تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

الآية ، * ت* : وهذا التأويل غير صحيح ، والأول هو الصواب ـ إن شاء الله ـ ؛ للحديث الصحيح ؛ فقد روى النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الدّعاء هو العبادة». وقرأ : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) (١) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبّان في «صحيحيهما» ؛ وقال الترمذيّ ، ـ واللفظ له ـ : حديث حسن صحيح ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، انتهى من «السّلاح» والدّاخر ، الصّاغر الذّليل.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦٦)

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ...) الآيات ، هذا تنبيه على آيات الله وعبره ، متى تأمّلها العاقل أدّته إلى توحيد الله سبحانه ، والإقرار بربوبيّته ، و (تُؤْفَكُونَ) معناه : تصرفون عن طريق النظر والهدى ، (كَذلِكَ يُؤْفَكُ) أي : على هذه الهيئة وبهذه الصفة صرف الله تعالى الكفّار الجاحدين بآيات الله من الأمم المتقدّمة عن طريق الهدى.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٦٨)

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٧٤ ـ ٣٧٥) كتاب «تفسير القرآن» باب : ومن سورة المؤمن ، برقم : (٣٢٤٧) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٥٨) ، كتاب «الدعاء» باب : فضل الدعاء ، برقم : (٣٨٢٨) ، وأحمد (٤ / ٢٦٧ ، ٢٧١ ، ٢٧٦ ، ٢٧٧) ، والطيالسي (١ / ٢٥٣) كتاب «الأذكار والدعوات» باب : ما جاء في فضل الدعاء وآدابه ، برقم : (١٢٥٢) ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ٤٩١) كتاب «الدعاء» ، وابن حبان (٨ / ٣٢) ـ الموارد باب : ما جاء في فضل الدعاء ، برقم : (٢٣٩٦).

قال الحاكم : حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقد رواه شعبة ، وجرير عن منصور عن ذر.

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

١٢١

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) الآية ، تنبيه على الوحدانيّة بالعبرة في ابن آدم وتدريج خلقه.

وقوله سبحانه : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) عبارة / تردّد في الأدراج المذكورة ، فمن الناس من يموت قبل أن يخرج طفلا وآخرون قبل الأشدّ ، وآخرون قبل الشيخوخة ، (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) ، أي : ليبلغ كلّ واحد أجلا مسمّى لا يتعدّاه ، و (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الحقائق إذا نظرتم في هذا وتدبّرتم حكمة الله تعالى.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)(٧٧)

وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ ...) الآية في الكفّار المجادلين في رسالة نبيّنا محمّد* ع* و (يُسْحَبُونَ) معناه يجرّون ، والسّحب : الجرّ ، والحميم الذائب الشديد الحرّ من النار ، و (يُسْجَرُونَ) : قال مجاهد (١) : معناه توقد النّار بهم ، والعرب تقول ؛ سجرت التّنّور : إذا ملأته نارا ، وقال السّدّيّ : يسجرون : يحرقون (٢) ، ثم أخبر تعالى ؛ أنهم يقال لهم : أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا؟ فيقولون : ضلّوا ، أي : تلفوا لنا وغابوا ، ثمّ تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب ، فيقولون : (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) ثم يقال لهؤلاء الكفّار المعذبين : (ذلِكُمْ) : العذاب الذي أنتم فيه (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ) في الدنيا بالمعاصي والكفر ، و (تَمْرَحُونَ) قال مجاهد : معناه : الأشر والبطر (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٧٨) برقم : (٣٠٤٠١) ، وذكره البغوي» (٤ / ١٠٥) ، وزاد نسبته لمقاتل ، وابن عطية (٤ / ٥٦٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٧٠) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٧٨) برقم : (٣٠٤٠٢) ، وذكره ابن عطية (٤ / ٥٦٩)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٧٩) برقم : (٣٠٤٠٥) ، وذكره البغوي (٤ / ١٠٥) ، وابن عطية (٤ / ٥٧٠) ، ـ

١٢٢

وقوله تعالى : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) معناه : يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر : ادخلوا ؛ لأنّ هذه المخاطبة إنما هي بعد دخولهم ، ثم آنس تعالى نبيّه ، ووعده بقوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : في نصرك وإظهار أمرك ؛ فإنّ ذلك أمر إما أن ترى بعضه في حياتك ، فتقرّ عينك به ، وإما أن تموت قبل ذلك ، فإلى أمرنا وتعذيبنا يصيرون ويرجعون.

قال أبو حيّان (١) : و «ما» في «إمّا» زائدة لتأكيد معنى الشرط ، انتهى.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ)(٨١)

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) هذه الآية ردّ على العرب الذين استبعدوا أن يبعث الله بشرا رسولا.

وقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ ...) الآية ، يحتمل أن يريد بأمر الله القيامة ، فتكون الآية توعّدا لهم بالآخرة ، ويحتمل أن يريد بأمر الله إرسال رسول وبعثة نبيّ قضى ذلك وأنفذه بالحقّ ؛ وخسر كلّ مبطل.* ت* : والأول أبين.

وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها ...) الآية ، هذه آيات فيها عبر وتعديد نعم ، و (الْأَنْعامَ) : الأزواج الثمانية ، و (مِنْها) الأولى للتبعيض ، وقال الطبري (٢) في هذه الآية : الأنعام تعمّ الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير ، وغير ذلك مما ينتفع به من البهائم ، ف (مِنْها) في الموضعين على هذا للتّبعيض.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا

__________________

ـ والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٧٠) ، وعزاه للفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٤٥٦)

(٢) ينظر : «تفسير الطبري» (١١ / ٨٠)

١٢٣

بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ)(٨٥)

وقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ...) الآية ، هذا احتجاج على قريش بما أظهر سبحانه في الأمم السالفة من نقماته في الكفار الذين كانوا أكثر منهم ، وأشدّ قوّة قال أبو حيان (١) : (فَما أَغْنى) «ما» نافية أو استفهامية بمعنى النفي ، انتهى.

وقوله سبحانه : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الآية ، الضمير في (جاءتهم) عائد على الأمم المذكورة ، واختلف المفسّرون في الضمير في (فَرِحُوا) على من يعود؟ فقال مجاهد وغيره : هو عائد على الأمم المذكورين (٢) ، أي : فرحوا بما عندهم من العلم في ظنّهم ومعتقدهم من أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون ، قال ابن زيد : واغترّوا بعلمهم بالدنيا والمعاش ، وظنوا أنه لا آخرة ؛ ففرحوا (٣) وهذا كقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الروم : ٧] وقالت فرقة : الضمير في (فَرِحُوا) عائد على الرسل ، وفي هذا التأويل حذف وتقديره : فلما جاءتهم رسلهم بالبينات ، كذّبوهم ففرح الرسل بما عندهم من العلم بالله والثقة به ، وبأنه سينصرهم ، والضمير في (بِهِمْ) عائد على الكفار بلا خلاف ، ثم حكى سبحانه حالة بعضهم ممّن آمن بعد تلبّس العذاب بهم ، فلم ينفعهم ذلك ؛ وفي ذكر هذا حضّ على المبادرة.

و (سُنَّتَ) نصب على المصدر ، * ت* : وقيل : المعنى : احذروا سنّة الله ؛ كقوله : (ناقَةُ اللهِ) [الشمس : ١٣] قال الفخر ، وقوله : (هُنالِكَ) : اسم مكان مستعار للزّمان ، أي : وخسروا وقت رؤية البأس ، انتهى ، وصلّى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه ، وسلّم تسليما.

__________________

(١) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٤٥٧)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٨٢) برقم : (٣٠٤١٣) ، وذكره البغوي (٤ / ١٠٦) ، وابن عطية (٤ / ٥٧١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٨٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٧٠) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد.

(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٤ / ٥٧١)

١٢٤

تفسير سورة فصلت

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ)(١١)

روي أنّ عتبة بن ربيعة ذهب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليحتجّ عليه ، ويبيّن له أمر مخالفته لقومه ، فلمّا فرغ عتبة من كلامه ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بسم الله الرحمن الرحيم» : (حم* تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) إلى قوله : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [السجدة : ١٣] فأرعد الشيخ ، وقفّ شعره ، وأمسك على فم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وناشده بالرّحم أن يمسك (١) ، وقال حين فارقة : والله ، لقد سمعت شيئا ما هو بالشّعر ، ولا هو بالكهانة ، ولا هو بالسّحر ، ولقد ظننت أنّ صاعقة العذاب على رأسي ، و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : صفتا رجاء ورحمة لله عزوجل ، و (فُصِّلَتْ) معناه بيّنت (آياتُهُ) أي : فسّرت معانيه ، / ففصّل بين حلاله وحرامه ، ووعده ووعيده ، وقيل : فصّلت في التنزيل ، أي : نزل نجوما ، ولم ينزل مرة واحدة ، وقيل : فصّلت بالمواقف وأنواع أواخر الآي ، ولم يكن يرجع إلى قافية ونحوها ؛ كالسّجع والشعر.

وقوله تعالى : (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) قالت فرقة : يعلمون الأشياء ، ويعقلون الدلائل ، فكأنّ القرآن فصّلت آياته لهؤلاء ؛ إذ هم أهل الانتفاع بها ، فخصّوا بالذكر ؛ تشريفا ، وقالت فرقة :

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٧٣) ، وعزاه إلى ابن إسحاق ، وابن المنذر ، والبيهقي في «الدلائل» ، وابن عساكر.

١٢٥

(يَعْلَمُونَ) : متعلّق في المعنى بقوله : (عَرَبِيًّا) : أي : لقوم يعلمون ألفاظه ، ويتحقّقون أنّها لم يخرج شيء منها عن كلام العرب ، وكأنّ الآية على هذا التأويل رادّة على من زعم أنّ في كتاب الله ما ليس في كلام العرب ، والتأويل الأوّل أبين وأشرف معنى وبيّن أنّه ليس في القرآن إلّا ما هو من كلام العرب ، إمّا من أصل لغتها ، وإمّا ممّا عرّبته من لغة غيرها ، ثم ذكر في القرآن وهو معرّب مستعمل.

وقوله تعالى : (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) نفي لسماعهم النافع الذي يعتدّ به ، ثم حكى عنهم مقالتهم التي باعدوا فيها كلّ المباعدة ، وأرادوا أن يؤيسوه من قبولهم ما جاء به ، وهي : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) وأكنّة : جمع كنان ، والوقر : الثّقل في الأذن الذي يمنع السمع.

وقوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ ...) الآية : قال الحسن : المراد بالزكاة : زكاة المال (١) ، وقال ابن عبّاس والجمهور : الزكاة في هذه الآية : لا إله إلّا الله التّوحيد (٢) ؛ كما قال موسى لفرعون : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) [النازعات : ١٨] ويرجّح هذا التأويل أنّ الآية مكّيّة ، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة ؛ وإنّما هذه زكاة القلب والبدن ، أي : تطهيره من المعاصي ؛ وقاله مجاهد والربيع (٣) ، وقال الضّحّاك ومقاتل : معنى الزكاة هنا : النفقة في الطاعة (٤) ، و (غَيْرُ مَمْنُونٍ) قال ابن عبّاس : معناه : غير منقوص (٥) ، وقالت فرقة : معناه : غير مقطوع ؛ يقال : مننت الحبل : إذا قطعته ، وقال مجاهد : معناه : غير محسوب (٦) ، قال* ع (٧) * : ويظهر في الآية أنّه وصفه بعدم المنّ والأذى من حيث هو من جهة الله تعالى ، فهو شريف لا منّ فيه ، وأعطيات البشر هي التي يدخلها المنّ ، والأنداد : الأشباه والأمثال ، وهي إشارة إلى كلّ ما عبد من دون الله.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٨٦) برقم : (٣٠٤٢٤) عن قتادة ، وذكره البغوي (٤ / ١٠٧) آية رقم : (٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٨٦) برقم : (٣٠٤٢٢) ، وذكره البغوي (٤ / ١٠٧) ، وابن عطية (٥ / ٥) ، وابن كثير (٤ / ٩٢) ط الحلبي ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٧٥) ، وعزاه إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «الأسماء والصفات».

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٥)

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٠٨) ، وابن عطية (٥ / ٥)

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٨٦) برقم : (٣٠٤٢٧) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٠٨) ، وابن عطية (٥ / ٥)

(٦) أخرجه الطبري (١١ / ٨٦) برقم : (٣٠٤٢٨) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٠٨) آية رقم : (٨) ، وابن عطية (٥ / ٥)

(٧) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٥)

١٢٦

وقوله تعالى : (وَبارَكَ فِيها) أي : جعلها منبتّة للطّيّبات والأطعمة ، وجعلها طهورا إلى غير ذلك من وجوه البركة ، وفي قراءة ابن مسعود : «وقسّم فيها أقواتها» (١) واختلف في معنى قوله : (أَقْواتَها) فقال السّدّيّ : هي أقوات البشر وأرزاقهم ، وأضافها إلى الأرض ، من حيث هي فيها وعنها (٢) ، وقال قتادة : هي أقوات الأرض : من الجبال ، والأنهار ، والأشجار ، والصخور ، والمعادن ، والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها (٣) ، وروى ابن عبّاس في هذا حديثا مرفوعا ، فشبّهها بالقوت الذي به قوام الحيوان ، وقال مجاهد أراد أقواتها من المطر والمياه ، وقال الضّحّاك وغيره : أراد بقوله : (أَقْواتَها) : خصائصها التي قسّمها في البلاد من الملبوس والمطعوم (٤) ، فجعل في بلد وفي قطر ما ليس في الآخر ، ليحتاج بعضهم إلى بعض ، ويتقوّت من هذه في هذه ، وهذا قريب من الأوّل.

وقوله تعالى : (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) يريد : باليومين الأولين ، وقرأ الجمهور : «سواء» بالنصب على الحال (٥) ، أي : سواء هي وما انقضى فيها ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : «سواء» (٦) ـ بالرفع ـ ، أي : هي سواء ، وقرأ الحسن (٧) : «سواء» بالخفض على نعت الأيّام ، واختلف في معنى : «للسائلين» : فقال قتادة معناه : سوآء لمن سأل واستفهم / عن الأمر وحقيقة وقوعه ، وأراد العبرة فيه ، فإنّه يجده (٨) ، كما قال تعالى ، وقال ابن زيد وجماعة : معناه : مستو مهيّأ أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبّر عنهم ب (السَّائِلِينَ) بمعنى «الطالبين» ؛ لأنّه من شأنهم ، ولا بدّ طلب ما ينتفعون به ، فهم في حكم من سأل هذه الأشياء ، إذ هم أهل حاجة إليها ، ولفظة «سواء» تجري مجرى عدل وزور ، في أن ترد على المفرد والجمع والمذكر والمؤنث.

__________________

(١) ينظر : «الكشاف» (٤ / ١٨٨) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٦)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٨٩) برقم : (٣٠٤٣٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٦)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٨٩) برقم : (٣٠٤٣٨ ـ ٣٠٤٣٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٦)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٩٠) برقم : (٣٠٤٤٦) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٠٨) آية رقم : (١٠) ، وابن عطية (٥ / ٦)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٦) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٦٥) ، و «الدر المصون» (٦ / ٥٧)

(٦) وذكرت عن يعقوب.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٣٤) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٦) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٦٥)

(٧) وقرأ بها عيسى ، وابن أبي إسحاق ، وعمرو بن عبيد ، وزيد بن علي ، ويعقوب.

ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٦) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٦٥) ، و «الدر المصون» (٦ / ٧٥)

(٨) أخرجه الطبري (١١ / ٩١) برقم : (٣٠٤٤٨ ـ ٣٠٤٤٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٧٧) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وعبد بن حميد.

١٢٧

وقوله سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) معناه : بقدرته واختراعه إلى خلق السماء وإيجادها.

وقوله تعالى : (وَهِيَ دُخانٌ) روي : أنّها كانت جسما رخوا ؛ كالدّخان أو البخار ، وروي : أنّه ممّا أمره الله تعالى أن يصعد من الماء ، وهنا محذوف ، تقديره : فأوجدها ، وأتقنها ، وأكمل أمرها ، وحينئذ قال لها وللأرض ائتيا بمعنى ائتيا أمري وإرادتي فيكما ، وقرأ ابن عبّاس : «آتيا» (١) بمعنى : أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما (٢) ، والإشارة بهذا كلّه إلى تسخيرهما وما قدّره الله من أعمالهما.

وقوله : (أَوْ كَرْهاً) فيه محذوف تقديره ائتيا طوعا وإلّا أتيتما كرها.

وقوله سبحانه : (قالَتا) أراد الفرقتين جعل السموات سماء والأرضين أرضا ، واختلف في هذه المقالة من السّموات والأرض ، هل هو نطق حقيقة أو هو مجاز؟ لما ظهر عليها من التذلّل والخضوع والانقياد الذي يتنزل منزلة النطق ، قال ـ عليه‌السلام (٣) : والقول الأوّل : أنّه نطق حقيقة ـ أحسن ؛ لأنه لا شيء يدفعه ـ ، وأنّ العبرة به أتمّ والقدرة فيه أظهر.

(فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)(١٥)

وقوله تعالى : (فَقَضاهُنَ) معناه : فصنعهنّ وأوجدهنّ ، ومنه قول أبي ذؤيب : [الكامل]

وعليهما / مسرودتان قضاهما

داوود أو صنع السّوابغ تبّع (٤)

_________________

(١) وقرأ بها سعيد بن جبير ، ومجاهد.

ينظر : «المحتسب» (٢ / ٢٤٥) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٧) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٦٦) ، و «الدر المصون» (٦ / ٥٨)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٩٢) برقم : (٣٠٤٥٢) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١٠٩) آية رقم (١١) ، وابن عطية (٥ / ٧)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٧)

(٤) وهو لأبي ذؤيب «في سرّ صناعة الإعراب» (٢ / ٧٦٠) ، و «شرح أشعار الهذليين» (١ / ٣٩) ، و «شرح المفصل» (٣ / ٥٩) ، و «لسان العرب» (٨ / ٣١) (تبع) ، (٨ / ٢٠٩) (صنع) ، (١٥ / ١٨٦) (قضى) ، و «المعاني الكبير» ص : (١٠٣٩) ، وبلا نسبة في «شرح المفصل» (٣ / ٥٨)

١٢٨

وقوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) قال مجاهد وقتادة : أوحى إلى سكّانها وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها ـ ما شاء الله تعالى ـ من الأمور التي بها قوامها وصلاحها (١).

وقوله : (ذلِكَ) إشارة إلى جميع ما ذكر ، أي : أوجده بقدرته ، وأحكمه بعلمه.

وقوله تعالى : (فَإِنْ أَعْرَضُوا) يعني : قريشا ، والعرب الذين دعوتهم إلى عبادة الله تعالى عن هذه الآيات البيّنات (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) وقرأ النّخعي وغيره : صعقة فيهما (٢) ، وهذه قراءة بيّنة المعنى ؛ لأنّ الصعقة الهلاك الوحيّ ، وأمّا الأولى فهي تشبيه بالصاعقة ، وهي الوقعة الشديدة من صوت الرعد ، فشبّهت هنا وقعة العذاب بها ؛ لأنّ عادا لم تعذّب إلا بريح ، وإنّما هذا تشبيه واستعارة ، وعبارة الثعلبيّ : (صاعِقَةً) أي : واقعة وعقوبة مثل صاعقة عاد وثمود ، انتهى ، قال* ع (٣) * : وخصّ عادا وثمود بالذّكر ؛ لوقوف قريش على بلادها في اليمن وفي الحجر في طريق الشام ، قال الثعلبيّ : و (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) يعني : قبلهم وبعدهم ، وقامت الحجّة عليهم في أنّ الرسالة والنذارة عمتهم خبرا ومباشرة ، وقال* ع (٤) * قوله : (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) أي : جاءهم رسول بعد اكتمال أعمارهم وبعد تقدّم وجودهم في الزّمن ، فلذلك قال : (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) ولا يتوجه أن يجعل (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) عبارة عمّا أتى بعدهم ؛ لأنّ ذلك لا يلحقهم منه تقصير.

* ت* : وما تقدم للثعلبيّ وغيره أحسن ؛ لأنّ مقصد الآية اتصال النذارة بهم وبمن قبلهم وبمن بعدهم ؛ إذ ما من أمّة إلّا وفيها نذير ، وكما قال تعالى : (رُسُلَنا تَتْرا ...) [المؤمنون : ٤٤] وأيضا فإنّه جمع في اللفظ عادا وثمود وبالضرورة أنّ / الرسول الذي أرسل إلى ثمود هو بعد عاد ، فليس لردّ* ع* : وجه ؛ فتأمله.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ٩٢ ـ ٩٣) برقم : (٣٠٤٥٥ ـ ٣٠٤٥٦) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥ / ٧) ، وذكره ابن كثير (٤ / ٩٣) ولم يعزه لأحد ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٧٨) ، وعزاه إلى عبد بن حميد ، والفريابي عن مجاهد ، وعبد بن حميد عن قتادة.

(٢) وقرأ بها : ابن الزبير ، والسلمي ، وابن محيصن.

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٣٤) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٨) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٦٨) ، و «الدر المصون» (٦ / ٥٩)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٨)

(٤) ينظر : المصدر السابق.

١٢٩

(فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٢١)

وقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً ...) الآية ، تقدّم قصص هؤلاء ، وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن كثير : (نَحِساتٍ) ـ بسكون الحاء (١) ـ ، وهي جمع «نحس» وقرأ الباقون : (نَحِساتٍ) ـ بكسر الحاء ـ جمع «نحس» على وزن حذر ، والمعنى في هذه اللفظة : مشائيم من النحس المعروف ، قاله مجاهد وغيره (٢) ، وقال ابن عبّاس : (نَحِساتٍ) معناه متتابعات (٣) ، وقيل : معناه : شديدة ، أي : شديدة البرد.

وقوله تعالى : (فَهَدَيْناهُمْ) معناه : بيّنا لهم ؛ قاله ابن عبّاس وغيره ، وهذا كما هي الآن شريعة الإسلام مبيّنة لليهود والنصارى المختلطين بنا ، ولكّنهم يعرضون ويشتغلون بالضّدّ ، فذلك استحباب العمى على الهدى ، و (الْعَذابِ الْهُونِ) هو الذي معه هوان وإذلال ؛ قال أبو حيّان (٤) : «الهون» مصدر بمعنى «الهوان» ، وصف به العذاب ، انتهى ، و (أَعْداءُ اللهِ) هم الكفار المخالفون لأمر الله سبحانه ، و (يُوزَعُونَ) معناه : يكفّ أوّلهم حبسا على آخرهم ؛ قاله قتادة ، والسّدّيّ (٥) ، وأهل اللغة ، وهذا وصف حال من أحوال الكفرة في بعض أوقات القيامة ، وذلك عند وصولهم إلى جهنّم ، فإنّه سبحانه يستقرهم عند ذلك على أنفسهم ، ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم فيجحدون ، ويحسبون أن لا شاهد

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٥٧٦) ، و «الحجة» (٦ / ١١٦) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٢٧٥) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٣٥١) ، و «شرح الطيبة» (٥ / ٢١٠) ، و «العنوان» (١٦٩) ، و «حجة القراءات» (٦٣٥) ، و «شرح شعلة» (٥٧٢) ، و «إتحاف» (٢ / ٤٤٢)

(٢) أخرجه الطبري (١١ / ٩٦) برقم : (٣٠٤٦٨) ، (٣٠٤٧٠) عن مجاهد ، (٣٠٤٧١) عن السدي ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥ / ٩)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ٩٥) برقم : (٣٠٤٦٧) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥ / ٩) ، وابن كثير (٤ / ٩٥) ولم يعزه لأحد.

(٤) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٤٧١)

(٥) أخرجه الطبري (١١ / ٩٨ ـ ٩٩) برقم : (٣٠٤٨٣ ـ ٣٠٤٨٤) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١١٢) آية رقم (١٩) ، وابن عطية (٥ / ١٠)

١٣٠

عليهم ، ويطلبون شهيدا عليهم من أنفسهم ، وفي الحديث الصحيح : «إنّ العبد ـ يعني الكافر ـ يقول : يا ربّ ، أليس وعدتني ألّا تظلمني؟ قال : فإنّ ذلك لك ، قال : فإنّي لا أقبل عليّ شاهدا إلّا من نفسي ، قال فيختم على فيه ، وتتكلّم أركانه بما كان يعمل ، قال : فيقول لهنّ : بعدا لكنّ ، وسحقا ، فعنكنّ كنت أدافع» (١) الحديث ، قال أبو حيّان (٢) : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها) : «ما» بعد «إذا» زائدة للتوكيد ، انتهى.

(وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ)(٢٥)

وقوله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) يحتمل أن يكون من كلام الجلود ، ويحتمل أن يكون من كلام الله عزوجل ، وجمهور الناس على أنّ المراد بالجلود الجلود المعروفة ، وأمّا معنى الآية فيحتمل وجهين :

أحدهما : أن يريد وما كنتم تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر ؛ خوف أن يشهد ، أو لأجل (أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ ...) الآية ، وهذا هو منحى مجاهد (٣) ، والمعنى الثاني أن يريد : وما يمكنكم ولا يسعكم الاختفاء عن أعضائكم ، والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم ، وهذا هو منحى السّدّيّ (٤) ، وعن ابن مسعود قال : «إنّي لمستتر بأستار الكعبة ، إذ دخل ثلاثة نفر : قرشيّان وثقفيّ أو ثقفيّان وقرشيّ ، قليل فقه قلوبهم ، كثير شحم بطونهم ، فتحدّثوا بحديث ، فقال أحدهم : أترى الله يسمع ما قلنا؟ فقال الآخر : يسمع إذا رفعنا ، ولا يسمع إذا أخفينا ، وقال الآخر : إن كان يسمع منه شيئا فإنّه يسمعه كلّه ، فجئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بذلك فنزلت هذه الآية : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) ، وقرأ حتى بلغ : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ)» (٥).

__________________

(١) ينظر : «الدر المنثور» (٥ / ٣٥)

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٤٧١)

(٣) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (٥ / ١١)

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ١٠٠) برقم : (٣٠٤٩٣) ، وابن عطية (٥ / ١١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٨٠)

(٥) أخرجه البخاري مختصرا (٨ / ٤٢٤) كتاب «التفسير» باب : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٤٨١٦) ، (٨ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥) ـ

١٣١

قال الشيخ أبو محمّد بن أبي زيد في آخر : «مختصر المدوّنة» له : واعلم أنّ [الأجساد التي أطاعت أو عصت ، هي التي تبعث يوم القيامة لتجازى ، والجلود التي كانت في الدنيا ، والألسنة] (١) ، والأيدي ، والأرجل هي التي تشهد عليهم يوم القيامة على من تشهد ، انتهى.

قال القرطبيّ في «تذكرته» (٢) : واعلم أنّ عند أهل السنة أنّ تلك الأجساد الدّنيويّة تعاد بأعيانها وأعراضها بلا خلاف بينهم في ذلك ، انتهى ، ومعنى (أَرْداكُمْ) : أهلككم ، والردي : الهلاك ؛ وفي صحيح «البخاريّ» و «مسلم» عن جابر قال : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول قبل وفاته بثلاث : «لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو يحسن الظّنّ بالله عزوجل» (٣) وذكره ابن أبي الدنيا في «كتاب حسن الظنّ بالله عزوجل» ، وزاد فيه : «فإنّ قوما قد أرداهم سوء ظنّهم بالله ، فقال لهم الله تبارك وتعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) انتهى ، ونقله أيضا صاحب «التذكرة».

وقوله تعالى : (فَإِنْ يَصْبِرُوا) مخاطبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمعنى : فإن يصبروا أو لا يصبروا ، واقتصر لدلالة الظاهر على ما ترك.

وقوله تعالى : (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) معناه : وإن طلبوا العتبى ، وهي الرضا فما هم ممّن يعطاها ويستوجبها ؛ قال أبو حيّان (٤) : قراءة الجمهور : «وإن يستعتبوا» مبنيّا للفاعل (٥) ، و : (مِنَ الْمُعْتَبِينَ) مبنيّا للمفعول ، أي : وإن يعتذروا فما هم من المعذورين ، انتهى.

__________________

ـ كتاب «التفسير» باب : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤٨١٧) ، (١٣ / ٥٠٤) كتاب «التوحيد» باب : قول الله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) (٧٥٢١) ، ومسلم (٤ / ٢١٤١) كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» باب : (٥ / ٢٧٧٥) ، وابن حبان (٢ / ١١٦) كتاب «البروالإحسان» باب : الإخلاص وأعمال السر (٣٩٠) ، والحميدي (١ / ٤٧) (٨٧) ، والترمذي (٥ / ٣٧٥) كتاب «تفسير القرآن» باب : ومن سورة حم السجدة ، (٣٢٤٨ ـ ٣٢٤٩) ، وأحمد (١ / ٣٨١ ، ٤٠٨ ، ٤٢٦ ، ٤٤٢ ، ٤٤٣).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(١) سقط من : د.

(٢) ينظر : «التذكرة» (١ / ٢٢٧)

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٠٤) كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب : الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت ، حديث (٨١ / ٢٨٧٧) من حديث جابر.

(٤) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٤٧٢)

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٢) ، و «البحر المحيط» (٧ / ٤٧٢) ، و «الدر المصون» (٦ / ٦٤)

١٣٢

ثم وصف تعالى حالهم في الدنيا وما أصابهم به حين أعرضوا ، فحتّم عليهم ، فقال : (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) ، أي : يسّرنا لهم قرناء سوء من الشياطين وغواة الإنس.

وقوله : (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : علّموهم ، وقرّروا لهم في نفوسهم معتقدات سوء في الأمور التي تقدّمتهم من أمر الرسل والنبوّات ، ومدح عبادة الأصنام ، واتّباع فعل الآباء ، إلى غير ذلك ممّا يقال : إنّه بين أيديهم ، وذلك كلّ ما تقدّمهم في الزّمن ، واتّصل إليهم أثره أو خبره ، وكذلك أعطوهم معتقدات سوء فيما خلفهم ، وهو كلّ ما يأتي بعدهم من القيامة والبعث ونحو ذلك (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : سبق عليهم القضاء الحتم ، وأمر الله بتعذيبهم في جملة أمم معذّبين ، كفّار من الجنّ والإنس.

وقالت فرقة : «في» بمعنى «مع» ، أي : مع أمم ، قال* ع (١) * : والمعنى / يتأدى بالحرفين ، ولا نحتاج أن نجعل حرفا بمعنى حرف ، إذ قد أبى ذلك رؤساء البصريّين.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ)(٢٩)

وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ...) الآية : حكاية لما فعله بعض كفار قريش ، كأبي جهل وغيره ، لما خافوا استمالة القلوب بالقرآن ، قالوا : متى قرأ محمّد فالغطوا بالصّفير والصياح وإنشاد الشعر ؛ حتى يخفى صوته ، فهذا الفعل منهم هو اللغو ، وقال أبو العالية : أرادوا : قعوا فيه وعيّبوه ، وقولهم : (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) أي : تطمسون أمر محمّد ، وتميتون ذكره ، وتصرفون عنه القلوب ، فهذه الغاية التي تمنوها ، ويأبى الله إلّا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

وقوله تعالى : (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ...) الآية ، قوله : (فَلَنُذِيقَنَ) : الفاء دخلت على لام القسم ، وهي آية وعيد لقريش ، والعذاب الشديد : هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها ، والجزاء بأسوإ أعمالهم هو عذاب الآخرة.

* ت* : حدّث أبو عمر في «كتاب التمهيد» قال : حدّثنا أحمد بن قاسم ، قال : حدّثنا محمّد بن معاوية ، قال : حدّثنا إبراهيم بن موسى بن جميل ، قال : حدّثنا

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٢)

١٣٣

عبد الله بن محمّد بن أبي الدنيا ، قال : حدثنا العتكيّ. قال : حدثنا خالد أبو يزيد الرقّيّ عن يحيى المدنيّ ، عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال : خرجت مرة ، فمررت بقبر من قبور الجاهليّة ، فإذا رجل قد خرج من القبر ، يتأجّج نارا ، في عنقه سلسلة ، ومعي إداوة من ماء ، فلمّا رآني قال : يا عبد الله ، اسقني ، قال : فقلت : عرّفني ، فدعاني باسمي ، أو كلمة تقولها العرب : يا عبد الله ، إذ خرج على أثره رجل من القبر ، فقال : يا عبد الله ، لا تسقه ، فإنّه كافر ، ثم أخذ السّلسلة فاجتذبه ، فأدخله القبر ، قال : ثم أضافني اللّيل إلى بيت عجوز ، إلى جانبها قبر ، فسمعت من القبر صوتا يقول : / بول وما بول ، شنّ وما شنّ ، فقلت للعجوز : ما هذا؟ قالت : كان زوجا لي ، وكان إذا بال لم يتّق البول ، وكنت أقول له : ويحك! إنّ الجمل إذا بال تفاجّ ، وكان يأبى ، فهو ينادي من يوم مات : بول وما بول ، قلت : فما الشنّ؟ قالت : جاء رجل عطشان فقال : اسقني! فقال : دونك الشنّ ، فإذا ليس فيه شيء ؛ فخرّ الرجل ميّتا ، فهو ينادي منذ مات : شنّ وما شنّ ، فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرته ، فنهى : أن يسافر الرجل وحده. قال أبو عمر : هذا الحديث في إسناده مجهولون ، ولم نورده للاحتجاج به ؛ ولكن للاعتبار ، وما لم يكن حكم ، فقد تسامح الناس في روايته عن الضعفاء ، انتهى من ترجمة عبد الرحمن بن حرملة ، وكلامه على قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشيطان يهمّ بالواحد والاثنين ، فإذا كانوا ثلاثة لم يهمّ بهم» (١) وقد ذكرنا الحكاية الأولى عن الوائليّ في سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) بغير هذا السند ، وأنّ الرجل الأوّل هو أبو جهل ، انتهى ، ثم ذكر تعالى مقالة كفّار يوم القيامة إذا دخلوا النار ؛ فإنّهم يرون عظيم ما حلّ بهم وسوء منقلبهم ، فتجول أفكارهم فيمن كان سبب غوايتهم ومبادي ضلالتهم ، فيعظم غيظهم وحنقهم عليه ، ويودّون أن يحصل في أشدّ عذاب ، فحينئذ يقولون : (رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) وظاهر اللفظ يقتضي أنّ الذي في قولهم : (الَّذِينَ) إنما هو للجنس ، أي : أرنا كلّ مغو من الجنّ والإنس ، وهذا قول جماعة من المفسرين.

وقيل : طلبوا ولد آدم الذي سنّ القتل والمعصية من البشر ، وإبليس الأبالسة من الجنّ ، وهذا قول لا يخفى ضعفه ، والأوّل هو / القويّ ، وقولهم : (نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا) يريدون في أسفل طبقة في النار ؛ وهي أشدّ عذابا.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا

__________________

(١) أخرجه مالك (٢ / ٩٧٨) كتاب «الاستئذان» باب : ما جاء في الوحدة في السفر للرجال والنساء (٣٦) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٣ / ٢١٨).

قال الهيثمي : رواه البزار وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف.

١٣٤

وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)(٣٢)

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) قال سفيان بن عبد الله الثّقفيّ : قلت : يا رسول الله ، أخبرني بأمر اعتصم به ، قال : «قل : ربّي الله ثمّ استقم» (١).

* ت* : هذا الحديث خرّجه مسلم في «صحيحه» ، قال صاحب «المفهم» : جوابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جوامع الكلم ، وكأنّه منتزع من قول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ...) الآية ، وتلخيصه : اعتدلوا على طاعته قولا وفعلا وعقدا ، انتهى من «شرح الأربعين حديثا» لابن الفاكهانيّ ، قال* ع (٢) * : واختلف الناس في مقتضى قوله : (ثُمَّ اسْتَقامُوا) فذهب الحسن وجماعة إلى أنّ معناه : استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي ، وتلا عمر ـ رضي الله عنه ـ هذه الآية على المنبر ، ثم قال : استقاموا ـ والله ـ بطاعته ، ولم يروغوا روغان الثّعالب ، قال* ع (٣) * : فذهب ـ رحمه‌الله ـ إلى حمل الناس على الأتمّ الأفضل ، وإلّا فيلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب ألّا تتنزل الملائكة عند الموت على غير مستقيم على الطاعة ، وذهب أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وجماعة معه إلى أنّ المعنى : ثم : استقاموا على قولهم : ربّنا الله ، فلم يختلّ توحيدهم ، ولا اضطرب إيمانهم ، قال* ع (٤) * : وفي الحديث الصحيح : «من كان آخر كلامه : لا إله إلّا الله ، دخل الجنّة» (٥)

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ٢٢٢) ـ الأبي كتاب «الإيمان» باب : جامع أوصاف الإسلام (٦٢ / ٣٨) ، والترمذي (٤ / ٦٠٧) كتاب «الزهد» باب : ما جاء في حفظ اللسان (٢٤١٠) ، وابن ماجه (٢ / ١٣١٤) كتاب «الفتن» باب : كف اللسان في الفتنة (٣٩٧٢) ، والدارمي (٢ / ٢٩٨) كتاب «الرقاق» باب : في حفظ اللسان ، وابن حبان (٨ / ٢٣٧) ـ الموارد (٢٥٤٣) ، وأخرجه الحاكم (٤ / ٣١٣) ، والطبراني (٧ / ٧٨) (٦٣٩٦) ، وأبو نعيم في «الحلية» (١ / ٦٥) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٩ / ٢٣٤) (٤٨٧٧).

وأخرجه ابن حبان (٣ / ٢٢١ ـ ٢٢٢) كتاب «الرقائق» باب الأدعية : ذكر ما يجب على المرء من سؤال الباري تعالى الثبات والاستقامة على ما يقربه إليه بفضل الله علينا بذلك (٩٤٢) ، بلفظ : «قل آمنت بالله ...» الحديث ، وأحمد (٣ / ٤١٣).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وقد روي من غير وجه عن سفيان بن عبد الله الثقفي.

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٤)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٤)

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٤)

(٥) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (١ / ٣٥١ ، ٥٠٠) ، وأبو داود (٢ / ٢٠٧) كتاب «الجنائز» باب : في التلقين برقم : (٣١١٦) ، وأحمد (٥ / ٢٣٣ ، ٢٤٧) من حديث معاذ بن جبل. ـ

١٣٥

وهذا هو المعتقد إن شاء الله ، وذلك أنّ العصاة من أمّة محمّد وغيرها فرقتان : فأمّا من غفر الله له ، وترك تعذيبه ، فلا محالة أنّه ممّن / تتنزّل عليهم الملائكة بالبشارة ، وهو إنّما استقام على توحيده فقط ، وأمّا من قضى الله بتعذيبه مدّة ، ثم [يأمر] بإدخاله الجنّة ، فلا محالة أنّه يلقى جميع ذلك عند موته ويعلمه ، وليس يصحّ أن تكون حاله كحالة الكافر واليائس من رحمة الله ، وإذا كان هذا فقد حصلت له بشارة بألا يخاف الخلود ، ولا يحزن منه ، ويدخل فيمن يقال لهم : (أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) ومع هذا كله فلا يختلف في أنّ الموحّد المستقيم على الطّاعة أتمّ حالا وأكمل بشارة ، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ ، وبالجملة ، فكلّما كان المرء أشدّ استعدادا ، كان أسرع فوزا بفضل الله تعالى ؛ قال الثعلبيّ : قوله تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) أي : عند الموت (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا) قال وكيع : والبشرى في ثلاثة مواطن : عند الموت ، وفي القبر ، وعند البعث ، وفي البخاريّ : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) أي : عند الموت (١) ، انتهى ، قال ابن العربيّ في «أحكامه» (٢) : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) قال المفسّرون : عند الموت ، وأنا أقول : كلّ يوم ، وأوكد الأيام : يوم الموت ، وحين القبر ، ويوم الفزع الأكبر ، وفي ذلك آثار بيّنّاها في موضعها ، انتهى ، قال* ع (٣) * : قوله تعالى : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) : أمنة عامّة في كلّ همّ مستأنف ، وتسلية تامّة عن كل فائت ماض ، وقال مجاهد : المعنى : لا تخافون ما تقدمون عليه ، ولا تحزنوا على ما خلّفتم من دنياكم.

__________________

ـ قال الحاكم (١ / ٣٥١) : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، وقد كنت أمليت حكاية أبي زرعة وآخر كلامه كان سياقه هذا الحديث.

قال ابن حجر في «تلخيص الحبير» (٢ / ٢١١) كتاب «الجنائز» ، أعله ابن القطان بصالح بن أبي عريب ، وأنه لا يعرف ، وتعقب بأنه روى عنه جماعة ، وذكره ابن حبان في «الثقات».

وفي الباب من حديث أبي هريرة : أخرجه ابن حبان (٢ / ٤٦٣) ـ الموارد (٩١٧) نحوه ، وابن حبان (٧ / ٢٧٢) كتاب «الجنائز» باب : فصل في المحتضر ، ذكر العلة التي من أجلها أمر بهذا الأمر (٣٠٠٤) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (٣ / ٣٨٧) كتاب «الجنائز» باب : تلقنة المريض (٦٠٤٥) نحوه.

وأخرجه مختصرا : مسلم (٢ / ٦٣١) كتاب «الجنائز» باب : تلقين الموتى لا إله إلّا الله (٢ / ٩١٧) ، وأبو يعلى (١١ / ٤٤) (٣٤٤ / ٦١٨٤) ، وابن ماجه (١ / ٤٦٤) كتاب «الجنائز» باب : ما جاء في تلقين الميت لا إله إلّا الله (١٤٤٤) ، والبيهقي (٣ / ٣٨٣) كتاب «الجنائز» باب : ما يستحب من تلقين الميت إذا حضر ، وابن الجارود في «المنتقى» (١٣٦) ، (٥١٣)

(١) ينظر : «صحيح البخاري» (٨ / ٤١٨) كتاب «التفسير» باب : سورة حم السجدة.

(٢) ينظر : «الأحكام» (٤ / ١٦٦١)

(٣) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٥)

١٣٦

* ت* : وذكر أبو نعيم عن ثابت البنانيّ أنّه قرأ : حم السجدة حتّى بلغ : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ / الْمَلائِكَةُ) ، فوقف ، وقال : بلغنا أنّ العبد المؤمن حين يبعث من قبره يتلقّاه الملكان اللّذان كانا معه في الدنيا ، فيقولان له : لا تخف ، ولا تحزن ، وأبشر بالجنة التي كنت توعد ، قال : فأمّن الله خوفه ، وأقرّ عينه ، الحديث (١). انتهى. قال ابن المبارك في «رقائقه» : سمعت سفيان يقول في قوله تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) : أي عند الموت (أَلَّا تَخافُوا) : ما أمامكم (وَلا تَحْزَنُوا) : على ما خلفتم من ضيعاتكم (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) قال : يبشّر (٢) بثلاث بشارات : عند الموت ، وإذا خرج من القبر ، وإذا فزع ، (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قال : كانوا معهم ، قال ابن المبارك : وأخبرنا رجل عن منصور ، عن مجاهد في قوله تعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قال : قرناؤهم يلقونهم يوم القيامة ، فيقولون : لا نفارقكم حتّى تدخلوا الجنة ، ا. ه.

وقوله تعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) المتكلم ب (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) هم الملائكة القائلون : (أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) أي : يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق : نحن كنّا أولياءكم في الدنيا ، ونحن هم أولياؤكم في الآخرة ؛ قال السّدّيّ : المعنى : نحن حفظتكم في الدنيا ، وأولياؤكم في الآخرة (٣) ، والضمير في قوله : (فِيها) عائد على الآخرة ، و (تَدَّعُونَ) معناه : تطلبون ؛ قال الفخر (٤) : ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين ، إشارة إلى أنّ للملائكة تأثيرات في الأرواح [البشريّة ، بالإلهامات والمكاشفات اليقينيّة والمناجاة الخفيّة ؛ كما أنّ للشياطين تأثيرات في الأرواح] (٥) بإلقاء الوساوس ، وبالجملة ، فكون الملائكة أولياء للأرواح الطّيّبة الطاهرة ، حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات ، فهم يقولون : كما أنّ تلك الولايات حاصلة في الدنيا ، فهي تكون باقية في الآخرة ؛ فإنّ تلك العلائق ذاتيّة / لازمة ، غير مائلة إلى الزوال ؛ بل تصير بعد الموت أقوى وأبقى ؛ وذلك لأنّ جوهر النفس من جنس الملائكة ، وهي كالشّعلة بالنسبة إلى الشمس والقطرة بالنسبة إلى البحر ، وإنّما التّعلّقات الجسدانيّة

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٨٣) ، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) في د : يبشرهم.

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ١٠٩) برقم : (٣٠٥٣٨) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١١٤) ، وابن عطية (٥ / ١٥)

(٤) ينظر : «تفسير الفخر الرازي» (١٤ / ١٠٦)

(٥) سقط في : د.

١٣٧

والتدبيرات البدنيّة هي الحائلة بينها وبين الملائكة ، فإذا زالت تلك العلائق ، فقد زال الغطاء ، واتّصل الأثر بالمؤثر ، والقطرة بالبحر ، والشعلة بالشمس ، انتهى.

* ت* : وقد نقل الثعلبيّ من كلام أرباب المعاني هنا كلاما كثيرا حسنا جدّا ، موقظا لأرباب الهمم ، فانظره إن شئت ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ أنّه قال : «إذا فنيت أيّام الدّنيا عن هذا العبد المؤمن ، بعث الله إلى نفسه من يتوفّاها ، قال : فقال صاحباه اللّذان يحفظان عليه عمله : إنّ هذا قد كان لنا أخا وصاحبا ، وقد حان اليوم منه فراق ، فأذنوا لنا ، أو قال : دعونا نثن على أخينا ، فيقال : أثنيا عليه ، فيقولان : جزاك الله خيرا ، ورضي عنك ، وغفر لك ، وأدخلك الجنّة ؛ فنعم الأخ كنت والصاحب ؛ ما كان أيسر مؤنتك ، وأحسن معونتك على نفسك ، ما كانت خطاياك تمنعنا أن نصعد إلى ربّنا ، فنسبّح بحمده ، ونقدّس له ، ونسجد له ، ويقول الّذي يتوفّى نفسه : اخرج أيّها الروح الطّيّب إلى خير يوم مرّ عليك ، فنعم ما قدّمت لنفسك ، اخرج إلى الروح والريحان وجنّات النعيم وربّ عليك غير غضبان ، وفنيت أيّام الدّنيا عن العبد الكافر ، بعث الله إلى نفسه من يتوفّاها ، فيقول صاحباه اللّذان كانا يحفظان عليه عمله : إنّ هذا قد كان لنا صاحبا ، وقد حان منه فراق / ، فأذنوا لنا ، ودعونا نثن على صاحبنا ، فيقال : أثنيا عليه فيقولان : لعنة الله وغضبه عليه ، ولا غفر له ، وأدخله النار فبئس الصاحب ؛ ما كان أشدّ مؤنته ، ونقدّس ما كان يعين على نفسه ؛ إن كانت خطاياه وذنوبه لتمنعنا أن نصعد إلى ربّنا فنسبّح له ، ونقدّس له ، ونسجد له ، ويقول الّذي يتوفّى نفسه : اخرج أيّها الروح الخبيث إلى شرّ يوم مرّ عليك ، فبئس ما قدّمت لنفسك ، اخرج إلى الحميم وتصلية الجحيم وربّ عليك غضبان» (١) ، انتهى.

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)(٣٥)

وقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ ...) الآية ابتداء توصية لنبيّه* ع* ، وهو لفظ يعمّ كلّ من دعا قديما وحديثا إلى الله عزوجل من الأنبياء والمؤمنين ، والمعنى : لا أحد أحسن قولا ممّن هذه حاله ، وإلى العموم ذهب الحسن

__________________

(١) أخرجه نعيم بن حماد في «زوائد الزهد» (٤٠ ـ ٤١) باب : ما يبشر به الميت عند الموت ، وثناء الملكين عليه.

١٣٨

ومقاتل وجماعة (١) ، وقيل : إنّ الآية نزلت في المؤذّنين ، وهذا ضعيف ؛ لأنّ الآية مكّيّة ، والأذان شرع بالمدينة ، قال أبو حيّان (٢) : (وَلَا السَّيِّئَةُ) «لا» زائدة للتوكيد ، انتهى.

وقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) آية جمعت مكارم الأخلاق وأنواع الحلم ، والمعنى : ادفع ما يعرض لك مع الناس في مخالطتهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن ، قال ابن عبّاس : أمره الله تعالى في هذه الآية بالصّبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعل المؤمنون ذلك ، عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوّهم ، (كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (٣) البخاريّ : «وليّ حميم» أي : قريب ، انتهى ، ، وفسّر مجاهد وعطاء هذه الآية بالسّلام عند اللّقاء (٤) ، قال* ع (٥) * : ولا شكّ أنّ السلام هو مبدأ الدّفع بالتي هي أحسن ، وهو جزء منه ، والضمير في قوله : (يُلَقَّاها) عائد على هذه الخلق التي يقتضيها قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، وقالت فرقة : / المراد : وما يلقّى «لا إله إلّا الله» ، وهذا تفسير لا يقتضيه اللفظ.

وقوله سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) : مدح بليغ للصابرين ، وذلك بيّن للمتأمّل ؛ لأنّ الصّبر على الطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلّها ، والحظّ العظيم : يحتمل أن يريد من العقل والفضل ؛ فتكون الآية مدحا للمتّصف بذلك ، ويحتمل أن يريد : ذو حظ عظيم من الجنة وثواب الآخرة ، فتكون الآية وعدا ، وبالجنة فسر قتادة الحظّ هنا (٦).

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا

__________________

(١) أخرجه الطبري (١١ / ١٠٩ ـ ١١٠) برقم : (٣٠٥٣٩) عن الحسن ، و (٣٠٥٤٠) عن قتادة بنحوه ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١١٤) عن الحسن ، وابن عطية (٥ / ١٥)

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٧ / ٤٧٦)

(٣) أخرجه الطبري (١١ / ١١١) برقم : (٣٠٥٤٤) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١١٥) ، وابن عطية في «تفسيره» (٥ / ١٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٨٥) ، وعزاه إلى ابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ١١١) برقم : (٣٠٥٤٥ ـ ٣٠٥٤٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ١٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٨٥) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.

(٥) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ١٦)

(٦) أخرجه الطبري (١١ / ١١٢) برقم : (٣٠٥٤٩) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ١١٥) ، وابن عطية (٥ / ١٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٥ / ٦٨٥) ، وعزاه إلى عبد الرزاق ، وعبد بن حميد.

١٣٩

يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٣٩)

وقوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) «إمّا» : شرط وجواب الشرط قوله : (فَاسْتَعِذْ) والنزغ : فعل الشيطان في قلب أو يد من إلقاء غضب ، أو حقد ، أو بطش في اليد.

فمن الغضب هذه الآية ، ومن الحقد قوله : (نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف : ١٠٠] ، ومن البطش قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يشر أحدكم على أخيه بالسّلاح ؛ لا ينزغ الشيطان في يده فيلقيه في حفرة من حفر النار» (١). ومن دعاء الشيخ الوليّ العارف بالله سبحانه ، محمّد بن مسرّة القرطبيّ : اللهمّ ، لا تجعل صدري للشيطان مراغا ، ولا تصيّر قلبي له مجالا ، ولا تجعلني ، ممّن استفزّه بصوته ، وأجلب عليه بخيله ورجله ، وكن لي من حبائله منجيا ، ومن مصائده منقذا ، ومن غوايته مبعدا ، اللهم إنّه وسوس في القلب ، وألقى في النفس ما لا يطيق اللسان ذكره ، ولا تستطيع النفس نشره ممّا نزّهك عنه علوّ عزّك ، وسموّ مجدك ، فأزل يا سيّدي ما سطر ، وامح ما زوّر بوابل من سحائب عظمتك وطوفان من بحار نصرتك ، واسلل عليه سيف إبعادك ، وارشقه بسهام إقصائك ، وأحرقه بنار / انتقامك ، واجعل خلاصي منه زائدا في حزنه ، ومؤكّدا لأسفه ، ثم قال رحمه‌الله : اعلم أنّه ربما كان العبد في خلوته مشتغلا بتلاوته ، ويجد في نفسه من الوسوسة ما يحول بينه وبين ربّه ، حتى لا يجد لطعم الذّكر حلاوة ، ويجد في قلبه قساوة ، وربما اعتراه ذلك مع الاجتهاد في قراءته ؛ وعلّة ذلك أنّ الذّكر ذكران : ذكر خوف ورهبة ، وذكر أمن وغفلة ، فإذا كان [الذّكر بالخوف والرهبة ، خنس الشيطان ، ولم يحتمل الحملة ، وأذهب الوسوسة ؛ لأنّ الذكر إذا كان] (٢) باجتماع القلب وصدق النية ، لم يكن للشيطان قوّة عند ذلك ، وانقطعت علائق حيله ؛ وإنّما قوّته ووسوسته مع الغفلة ، وإذا كان [الذّكر بالأمن والغفلة لم تفارقه الوسوسة ، وإن استدام العبد الذكر والقراءة ؛ لأنّ على قلب الغافل غشاوة ؛ ولا يجد] (٣) صاحبها لطعم الذكر حلاوة ، فتحفّظ على دينك من هذا العدوّ ، وليس لك أن تزيله عن

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٣ / ٢٦) كتاب «الفتن» باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حمل علينا السلاح فليس منا» (٧٠٧٢) ، ومسلم (٤ / ٢٠٢٠) كتاب «البر والصلة والآداب» باب : النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم (١٦ / ٢٦١٧) ، وأحمد (٢ / ٣١٧)

(٢) سقط في : د.

(٣) سقط في : د.

١٤٠