تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وذلك أنّهم كانوا يتنافسون في القرب منه وسماع / كلامه والنظر إليه ، فيأتي الرجل الذي له الحقّ والسّنّ والقدم في الإسلام ، فلا يجد مكانا ، فنزلت بسبب ذلك ، وروى أبو هريرة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقم أحد من مجلسه ثمّ يجلس فيه الرجل ، ولكن تفسّحوا يفسح الله لكم» (١). قال جمهور العلماء : سبب نزول الآية مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم الحكم مطّرد في سائر المجالس التي هي للطاعات ؛ ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحبّكم إلى الله ألينكم مناكب في الصلاة ، وركبا في المجالس» (٢) ، وهذا قول مالك رحمه‌الله ، وقال : ما أرى الحكم إلّا يطّرد في مجالس العلم ونحوها غابر الدهر ؛ قال* ع (٣) * : فالسنة المندوب إليها هي التفسّح ، والقيام منهيّ عنه في حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث نهى أن يقوم الرّجل ؛ فيجلس الآخر مكانه (٤).

* ت* : وقد روى أبو داود في «سننه» عن سعيد بن أبي الحسن قال : «جاءنا أبو بكرة في شهادة ، فقام له رجل من مجلسه فأبى أن يجلس فيه ، وقال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن ذلك ، ونهى أن يمسح الرجل يده بثوب من لم يكسه» (٥) وروى أبو داود عن ابن عمر قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام له رجل من مجلسه ، فذهب ليجلس فيه ، فنهاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٦) انتهى ، قال* ع (٧) * : فأمّا القيام إجلالا فجائز بالحديث ، وهو قوله* ع* حين أقبل سعد بن معاذ : «قوموا إلى سيّدكم» (٨). وواجب على المعظّم ألّا يحبّ ذلك ويأخذ الناس به ؛ لقوله* ع* : «من أحبّ أن يتمثّل له الناس قياما ، فليتبوّأ مقعده من النار» (٩).

* ت* : وفي الاحتجاج بقضية / سعد نظر ؛ لأنّها احتفّت بها قرائن سوّغت ذلك ؛

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) أخرجه أبو داود (١ / ٢٣٦) ، كتاب «الصلاة» باب : تسوية الصفوف ، حديث (٦٧٢)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٧٩)

(٤) تقدم تخريجه.

(٥) تقدم.

(٦) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٧٤) ، كتاب «الأدب» باب : في الرجل يقوم للرجل من مجلسه (٤٨٢٧)

(٧) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٩٠)

(٨) أخرجه البخاري (٧ / ٤٧٥) ، كتاب «المغازي» باب : مرجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأحزاب (٤١٢١) ، ومسلم (٣ / ١٣٨٨) ، كتاب «الجهاد والسير» باب : جواز قتال من نقض العهد (٦٤ / ١١٧٦٨) ، وأحمد (٣ / ٢٢ ، ٧١) ، والبيهقي (٩ / ٩٧) ، كتاب «السير» باب : نزول أهل الحصن أو بعضهم على حكم الإمام أو غير الإمام ، إذا كان المنزول على حكمه مأمونا.

(٩) تقدم.

٤٠١

انظر السير ، وقد أطنب صاحب المدخل في الإنحاء والردّ على المجيزين للقيام ، والسلامة عندي ترك القيام.

وقوله تعالى : (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) معناه : في رحمته وجنّته.

ـ ص ـ : (يَفْسَحِ) مجزوم في جواب الأمر ، انتهى ، (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) معناه : ارتفعوا ، وقوموا فافعلوا ذلك ؛ ومن «رياض الصالحين» للنوويّ : وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحلّ للرّجل أن يفرّق بين اثنين إلّا بإذنهما» (١) رواه أبو داود ، والترمذيّ وقال : حديث حسن ، وفي رواية لأبي داود : «لا يجلس بين رجلين إلّا بإذنهما» وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن من جلس وسط الحلقة» (٢) ، رواه أبو داود بإسناد حسن ، وروى الترمذيّ عن أبي مجلز ؛ أنّ رجلا قعد وسط الحلقة ، فقال حذيفة : «ملعون على لسان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لعن الله على لسان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جلس وسط الحلقة» (٣) قال الترمذيّ : حديث حسن صحيح ، انتهى.

وقوله سبحانه : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ...) الآية : قال جماعة : المعنى : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات ؛ فلذلك أمر بالتفسّح من أجلهم ، وقال آخرون : المعنى : يرفع الله المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا درجات ، لكنّا نعلم تفاضلهم في الدرجات من مواضع أخر ؛ فلذلك جاء الأمر بالتفسح عامّا بالتفسح عامّا للعلماء وغيرهم ، وقال ابن مسعود وغيره (٤) : «يرفع الله الذين آمنوا منكم» وهنا تمّ الكلام ، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات ، ونصبهم بإضمار فعل ، فللمؤمنين رفع على هذا / التأويل ، وللعلماء درجات ، وعلى هذا التأويل قال مطرّف بن عبد الله بن الشخير (٥) : فضل العلم أحبّ إليّ من فضل العبادة ، وخير دينكم الورع ، وروى البخاريّ وغيره عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل ما

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٥ / ١٧٥) ، كتاب «الأدب» باب : في الرجل يجلس بين الرجلين (٤٨٤٥) ، والترمذي (٥ / ٨٩) ، كتاب «الأدب» باب : ما جاء في كراهية الجلوس بين الرجلين بغير إذنهما (٢٧٥٢) ، وأحمد (٢ / ٢١٣).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٧٤) ، كتاب «الأدب» باب : الجلوس وسط الحلقة (٤٨٢٦) ، والترمذي (٥ / ٩٠) ، كتاب «الأدب» باب : ما جاء في كراهية القعود وسط الحلقة (٢٧٥٣).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٣) انظر الحديث السابق.

(٤) ذكره ابن عطية (٥ / ٢٧٩)

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ١٩) ، وابن عطية (٥ / ٢٧٩)

٤٠٢

بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ، فكان منها طائفة قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ؛ فنفع الله بها النّاس ، فشربوا ، وسقوا ، وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى إنّما هي قيعان لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله عزوجل ، ونفعه ما بعثني الله به ، فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله عزوجل الّذي أرسلت به» انتهى (١).

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) روي عن ابن عبّاس وقتادة في سببها : أنّ قوما من شباب المؤمنين وأغفالهم كثرت مناجاتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير حاجة ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمحا ، لا يردّ أحدا ، فنزلت هذه الآية مشدّدة عليهم (٢) ، وقال مقاتل : نزلت في الأغنياء ؛ لأنّهم غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومجالسته (٣) ، قال جماعة من الرواة : نسخت هذه الآية قبل العمل بها ، لكن استقر حكمها بالعزم عليه ، وصحّ عن عليّ أنّه قال : ما عمل بها أحد غيري ، وأنا كنت سبب الرخصة والتخفيف عن المسلمين ، قال : ثم فهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ هذه العبادة قد شقّت / على الناس فقال لي : يا عليّ ، كم ترى أن يكون حدّ هذه الصدقة؟ أتراه دينارا؟ قلت : لا ، قال : فنصف دينار؟ قلت : لا ، قال : فكم؟ قلت : حبّة من شعير ، قال : إنّك لزهيد فأنزل الله الرخصة (٤) ، يريد للواجدين ، وأمّا من لم يجد فالرّخصة له ثابتة ؛ بقوله : «فإن لم تجدوا» قال الفخر (٥) : قوله عليه‌السلام لعليّ : «إنّك لزهيد» معناه : إنك قليل المال ، فقدّرت على حسب حالك ، انتهى.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٢١١) ، كتاب «العلم» باب : فضل من علم وعلّم (٧٩) ، ومسلم (٤ / ١٧٨٧) ، كتاب «الفضائل» باب : بيان مثل ما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الهدى والعلم (١٥ / ٢٢٨٢) ، والنسائي في «الكبرى» (٣ / ٤٢٧) ، كتاب «العلم» باب : مثل من فقه في دين الله تعالى (٥٨٤٣ / ١)

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٣١٠) ، وابن عطية (٥ / ٢٧٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٢) ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه.

(٣) ذكره البغوي (٤ / ٣١٠) ، وابن عطية (٥ / ٢٧٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٢) ، وعزاه لابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٠٦ ـ ٤٠٧) ، كتاب «التفسير» باب : ومن سورة المجادلة ، حديث (٣٣٠٠) ، وقال : حسن غريب.

(٥) ينظر : «الفخر الرازي» (٢٩ / ٢٣٧)

٤٠٣

الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ)(١٨)

وقوله سبحانه : (أَأَشْفَقْتُمْ ...) الآية : الإشفاق : هنا الفزع من العجز عن الشيء المتصدق به ، أو من ذهاب المال في الصدقة.

وقوله : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ...) الآية : المعنى : دوموا على هذه الأعمال التي هي قواعد شرعكم ، ومن قال : إن هذه الصدقة منسوخة بآية الزكاة ؛ فقوله ضعيف.

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا) : نزلت في قوم من المنافقين ، تولوا قوما من اليهود ، وهم المغضوب عليهم ، قال الطبري (١) : (ما هُمْ مِنْكُمْ) : يريد به المنافقين (وَلا مِنْهُمْ) أي : ولا من اليهود ، وهذا التأويل يجري مع قوله تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) [النساء : ١٤٣] كالشاة العائرة بين الغنمين ، وتحتمل الآية تأويلا آخر ، وهو أن يكون قوله : (ما هُمْ) يريد به اليهود (وَلا مِنْهُمْ) يريد به المنافقين ، (وَيَحْلِفُونَ) : يعني المنافقين ، وقرأ الحسن : اتّخذوا إيمانكم ـ بكسر الهمزة (٢) ـ ، والجنّة : ما يتستّر به ، ثم أخبر تعالى عن المنافقين في هذه الآية أنّه ستكون لهم أيمان يوم القيامة بين يدي الله تعالى ، يخيل إليهم بجهلهم أنّها تنفعهم ، وتقبل منهم ، وهذا هو حسابهم (أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) أي : على شيء نافع لهم.

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢٢)

__________________

(١) ينظر : «تفسير الطبري» (١٢ / ٢٣)

(٢) ينظر : «المحتسب» (٢ / ٣١٥) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٣٦) ، و «الدر المصون» (٦ / ٢٩٠)

٤٠٤

وقوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) معناه : تملّكهم من كلّ جهة ، / وغلب على نفوسهم ، وحكي أنّ عمر قرأ : «استحاذ» (١) ، ثم قضى تعالى على محادّه بالذّلّ ، وباقي الآية بيّن.

وقوله سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) الآية : نفت هذه الآية أن يوجد من يؤمن بالله حقّ الإيمان ، ويلتزم شعبه على الكمال ـ يوادّ كافرا أو منافقا ، و (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) : معناه : أثبته وخلقه بالإيجاد.

وقوله : (أُولئِكَ) : إشارة إلى المؤمنين الذين يقتضيهم معنى الآية ؛ لأنّ المعنى : لكنك تجدهم لا يوادّون من حادّ الله.

وقوله تعالى : (بِرُوحٍ مِنْهُ) معناه : بهدى منه ونور وتوفيق إلهي ينقدح لهم من القرآن وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم و «الحزب» : الفريق ، وباقي الآية بيّن.

__________________

(١) حكاه القراء في كتاب «اللغات» ، كما في «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٨١) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٢٣٧) ، و «الدر المصون» (٦ / ٢٩٠)

٤٠٥

تفسير سورة الحشر

وهي مدنيّة باتّفاق

وهي سورة بني النضير ؛ وذلك أنّهم كانوا عاهدوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم يرون أنّه لا تردّ له راية ، فلمّا كان شأن أحد وما أكرم الله به المسلمين ، ارتابوا ، وداخلوا قريشا ، وغدروا ، فلما رجع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد حاصرهم حتى أجلاهم عن أرضهم ، فارتحلوا إلى بلاد مختلفة : خيبر ، والشام ، وغير ذلك ، ثم كان أمر بني قريظة مرجعة من الأحزاب.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٤)

قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الآية : تقدم الكلام في تسبيح الجمادات و (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : هم بنو النضير.

و [قوله] : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) : قال الحسن بن أبي الحسن وغيره (١) : يريد حشر القيامة ، أي : هذا أوّله والقيام من القبور آخره ، وقال عكرمة وغيره (٢) : المعنى : / لأول موضع

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٢٨٣)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٢٨) ، برقم : (٣٣٨١٥) عن قتادة ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٨٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٧) ، وعزاه للبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

٤٠٦

الحشر ، وهو الشام ؛ وذلك أنّ أكثرهم جاء إلى الشام ، وقد روي أنّ حشر القيامة هو إلى بلاد الشام.

وقوله سبحانه : (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) : يريد لمنعتهم وكثرة عددهم.

وقوله تعالى : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) أي : كلّما هدم المسلمون من تحصينهم في القتال هدموا هم من البيوت ؛ ليجبروا الحصن.

* ت* : والحاصل أنّهم يخربون بيوتهم حسّا ومعنى ؛ أمّا حسّا فواضح ، وأمّا معنى فبسوء رأيهم وعاقبة ما أضمروا من خيانتهم وغدرهم ، (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) : من الوطن (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) : بالسبي والقتل ، قال البخاريّ : والجلاء : الإخراج من أرض إلى أرض ، انتهى.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٧)

وقوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ...) الآية سببها قول اليهود : ما هذا الإفساد يا محمّد وأنت تنهى عن الفساد؟! فردّ الله عليهم بهذه الآية ، قال ابن عبّاس وجماعة من اللغويين (١) : اللّينة من النخيل : ما لم يكن عجوة ، وقيل غير هذا.

ـ ص ـ : أصل «لينة» : لونة ، فقلبوا الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ، وجمعه لين ؛ كتمرة وتمر ، قال الأخفش : واللينة كأنّها لون من النخل ، أي : ضرب منه ، انتهى.

وقوله عزوجل : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ...) الآية ، إعلام بأنّ ما أخذ لبني النضير ومن فدك ، هو خاصّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها ؛ بل على حكم خمس الغنائم ؛ وذلك أنّ بني النضير لم يوجف عليها ولا قوتلت كبير قتال ، فأخذ منها صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوت عياله ، وقسم سائرها في المهاجرين ، وأدخل معهم أبا دجانة وسهل بن حنيف / من الأنصار ؛ لأنّهما شكيا فقرا ، والإيجاف : سرعة السير ، والوجيف دون التقريب ؛ يقال : وجف الفرس وأوجفه الراكب.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٢) ، برقم : (٣٣٨٤٣) ، وذكره البغوي (٤ / ٣١٦) ، وابن عطية (٥ / ٢٨٥)

٤٠٧

وقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ...) الآية : أهل القرى في هذه الآية : هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب ، وذلك أنّها فتحت في ذلك الوقت من غير إيجاف ، وأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع ذلك للمهاجرين ، ولم يحبس منها لنفسه شيئا ، ولم يعط الأنصار شيئا لغناهم ، والقربى في الآية : قرابته صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا الصدقة فعوّضوا من الفيء.

وقوله سبحانه : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) : مخاطبة للأنصار ؛ لأنّه لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غنيّ ، والمعنى : كي لا يتداول ذلك المال الأغنياء بتصرفاتهم ، ويبقى المساكين بلا شيء ، وقد مضى القول في الغنائم في سورة الأنفال ، وروي أنّ قوما من الأنصار تكلّموا في هذه القرى المفتحة ، وقالوا : لنا منها سهمنا ، فنزل قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ...) الآية : فرضوا بذلك ، ثم اطّرد بعد معنى الآية في أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونواهيه ، حتّى قال قوم : إنّ الخمر محرّمة في كتاب الله بهذه الآية ، وانتزع منها ابن مسعود لعنة الواشمة ، الحديث (١).

* ت* : وبهذا المعنى يحصل التعميم للأشياء في قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٣٨].

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٩)

وقوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) : بيان لقوله : (وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) وكرر لام الجر ، لما كانت الجملة الأولى مجرورة باللام ؛ ليبيّن أنّ البدل إنّما هو منها ، ثم / وصفهم تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم ، وتوجب الشفقة عليهم ، وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) : يريد به الآخرة والجنة : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي : في الأقوال والأفعال والنيّات (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) : هم الأنصار ـ رضي الله عن جميعهم ـ ، والضمير في (مِنْ قَبْلِهِمْ) للمهاجرين ، والدار هي المدينة ، والمعنى : تبوؤوا الدار مع الإيمان ، وبهذا الاقتران يتضح معنى قوله تعالى : (مِنْ قَبْلِهِمْ) فتأمله ، قال ـ ص ـ : (وَالْإِيمانَ) منصوب بفعل مقدّر ، أي : واعتقدوا الإيمان ، فهو من عطف

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٤٠٨

الجمل ؛ كقوله : [من الرجز]

علفتها تبنا وماء باردا

 ...............

انتهى ، وقيل غير هذا ، وأثنى الله تعالى في هذه الآية على الأنصار بأنّهم يحبون المهاجرين ، وبأنّهم يؤثرون على أنفسهم ، وبأنّهم قد وقوا شحّ أنفسهم.

* ت* : وروى الترمذيّ عن أنس قال : «لمّا قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة أتاه المهاجرون ، فقالوا : يا رسول الله ، ما رأينا قوما أبذل لكثير ولا أحسن مواساة في قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم ؛ لقد كفونا المئونة ، وأشركونا في المهنة ، حتّى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كلّه ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ، ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم» (١) قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، انتهى ، والحاجة : الحسد في هذا الموضع ؛ قاله الحسن (٢) ، ثم يعمّ بعد وجوها ، وقال الثعلبيّ : (حاجَةً) أي : حزازة ، وقيل : حسدا (مِمَّا أُوتُوا) أي : مما أعطي المهاجرون من أموال بني النضير والقرى ، انتهى.

وقوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) : صفة للأنصار ، وجاء الحديث الصحيح من غير ما طريق ، أنّها نزلت / بسبب رجل من الأنصار وصنيعه مع ضيف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ نوّم صبيانه ، وقدّم للضيف طعامه ، وأطفأت أهله السراج ، وأوهما الضيف أنّهما يأكلان معه ، وباتا طاويين ؛ فلمّا غدا الأنصاريّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «لقد عجب الله من فعلكما البارحة» (٣) ونزلت الآية في ذلك ، قال صاحب «سلاح المؤمن» : الرجل الأنصاريّ

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٧١) ، كتاب «الأدب» باب : في شكر المعروف (٤٨١٢) ، والترمذي (٤ / ٦٥٣) ، كتاب «صفة القيامة» باب : (٤٤) (٢٤٨٧) ، والحاكم في «المستدرك» (٢ / ٦٣) ، والبيهقي (٦ / ١٨٣) ، كتاب «الهبات» باب : شكر المعروف.

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤١) ، برقم : (٣٣٨٧٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٨٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٣٣٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٨٨) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر.

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٥٠٠) ، كتاب «التفسير» باب : «والذين تبوؤوا الدار والإيمان» (٤٨٨٩) ، والحاكم (٤ / ١٣٠) ، والبيهقي (٤ / ١٨٥) ، كتاب «الزكاة» باب : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وابن الشجري في «أماليه» (١ / ٢٨٣).

قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي. قلت : وهو وهم من الحاكم فقد أخرجه البخاري كما بينا.

٤٠٩

الذي أضاف هو ، أبو طلحة انتهى ، قال الترمذيّ الحكيم في كتاب «ختم الأولياء» له : حدثنا أبي قال : حدثنا عبد الله بن عاصم : حدثنا الجمانيّ : حدثنا صالح المرّيّ عن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ بدلاء أمّتي لم يدخلوا الجنّة بكثرة صوم ولا صلاة ؛ إنّما دخلوها بسلامة الصدور ، وسخاوة الأنفس ، وحسن الخلق ، والرحمة بجميع المسلمين» (١) انتهى ، والإيثار على النفس أكرم خلق ، قال أبو يزيد البسطاميّ : قدم علينا شاب من بلخ حاجّا فقال لي : ما حدّ الزهد عندكم؟ فقلت : إذا وجدنا أكلنا ، وإذا فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا عندنا كلاب بلخ! فقلت له : فما هو عندكم؟! فقال : إذا فقدنا صبرنا ، وإذا وجدنا آثرنا ، وروي أنّ سبب هذه الآية أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لمّا فتح هذه القرى قال للأنصار : «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ؛ وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه الغنيمة ؛ فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ، ونترك لهم هذه الغنيمة ، فنزلت الآية ، والخصاصة : الفاقة والحاجة ، وشحّ النفس : هو / كثرة طمعها. وضبطها على المال ، والرغبة فيه ، وامتداد الأمل ؛ هذا جماع شحّ النفس. وهو داعية كلّ خلق سوء ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أدّى الزّكاة المفروضة ، وقرى الضّيف ، وأعطى في النائبة ـ فقد برىء من الشحّ» ، وإلى هذا الذي قلناه ذهب الجمهور والعارفون بالكلام ، وقيل في الشح غير هذا ، قال* ع (٢) * : وشحّ النفس فقر لا يذهبه غنى المال ، بل يزيده ، وينصب به ؛ و (يُوقَ) من وقى يقي ، وقال الفخر : اعلم أنّ الفرق بين الشحّ والبخل هو أنّ البخل نفس المنع ، والشحّ هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المنع ، ولمّا كان الشحّ من صفات النفس لا جرم ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي : الظافرون بما أرادوا ، قال ابن زيد : من لم يأخذ شيئا نهاه الله عن أخذه ، ولم يمنع شيئا أمره الله تعالى بإعطائه ـ فقد وقي شحّ نفسه (٣) ، انتهى.

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ

__________________

(١) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٤٣٩) ، (١٠٨٩٢) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (١٢ / ١٨٨) ، وزاد نسبته إلى الحكيم ، وابن أبي الدنيا في كتاب «السخاء» ، وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (٢ / ٢٥٩) (٢٢٠٢) ، شاهدا.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٨٨)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٢) ، برقم : (٣٣٨٨٦) ، وذكره البغوي (٤ / ٣٢٠) ، وابن عطية (٥ / ٢٨٨)

٤١٠

قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)(١٤)

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ...) الآية : قال جمهور العلماء : أراد من يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة ، وقال الفرّاء : أراد الفرقة الثالثة من الصحابة ، وهي من آمن في آخر مدّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (يَقُولُونَ) : حال فيها الفائدة ، والمعنى : والذين جاؤوا قائلين كذا ، وروت أمّ الدرداء ، وأبو الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه كان يقول : «دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة ، عند رأسه ملك موكّل ، كلّما دعا لأخيه قال الملك الموكّل به : آمين ، ولك مثله» (١) رواه مسلم ، انتهى ، قال* ع (٢) * : ولهذه الآية قال مالك وغيره : إنّه من كان له في أحد من / الصحابة رأي سوء أو بغض ، فلا حظّ له في فيء المسلمين ، وقال عبد الله بن يزيد : قال الحسن : أدركت ثلاثمائة من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم سبعون بدريّا كلّهم يحدثني أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من فارق الجماعة قيد شبر ، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (٣) فالجماعة ألّا تسبّوا الصحابة ، ولا تماروا في دين الله ، ولا تكفّروا أحدا من أهل التوحيد بذنب ، قال عبد الله : فلقيت أبا أمامة وأبا الدرداء وواثلة وأنسا ، فكلّهم يحدثني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثل حديث الحسن ، والغلّ : الحقد والاعتقاد الرديء.

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ ...) الآية : نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، ورفاعة بن التابوت وقوم من منافقي الأنصار ؛ كانوا بعثوا إلى بني النضير ، وقالوا لهم : اثبتوا في معاقلكم ، فإنّا معكم كيفما تقلبت حالكم ، وكانوا في ذلك كاذبين ، وإنّما أرادوا بذلك أن تقوى نفوسهم ؛ عسى أن يثبتوا حتّى لا يقدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، فيتمّ مرادهم ، وجاءت الأفعال غير مجزومة في قوله : (لا يَخْرُجُونَ) و (لا يَنْصُرُونَهُمْ) ؛ لأنّها راجعة إلى حكم القسم ، لا إلى حكم الشرط ، والضمير في

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٩٥) كتاب : الذكر والدعاء ، باب : فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب (٨٦ ، ٨٧ / ٢٧٣٢) ، (٨٨ / ٢٧٣٣) ، (٢٧٣٢ / مكرر) ، وابن ماجه (٢ / ٩٦٦ ، ٩٧٧) كتاب : المناسك ، باب فضل دعاء الحاج (٢٨٩٥)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٨٨)

(٣) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٥٥) ، كتاب «السنة» باب : الخوارج (٤٧٥٨)

٤١١

(صُدُورِهِمْ) يعود على اليهود والمنافقين ، والضمير في قوله : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) لبني النضير وجميع اليهود ، هذا قول جماعة المفسرين ، ومعنى الآية : لا يبرزون لحربكم ، وإنّما / يقاتلون متحصنين بالقرى والجدران ؛ للرعب والرهب الكائن في قلوبهم.

وقوله تعالى : (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي : في غائلتهم وإحنهم (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) أي : مجتمعين (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي : متفرقة ؛ قال* ع (١) * : وهذه حال الجماعة المتخاذلة ، وهي المغلوبة أبدا في كلّ ما تحاول ، واللفظة مأخوذة من الشتات ، وهو التفرق ونحوه.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ(١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ)(١٧)

وقوله تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قال ابن عبّاس (٢) : هم بنو قينقاع ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير ، والوبال : الشدّة والمكروه ، وعاقبة السوء والعذاب الأليم : هو في الآخرة.

وقوله سبحانه : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) معناه : أنّ هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير ، كمثل الشيطان مع الإنسان ؛ فالمنافقون مثلهم الشيطان ، وبنو النضير مثلهم الإنسان ، وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين (٣) إلى أنّ الشيطان والإنسان في هذه الآية اسما جنس ، فكما أنّ الشيطان يغوي الإنسان ، ثم يفرّ عنه بعد أن يورّطه ؛ كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحرّضوهم على الثبوت ، ووعدوهم النصر ، فلمّا نشب بنو النضير ، وكشفوا عن وجوههم ـ تركهم المنافقون في أسوأ حال ، وذهب قوم من رواة القصص إلى أنّ هذا في شيطان مخصوص مع عابد مخصوص ، اسمه «برصيصا» ، استودع امرأة جميلة ، وقيل : سيقت إليه ليشفيها بدعائه من الجنون ، فسوّل له الشيطان الوقوع عليها ، فحملت منه ، فخشي الفضيحة ، فسوّل له قتلها ودفنها ، ففعل ، ثم شهّره ، فلمّا استخرجت المرأة ،

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٩٠)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٦) ، برقم : (٣٣٩٠٠) ، وذكره البغوي (٤ / ٣٢٢) ، وابن عطية (٥ / ٢٩٠) ، وابن كثير (٤ / ٣٤٠)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٨) ، برقم : (٣٣٩٠٦) ، وابن عطية (٥ / ٢٩٠) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٩٧) ، وعزاه لعبد بن حميد.

٤١٢

وحمل العابد شرّ حمل ، / وصلب ـ جاءه الشيطان فقال له : اسجد لي سجدة وأنا أخلّصك ، فسجد له ، فقال له الشيطان : هذا الذي أردت منك أن كفرت بربك ، إنّي بريء منك ، فضرب الله تعالى هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين ، وهذا يحتاج إلى صحّة سند ، والتأويل الأول هو وجه الكلام.

* ت* : قال السهيلي : وقد ذكر هذه القصة هكذا القاضي إسماعيل وغيره من طريق سفيان عن عمرو بن دينار ، عن عروة بن عامر بن عبيد بن رفاعة الزّرقيّ ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ راهبا كان في بني إسرائيل» (١) فذكر القصة بكمالها ، ويقال : إنّ اسم هذا الراهب «برصيصا» ، ولم يذكر اسمه القاضي إسماعيل ، انتهى ، قال* ع (٢) * : وقول الشيطان : (إِنِّي أَخافُ اللهَ) رياء من قوله ، وليست على ذلك عقيدته ، ولا يعرف الله حقّ معرفته ، ولا يحجزه خوفه عن سوء يوقع فيه ابن آدم من أول إلى آخر (فَكانَ عاقِبَتَهُما) يعني : الشيطان والإنسان على ما تقدم من حملها على الجنس أو الخصوص.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ)(٢٠)

وقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ ...) الآية : هذه آية وعظ وتذكير ، وتقريب للآخرة ، وتحذير ممّن لا تخفى عليه خافية ، وقوله تعالى : (لِغَدٍ) : يريد يوم القيامة ، والذين نسوا الله : هم الكفار ، والمعنى : تركوا الله وغفلوا عنه ، حتّى كانوا كالناسين ، فعاقبهم بأن [جعلهم] (٣) ينسون أنفسهم ، وهذا هو الجزاء على الذنب بالذنب ، قال سفيان (٤) : المعنى : حظّ أنفسهم ، ويعطي لفظ الآية أنّ من عرف نفسه ولم ينسها عرف ربّه تعالى ، وقد قال عليّ بن أبي طالب (٥) ، ـ رضي الله عنه ـ : اعرف نفسك تعرف ربك ، وروي عنه أيضا أنّه قال : من لم يعرف نفسه ، لم يعرف ربه.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٩٦) ، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في «مكائد الشيطان» ، وابن مردويه ، والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٩٠)

(٣) سقط في : د.

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٠) ، برقم : (٣٣٩١١) ، وابن عطية (٥ / ٢٩١)

(٥) ذكره ابن عطية (٥ / ٢٩١)

٤١٣

نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢٤)

وقوله / سبحانه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ...) الآية : موعظة للإنسان ، وذمّ لأخلاقه وإعراضه وغفلته عن تدبّر كلام خالقه ، وإذا كان الجبل ، على عظمه وقوّته ، لو أنزل عليه القرآن وفهم منه ما فهمه الإنسان ، لخشع واستكان ، وتصدّع ، خشية لله تعالى ـ : فالإنسان على حقارته وضعفه أولى بذلك ، وضرب الله سبحانه هذا المثل ؛ ليتفكر فيه العاقل ، ويخشع ويلين قلبه.

وقوله سبحانه : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) الآية : لما قال تعالى : (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ، جاء بالأوصاف العليّة التي توجب لمخلوقاته هذه الخشية ، وقرأ الجمهور (١) : «القدّوس» ـ بضم القاف ـ ؛ من تقدّس إذا تطهّر وتنزّه.

وقوله : (السَّلامُ) أي : ذو السلام ؛ لأنّ الإيمان به وتوحيده وأفعاله هي لمن آمن سلام كلّها ، و (الْمُؤْمِنُ) : اسم فاعل من آمن بمعنى أمن من الأمن ، وقيل : معناه : المصدّق عباده المؤمنين ، و (الْمُهَيْمِنُ) : معناه : الحفيظ والأمين ؛ قاله ابن عبّاس (٢) ، و (الْجَبَّارُ) : هو الذي لا يدانيه شيء ، ولا تلحق رتبته ، قال الفخر (٣) : وفي اسمه تعالى : (الْجَبَّارُ) وجوه :

أحدها : أنّه فعّال ؛ من جبر إذا أغنى الفقير وجبر الكسير.

والثاني : أن يكون الجبار من جبره إذا أكرهه ؛ قال الأزهريّ : وهي لغة تميم ، وكثير من الحجازيين يقولونها بغير ألف في الإكراه ، وكان الشافعيّ رحمه‌الله يقول : جبره السلطان على كذا بغير ألف ، وجعل الفرّاء (الْجَبَّارُ) بهذا المعنى من أجبر بالألف ، وهي

__________________

(١) وقرأ بها أبو السمال بفتح القاف ، ورويت عن الكسائيّ. قال أبو الفتح : فعول في الصفة قليل ، وذكر سيبويه في الصفة السّبّوح ، والقدّوس.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٣١٧) ، و «مختصر الشواذ» ص : (١٥٥) ، وذكر ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٩٢) أنها رويت عن أبي ذر. وزاد أبو حيان (٨ / ٢٤٩) نسبتها إلى : أبي دينار الأعرابي.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٣) ، برقم : (٣٣٩٢٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٩٢)

(٣) ينظر : «تفسير الفخر الرازي» (٢٩ / ٢٥٥)

٤١٤

اللغة المعروفة في الإكراه ، انتهى ، و (الْمُتَكَبِّرُ) : معناه : الذي له التكبّر حقّا و (الْبارِئُ) بمعنى : الخالق ، و (الْمُصَوِّرُ) : هو الذي يوجد الصور ، وباقي الآية بيّن ، وروى معقل بن يسار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم / أنّه قال : من قال حين يصبح ثلاث مرّات : أعوذ بالله السّميع العليم من الشيطان الرجيم ، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ـ : وكلّ الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه ، حتّى يمسي ، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» (١) رواه الترمذي ، وقال : حديث حسن غريب ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ١٨٢) ، كتاب «فضائل القرآن» باب : (٢٢) (٢٩٢٢).

قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

٤١٥

تفسير سورة الممتحنة

وهي مدنيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(١)

قوله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ...) الآية : المراد بالعدو هاهنا : كفّار قريش ، وسبب نزول هذه الآية حاطب بن أبي بلتعة ؛ وذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد الخروج إلى مكّة عام الحديبية.

* ت* : بل عام فتح مكّة ، فكتب حاطب إلى قوم من كفّار مكّة يخبرهم بقصد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن ذلك منه ارتدادا ، فنزل الوحي مخبرا بما صنع حاطب ، فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا والزبير وثالثا ـ قيل هو المقداد ـ وقال : انطلقوا حتّى تأتوا روضة خاخ ، فإنّ بها ظغينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فخذوه منها ، وخلّوا سبيلها ، فانطلقوا حتّى وجدوا المرأة ، فقالوا لها : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب! ففتشوا رحلها فما وجدوا شيئا فقال عليّ : ما كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا كذّب ، والله ، لتخرجنّ الكتاب أو لتلقينّ الثّياب ، فقالت : أعرضوا عنّي ، فحلّته من قرون رأسها ، فجاؤوا به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لحاطب : من كتب هذا؟ فقال : أنا يا رسول الله ، فقال : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله ، لا تعجل عليّ فو الله ، ما كفرت منذ أسلمت ، وما / فعلت ذلك ارتدادا عن ديني ولا رغبة عنه ؛ ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلّا وله (١) بمكّة من يمنع عشيرته ، وكنت امرأ ملصقا فيهم ، وأهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت عليهم فأردت أن أتّخذ عندهم

__________________

(١) في د : الأول.

٤١٦

يدا ، فصدّقه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : لا تقولوا لحاطب إلّا خيرا» (١) وروي أنّ حاطبا كتب : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريد غزوكم في مثل اللّيل والسّيل ، وأقسم بالله ، لو غزاكم وحده ، لنصر عليكم ، فكيف وهو في جمع كثير؟! ـ ص ـ : و (تُلْقُونَ) مفعوله محذوف ، أي : تلقون إليهم أخبار الرسول وأسراره ، و (بِالْمَوَدَّةِ) : الباء للسبب ، انتهى.

وقوله تعالى : (أَنْ تُؤْمِنُوا) : مفعول من أجله ، أي : أخرجوكم من أجل أن آمنتم بربكم.

وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ) : شرط ، جوابه متقدم في معنى ما قبله ، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط ، والتقدير : إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ، و (جِهاداً) منصوب على المصدر ، وكذلك (ابْتِغاءَ) ويجوز أن يكون ذلك مفعولا من أجله ، والمرضاة : مصدر كالرضى و (تُسِرُّونَ) حال من (تُلْقُونَ) ، ويجوز أن يكون في موضع خبر ابتداء ، كأنّه قال : أنتم تسرّون ، ويصحّ أن يكون فعلا ابتدئ به القول.

وقوله تعالى : (أَعْلَمُ) يحتمل أن يكون أفعل ، ويحتمل أن يكون فعلا ؛ لأنّك تقول : علمت بكذا فتدخل الباء.

ـ ص ـ : والظاهر أنّه أفعل تفضيل ؛ ولذلك عدّي بالباء ، انتهى ، و (سَواءَ) يجوز أن يكون مفعولا ب (ضَلَ) على تعدي «ضل» ، ويجوز أن يكون ظرفا / على غير التعدي ؛ لأنّه يجيء بالوجهين ، والأوّل أحسن في المعنى ، والسواء : الوسط ، و (السَّبِيلِ) : هنا شرع الله وطريق دينه.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(٣)

وقوله سبحانه : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ...) الآية : أخبر تعالى أنّ مداراة هؤلاء الكفرة غير نافعة في الدنيا ، وأنّها ضارّة في الآخرة ؛ ليبين فساد رأي مصانعهم ،

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ١٦٦) ، كتاب «الجهاد والسير» باب : الجاسوس (٣٠٠٧) ، وأطرافه (٣٠٨١ ، ٣٩٨٣ ، ٤٢٧٤ ، ٤٨٩٠ ، ٦٢٥٩ ، ٦٩٣٩) ، ومسلم (٤ / ١٩٤١ ـ ١٩٤٢) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب : من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم ، وقصة حاطب من أبي بلتعة (١٦١ ، ١٦١ / ٢٤٩٤) ، وأبو داود (٢ / ٥٤) ، كتاب «الجهاد» باب : في حكم الجاسوس إذا كان مسلما (٢٦٥٠) ، والترمذي (٥ / ٦٩٧) ، كتاب «المناقب» باب : (٥٩) (٣٨٦٤)

٤١٧

فقال : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) أي : إن يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم ظهرت عداوتهم ، وانبسطت إليكم أيديهم بضرركم وقتلكم ، وانبسطت ألسنتهم بسبّكم ، وأشدّ من هذا كله إنّما يقنعهم أن تكفروا ، وهذا هو ودهم ، ثم أخبر تعالى أنّ هذه الأرحام التي رغبتم في وصلها ، ليست بنافعة يوم القيامة ، فالعامل في (يَوْمَ) قوله (تَنْفَعَكُمْ) ، وقيل : العامل فيه (يَفْصِلُ) وهو ممّا بعده لا ممّا قبله ، وعبارة الثعلبيّ (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ) أي : قرابتكم منهم (وَلا أَوْلادُكُمْ) : الذين عندهم بمكة (يَوْمَ الْقِيامَةِ) : إذا عصيتم الله من أجلهم (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) : فيدخل المؤمنون الجنة ، والكافرون النار ، انتهى.

* ت* : وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى ...) [سبأ : ٣٧] الآية : واعلم أنّ المال والسبب النافع يوم القيامة ، ما كان لله وقصد به العون على طاعة الله ، وإلّا فهو على صاحبه وبال وطول حساب ، قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا شعبة ، عن عمرو بن مرة قال : سمعت عبد الله بن الحارث يحدّث عن أبي كثير ، عن عبد الله بن عمرو بن / العاصي أنّه سمعه يقول : ويجمعون ـ يعني ليوم القيامة ـ فيقال : أين فقراء هذه الأمة ومساكينها؟ فيبرزون ، فيقال : ما عندكم؟ فيقولون : يا ربّنا ، ابتلينا فصبرنا ، وأنت أعلم ، أحسبه ، قال : ووليت الأموال والسلطان غيرنا ، فيقال : صدقتم ، فيدخلون الجنة قبل سائر الناس بزمان ، وتبقى شدّة الحساب على ذوي السلطان والأموال ، قال : قلت : فأين المؤمنون يومئذ؟ قال : توضع لهم كراسيّ من نور ، ويظلّل عليهم الغمام ، ويكون ذلك اليوم أقصر عليهم من ساعة من نهار ، انتهى ، وفي قوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) : وعيد وتحذير.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٥)

وقوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ) أي : قدوة (فِي إِبْراهِيمَ) : الخليل (وَالَّذِينَ مَعَهُ) : قيل : من آمن به من الناس ، وقال الطبريّ وغيره (١) : (الَّذِينَ مَعَهُ) : هم الأنبياء المعاصرون له أو قريبا من عصره ، قال* ع (٢) * : وهذا أرجح ؛ لأنّه لم يرو أنّ لإبراهيم

__________________

(١) ينظر : «تفسير الطبري» (١٢ / ٥٩)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٢٩٥)

٤١٨

أتباعا مؤمنين في وقت مكافحته نمرودا ، وفي البخاريّ : أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجرا من بلد النمرود : ما على الأرض من يعبد الله غيري وغيرك ، وهذه الأسوة مقيّدة في التبري من المشركين وإشراكهم ، وهو مطّرد في كل ملّة ، وفي نبينا محمّد ـ عليه‌السلام ـ أسوة حسنة على الإطلاق في العقائد وفي أحكام الشرع كلّها.

وقوله : (كَفَرْنا بِكُمْ) : أي : كذبناكم في عبادتكم الأصنام.

وقوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) يعني : تأسوا بإبراهيم ، إلّا في استغفاره لأبيه ، فلا تتأسوا به فتستغفروا للمشركين ، لأنّ استغفاره إنّما كان عن موعدة وعدها / إيّاه ؛ وهذا تأويل قتادة ، ومجاهد ، وعطاء الخراسانيّ وغيرهم (١).

وقوله : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) إلى قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هو حكاية عن قول إبراهيم والذين معه ، وهذه الألفاظ بيّنة ممّا تقدم في آي القرآن.

وقوله : (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) قيل : المعنى : لا تغلبهم علينا ، فنكون لهم فتنة وسبب ضلالة ؛ نحا هذا المنحى قتادة وأبو مجلز (٢) ، وقد تقدم مستوفى في سورة يونس ، وقال ابن عبّاس (٣) : المعنى : لا تسلّطهم علينا فيفتنونا عن أدياننا ، فكأنّه قال : لا تجعلنا مفتونين ، فعبّر عن ذلك بالمصدر ، وهذا أرجح الأقوال ؛ لأنّهم إنّما دعوا لأنفسهم ، وعلى منحى قتادة : إنما دعوا للكفار ، أمّا أنّ مقصدهم إنما هو أن يندفع عنهم ظهور الكفّار الذي بسببه فتن الكفّار ، فجاء في المعنى تحليق بليغ.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٧)

وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) (٤) أي : في إبراهيم والذين معه ، وباقي الآية

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٠) عن مجاهد برقم : (٣٣٩٤١) وعن قتادة برقم : (٣٣٩٤٣) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٩٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٣٤٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٠٤) ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦١) ، برقم : (٣٣٩٤٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٩٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٣٤٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٠٤) ، وعزاه لعبد بن حميد.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٦١) ، برقم : (٣٣٩٤٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٢٩٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٣٤٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٠٤) ، وعزاه لابن المنذر ، والحاكم وصححه.

(٤) سقط في : د.

٤١٩

بيّن ، وروي أنّ هذه الآيات لما نزلت ، وعزم المؤمنون على امتثالها ، وصرم حبال الكفرة ـ لحقهم تأسّف وهمّ من أجل قراباتهم ؛ إذ لم يؤمنوا ، ولم يهتدوا ، حتّى يكون بينهم التوادد والتواصل ، فنزلت : (عَسَى اللهُ ...) الآية : مؤنسة في ذلك ، ومرجية أن يقع ، فوقع ذلك بإسلامهم في الفتح ، وصار الجميع إخوانا ، وعسى من الله واجبة الوقوع.

* ت* : قد تقدم تحقيق القول في (عَسَى) في سورة القصص ، فأغنى عن إعادته.

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(١١)

وقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ ....) الآية : اختلف في هؤلاء الذين لم ينه عنهم أن يبرّوا ، فقيل : أراد المؤمنين التاركين للهجرة ، وقيل : خزاعة وقبائل من العرب ، كانوا مظاهرين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم / ومحبّين لظهوره ، وقيل : أراد النساء والصبيان من الكفرة ، وقيل : أراد من كفّار قريش من لم يقاتل ولا أخرج ، ولم يظهر سوءا ؛ وعلى أنّها في الكفار فالآية منسوخة بالقتال ، والذين قاتلوا في الدين وأخرجوهم هم مردة قريش.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) الآية نزلت إثر صلح الحديبية ؛ وذلك أنّ ذلك الصلح تضمّن أنّ من أتى مسلما من أهل مكّة ، ردّ إليهم ، سواء كان رجلا أو امرأة ، فنقض الله تعالى من ذلك أمر النساء بهذه الآية ، وحكم بأنّ المهاجرة المؤمنة لا تردّ إلى دار الكفر ، و (فَامْتَحِنُوهُنَ) : معناه : جربوهن واستخبروا حقيقة ما عندهنّ.

وقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) إشارة إلى الاسترابة ببعضهنّ.

* ت* : وقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ...) الآية : العلم هنا : بمعنى الظن ، وذكر الله تعالى العلّة في ألّا يردّ النساء إلى الكفّار وهو امتناع الوطء وحرمته.

٤٢٠