تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

تفسير سورة «القارعة»

وهي مكّيّة بلا خلاف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)(٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ)(١١)

قال الجمهور : (الْقارِعَةُ) القيامة نفسها ، والفراش : الطير الذي يتساقط في النار ؛ ولا يزال يتقحم على المصباح ، وقال الفرّاء : هو صغير الجراد الذي ينتشر في الأرض والهواء ، وفي البخاريّ : (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) : كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضا ؛ كذلك الناس يومئذ ؛ يجول بعضهم في بعض ، انتهى ، و (الْمَبْثُوثِ) هنا معناه : المتفرّق جمعه ؛ وجملته موجودة متصلة ، والعهن هو : الصوف والنفش خلخلة الأجزاء وتفريقها عن تراصيها.

وقوله تعالى : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) قال كثير من المفسرين : المراد بالأمّ نفس الهاوية ، وهذا كما يقال للأرض أم الناس ؛ لأنها تؤويهم ، وقال أبو صالح / وغيره : المراد أم رأسه ؛ لأنّهم يهوون على رؤوسهم (١) ؛ وروى المبرّد «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال لرجل : لا أمّ لك ، فقال : يا رسول الله ، تدعوني إلى الهدى وتقول : لا أمّ لك ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : إنّما أردت لا نار لك ، قال الله تعالى : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ)».

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٧٧) ، (٣٧٨٦٥) ، وذكره البغوي (٤ / ٥١٩) ، وابن عطية (٥ / ٥١٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٤٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن جرير.

٦٢١

تفسير سورة «التّكاثر»

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٤)

قوله تعالى : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) أي : شغلكم المباهاة والمفاخرة بكثرة المال والأولاد والعدد ، وهذا هجّيرى أبناء الدنيا العرب وغيرهم ؛ لا يتخلص منه إلا العلماء المتقون ، قال الفخر : فالألف واللام في (التَّكاثُرُ) ليس للاستغراق بل للمعهود السّابق في الذّهن ، وهو التكاثر في الدنيا ؛ ولذاتها وعلائقها ؛ فإنّه هو الذي يمنع عن طاعة الله وعبوديّته ؛ ولما كان ذلك مقرّرا في العقول ومتّفقا عليه في الأديان لا جرم ؛ حسن دخول حرف التعريف عليه ؛ فالآية دالّة على أن التكاثر والتفاخر بما ذكر مذموم ، انتهى.

وقوله تعالى : (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي حتى متّم فدفنتم في المقابر وهذا خبر فيه تقريع وتوبيخ وتحسّر ، وفي الحديث الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك يا بن آدم من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأمضيت» (١) قال ـ ص ـ : قرأ الجمهور : «ألهاكم» على الخبر ، وابن عبّاس بالمدّ ، والكسائيّ (٢) في رواية

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٣) ، كتاب «الزهد والرقائق» باب : (٣ / ٢٩٥٨) ، والترمذي (٥ / ٤٤٧) ، كتاب «تفسير القرآن» باب : ومن سورة التكاثر (٣٣٥٤) ، (٤ / ٥٧٢) ، كتاب «الزهد» باب : منه (٢٣٤٢) ، والنسائي (٦ / ٢٣٨) ، كتاب «الوصايا» باب : الكراهية في تأخير الوصية (٣٦١٣) ، وأحمد (٤ / ٢٤) ، وأبو نعيم في «الحلية» (٢ / ٢١١).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وفي الباب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه ، أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٣) ، كتاب «الزهد والرقائق» باب : (٤ / ٢٩٥٩) ، والبيهقي (٣ / ٣٦٩) ، كتاب «الجنائز» باب : ما ينبغي لكل مسلم أن يستعمله من قعر الأمل ، وابن حبان في «صحيحه» (٨ / ٣٥ ـ ٣٦) كتاب «الزكاة» باب : ما جاء في الحرص وما يتعلق به (٣٢٤٤)

(٢) ينظر : «مختصر القراءات» (١٧٩) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٥٠٦)

٦٢٢

بهمزتين ، ومعنى الاستفهام التوبيخ والتقرير ، انتهى ، قال الفخر : اعلم أنّ أهم الأمور وأولاها بالرعاية ترقيق القلب ، وإزالة حبّ الدنيا منه ، ومشاهدة القبور تورث ذلك ؛ كما ورد / به الخبر ، انتهى.

وقوله تعالى : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) زجر ووعيد ، ثم كرّر تأكيدا ، ويأخذ كلّ إنسان من هذا الزجر والوعيد المكرّر على قدر حظّه من التوغّل فيما يكره ؛ هذا تأويل الجمهور ، وقال عليّ : (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في القبر ، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) في البعث (١) ، قال الفخر (٢) : وفي الآية تهديد عظيم للعلماء فإنها دالة على أنه لو حصل اليقين لتركوا التكاثر والتّفاخر ؛ فهذا يقتضي أنّ من لا يترك التكاثر والتفاخر أن لا يكون اليقين حاصلا له ؛ فالويل للعالم الذي لا يكون عاقلا ؛ ثم الويل له ، انتهى.

(كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)(٨)

وقوله تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) جواب «لو» محذوف تقديره لازدجرتم ، [وبادرتم] إنقاذ أنفسكم من الهلكة ، واليقين أعلى مراتب العلم ، ثم أخبر تعالى الناس أنّهم يرون الجحيم ، وقال ابن عبّاس : هذا خطاب للمشركين والمعنى على هذا التأويل : أنها رؤية دخول وصلي ؛ وهو عين اليقين لهم (٣) ، وقال آخرون : الخطاب للناس كلّهم ، فهي كقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] فالمعنى أنّ الجميع يراها ؛ ويجوز النّاجيّ ويتكردس فيها الكافر ، ـ ص ـ : (لَتَرَوُنَ) ابن عامر والكسائيّ ـ بضم التاء ـ ، والباقون بفتحها (٤) ، انتهى.

وقوله تعالى : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) تأكيد في الخبر ، وعين اليقين : حقيقته وغايته ، ثم أخبر تعالى أنّ الناس مسؤولون يومئذ عن نعيمهم في الدنيا ؛ كيف نالوه ولم آثروه ، وتتوجّه في هذا أسئلة كثيرة بحسب شخص شخص ، وهي منقادة لمن أعطي فهما في كتاب الله ـ عزوجل ، ـ وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم / لأصحابه : «والّذي نفسي بيده ، لتسألنّ عن

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٧٩) ، (٣٧٨٧٣) عن علي رضي الله عنه ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥١٩)

(٢) ينظر : «مفاتيح الغيب» (٣٢ / ٧٦)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٨٠) ، (٣٧٨٧٨) ، وابن عطية (٥ / ٥١٩)

(٤) ينظر : «السبعة» (٦٩٥) ، و «الحجة» (٦ / ٤٣٤) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٥٢٤) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٦٠) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١٣٣) ، و «العنوان» (٢١٣) ، و «حجة القراءات» (٧٧١) ، و «شرح شعلة» (٦٢٦) ، و «إتحاف» (٢ / ٦٢٦)

٦٢٣

نعيم هذا اليوم» (١) ، الحديث في الصحيح ؛ إذ ذبح لهم أبو الهيثم بن التّيهان شاة وأطعمهم خبزا ورطبا ، واستعذب لهم ماء ، وعن أبي هريرة في حديثه في مسير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر إلى بيت أبي الهيثم ، وأكلهم الرطب واللّحم وشربهم الماء ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا هو النعيم الّذي تسألون عنه يوم القيامة ، وإنّ ذلك كبر على أصحابه ، وإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أصبتم مثل هذا وضربتم بأيديكم ، فقولوا : باسم الله ، وعلى بركة الله ، وإذا شبعتم ، فقولوا : الحمد لله الّذي أشبعنا وأروانا ، وأنعم علينا وأفضل ، فإنّ هذا كفاف [بذاك]» هذا مختصر (٢) رواه الحاكم في المستدرك ، انتهى من «سلاح المؤمن» قال الداوديّ : وعن الحسن وقتادة : ثلاث لا يسأل الله عنهنّ ابن آدم وما عداهنّ فيه الحساب والسؤال ؛ إلا ما شاء الله : كسوة يواري بها سوءته ، وكسرة يشدّ بها صلبه ، وبيت يكنّه من الحرّ والبرد ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٦٠٩ ـ ١٦١٠) ، كتاب «الأشربة» باب : جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك ، فيتحققه تحققا تاما ، واستحباب الاجتماع على الطعام (١٤٠ ، ١٤٠ / ٢٠٣٨)

(٢) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٤ / ١٠٧) مختصرا. قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي : صحيح.

٦٢٤

تفسير سورة «العصر»

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)(٣)

قال ابن عبّاس : (الْعَصْرِ) الدهر (١) ، وقال مقاتل : العصر هي صلاة العصر ، وهي الوسطى ، أقسم الله بها (٢) ، وقال أبيّ بن كعب : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن (وَالْعَصْرِ) فقال : «أقسم ربّكم بآخر النهار» ، و (الْإِنْسانَ) هنا اسم جنس والخسر : النّقصان وسوء الحال ، ومن كان من المؤمنين في مدّة عمره في التّواصي بالحقّ ، والصبر ، والعمل ؛ بحسب الوصاة فلا خسر معه وقد جمع الخير كلّه.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٨٥) ، (٣٧٩٠٨) عن ابن عبّاس ، وذكره البغوي (٤ / ٥٢٢) ، وابن عطية (٥ / ٥٢٠)

(٢) ذكره البغوي (٤ / ٥٢٢) ، وابن عطية (٥ / ٥٢٠)

٦٢٥

تفسير سورة «الهمزة»

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٩)

تقدم تفسير : (وَيْلٌ) وال (هُمَزَةٍ) : الذي يهمز الناس بلسانه ، أي : يعيبهم ويغتابهم ، وال (لُمَزَةٍ) : قريب في المعنى من هذا ، وقد تقدم بيانه في قوله تعالى : (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١] ، وفي قوله : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) [التوبة : ٧٩] وغيره ، قيل : نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق ، وقيل في جميل بن عامر ، ثم هي تتناول كلّ من اتّصف بهذه الصفات.

(وَعَدَّدَهُ) معناه : أحصاه وحافظ على عدده أن لا ينتقص ، وقال الداوديّ : (وَعَدَّدَهُ) : أي : استعدّه ، انتهى ، (لَيُنْبَذَنَ) : ليطرحنّ ـ ص ـ : (نارُ اللهِ) : خبر مبتدإ محذوف ، أي : هي نار الله ، انتهى.

و (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) : أي : الّتي يبلغ إحراقها وألمها القلوب.

و «موصدة» : أي مطبقة مغلقة.

(فِي عَمَدٍ) جمع عمود ، وقرأ ابن مسعود (١) : «مؤصدة بعمد ممدّدة» وقال ابن زيد : المعنى : في عمد حديد مغلولين بها ، والكلّ من نار (٢) ، عافانا الله من ذلك.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٢٢)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٩٠) ، (٣٧٩٤٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٢٢)

٦٢٦

تفسير سورة «الفيل»

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (٥)

هذه السورة تنبيه على العبرة في أخذ الله تعالى لأبرهة أمير الحبشة ، حين قصد الكعبة ليهدمها ، وكان صاحب فيل يركبه ، وقصته شهيرة في السّير فيها تطويل ، ، واختصارها أن أبرهة بنى في اليمن بيتا وأراد أن يرد إليه حجّ العرب ، فذهب أعرابي وأحدث في ذلك البيت ، فغضب أبرهة واحتفل في جموعه ، وركب الفيل وقصد مكة ، فلمّا قرب منها ، فرّت قريش إلى الجبال والشعاب من معرّة / الجيش ، ثم تهيّأ أبرهة لدخول مكة وهيّأ الفيل ، فأخذ نفيل بن حبيب بأذن الفيل وكان اسمه محمودا ، فقال له : ابرك ، محمود ؛ فإنّك في حرم الله ، وارجع من حيث جئت راشدا ، فبرك الفيل بذي الغميس ، فبعثوه فأبى فضربوا رأسه بالمعول ، وراموه بمحاجنهم فأبى ، فوجّهوه راجعا إلى اليمن ، فقام يهرول ، فبعث الله عليهم طيرا جماعات جماعات سودا من البحر ، عند كلّ طائر ثلاثة أحجار ؛ في منقاره ، ورجليه ، كلّ حجر فوق العدسة ودون الحمّصة ، ترميهم بها ، فماتوا في طريقهم متفرقين وتقطّع أبرهة أنملة أنملة حتى مات ، وحمى الله بيته ، والأبابيل : الجماعات تجيء شيئا بعد شيء ، قال أبو عبيدة : لا واحد له من لفظه (١) ، قال الفخر (٢) : و (فِي تَضْلِيلٍ) معناه : في تضييع وإبطال ، يقال : ضلّل كيده ، إذا جعله ضالّا ضائعا ، ونظيره قوله تعالى : (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ [إِلَّا فِي ضَلالٍ)] [غافر : ٢٥] انتهى ، والعصف : ورق الحنطة وتبنه ، والمعنى صاروا طحينا ذاهبا كورق حنطة أكلته الدّوابّ ، وراثته ، فجمع

__________________

(١) ذكره الطبري (١٢ / ٦٩٠) ، والبغوي (٤ / ٥٢٨) ، وابن عطية (٥ / ٥٢٣)

(٢) ينظر : «مفاتيح الغيب» (٣٢ / ٩٤)

٦٢٧

لهم المهانة والخسّة والتّلف ، قال الفخر : وقيل المعنى : كعصف صالح للأكل ، والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدّوابّ ؛ وهو قول عكرمة والضحاك ، انتهى (١) ، ومن كتاب «وسائل الحاجات وآداب المناجاة» للإمام أبي حامد الغزالي ـ رحمه‌الله تعالى ـ قال : وقد بلغنا عن غير واحد من الصالحين وأرباب القلوب أنه من قرأ في ركعتي الفجر ؛ في الأولى الفاتحة و «ألم نشرح» ، وفي الثانية الفاتحة و «ألم تر كيف» قصرت يد كلّ عدوّ عنه ، ولم يجعل لهم إليه سبيل ، قال الإمام أبو حامد : وهذا صحيح / لا شكّ فيه ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٦ / ٦٩٨) ، (٣٧٩٩٥) عن الضحاك ، وذكره البغوي (٤ / ٥٢٩) ، وابن عطية (٥ / ٥٢٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧٦) ، وعزاه لعبد بن حميد عن عكرمة.

٦٢٨

تفسير سورة «قريش»

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(٤)

قريش ، ولد النضر بن كنانة ، والتّقرّش : التّكسّب ، والمعنى أن الله تعالى جعل قريشا يألفون رحلتين في العام ، واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف ، قال ابن عبّاس : كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف ؛ حيث الماء والظلّ ويرحلون في الشتاء إلى مكة (١) ، قال الخليل : معنى الآية ؛ لأن فعل الله بقريش هذا ومكنهم من إلفهم هذه النعمة فليعبدوا ربّ هذا البيت.

وقوله تعالى : (مِنْ جُوعٍ) معناه أنّ أهل مكة قاطنون بواد غير ذي زرع عرضة للجوع والجدب ؛ لو لا فضل الله عليهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٧٠٣) ، (٣٨٠١٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٥٣٠) ، وابن عطية (٥ / ٥٢٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧٨) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عبّاس.

٦٢٩

تفسير سورة «الماعون»

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)(٧)

قوله سبحانه : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) الآية ، توقيف وتنبيه لتتذكّر نفس السامع كلّ من تعرفه بهذه الصفة ، والدين : الجزاء.

ودعّ اليتيم : دفعه بعنف ؛ إمّا عن إطعامه والإحسان إليه ، وإما عن حقّه وماله ، وهو أشد ، ويروى أن هذه الآية نزلت في بعض المضطربين في الإسلام بمكة ، لم يحقّقوا فيه ، وفتنوا فافتتنوا ، وربّما كان يصلي بعضهم أحيانا مع المسلمين مدافعة وحيرة ، فقال تعالى فيهم : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) الآية ، ونقل الثعلبي عن ابن عبّاس وغيره ؛ أنّ الآية نزلت في العاص بن وائل ، انتهى (١) ، وقال السهيليّ : قال أهل التفسير : نزل أول السورة بمكة في أبي جهل ، وهو الذي يكذّب / بالدين ، ونزل آخرها بالمدينة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول وأصحابه ، وهم الذين يراؤون ويمنعون الماعون ، انتهى ، قال سعد بن أبي وقاص : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ، فقال : «هم الّذين يؤخّرونها عن وقتها» (٢) ، يريد ـ والله أعلم ـ تأخير ترك وإهمال ، وإلى هذا نحا مجاهد (٣) ، وقال

__________________

(١) ذكره البغوي (٤ / ٥٣١)

(٢) أخرجه البيهقي (٢ / ٢١٤) ، كتاب «الصلاة» باب : الترغيب في حفظ وقت الصلاة والتشديد على من أضاعه.

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١ / ٣٣) : رواه أبو يعلى وإسناده حسن.

قال ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (١ / ١٧٨) ، فسمعت أبا زرعة يقول : هذا خطأ والصحيح موقوف.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٧٠٧) ، (٣٨٠٤٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٢٧)

٦٣٠

عطاء بن يسار : الحمد لله الّذي قال : (عَنْ صَلاتِهِمْ) ولم يقل : في صلاتهم (١).

وقوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) بيان أنّ صلاة هؤلاء ليست لله تعالى بإيمان ، وإنّما هي رياء للبشر ، فلا قبول لها.

وقوله تعالى : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) وصف لهم بقلّة النفع لعباد الله ، وتلك شرّ خصلة ، وقال عليّ وابن عمر : (الْماعُونَ) : الزكاة (٢) ، وقال ابن مسعود وابن عبّاس وجماعة : هو ما يتعاطاه الناس كالفأس ، والدّلو ، والآنية ، والمقصّ ؛ ونحوه (٣) ، وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما الشيء الّذي لا يحلّ منعه فقال : الماء والنار ، والملح ، وروته عائشة ـ رضي الله عنها ـ ، وفي بعض الطّرق زيادة الإبرة ، والخمير ، قال البخاريّ : الماعون : المعروف كلّه ، وقال بعض العرب : الماعون : الماء ، وقال عكرمة : أعلاه الزكاة المفروضة ، وأدناه عاريّة المتاع ، انتهى (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٧٠٨) ، (٣٨٠٥٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٢٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٥٥)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٧١٠) عن علي برقم : (٣٨٠٧٢) ، وعن ابن عمر برقم : (٣٨٠٧٣) ، وذكره البغوي (٤ / ٥٣٢) ، وابن عطية (٥ / ٥٢٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٥) ، وعزاه للفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي في «سننه».

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٧١٠) ، (٣٨٠٧٧) ، عن ابن مسعود ، وعن ابن عبّاس برقم : (٣٨١١٥) ، وذكره البغوي (٤ / ٥٣٢) ، وابن عطية (٥ / ٥٢٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٤) ، وعزاه للطبراني عن ابن مسعود.

(٤) ذكره البغوي (٤ / ٥٣٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٥٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٥) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن عكرمة.

٦٣١

تفسير سورة «الكوثر»

وهي مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣)

قال جماعة من الصحابة والتابعين : (الْكَوْثَرَ) نهر في الجنة حافّتاه قباب من لؤلؤ مجوّف ، وطينه مسك وحصباؤه ياقوت ، ونحو هذا من صفاته ، وإن اختلفت ألفاظ رواته ، وقال ابن عبّاس : الكوثر : الخير الكثير / قال ابن جبير : النّهر الذي في الجنة هو من الخير الذي أعطاه الله إياه (١) * ت* : وخرّج مسلم عن أنس قال : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم بين أظهرنا ؛ إذ أغفى إغفاءة ؛ ثمّ رفع رأسه متبسّما ، فقال : نزلت عليّ آنفا سورة ، فقرأ : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) إلى آخرها ، ثمّ قال : أتدرون ما الكوثر؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنّه نهر وعدنيه ربّي عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمّتي يوم القيامة» الحديث ، انتهى ، وخرّج ابن ماجه من حديث ثوبان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوّل من يرد على الحوض فقراء المهاجرين الدّنس ثيابا الشعث رؤوسا ، الّذين لا ينكحون المتنعّمات ، ولا تفتّح لهم أبواب السّدد» (٢) ، قال الراوي : فبكى عمر بن عبد العزيز حتّى اخضل لحيته ، حين بلغه الحديث ، وقال : لا جرم ، إنّي لا أغسل ثوبي الّذي يلي جسدي حتّى يتّسخ ، ولا أدهن رأسي حتّى يشعث ، وخرّجه أبو عيسى الترمذيّ عن ثوبان عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعناه (٣) ، ونقل صاحب «التذكرة» (٤) عن أنس بن مالك قال : أوّل من يرد الحوض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٧١٧) ، (٣٨١٤٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٥٣٣) ، وابن عطية (٥ / ٥٢٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٥٧)

(٢) أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٤٣٨ ـ ١٤٣٩) ، كتاب «الزهد» باب : ذكر الحوض (٤٣٠٣) ، وأحمد (٥ / ٢٧٥)

(٣) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٢٩) ، كتاب «صفة القيامة» باب : (١٥) (٢٤٤٤).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٤) ينظر : «التذكرة» (١ / ٤١٠)

٦٣٢

الذّابلون الناحلون السّائحون الّذين إذا أجنّهم اللّيل استقبلوه بالحزن ، انتهى من «التذكرة» ، وروى أبو داود في «سننه» عن أبي حمزة عن زيد بن أرقم قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلنا منزلا ، فقال : «ما أنتم جزء من مائة ألف جزء ممّن يرد على الحوض ، قال : قلت : كم كنتم يومئذ؟ قال : سبعمائة ، أو ثمانمائة ، انتهى (١).

وقوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أمر بالصلاة على العموم ، والنحر / نحر الهدي ، والنسك ، والضّحايا على قول الجمهور.

وقوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ردّ على مقالة بعض سفهاء قريش كأبي جهل وغيره ، قال عكرمة وغيره : مات ولد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو جهل : بتر محمّد ، فنزلت السّورة ، وقال تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي : المقطوع المبتور من رحمة (٢) الله ، والشانئ المبغض ، قال الداوديّ : كل شانىء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو أبتر ، ليس له يوم القيامة شفيع ولا حميم يطاع ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٦٥٠) ، كتاب «السنة» باب : في الحوض (٤٧٤٦) ، أخرجه أحمد (٤ / ٣٦٧ ، ٣٦٩ ، ٣٧١ ، ٣٧٢) عن زيد بن أرقم.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٥٣٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٥٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩١) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن عطاء بنحوه.

٦٣٣

تفسير سورة «الكافرون»

وهي مكّيّة إجماعا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦)

روي في سبب نزول هذه السورة ؛ عن ابن عبّاس وغيره (١) أن جماعة من صناديد قريش قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دع ما أنت فيه ونحن نموّلك ، ونملّكك علينا ، وإن لم تفعل هذا فلتعبد آلهتنا ، ونعبد إلهك ، حتى نشترك ؛ فحيث كان الخير نلناه جميعا ، وروي : أنّ هذه الجماعة المذكورة هم : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، وأمية بن خلف ، وأبيّ بن خلف ، وأبو جهل ، وأبناء الحجاج ، ونظراؤهم ممن لم يكتب له الإسلام ، وحتّم بشقاوته ، فأخبرهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمر الله ـ عزوجل ـ أنه لا يعبد ما يعبدون وأنهم غير عابدي ما يعبد ، ولما كان قوله : (لا أَعْبُدُ) محتملا أن يراد به الآن ويبقى المستأنف منتظرا ، ما يكون فيه من عبادته ، جاء البيان بقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أي : أبدا ، ثمّ جاء قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) الثاني حتما / عليهم أنّهم لا يؤمنون به أبدا ، كالّذي كشف الغيب ، ثم زاد الأمر بيانا وتبرّيا منهم قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وقال بعض العلماء : في هذه الألفاظ مهادنة ما ؛ وهي منسوخة.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٦٢٧) ، (٣٨٢٢٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٥٣١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩٢) ، وعزاه لابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن عبّاس.

٦٣٤

تفسير سورة «النّصر»

وهي مدنيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً)(٣)

روت عائشة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمّا فتح مكّة وأسلمت العرب ، جعل يكثر أن يقول : «سبحانك اللهمّ وبحمدك استغفرك وأتوب إليك» يتأوّل القرآن في هذه السورة ، وقال لها مرة : ما أراه إلا حضور أجلي ، وتأوّله عمر والعباس بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصدّقهما ، ونزع هذا المنزع ابن عبّاس وغيره ، (وَالْفَتْحُ) هو فتح مكة ؛ كذا فسّره صلى‌الله‌عليه‌وسلم في «صحيح مسلم» ، والأفواج : الجماعة إثر الجماعة ، ـ ص ـ : (بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي متلبّسا ، فالباء للحال ، انتهى.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) بعقب (وَاسْتَغْفِرْهُ) ترجية عظيمة للمستغفرين ، قال ابن عمر : نزلت هذه السورة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنى في أوسط أيام التّشريق في حجّة الوداع وعاش بعدها ثمانين يوما ، أو نحوها (١).

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٥٣٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٦١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩٦) ، وعزاه لابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبزار ، وأبي يعلى ، وابن مردويه ، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عمر بنحوه.

٦٣٥

تفسير سورة «المسد»

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(٥)

في «صحيح البخاري» وغيره عن ابن عبّاس : «لمّا نزلت : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى صعد الصّفا فهتف : يا صباحاه ، فقالوا : من هذا؟ فاجتمعوا / إليه ، فقال : أرأيتم إن أخبرتكم أنّ خيلا تخرج من سفح هذا الجبل ، أكنتم مصدّقيّ ؛ قالوا : نعم ؛ ما جرّبنا عليك كذبا ، قال : فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فقال أبو لهب : تبّا لك ، ما جمعتنا إلّا لهذا ، ثمّ قام فنزلت : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) إلى آخرها» (١) ، و (تَبَّتْ) معناه : خسرت والتّباب الخسران ، والدّمار ، وأسند ذلك إلى اليدين من حيث إنّ اليد موضع الكسب والربح ، وضمّ ما يملك ، ثم أوجب عليه أنه قد تبّ ، أي : حتّم ذلك عليه ، وفي قراءة ابن مسعود (٢) : «وقد تبّ» ، وأبو لهب هو عبد العزّى بن عبد المطّلب ، وهو عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكن سبقت له الشقاوة ، قال السهيليّ : كنّاه الله بأبي لهب لما خلقه سبحانه للهب وإليه مصيره ألا تراه تعالى قال : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) فكانت كنيته بأبي لهب تقدّمت لما يصير إليه من اللهب ، انتهى.

وقوله سبحانه : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) يحتمل أن تكون «ما» نافية على معنى الخبر ، ويحتمل أن تكون «ما» استفهامية على وجه التقرير أي : أين الغناء الذي لماله وكسبه ، (وَما

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٦٠٩) ، كتاب «التفسير» باب : سورة : تبت حديث (٤٩٧١)

(٢) ينظر : «الكشاف» (٤ / ٨١٤) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٣٤) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٥٢٦) ، و «الدر المصون» (٦ / ٥٨٥)

٦٣٦

كَسَبَ) يراد به عرض الدنيا ، من عقار ، ونحوه ، وقيل : كسبه بنوه.

وقوله سبحانه : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) حتم عليه بالنار وإعلام بأنه يتوفّى على كفره ، نعوذ بالله من سوء القضاء ودرك الشقاء.

وقوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) هي أمّ جميل أخت أبي سفيان بن حرب ، وكانت مؤذية / للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللمؤمنين بلسانها وغاية قدرتها ، وكانت تطرح الشوك في طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطريق أصحابه ليعقرهم ؛ فلذلك سمّيت حمّالة الحطب ؛ قاله ابن عبّاس (١) ، وقيل هو استعارة لذنوبها ، قال عياض : وذكر عبد بن حميد قال : كانت حمالة الحطب تضع العضاه ، وهي جمر على طريق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأنّما يطؤها كثيبا أهيل ، انتهى ، ـ ص ـ : وقرىء شاذّا : «ومريئته» بالتصغير (٢) ، والجيد هو العنق ، انتهى.

وقوله تعالى : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال ابن عبّاس وجماعة : الإشارة إلى الحبل حقيقة ، الذي ربطت به الشوك (٣) ، والمسد : الليف ، وقيل ليف المقل ، وفي «صحيح البخاري» : يقال من مسد ليف المقل وهي السلسلة الّتي في النار ، انتهى ، وروي في الحديث أنّ هذه السورة لما نزلت وقرئت ؛ بلغت أمّ جميل فجاءت أبا بكر وهو جالس مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد وبيدها فهر حجر ، فأخذ الله ببصرها وقالت : يا أبا بكر ؛ بلغني أنّ صاحبك هجاني ، ولو وجدته لضربته بهذا الفهر ، وإنّي لشاعرة وقد قلت فيه : [منهوك الرجز]

مذمّما قلينا

ودينه أبينا (٤)

فسكت أبو بكر ، ومضت هي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد حجبتني عنها ملائكة فما رأتني وكفاني الله شرّها.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٧٣٥) ، (٣٨٢٦٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٥٤٣) ، وابن عطية (٥ / ٥٣٥) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٦٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٠٣) ، وعزاه لابن جرير ، والبيهقي في «الدلائل» ، وابن عساكر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.

(٢) قرأ بها ابن مسعود ، كما في «الشواذ» ص : (١٨٢) ، و «المحتسب» (٢ / ٣٧٥) ، وينظر : «الكشاف» (٤ / ٨١٥) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٣٥) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٥٢٧) ، و «الدر المصون» (٦ / ٥٨٦)

(٣) ذكره البغوي (٤ / ٥٤٤) ، وابن عطية (٥ / ٥٣٥)

(٤) تقدم وينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٣٥) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٥٢٨)

٦٣٧

تفسير سورة «الإخلاص»

قيل : مكّيّة وقال ابن عبّاس : مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(٤)

روي أنّ اليهود دخلوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : يا محمّد ؛ صف لنا ربّك وانسبه ، فإنّه وصف / نفسه في التوراة ونسبها ، فارتعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قولهم حتّى خرّ مغشيا عليه ، ونزل جبريل بهذه السورة.

و (أَحَدٌ) معناه : واحد فرد من جميع جهات الوحدانيّة ، ليس كمثله شيء و (هُوَ) ابتداء ، و (اللهُ) ابتداء ثان ، و (أَحَدٌ) خبره والجملة خبر الأوّل ، وقيل هو ابتداء و (اللهُ) خبره و (أَحَدٌ) بدل منه ، وقرأ عمر بن الخطاب وغيره : «قل هو الله الواحد الصمد» و (الصَّمَدُ) في كلام العرب السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويستقلّ بها وأنشدوا : [الطويل]

لقد بكّر الناعي بخير بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصمد

وبهذا تتفسّر هذه الآية لأنّ الله تعالى ـ جلت قدرته ـ هو موجد الموجودات وإليه تصمد وبه قوامها ـ سبحانه وتعالى ـ.

وقوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) ردّ على إشارة الكفار في النسب الذي سألوه ، وقال ابن عبّاس : تفكّروا في كلّ شيء ولا تتفكروا في ذات الله (١) ، قال* ع (٢) * : لأنّ الأفهام تقف دون ذلك حسيرة.

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٥٣٧)

(٢) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٥٣٧)

٦٣٨

وقوله سبحانه : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) معناه ليس له ضدّ ، ولا ندّ ولا شبيه ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، والكفؤ النظير و «كفؤا» خبر كان واسمها (أَحَدٌ). قال ـ ص ـ : وحسن تأخير اسمها لوقوعه فاصلة ، وله متعلّق ب (كُفُواً) أي : لم يكن أحد كفؤا له ، وقدّم اهتماما به لاشتماله على ضمير الباري سبحانه ، انتهى ، وفي الحديث الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن (١) ، قال* ع* : لما فيها من التوحيد ، وروى أبو محمّد الدارميّ في «مسنده» قال : حدثنا عبد الله بن مزيد حدثنا حيوة / قال : أخبرنا أبو عقيل ، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إحدى عشرة مرّة بني له قصر في الجنة ، ومن قرأها عشرين مرة ، بني له قصران في الجنة ، ومن قرأها ثلاثين مرة ؛ بني له ثلاثة قصور في الجنة. فقال عمر بن الخطاب : إذن تكثر قصورنا يا رسول الله ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أوسع من ذلك» (٢) [أي : فضل الله أوسع من ذلك] (٣). قال الدارمي : أبو عقيل هو زهرة بن معبد ، وزعموا أنه من الأبدال ، انتهى من «التذكرة» (٤).

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ٣٥٥) ـ النووي ، كتاب «صلاة المسافرين» باب : فضل قراءة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٢٦١ ـ ٢٦٢ / ٨١٢) ، والترمذي (٥ / ١٦٨) ، كتاب «فضائل القرآن» باب : ما جاء في سورة الإخلاص (٢٨٩٩) ، وابن ماجه (٢ / ١٢٤٤) ، كتاب «الأدب» باب : ثواب القرآن (٣٧٨٧) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وفي الباب من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أخرجه أحمد (٢ / ١٧٣) ، والطبراني (١٢ / ٤٠٥) (١٣٤٩٣).

قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٢ / ٢٢١) : رواه الطبراني في «الكبير» ، وأبو يعلى بنحوه ، ورجال أبي يعلى ثقات. ا ه مختصرا.

وفي الباب عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أخرجه ابن ماجه (٢ / ١٢٤٤) ، كتاب «الأدب» باب : ثواب القرآن (٣٧٨٨).

وفي الباب عن امرأة أبي أيوب : أخرجه النسائي (٢ / ١٧٢) ، كتاب «الافتتاح» باب : في قراءة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٩٩٦) ، وأحمد (٥ / ٤١٨) عن أبي أيوب.

(٢) ذكره الهندي في «كنز العمال» (١ / ٥٨٥) ، (٢٦٥٧) ، وعزاه إلى أحمد عن معاذ بن أنس مختصرا.

(٣) سقط في : د.

(٤) ينظر : «التذكرة» (٢ / ٦٢٢)

٦٣٩

تفسير سورة «الفلق»

قال ابن عبّاس : مدنيّة ، وقال قتادة : مكّيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(٥)

قوله عزوجل : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد هو وآحاد أمته ، قال ابن عبّاس وغيره : الفلق الصبح (١) ، وقال ابن عبّاس أيضا وجماعة من الصحابة : الفلق جبّ في جهنّم (٢) ، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) يعمّ كلّ موجود له شر ، واختلف في : «الغاسق» فقال ابن عبّاس وغيره : الغاسق الليل ووقب : أظلم ، ودخل على الناس (٣) ، وفي الحديث الصحيح عن عائشة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشار إلى القمر وقال : يا عائشة ؛ تعوّذي بالله من شرّ هذا الغاسق إذا وقب ، قال السهيلي : وهذا أصحّ ما قيل لهذا الحديث الصحيح ، انتهى ، ولفظ صاحب «سلاح المؤمن» : عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى القمر ، فقال : يا عائشة ؛ استعيذي بالله من شرّ هذا فإنّ هذا الغاسق إذا وقب (٤) ، رواه الترمذيّ

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٧٤٧) ، (٣٨٣٥١) ، وذكره البغوي (٤ / ٥٤٧) ، وابن عطية (٥ / ٥٣٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٥٧٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧١٧) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٧٤٧) ، (٣٨٣٤٥) عن السدي. وذكره ابن عطية (٥ / ٥٣٨)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٧٤٨) ، (٣٨٣٦٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٥٤٧) ، وابن عطية (٥ / ٥٣٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧١٨) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عبّاس.

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٥٢) ، كتاب «تفسير القرآن» باب : ومن سورة المعوذتين (٣٣٦٦) ، وأحمد (٦ / ٢٠٦ ، ٢١٥ ، ٢٣٧ ، ٢٥٢) ، والحاكم (٢ / ٥٤١).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، قال الذهبي : صحيح.

٦٤٠