسّرين : هي الملام ، والقول في ذلك ، وتألّم النفس في باقي الزمان ، وهذه أقوال حسان ، وجواب «لو لا» محذوف ، تقديره : لو لا هؤلاء لدخلتم مكّة ، لكن شرّفنا هؤلاء المؤمنين بأن رحمناهم ، ودفعنا بسببهم عن مكّة ليدخل الله ، أي : ليبيّن للناظر أنّ الله يدخل من يشاء في رحمته أو ، أي : ليقع دخولهم في رحمة الله ودفعه عنهم.

* ت* : وقال الثّعلبيّ : قوله : «بغير علم» يحتمل أن يريد بغير علم ممّن تكلّم بهذا ، والمعرّة : المشقة «ليدخل الله في رحمته» أي : في دين الإسلام «من يشاء» : من أهل مكة قبل أن تدخلوها ، انتهى.

وقوله تعالى : (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي : لو ذهبوا عن مكّة ؛ تقول : زلت زيدا عن موضعه إزالة ، أي : أذهبته ، وليس هذا الفعل من «زال يزول» ، وقد قيل : هو منه ، وقرأ أبو حيوة

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٥٧٢) كتاب «الاستسقاء» باب : دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» (١٠٠٦) ، (٦ / ٤٨١) كتاب «أحاديث الأنبياء» باب : قول الله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) (٣٣٨٦) ، (١٠ / ٥٩٦) كتاب «الأدب» باب : تسمية الوليد (٦٢٠٠) ، (١١ / ١٩٧) كتاب «الدعوات» باب : تكرير الدعاء (٦٣٩٣) ، ومسلم (٣ / ١٩٠ ـ ١٩١) كتاب «المساجد ومواضع الصلاة» باب : استحباب القنوت في جميع الصلاة ، إذا نزلت بالمسلمين نازلة (٢٩٤ ، ٢٩٤ / ٦٧٥) ، (٢٩٥ / ٦٧٥) ، وابن حبان (٥ / ٣٠١) كتاب «الصلاة» باب : صفة الصلاة (١٩٦٩ ، ١٩٧٢) ، باب : فصل في القنوت (١٩٨٦) ، وأبو داود (١٠ / ٤٥٧) كتاب «الصلاة» باب : القنوت في الصلاة (١٤٤٢) ، وأحمد (٢ / ٢٣٩ ، ٢٥٥ ، ٢٧١ ، ٣٩٦ ، ٤٠٧ ، ٤١٨ ، ٥٠٢ ، ٥٢١) ، وابن ماجه (١ / ٣٩٤) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها : باب : ما جاء في القنوت في صلاة الفجر (١٢٤٤) ، والبيهقي (٢ / ١٩٧ ، ١٩٨ ، ٢٠٠) كتاب «الصلاة» باب : القنوت في الصلاة عند النازلة ، (٢ / ٢٠٧) كتاب «الصلاة» باب : الدليل على أنه يقنت بعد الركوع ، (٢ / ٢٤٤) كتاب «الصلاة» باب : ما يجوز من الدعاء في الصلاة ، (٩ / ١٤) كتاب «السير» باب : ما جاء في عذر المستضعفين ، والدارقطني (٢ / ٣٨) كتاب «الوتر» ، وأنه ليس بفرض ، والوتر على البعير ، باب : صفة القنوت وبيان موضعه برقم : (٧) ، والحميدي (٢ / ٤١٩) (٩٣٩) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٤ / ١٧٦)

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٩٧)

(٣) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٣٦٣)

٢٥٨

وقتادة : «تزايلوا» بألف (١) ، أي : ذهب هؤلاء عن هؤلاء ، وقال النحّاس : وقد قيل : إنّ قوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ ...) الآية : يريد : من في أصلاب الكافرين ممّن سيؤمن في غابر الدهر ، وحكاه الثعلبيّ والنقّاش عن عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرفوعا ، والحميّة التي جعلوها هي حميّة أهل مكة في الصدّ ؛ قال الزّهريّ : وهي حمية سهيل ومن شاهد منهم عقد الصلح ، وجعلها سبحانه حميّة جاهلية ، لأنّها كانت منهم بغير حجّة ، إذ لم يأت صلى‌الله‌عليه‌وسلم محاربا لهم ، وإنما جاء معتمرا معظّما لبيت الله ، والسكينة : هي الطّمأنينة إلى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والثقة بوعد الله ، والطاعة ، وزوال / الأنفة التي لحقت عمر وغيره ، «وكلمة التّقوى» : قال الجمهور : هي لا إله إلا الله ، وروي ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي مصحف ابن مسعود (٢) : «وكانوا أهلها [وأحقّ بها» والمعنى : كانوا أهلها] على الإطلاق في علم الله وسابق قضائه لهم ، وروى أبو أمامة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إذا نادى المنادي فتحت أبواب السّماء ، واستجيب الدّعاء ، فمن نزل به كرب أو شدّة فليتحيّن المنادي ، فإذا كبّر كبّر ، وإذا تشهّد تشهّد ، وإذا قال : حيّ على الصلاة ، قال : حيّ على الصلاة ، وإذا قال : حيّ على الفلاح ، قال : حيّ على الفلاح ، ثمّ يقول : ربّ هذه الدّعوة الصادقة المستجاب لها ، دعوة الحقّ وكلمة التّقوى ، أحينا عليها ، وأمتنا عليها ، وابعثنا عليها ، واجعلنا من خيار أهلها أحياء وأمواتا ، ثمّ يسأل الله حاجته» رواه الحاكم في «المستدرك» ، وقال : صحيح الإسناد (٣) ، انتهى من «السّلاح».

فقد بيّن صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا الحديث معنى «كلمة التقوى» على نحو ما فسّر به الجمهور ، والصحيح أنه يعوض عن الحيعلة الحوقلة ؛ ففي «صحيح مسلم» ، ثمّ قال : حيّ على الصلاة ، قال : لا حول ولا قوّة إلّا بالله ، ثمّ قال : حيّ على الفلاح ، قال : لا حول ولا قوّة إلّا بالله (٤)» الحديث ، انتهى.

وقوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) إشارة إلى علمه بالمؤمنين الذين دفع عن كفار قريش بسببهم ، وإلى علمه بوجه المصلحة في صلح الحديبية ؛ فيروى أنّه لما انعقد

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٣٧) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٩٨) ، وزاد نسبتها إلى ابن أبي عبلة ، وابن مقسم ، وابن عون. وهي في «الدر المصون» (٦ / ١٦٤)

(٢) وهي في مختصر ابن خالويه ص : (١٤٣) هكذا : وكانوا أهلها أحق من غير واو. ونسبها إلى أصحاب عبد الله بن مسعود. وكما أثبتها «المصنف» عند ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٥ / ١٣٨)

(٣) أخرجه الحاكم (١ / ٥٤٦ ـ ٥٤٧) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (١٠ / ٢١٣)

(٤) أخرجه مسلم (٢ / ٣٢١) كتاب «الصلاة» باب : استحباب القول مثل قول المؤذن ، برقم : (١٢ / ٣٨٥)

٢٥٩

الصلح أمن الناس في تلك المدّة الحرب والفتنة ، وامتزجوا وعلت دعوة الإسلام ، / وانقاد إلى الإسلام كلّ من له فهم ، وزاد عدد الإسلام في تلك المدة أضعاف ما كان قبل ذلك ؛ قال* ع (١) * : ويقتضي ذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان في عام الحديبية في أربع عشرة مائة ، ثم سار إلى مكّة بعد ذلك بعامين في عشرة آلاف فارس ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ.

* ت* : المعروف عشرة آلاف ، وقوله فارس ما أظنّه يصحّ فتأمله في كتب السيرة.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً(٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً)(٢٨)

وقوله سبحانه : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ...) الآية : «روي في تفسيرها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنّه يطوف بالبيت هو وأصحابه ، بعضهم محلّقون ، وبعضهم مقصّرون» (٢) وقال مجاهد : رأى ذلك بالحديبية فأخبر الناس بهذه الرؤيا ، فوثق الجميع بأنّ ذلك يكون في وجهتهم تلك ، وقد كان سبق في علم الله أنّ ذلك يكون ، لكن ليس في تلك الوجهة ، فلمّا صدّهم أهل مكّة قال المنافقون : وأين الرؤيا؟ ووقع في نفوس بعض المسلمين شيء من ذلك ، فأجابهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن قال : «وهل قلت لكم : يكون ذلك في عامنا هذا» ، أو كما قال ، ونطق أبو بكر قبل ذلك بنحوه (٣) ، ثم أنزل الله عزوجل : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ...) الآية ، واللام في : (لَتَدْخُلُنَ) لام القسم.

وقوله : (إِنْ شاءَ اللهُ) اختلف في هذا الاستثناء ، فقال بعض العلماء : إنّما استثنى من حيث إنّ كلّ واحد من الناس متى ردّ هذا الوعد إلى نفسه ، / أمكن أن يتمّ الوعد فيه وألّا يتمّ ؛ إذ قد يموت الإنسان أو يمرض لحينه ، فلذلك استثنى عزوجل في الجملة ؛ إذ فيهم ـ ولا بدّ ـ من يموت أو يمرض.

* ت* : وقد وقع ذلك حسبما ذكر في السّير ، وقال آخرون : هو أخذ من

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٣٨)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٣٦٧) برقم : (٣١٦٠٢) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٩)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٣٦٧) برقم : (٣١٦٠١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٣٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٩) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في «الدلائل».

٢٦٠