تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

مرتبته ، ولا أن تزيحه عن وطنه ، وإنما أبيح لك مجاهدته ، فاستعن بالله يعنك ، وثق بالله ؛ فإنّه لا يخذلك ؛ قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ، وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت : ٦٩] ، انتهى من تصنيفه ـ رحمه‌الله ـ.

وندب سبحانه في الآية المتقدمة إلى الأخذ بمكارم الأخلاق ، ووعد على ذلك ، وعلم سبحانه أنّ خلقه البشر تغلب أحيانا وتثور بهم سورة الغضب ونزغ الشيطان ؛ فدلّهم في هذه الآية على ما يذهب ذلك ، وهي الاستعاذة به عزوجل ، ثم عدّد سبحانه آياته ؛ ليعتبر فيها ، فقال : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) ، ثم قال تعالى : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) : وإن كانت لكم فيهما منافع ؛ لأنّ النفع منهما إنّما هو بتسخير الله إيّاهما ، فهو الذي ينبغي أن يسجد له ، والضمير في (خَلَقَهُنَ) قيل : هو عائد على الآيات المتقدم ذكرها ، وقيل : عائد على الشمس والقمر ، والاثنان جمع ، وأيضا جمع ما لا يعقل يؤنّث / ، فلذلك قال : (خَلَقَهُنَ) ومن حيث يقال : شموس وأقمار ؛ لاختلافهما بالأيّام ساغ أن يعود الضمير مجموعا ، وقيل : هو عائد على الأربعة المذكورة.

* ت* : ومن كتاب «المستغيثين بالله» لأبي القاسم بن بشكوال حدّث بسنده إلى أنس بن مالك ، قال : تقرأ «حم السجدة» ، وتسجد عند السجدة ، وتدعو ؛ فإنّه يستجاب لك ، قال الراوي : وجرّبته فوجدته مستجابا ، انتهى ، ، ثم خاطب جل وعلا نبيّه ـ عليه‌السلام ـ بما يتضمّن وعيدهم وحقارة أمرهم ، وأنّه سبحانه غنيّ عن عبادتهم بقوله : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا ...) الآية ، وقوله : (فَالَّذِينَ) يعني بهم الملائكة هم صافّون يسبحون ، و (عِنْدَ) هنا ليست بظرف مكان ؛ وإنّما هي بمعنى المنزلة والقربة ؛ [كما تقول : زيد عند الملك جليل ، ويروى أنّ تسبيح الملائكة قد صار لهم كالنّفس لبني آدم ، (وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) معناه : لا] (١) يملّون ، ثم ذكر تعالى آية منصوبة ؛ ليعتبر بها في أمر البعث من القبور ، ويستدلّ بما شوهد من هذه على ما لم يشاهد ، فقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً ...) الآية ، وخشوع الأرض هو ما يظهر عليها من استكانة وشعث بالجدب ، فهي عابسة كما الخاشع عابس يكاد يبكي ، واهتزاز الأرض : هو تخلخل أجزائها وتشقّقها للنبات ، وربوّها : هو انتفاخها بالماء وعلوّ سطحها به ، وعبارة البخاريّ : اهتزت بالنبات ، وربت : ارتفعت ا ه ، ثم ذكر تعالى بالأمر الذي ينبغي أن يقاس على هذه الآية ، والعبرة ، وذلك إحياء الموتى ، فقال : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) والشيء في اللغة : الموجود.

__________________

(١) سقط في : د.

١٤١

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ)(٤٣)

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا ...) الآية ، آية وعيد ، والإلحاد : الميل ، وهو هنا ميل عن الحقّ ؛ / ومنه لحد الميّت ؛ لأنّه في جانب ، يقال : لحد الرّجل ، وألحد بمعنى.

واختلف في إلحادهم هذا : ما هو؟ فقال قتادة وغيره : هو إلحاد بالتكذيب (١) ، وقال مجاهد وغيره (٢) : هو بالمكاء والصفير واللغو الذي ذهبوا إليه ، وقال ابن عبّاس : إلحادهم : وضعهم للكلام غير موضعه ، ولفظة (٣) الإلحاد تعمّ هذا كلّه ، وباقي الآية بيّن.

وقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) وعيد في صيغة الأمر ؛ بإجماع من أهل العلم.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ ...) الآية : يريد ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) قريشا ، والذكر : القرآن ؛ بإجماع.

واختلف في الخبر عنهم : أين هو؟ فقالت فرقة : هو في قوله : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] ، وردّ بكثرة الحائل ، وأنّ هنالك قوما قد ذكروا بحسن رد قوله : «أولئك ينادون عليهم» ، وقالت فرقة : الخبر مضمر ، تقديره : إنّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم ، هلكوا أو ضلّوا ، وقيل : الخبر في قوله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) وهذا ضعيف لا يتجه ، وقال عمرو بن عبيد : معناه في التفسير : إنّ الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به ، وإنه لكتاب عزيز ؛ قال* ع (٤) * : والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر ، ولكنّه عند قوم في غير هذا الموضع الذي قدّره هؤلاء فيه ؛ وإنّما هو بعد (حَكِيمٍ حَمِيدٍ) ، وهو أشدّ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١١٥) برقم : (٣٠٥٦٢) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١١٦) ، وابن عطية (٥ / ١٨) ، وابن كثير (٤ / ١٠٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٨٨) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وعبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ١١٥) برقم : (٣٠٥٦١) ، والبغوي في «تفسيره» (٤ / ١١٦) ، وابن عطية (٥ / ١٨)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ١١٥) برقم : (٣٠٥٦٥) ، وابن عطية (٥ / ١٨) ، وابن كثير (٤ / ١٠٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٨٧) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٧ / ١٩)

١٤٢

إظهارا لمذمّة الكفّار به ؛ وذلك لأنّ قوله : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ) داخل في صفة الذكر المكذّب به ؛ فلم يتم ذكر المخبر عنه إلّا بعد استيفاء وصفه ، ووصف الله تعالى الكتاب بالعزّة ؛ لأنه بصحة معانيه ممتنع الطّعن فيه والإزراء عليه ، وهو محفوظ من الله تعالى ؛ قال ابن عبّاس : معناه : كريم على الله تعالى (١).

وقوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ / الْباطِلُ) قال قتادة والسّدّيّ : يريد : الشيطان (٢) ، وظاهر اللفظ يعمّ الشيطان ، وأن يجيء أمر يبطل منه شيئا.

وقوله : (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) معناه : ليس فيما تقدم من الكتب ما يبطل شيئا منه.

وقوله : (وَلا مِنْ خَلْفِهِ) أي : ليس يأتي بعده من نظر ناظر وفكرة عاقل ما يبطل شيئا منه ، والمراد باللفظة على الجملة : لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات.

وقوله : (تَنْزِيلٌ) خبر مبتدإ ، أي : هو تنزيل.

وقوله تعالى : (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) : يحتمل معنيين :

أحدهما : أن يكون تسلية للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مقالات ، قومه وما يلقاه من المكروه منهم.

والثاني : أن يكون المعنى : ما يقال لك من الوحي ، وتخاطب به من جهة الله تعالى إلّا ما قد قيل للرّسل من قبلك.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(٤٦)

وقوله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا ...) الآية ، الأعجميّ : هو الذي لا يفصح ، عربيّا كان أو غير عربيّ ، والعجميّ : الذي ليس من العرب ، فصيحا كان أو غير فصيح ، والمعنى : ولو جعلنا هذا القرآن أعجميّا ، لا يبين لقالوا واعترضوا : لو لا بينت

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١١٦) ، وابن عطية (٥ / ١٩)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ١١٧) برقم : (٣٠٥٧١ ـ ٣٠٥٧٢) ، وذكره البغوي (٤ / ١١٦) ، وابن عطية (٥ / ١٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٨٩) ، وعزاه إلى عبد بن حميد ، وابن الضريس.

١٤٣

آياته ، وهذه الآية نزلت بسبب تخليط كان من قريش في أقوالهم من أجل حروف وقعت في القرآن ، وهي ممّا عرّب من كلام العجم ؛ كسجّين وإستبرق ونحوه ، وقرأ الجمهور : (ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) على الاستفهام وهمزة ممدودة قبل الألف ، وقرأ حمزة والكسائيّ وحفص : «أأعجميّ» بهمزتين (١) ، وكأنهم ينكرون ذلك ، ويقولون : أأعجمي وعربي مختلط؟ هذا لا يحسن [ثم قال تعالى] (٢) : (قُلْ هُوَ) يعني القرآن (لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ) واختلف الناس في قوله : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ / عَمًى) فقالت فرقة : يريد ب «هو» القرآن ، وقالت فرقة يريد ب «هو» الوقر ، وهذه كلّها استعارات ، والمعنى : أنّهم كالأعمى وصاحب الوقر ؛ وهو الثّقل في الأذن ، المانع من السمع ؛ وكذلك قوله تعالى : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يحتمل معنيين ، وكلاهما مقول للمفسّرين :

أحدهما : أنّها استعارة لقلّة فهمهم ، شبّههم بالرجل ينادى على بعد ، يسمع منه الصوت ، ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه ، وهذا تأويل مجاهد (٣).

والآخر : أنّ الكلام على الحقيقة ، وأنّ معناه : أنّهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم من بعد ؛ حتى يسمع ذلك أهل الموقف ؛ ليفضحوا على رؤوس الخلائق ، ويكون أعظم لتوبيخهم ؛ وهذا تأويل الضّحّاك (٤).

قال أبو حيّان (٥) : (عَمًى) ـ بفتح الميم ـ مصدر عمي ، انتهى.

ثم ضرب الله تعالى أمر موسى مثلا للنبي* ع* ولقريش ، أي : فعل أولئك كأفعال هؤلاء ، حين جاءهم مثل ما جاء هؤلاء ، والكلمة السابقة هي حتم الله تعالى بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة ، والضمير في قوله : (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) يحتمل أن يعود على موسى ، أو على كتابه.

وقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ...) الآية : نصيحة بليغة للعالم ، وتحذير وترجية.

__________________

(١) بل قراءة عاصم بالهمزتين ، إنما هي من رواية أبي بكر عنه ، لا من رواية حفص ، وقرأ الأخير بالمد كقراءة الباقين.

ينظر : «السبعة» (٥٧٦) ، و «الحجة» (٦ / ١١٩) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٧٨) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٥٢) ، و «العنوان» (١٦٩) ، و «حجة القراءات» (٦٣٧) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٤٤)

(٢) سقط في : د.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ١٢٠) برقم : (٣٠٥٨٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢١) ، وابن كثير (٤ / ١٠٣)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ١٢٠) برقم : (٣٠٥٩٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢١)

(٥) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٤٨١)

١٤٤

(إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)(٥٠)

وقوله تعالى : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ ...) الآية ، المعنى : إنّ علم الساعة ووقت مجيئها يردّه كلّ مؤمن متكلّم فيه إلى الله عزوجل.

وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي ...) الآية ، التقدير : واذكر يوم يناديهم ، والضمير في (يُنادِيهِمْ) الأظهر والأسبق فيه للفهم : أنّه يريد الكفار عبدة الأوثان ، ويحتمل أن يريد كلّ من عبد من دون الله من إنسان وغيره ، وفي هذا ضعف ، وأمّا الضمير / في قوله : (وَضَلَّ عَنْهُمْ) فلا احتمال لعودته إلّا على الكفار ، و (آذَنَّاكَ) قال ابن عبّاس وغيره : معناه : أعلمناك ما منّا من يشهد ، ولا من شهد بأنّ لك شريكا (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي : نسوا ما كانوا يقولون في الدنيا ، ويدعون من الآلهة والأصنام ، ويحتمل أن يريد : وضلّ عنهم الأصنام ، أي : تلفت ، فلم يجدوا منها نصرا ، وتلاشى لهم أمرها.

وقوله : (وَظَنُّوا) يحتمل أن يكون متّصلا بما قبله ، ويكون الوقف عليه ، ويكون قوله : (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) استئنافا ، نفى أن يكون لهم ملجأ أو موضع روغان ، تقول : حاص الرجل : إذا راغ لطلب النجاة من شيء ؛ ومنه الحديث : «فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب» (١) ، ويكون الظّنّ على هذا التأويل على بابه ، أي : ظنّوا أنّ هذه المقالة (ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) منجاة لهم ، أو أمر يموّهون به ، ويحتمل أن يكون الوقف في قوله : (مِنْ قَبْلُ) ، ويكون (وَظَنُّوا) متصلا بقوله : (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي : ظنوا ذلك ، ويكون الظن على هذا التأويل بمعنى اليقين ، وقد تقدّم البحث في إطلاق الظن على اليقين.

* ت* : وهذا التأويل هو الظاهر ، والأوّل بعيد جدّا.

وقوله تعالى : (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) هذه آيات نزلت في كفّار ، قيل : في

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٤٢ ـ ٤٣ ـ ٤٤) كتاب «بدء الوحي» باب : (٦) (٧) ، (٨ / ٦٢ ـ ٦٣) ، كتاب «التفسير» باب : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) (٤٥٥٣)

١٤٥

الوليد بن المغيرة ، وقيل : في عتبة بن ربيعة ، وجلّ الآية يعطي أنّها نزلت في كفّار ، وإن كان أوّلها يتضمن خلقا ربما شارك فيها بعض المؤمنين.

و (دُعاءِ الْخَيْرِ) إضافته إضافة المصدر إلى المفعول ، وفي مصحف ابن مسعود (١) : «من دعاء بالخير» والخير في هذه الآية المال والصحّة ، وبذلك تليق الآية بالكفّار.

وقوله تعالى : (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي : بعملي وبما سعيت / ولا يرى أنّ النعم إنّما هي فضل من الله تعالى ؛ قال ـ ص ـ : (لَيَقُولَنَ) قال أبو البقاء : هو جواب الشرط ، والفاء محذوفة ، وقيل : هو جواب قسم محذوف ، قال ـ ص ـ : قلت : هذا هو الحقّ ، والأوّل غلط ؛ لأنّ القسم قد تقدّم في قوله : (وَلَئِنْ) فالجواب له ، ولأنّ حذف الفاء في الجواب لا يجوز ، انتهى ، وفي تغليط الصفاقسيّ لأبي البقاء نظر.

وقوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) قول بيّن فيه الجحد والكفر ، ثم يقول هذا الكافر : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي) : كما تقولون : «إن لي عنده للحسنى» أي : حالا ترضيني من مال ، وبنين ، وغير ذلك ، قال* ع (٢) * : والأمانيّ على الله تعالى ، وترك الجدّ في الطاعة مذموم لكلّ أحد ؛ فقد قال عليه‌السلام : «الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من اتّبع نفسه هواها وتمنّى على الله» (٣).

(وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)(٥٤)

وقوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ ...) الآية ، ذكر سبحانه الخلق الذميمة من الإنسان جملة ، وهي في الكافر بيّنة متمكّنة ، وأمّا المؤمن ، ففي الأغلب يشكر على النعمة ، وكثيرا ما يصبر عند الشدة ، و (نَأى) معناه : بعد ولم يمل إلى شكر ولا طاعة.

وقوله : (فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي : وطويل أيضا ، وعبارة الثعلبيّ : (عَرِيضٍ) أي :

__________________

(١) ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٣٥) ، و «الكشاف» (٤ / ٢٠٥) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٢) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٨٢) ، و «الدر المصون» (٦ / ٧١)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٢)

(٣) تقدم.

١٤٦

كثير ، والعرب تستعمل الطّول والعرض كليهما في الكثرة من الكلام ، انتهى.

ثم أمر تعالى نبيّه أن يوقّف قريشا على هذا الاحتجاج ، وموضع تغريرهم بأنفسهم ، فقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، وخالفتموه ألستم على هلكة؟ فمن أضلّ ممّن يبقى على مثل هذا الغرر مع الله ؛ وهذا هو الشقاق ؛ ثم وعد تعالى / نبيّه* ع* بأنّه سيرى الكفّار آياته ، واختلف في معنى قوله سبحانه : (فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) فقال المنهال والسّدّيّ وجماعة : هو وعد بما يفتحه الله على رسوله من الأقطار حول مكّة ، وفي غير ذلك من الأرض ؛ كخيبر ونحوها (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : أراد به فتح مكّة (١) ؛ قال* ع (٢) * : وهذا تأويل حسن ، يتضمّن الإعلام بغيب ظهر بعد ذلك ، وقال قتادة والضّحّاك (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) : هو ما أصاب الأمم المكذّبة في أقطار الأرض قديما (٣) ، (وَفِي أَنْفُسِهِمْ) : يوم بدر ، والتأويل الأوّل أرجح ، والله أعلم ، والضمير في قوله تعالى : (أَنَّهُ الْحَقُ) عائد على الشرع والقرآن فبإظهار الله نبيّه وفتح البلاد عليه يتبيّن لهم أنّه الحقّ.

وقوله : (بِرَبِّكَ) قال أبو حيّان (٤) : الباء زائدة ، وهو فاعل (يَكْفِ) أي : أو لم يكفهم ربّك ، انتهى ، وباقي الآية بيّن.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١٢٥) برقم : (٣٠٦٠٤) عن السدي ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٣) ، وابن كثير (٤ / ١٠٥)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٣)

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١١٨) عن مجاهد ، والحسن ، والسدي ، والكلبي ، وابن عطية (٥ / ١١٨)

(٤) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٤٨٣)

١٤٧

تفسير سورة الشورى

وهي مكّيّة وقال مقاتل : فيها مدني [قوله تعالى : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) إلى (الصُّدُورِ)] (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٥)

قوله تعالى : (حم عسق) قال الثعلبيّ : قال ابن عبّاس : إنّ (حم عسق) هذه الحروف بأعيانها نزلت في كلّ كتب الله المنزّلة على كلّ نبيّ أنزل عليه كتاب ؛ ولذلك قال تعالى : (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) (٢) ، وقرأ الجمهور : (يُوحِي) بإسناد الفعل إلى الله تعالى ، وقرأ ابن كثير وحده : «يوحى» ـ بفتح الحاء ـ على بناء الفعل للمفعول (٣) ، والتقدير : يوحي إليك القرآن.

وقوله تعالى : (وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) : يريد من الأنبياء الذين نزل عليهم / الكتاب ، وقرأ نافع والكسائيّ «يتفطّرن» ، وقرأ أبو عمرو ، وعاصم : «ينفطرن» (٤) والمعنى فيهما : يتصدّعن ويتشقّقن ، خضوعا وخشية من الله تعالى ، وتعظيما وطاعة.

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١١٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٥)

(٣) ينظر : «السبعة» (٥٨٠) ، و «الحجة» (٦ / ١٢٦) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٨١) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٥٥) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢١٢) ، و «العنوان» (١٧٠) ، و «حجة القراءات» (٦٣٩) ، و «شرح شعلة» (٥٧٤) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٤٨)

(٤) يعني من رواية أبي بكر ، وأما رواية حفص فمثل الباقين.

ينظر : «السبعة» (٥٨٠) ، و «الحجة» (٦ / ١٢٧) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٨٣) ، و «العنوان» (١٧٠) ، و «حجة القراءات» (٦٤٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٤٨)

١٤٨

وقوله : (مِنْ فَوْقِهِنَ) أي : من أعلاهن ، وقال الأخفش ، عليّ بن سليمان : الضمير في (مِنْ فَوْقِهِنَ) للكفّار ، أي : من فوق الجماعات الكافرة والفرق الملحدة من أجل أقوالها تكاد السّموات يتفطّرن ، فهذه الآية على هذا كالتي في «كهيعص» : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) [مريم : ٩٠] الآية ، وقالت فرقة : معناه : من فوق الأرضين ، إذ قد جرى ذكر الأرض.

وقوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) قالت فرقة : هذا منسوخ بقوله تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٧] قال* ع (١) * : وهذا قول ضعيف ، لأنّ النسخ في الأخبار لا يتصوّر ، وقال السّدّيّ ما معناه : إنّ ظاهر الآية العموم ، ومعناها الخصوص في المؤمنين ، فكأنّه قال : ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين (٢) ، وقالت فرقة : بل هي على عمومها : لكنّ استغفار الملائكة ليس بطلب غفران للكفرة مع بقائهم على كفرهم ، وإنّما استغفارهم لهم بمعنى طلب الهداية التي تؤدّي إلى الغفران لهم ، وتأويل السّدّيّ أرجح.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)(٨)

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) هذه آية تسلية للنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعيد للكافرين ، والمعنى : ليس عليك إلّا البلاغ فقط ، فلا تهتمّ بعدم إيمان قريش وغيرهم ، الله هو الحفيظ عليهم كفرهم المحصي لأعمالهم ، المجازي عليها ، وأنت لست بوكيل عليهم ، وما في هذه الألفاظ من موادعة فمنسوخ ؛ قال الإمام الفخر في شرحه لأسماء الله / الحسنى ، عند كلامه على اسمه سبحانه «الحفيظ» : قال بعضهم : ما من عبد حفظ جوارحه إلّا حفظ الله عليه قلبه ، وما من عبد حفظ الله عليه قلبه إلّا جعله حجّة على عباده ، انتهى ، ثم قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [المعنى : وكما قضينا أمرك هكذا ، وأمضيناه في هذه السورة كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيّا] (٣) مبينا لهم ، لا يحتاجون إلى آخر سواه ؛ إذ فهمه متأتّ لهم ، ولم نكلّفك إلّا إنذار من ذكر ، و (أُمَّ الْقُرى) هي مكة ، و (يَوْمَ الْجَمْعِ) هو يوم القيامة ، أي : تخوفهم إيّاه.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٦)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ١٢٩) برقم : (٣٠٦١٥)

(٣) سقط في : د.

١٤٩

وقوله : (فَرِيقٌ) مرتفع على خبر الابتداء المضمر ؛ كأنّه قال : هم فريق في الجنة ، وفريق في السّعير ، ثم قوّى تعالى تسلية نبيّه بأن عرّفه أنّ الأمر موقوف على مشيئة الله من إيمانهم أو كفرهم ، وأنّه لو أراد كونهم أمّة واحدة على دين واحد ، لجمعهم عليه ؛ ولكنّه سبحانه يدخل من سبقت له السعادة عنده في رحمته ، وييسّره في الدنيا لعمل أهل السعادة ، وأنّ الظالمين بالكفر الميسّرين لعمل الشقاوة ما لهم من ولي ولا نصير ، قال عبد الحقّ ـ رحمه‌الله ـ في «العاقبة» : وقد علمت (رحمك الله) أنّ الناس يوم القيامة صنفان :

صنف مقرّب مصان.

وآخر مبعد مهان.

صنف نصبت لهم الأسرّة والحجال ؛ والأرائك والكلال ؛ وجمعت لهم الرغائب والآمال.

وآخرون أعدّت لهم الأراقم والصلال ؛ والمقامع والأغلال ؛ وضروب الأهوال والأنكال ، وأنت لا تعلم من أيّهما أنت ؛ ولا في أيّ الفريقين كنت : [الكامل]

نزلوا بمكّة في قبائل نوفل

ونزلت بالبيداء أبعد منزل

وتقلّبوا فرحين تحت ظلالها

وطرحت بالصّحراء غير مظلّل

وسقوا من الصافي المعتق ريّهم

وسقيت دمعة / واله متململ

بكى سفيان الثوريّ ـ رحمه‌الله ـ ليلة إلى الصباح ، فقيل له : أبكاؤك هذا على الذنوب؟ فأخذ تبنة من الأرض ، وقال : الذنوب أهون من هذا ؛ إنّما أبكي ؛ خوف الخاتمة ، وبكى سفيان ، وغير سفيان ، وإنّه للأمر يبكى عليه ؛ ويصرف الاهتمام كلّه إليه.

وقد قيل : لا تكفّ دمعك ؛ حتّى ترى في المعاد ربعك.

وقيل : يا ابن آدم ، الأقلام عليك تجري ؛ وأنت في غفلة لا تدري ، يا ابن آدم دع التنافس في هذه الدار ؛ حتى ترى ما فعلت في أمرك الأقدار ، سمع بعض الصالحين منشدا ينشد : [الطويل]

أيا راهبي نجران ما فعلت هند

 ...............

فبكى ليلة إلى الصباح ، فسئل عن ذلك فقال : قلت في نفسي : ما فعلت الأقدار فيّ ؛ وماذا جرت به عليّ؟ انتهى.

١٥٠

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(١٢)

وقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ ...) الآية ، قوله : (أَمِ اتَّخَذُوا) : كلام مقطوع ممّا قبله ، وليست بمعادلة ، ولكنّ الكلام كأنّه أضرب عن حجّة لهم أو مقالة مقرّرة ، فقال : بل اتخذوا هذا مشهور قول النحويّين في مثل هذا ، وذهب بعضهم إلى أنّ «أم» هذه هي بمنزلة ألف الاستفهام دون تقدير إضراب ، ثم أثبت الحكم بأنّه عزوجل هو الوليّ الذي تنفع ولايته.

وقوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ...) الآية ، المعنى : قل لهم يا محمّد : وما اختلفتم فيه ، أيّها الناس ، من تكذيب وتصديق ، وإيمان وكفر ، وغير ذلك فالحكم فيه والمجازاة عنه ليست إليّ ولا بيدي ؛ وإنّما ذلك إلى الله تعالى ، الذي صفاته ما ذكر من إحياء الموتى والقدرة على كلّ شيء.

وقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) يريد : زوج الإنسان الأنثى ، وبهذه / النعمة اتفق الذرء ، وليست الأزواج هاهنا الأنواع.

وقوله : (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) الظاهر أيضا فيه والمتّسق أنّه يريد إناث الذّكران ، ويحتمل أن يريد الأنواع ، والأوّل أظهر.

وقوله : (يَذْرَؤُكُمْ) أي : يخلقكم نسلا بعد نسل ، وقرنا بعد قرن ؛ قاله مجاهد والناس ، فلفظة «ذرأ» تزيد على لفظة «خلق» معنى آخر ليس في «خلق» ، وهو توالي طبقات على مرّ الزمان.

وقوله : (فِيهِ) الضمير عائد على الجعل يتضمّنه قوله : (جَعَلَ لَكُمْ) وهذا كما تقول : كلّمت زيدا كلاما أكرمته فيه ، وقال القتبيّ : الضمير للتزويج ، ولفظة «في» مشتركة على معان ، وإن كان أصلها الوعاء ، وإليه يردها النظر في كلّ وجه.

وقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) الكاف مؤكّدة للتشبيه ، فنفي التشبيه أوكد ما يكون ؛ وذلك أنّك تقول : زيد كعمرو ، وزيد مثل عمرو ، فإذا أردت المبالغة التامّة قلت : زيد كمثل عمرو ، وجرت الآية في هذا الموضع على عرف كلام العرب ، وعلى هذا المعنى

١٥١

شواهد كثيرة ، وذهب الطّبريّ (١) وغيره إلى أنّ المعنى : ليس كهو شيء ، وقالوا : لفظة مثل في الآية توكيد ، وواقعة موقع «هو» ، و «المقاليد» : المفاتيح ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (٢) ، وقال مجاهد هذا أصلها بالفارسيّة (٣) ، وهي هاهنا استعارة لوقوع كلّ أمر تحت قدرته سبحانه ، وقال السّدّيّ : المقاليد : الخزائن (٤) ، وفي اللفظ على هذا حذف مضاف ، قال قتادة : من ملك مقاليد خزائن ، فالخزائن في ملكه (٥).

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)(١٥)

وقوله سبحانه : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ...) الآية ، المعنى : شرع لكم وبيّن من المعتقدات والتوحيد ما وصّى به نوحا قبل.

وقوله : (وَالَّذِي) عطف على (ما) ، وكذلك ما ذكر بعد من إقامة الدّين مشروع اتفقت النبوّات فيه ؛ وذلك في المعتقدات ، وأمّا الأحكام بانفرادها فهي في الشرائع مختلفة ، وهي المراد في قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] وإقامة الدين هو توحيد الله ورفض سواه.

وقوله تعالى : (وَلا تَتَفَرَّقُوا) : نهي عن المهلك من تفرّق الأنحاء والمذاهب ، والخير كلّه في الألفة واجتماع الكلمة ، ثم قال تعالى لنبيّه* ع* : (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) : من توحيد الله ورفض الأوثان ؛ قال قتادة : كبر عليهم «لا إله إلا الله» وأبى الله إلّا نصرها (٦) ، ثم سلّاه تعالى عنهم بقوله : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ ...) الآية ،

__________________

(١) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ١٣٣)

(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥ / ٢٩)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ١٣٣ ، ١٣٤) برقم : (٣٠٦٣٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٩)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ١٣٤) برقم : (٣٠٦٣٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٩)

(٥) ذكره ابن عطية (٥ / ٢٩)

(٦) أخرجه الطبري (١١ / ١٣٥) برقم : (٣٠٦٤٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٩)

١٥٢

أي : يختار ويصطفي ؛ قاله مجاهد وغيره (١) و (يُنِيبُ) يرجع عن الكفر ويحرص على الخير ويطلبه.

(وَما تَفَرَّقُوا) يعني : أوائل اليهود والنصارى (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ).

وقوله : (بَغْياً بَيْنَهُمْ) أي : بغى بعضهم على بعض ، وأدّاهم ذلك إلى اختلاف الرأي وافتراق الكلمة ، والكلمة السابقة قال المفسرون : هي حتمه تعالى القضاء بأنّ مجازاتهم إنّما تقع في الآخرة ، ولو لا ذلك لفصل بينهم في الدنيا ، وغلّب المحقّ على المبطل.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ) إشارة إلى معاصري نبيّنا محمّد ـ عليه‌السلام ـ من اليهود والنصارى.

وقيل : هو إشارة إلى العرب ؛ والكتاب على هذا هو القرآن ، والضمير في قوله : (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) يحتمل أن يعود على الكتاب ، أو على محمّد ، أو على الأجل المسمّى ، أي : في شكّ من البعث ؛ على قول من رأى أنّ الإشارة إلى العرب ، ووصف الشكّ ب (مُرِيبٍ) ؛ مبالغة فيه ، واللام في قوله تعالى : (فَلِذلِكَ فَادْعُ) قالت فرقة : هي بمنزلة «إلى» ؛ كأنه قال : فإلى ما وصّى به الأنبياء من التوحيد فادع ، وقالت فرقة : بل هي بمعنى «من أجل» كأنه قال : من أجل أنّ الأمر كذا وكذا ، ولكونه كذا فادع أنت إلى ربك ، وبلّغ ما أرسلت به ، وقال الفخر (٢) : يعني فلأجل ذلك التفرّق ، ولأجل ما حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين فادع إلى الاتفاق على الملّة الحنيفيّة ، واستقم عليها وعلى الدعوة إليها ؛ كما أمرك الله ، ولا تتّبع أهواءهم الباطلة ، انتهى ، وخوطب* ع* بالاستقامة ، وهو قد كان مستقيما بمعنى : دم على استقامتك ، وهكذا الشأن في كلّ مأمور بشيء هو متلبّس به ، إنّما معناه الدوام ، وهذه الآية ونحوها كانت نصب عيني النبيّ* ع* ، وكانت شديدة الموقع من نفسه ، أعني قوله تعالى : (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) ، لأنّها جملة تحتها جميع الطاعات وتكاليف النبوّة ، وفي هذا المعنى ـ قال عليه‌السلام ـ : «شيّبتني هود وأخواتها» ، فقيل له : لم ذلك ، يا نبيّ الله؟ فقال : لأنّ فيها : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٣) [هود : ١١٢] وهذا الخطاب له* ع* بحسب قوّته في أمر الله عزوجل ، وقال : هو لأمّته بحسب ضعفهم : استقيموا ولن تحصوا.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٢٩)

(٢) ينظر : «الفخر الرازي» (١٤ / ١٣٦)

(٣) تقدم.

١٥٣

وقوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) يعني : قريشا.

* ت* : وفرض الفخر هذه القضيّة في أهل الكتاب ، وذكر ما وقع من اليهود ومحاجّتهم في دفع الحقّ وجحد الرسالة ، وعلى هذا فالضمير في : (أَهْواءَهُمْ) عائد عليهم ، والله أعلم. ا ه.

ثم أمره تعالى أن يقول : (آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) ، وهو أمر يعمّ سائر أمته.

وقوله : (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) قالت فرقة : اللام في (لِأَعْدِلَ) بمعنى : أن أعدل بينكم ، وقالت فرقة : المعنى وأمرت بما أمرت به من التبليغ والشرع ؛ لكي أعدل بينكم.

وقوله : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) إلى آخر الآية ـ ما فيه من موادعة منسوخ بآية السّيف.

وقوله : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي : لا جدال ، ولا مناظرة ؛ قد وضح الحق ، وأنتم تعاندون ، وفي قوله : (اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا) : وعيد بيّن.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦) اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨) اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)(١٩)

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ ...) الآية ، قال ابن عبّاس ومجاهد : نزلت في طائفة من بني إسرائيل همّت بردّ الناس عن الإسلام وإضلالهم (١) ، وقيل : نزلت في قريش ؛ لأنّها كانت أبدا تحاول هذا المعنى ، و (يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) معناه : في دين الله أو توحيد الله ، أي : يحاجّون فيه بالإبطال والإلحاد وما أشبهه ، والضمير في (لَهُ) يحتمل أن يعود على الله تبارك وتعالى ، ويحتمل أن يعود على الدّين والشرع ، ويحتمل أن يعود على النبي* ع* و (داحِضَةٌ) معناه : زاهقة ، والدّحض الزّهق ، وباقي الآية بيّن.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١٣٨ ـ ١٣٩) برقم : (٣٠٦٤٩ ، ٣٠٦٥١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٩٦ ـ ٦٩٧) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عبّاس ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد نحوه.

١٥٤

وقوله سبحانه : (اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) معناه : مضمنا الحق ، أي : بالحق في أحكامه ، وأوامره ، ونواهيه ، وأخباره ، (وَالْمِيزانَ) هنا : العدل ؛ قاله ابن عبّاس ومجاهد (١) ، والناس ، وحكى الثعلبيّ عن مجاهد ؛ أنّه قال : هو هنا الميزان الذي بأيدي الناس (٢) ، قال* ع (٣) * : ولا شكّ أنّه داخل في العدل وجزء منه.

وقوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) وعيد للمشركين ، وجاء لفظ (قَرِيبٌ) مذكّرا من حيث تأنيث السّاعة ـ غير حقيقيّ ـ ، وإذ هي بمعنى الوقت.

* ت* : ينبغي للمؤمن العاقل أن يتدبّر هذه الآية ونظائرها ، ويقدّر في نفسه أنّه المقصود بها : [البسيط]

لاه بدنياه والأيّام تنعاه

والقبر غايته واللّحد مأواه

يلهو فلو كان يدري ما أعدّ له

إذن لأحزنه ما كان ألهاه

قال الغزّاليّ في «الإحياء» قال أبو زكريّا التّيميّ : بينما سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام ؛ إذ أوتي بحجر منقوش ، فطلب من يقرؤه ، فأوتي بوهب بن منبّه ، فإذا فيه : ابن آدم ، إنك لو رأيت قرب ما بقي من أجلك ، لزهدت في طول أملك ؛ ولرغبت في الزيادة من عملك ، ولقصّرت من حرصك وحيلك ، وإنما يلقاك غدا ندمك ؛ لو قد زلّت بك قدمك ، وأسلمك أهلك وحشمك ، ففارقك الولد والقريب ؛ ورفضك الوالد والنسيب ، فلا أنت إلى دنياك عائد ؛ ولا في حسناتك زائد ، فاعمل ليوم القيامة ، قبل الحسرة والندامه.

فبكى سليمان بكاء شديدا ، انتهى ، ، وباقي الآية بيّن.

ثم رجّى تبارك وتعالى عباده بقوله : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) و (لَطِيفٌ) هنا بمعنى رفيق متحفّ ، والعباد هنا المؤمنون.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١٣٩) برقم : (٣٠٦٥٥) عن مجاهد ، وذكره البغوي (٤ / ١٢٣) عن قتادة ، ومجاهد ، ومقاتل ، وابن عطية (٥ / ٣١) ، وابن كثير (٤ / ١١١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٩٧) ، وعزاه إلى عبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٣١)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣١)

١٥٥

كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)(٢٢)

وقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ) معناه : إرادة مستعدّ عامل ، لا إرادة متمنّ مسوّف ، والحرث في هذه الآية : عبارة عن السّعي والتكسّب والإعداد.

وقوله تعالى : (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) وعد متنجّز ؛ قال الفخر (١) : وفي تفسير قوله : (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) قولان :

الأوّل : نزد له في توفيقه وإعانته ، وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه ، وقال مقاتل : نزد له في حرثه بتضعيف الثواب ؛ قال تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [فاطر : ٣٠] انتهى ، وقوله : (وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) معناه : ما شئنا منها ولمن شئنا ، فربّ ممتحن مضيّق عليه حريص على حرث الدنيا ، مريد له ، لا يحسّ بغيره ، نعوذ بالله من ذلك! وهذا الذي لا يعقل غير الدنيا هو الذي نفى أن يكون له نصيب في الآخرة.

وقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) «أم» هذه منقطعة لا معادلة ، وهي بتقدير «بل» ، وألف الاستفهام ، والشركاء في هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بهم الشياطين والمغوين من أسلافهم ، ويكون الضمير في (لَهُمْ) للكفار المعاصرين لمحمّد* ع* فالاشتراك هاهنا هو في الكفر والغواية ، وليس بشركة الإشراك بالله ـ ويحتمل أن يكون المراد بالشركاء : الأصنام والأوثان ؛ على معنى : أم لهم أصنام جعلوها شركاء لله في ألوهيّته ، ويكون الضمير في (شَرَعُوا) لهؤلاء المعاصرين من الكفار ولآبائهم ، والضمير في (لَهُمْ) للأصنام الشركاء ، و (شَرَعُوا) معناه : أثبتوا ، ونهجوا ، ورسموا و (الدِّينِ) هنا : العوائد والأحكام والسّيرة ، ويدخل في ذلك أيضا المعتقدات السّوء ؛ لأنّهم في جميع ذلك وضعوا ذلك أوضاعا فاسدة ؛ وكلمة الفصل هي ما سبق من قضاء الله تعالى بأنّه يؤخّر عقابهم للدار الآخرة ، والقضاء بينهم هو عذابهم في الدنيا ومجازاتهم.

وقوله تعالى : (تَرَى الظَّالِمِينَ) هي رؤية بصر ، و (مُشْفِقِينَ) حال ، وليس لهم في هذا الإشفاق مدح ؛ لأنّهم إنّما أشفقوا حين نزل بهم ، وليسوا كالمؤمنين الذين هم في الدنيا مشفقون من أمر الساعة ، كما تقدم ، وهو واقع بهم.

__________________

(١) ينظر : «الفخر الرازي» (١٤ / ١٤٠)

١٥٦

أبو حيان (١) : ضمير (هُوَ) عائد على العذاب ، أو على ما كسبوا بحذف مضاف ، أي : وبال ما كسبوا ، انتهى ، والروضات : المواضع المونقة النضرة.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ)(٢٦)

وقوله تعالى : (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) إشارة إلى قوله تعالى في الآية الأخرى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) [الأحزاب : ٤٧].

وقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) اختلف الناس في معناه فقال ابن عبّاس وغيره : هي آية مكّيّة نزلت في صدر الإسلام ، ومعناها : استكفاف شرّ الكفار ودفع أذاهم ، أي : ما أسألكم على القرآن إلّا أن تودّوني لقرابة بيني وبينكم ؛ فتكفّوا عنّي أذاكم (٢) ، قال ابن عبّاس ، وابن إسحاق ، وقتادة : ولم يكن في قريش بطن إلّا وللنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه نسب أو صهر (٣) ، فالآية على هذا فيها استعطاف ما ، ودفع أذى ، وطلب سلامة منهم ، وذلك كله منسوخ بآية السيف ، ويحتمل هذا التأويل أن يكون معنى الكلام استدعاء نصرهم ، أي : لا أسألكم غرامة ولا شيئا إلّا أن تودّوني لقرابتي منكم ، وأن تكونوا أولى بي من غيركم ، قال* ع (٤) * : وقريش كلّها عندي قربى ، وإن كانت تتفاضل ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا ، ومن مات على بغضهم ، لم يشمّ رائحة الجنّة» (٥) ، وقال ابن عبّاس أيضا : ما يقتضي أنّ الآية مدنيّة ، وأنّ

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٤٩٣)

(٢) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥ / ٣٣)

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٤٢٦) كتاب «التفسير» باب : إلا المودة في القربى (٤٨١٨) عن ابن عبّاس ، والترمذي (٥ / ٣٧٧) كتاب «التفسير» باب : ومن سورة حم عسق (٣٢٥١) ، وابن جرير في «تفسيره» (١١ / ١٤٢) (٣٠٦٦٢ ـ ٣٠٦٦٣) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٢٥) عن ابن عبّاس جميعهم ، وابن عطية (٥ / ٣٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٩٩) ، وعزاه إلى مسلم وابن مردويه ، وعبد بن حميد ، وأحمد عن ابن عبّاس.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٤)

(٥) ينظر : القرطبي (١٦ / ٢٣) تفسير سورة الشورى.

١٥٧

الأنصار جمعت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالا وساقته إليه ، فردّه عليهم ، ونزلت الآية في ذلك (١) ، وقيل غير هذا ، وعلى كلّ قول ، فالاستثناء منقطع ، و (إِلَّا) بمعنى «لكن» و (يَقْتَرِفْ) معناه : يكتسب ، ورجل قرفة إذا كان محتالا كسوبا و (غَفُورٌ) معناه : ساتر عيوب عباده ، و (شَكُورٌ) معناه : مجاز على الدقيقة من الخير ، لا يضيع عنده لعامل عمل.

وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) «أم» هذه مقطوعة مضمنة إضرابا عن كلام متقدّم ، وتقريرا على هذه المقالة منهم.

وقوله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) معناه ؛ في قول قتادة وفرقة من المفسرين : ينسيك / القرآن (٢) ، والمراد الردّ على مقالة الكفّار ، وبيان إبطالها ، كأنّه يقول : وكيف يصحّ أن تكون مفتريا ، وأنت من الله بمرأى ومسمع؟ هو قادر لو شاء أن يختم على قلبك ؛ فلا تعقل ، ولا تنطق ، ولا يستمرّ افتراؤك ؛ فمقصد اللفظ : هذا المعنى ، وحذف ما يدلّ عليه الظاهر ؛ اختصارا واقتصارا ، وقال مجاهد : المعنى : فإن يشإ الله يختم على قلبك بالصبر لأذى الكفار ، ويربط عليك بالجلد (٣) ، فهذا تأويل لا يتضمّن الردّ على مقالتهم ؛ قال أبو حيّان : وذكر القشيريّ أنّ الخطاب للكفار ، أي : يختم على قلبك أيّها القائل ؛ فيكون انتقالا من الغيبة للخطاب ، (وَيَمْحُ) : استئناف إخبار ؛ لا داخل في الجواب ، وتسقط الواو من اللفظ ؛ لالتقاء الساكنين ، ومن المصحف ؛ حملا على اللفظ ، انتهى.

وقوله تعالى : (وَيَمْحُ) فعل مستقبل ، خبر من الله تعالى أنّه يمحو الباطل ، ولا بدّ إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة ، وهذا بحسب نازلة نازلة ، وكتب (يَمْحُ) في المصحف بحاء مرسلة ، كما كتبوا : (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ) [الإسراء : ١١] إلى غير ذلك ممّا ذهبوا فيه إلى الحذف والاختصار.

وقوله : (بِكَلِماتِهِ) معناه : بما سبق في قديم علمه وإرادته من كون الأشياء ، فالكلمات : المعاني القائمة القديمة التي لا تبديل لها ، ثم ذكر تعالى النعمة في تفضّله بقبول التوبة من عباده ، وقبول التوبة فيما يستأنف العبد من زمانه وأعماله ـ مقطوع به بهذه الآية ، وأمّا ما سلف من أعماله فينقسم ، فأمّا التوبة من الكفر فماحية كلّ ما تقدّمها من مظالم العباد

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٤)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ١٤٦) برقم (٣٠٦٩١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٣٤) والسيوطي (٥ / ٧٠٣) وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد.

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٥)

١٥٨

الفائتة وغير ذلك ، وأمّا التوبة من المعاصي فلأهل السّنّة فيها قولان : هل تذهب المعاصي السالفة للعبد بينه وبين خالقه؟ فقالت فرقة : هي مذهبة لها ، وقالت فرقة : هي في مشيئة الله تعالى ، / وأجمعوا أنّها لا تذهب مظالم العباد ، وحقيقة التوبة : الإقلاع عن المعاصي ، والإقبال ، والرجوع إلى الطاعات ، ويلزمها الندم على ما فات ؛ والعزم على ملازمة الخيرات.

وقال سريّ السّقطيّ : التوبة : العزم على ترك الذنوب ؛ والإقبال بالقلب على علّام الغيوب ، وقال يحيى بن معاذ : التائب : من كسر شبابه على رأسه ، وكسر الدنيا على رأس الشيطان ، [ولزم الفطام] (١) حتى أتاه الحمام (٢).

وقوله تعالى : (عَنْ عِبادِهِ) بمعنى من عباده ، وكأنه قال : التوبة الصادرة عن عباده ، وقرأ الجمهور : «يفعلون» بالياء على الغيبة ، وقرأ حمزة والكسائيّ : «تفعلون» بالتاء على المخاطبة (٣) ، وفي الآية توعّد.

وقوله تعالى : «ويستجيب» قال الزّجّاج وغيره : معناه : يجيب ، والعرب تقول : أجاب واستجاب بمعنى ، و (الَّذِينَ) على هذا التأويل : مفعول «يستجيب» ، وروي هذا المعنى عن معاذ بن جبل ، ونحوه عن ابن عبّاس (٤) ، وقالت فرقة : المعنى : ويستدعي الذين آمنوا الإجابة من ربهم بالأعمال الصالحات ، ودلّ قوله : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على أنّ المعنى : فيجيبهم ، و (الَّذِينَ) على هذا القول فاعل (يَسْتَجِيبُ) ، ، وقالت فرقة : المعنى : ويجيب المؤمنون ربّهم ، ف (الَّذِينَ) فاعل بمعنى : يجيبون دعوة شرعه ورسالته ، والزيادة من فضله هي تضعيف الحسنات ، وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «هي قبول الشفاعات في المذنبين ، والرضوان».

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ)(٢٩)

__________________

(١) سقط في : د.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٥)

(٣) وقرأ بها حفص عن عاصم.

ينظر : «السبعة» (٥٨٠) ، و «الحجة» (٦ / ١٢٨) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٨٣) ، و «معاني القراءات» (٢ / ٣٥٦) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢١٢) ، و «العنوان» (١٧٠) ، و «حجة القراءات» (٦٤١) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٥٠)

(٤) ذكره ابن عطية (٥ / ٣٥)

١٥٩

وقوله تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) قال عمرو بن حريث وغيره : إنّها نزلت ؛ لأنّ قوما من أهل الصفّة طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغنيهم / الله ، ويبسط لهم الأموال والأرزاق ، فأعلمهم الله تعالى أنّه لو جاء الرزق على اختيار البشر واقتراحهم ، لكان سبب بغيهم وإفسادهم ؛ ولكنّه عزوجل أعلم بالمصلحة في كلّ أحد : (إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) : بمصالحهم ، فهو ينزل لهم من الرزق القدر الذي به صلاحهم ؛ فربّ إنسان لا يصلح ، وتنكفّ عاديته إلّا بالفقر.

* ت* : وقد ذكرنا في هذا المختصر أحاديث كثيرة مختارة في فضل الفقراء الصابرين ـ ما فيه كفاية لمن وفّق ، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» عن سعيد بن المسيّب قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة ، قال : هم الخائفون ، الخاضعون ، المتواضعون ، الذّاكرون الله كثيرا ، قال : يا رسول الله ، فهم أوّل الناس يدخلون الجنّة؟ قال : لا ، قال : فمن أوّل الناس يدخل الجنّة؟ قال : الفقراء يسبقون الناس إلى الجنّة ، فتخرج إليهم منها ملائكة ، فيقولون : ارجعوا إلى الحساب ، فيقولون : علام نحاسب ، والله ما أفيضت علينا الأموال في الدّنيا فنقبض فيها ونبسط ، وما كنّا أمراء نعدل ونجور ؛ ولكنّا جاءنا أمر الله فعبدناه حتّى أتانا اليقين» (١) انتهى.

وقوله عزوجل : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا ...) الآية ، تعديد نعم الله تعالى الدّالّة على وحدانيّته ، وأنّه المولى الذي يستحقّ أن يعبد دون ما سواه من الأنداد ، وقرأ الجمهور : «قنطوا» بفتح النون ، وقرأ الأعمش : «قنطوا» بكسرها ، وهما لغتان (٢) ، وروي أنّ عمر ـ رضي الله عنه ـ قيل له : أجدبت الأرض ، وقنط الناس ، فقال : مطروا إذن ، بمعنى أنّ الفرج عند الشدّة.

وقوله تعالى : (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) قيل : أراد بالرحمة : المطر ، وقيل : أراد بالرحمة هنا : الشمس ، فذلك تعديد نعمة غير الأولى ، وذلك أنّ المطر إذا ألمّ بعد القنط حسن موقعه ، فإذا دام سئم ، فتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع.

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم بن حماد في «زوائده» على الزهد (٨٠) (٢٨٣)

(٢) وقرأ بها يحيى بن وثاب.

ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٣٦) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٩٥) ، و «الدر المصون» (٦ / ٨١)

١٦٠