تفسير الثعالبي - ج ٥

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي

تفسير الثعالبي - ج ٥

المؤلف:

عبدالرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٧١

تفسير سورة النبأ

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)(٣)

قوله عزوجل : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) أصل «عم» : «عن ما» ثمّ أدغمت النون بعد قلبها [في الميم لاشتراكهما في الغنّة] فبقي «عما» في الخبر وفي الاستفهام ، ثم حذفوا الألف في الاستفهام فرقا بينه وبين الخبر ، ثم من العرب من يخفف الميم فيقول : «عم» ، وهذا الاستفهام ب «عم» استفهام توقيف وتعجيب ، و (النَّبَإِ الْعَظِيمِ) قال ابن عبّاس وقتادة : هو الشّرع الذي جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، وقال مجاهد : هو القرآن (٢) خاصة ، وقال قتادة أيضا : هو البعث من القبور (٣) ، والضمير في : (يَتَساءَلُونَ) لكفار قريش ومن نحا نحوهم ، وأكثر النحاة أن قوله : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) متعلق ب (يَتَساءَلُونَ) ، وقال الزجاج : الكلام تامّ في قوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) ثمّ كان مقتضى القول / أن يجيب مجيب فيقول : يتساءلون عن النبأ العظيم ، وله أمثلة في القرآن اقتضاها إيجاز القرآن وبلاغته ، واختلافهم هو شكّ بعض وتكذيب بعض ، وقولهم : سحر وكهانة إلى غير ذلك من باطلهم.

(كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً)(٧)

وقوله تعالى : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ردّ على الكفار في تكذيبهم ووعيد لهم في المستقبل ، وكرّر عليهم الزّجر والوعيد تأكيدا ، والمعنى : سيعلمون عاقبة تكذيبهم ، ثم وقفهم تعالى ودلّهم على آياته ، وغرائب مخلوقاته ، وقدرته التي توجب للناظر فيها ؛ الإقرار بالبعث والإيمان بالله تعالى ، * ت* : وفي ضمن ذلك تعديد نعمه سبحانه التي يجب

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٢٣)

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٢٣) ، والبغوي (٤ / ٤٣٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٨) بنحوه.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٩٦) ، (٣٦٠٠٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٢٣) ، والبغوي (٤ / ٤٣٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٢)

٥٤١

شكرها ، والمهاد : الفراش الممهّد ، وشبّه الجبال بالأوتاد ؛ لأنها تمنع الأرض أن تميد بهم.

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً)(٢٣)

(وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي : أنواعا ، والسّبات : السّكون ، وسبت الرجل : معناه استراح ، وروّينا في «سنن أبي داود» عن معاذ بن جبل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من مسلم يبيت على ذكر [الله] طاهرا فيتعارّ من الليل ، فيسأل الله تعالى خيرا من أمور الدنيا والآخرة إلّا أعطاه الله إياه» ؛ وروى أبو داود عن بعض آل أم سلمة قال : كان فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوا ممّا يوضع الإنسان في قبره ، وكان المسجد عند رأسه ، انتهى ، و (لِباساً) مصدر ، وكأنّ الليل كذلك من حيث يغشى الأشخاص ، فهي تلبسه وتتدرعه ، و (النَّهارَ مَعاشاً) على حذف مضاف ، أو على النّسب ، والسبع الشداد : السموات ، والسراج : الشمس ، والوهّاج : الحارّ المضطرم الاتّقاد المتعالي اللهب ، قال ابن عبّاس وغيره : (الْمُعْصِراتِ) السحائب القاطرة (١) ، وهو مأخوذ من العصر ؛ لأن السحاب ينعصر فيخرج / منه الماء ، وهذا قول الجمهور ، والثّجاج : السريع الاندفاع ، كما يندفع الدم من عروق الذبيحة ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قيل له ما أفضل الحجّ؟ فقال : «العجّ والثجّ» (٢) أراد التّضرّع إلى الله تعالى بالدعاء

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٣٩٩) (٣٦٠٢٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٢٤) ، والبغوي (٤ / ٤٣٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٢) بنحوه.

(٢) أخرجه الترمذي (٣ / ١٨٠) ، كتاب «الحج» باب : ما جاء في فضل التلبية والنحر. (٨٢٧) ، وابن ماجه (٢ / ٩٧٥) ، كتاب «المناسك» باب : رفع الصوت بالتلبية (٢٩٢٤) ، والبيهقي (٥ / ٤٢ ـ ٤٣) ، كتاب «الحج» باب : رفع الصوت بالتلبية ، والحاكم في «المستدرك» (١ / ٤٥٠ ـ ٤٥١) عن أبي بكر الصديق.

قال الترمذي : حديث أبي بكر حديث غريب لا نعرفه.

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

وفي الباب من حديث عبد الله بن عمر : أخرجه الترمذي (٥ / ٢٢٥) ، كتاب «تفسير القرآن» باب : ومن سورة آل عمران رقم : (٢٩٩٨) ، وابن ماجه (٢ / ٩٦٧) ، كتاب «المناسك» باب : ما يوجب الحج ، رقم : (٢٨٩٦) ، والدارقطني (٢ / ٢١٧) ، كتاب «الحج» رقم : (١٠) ، والبيهقي في «الكبرى» (٤ / ٣٣٠) ، كتاب «الحج» باب : الرجل يطيق المشي.

قال الترمذي : هذا حديث لا نعرفه من حديث ابن عمر إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي ، وقد تكلم بعض أهل الحديث في يزيد من قبل حفظه.

٥٤٢

الجهير ، وذبح الهدي ، و (أَلْفافاً) أي : ملتفّة الأغصان والأوراق ، و (يَوْمَ الْفَصْلِ) هو يوم القيامة ، والأفواج : الجماعات ، يتلو بعضها بعضا ، «وفتحت السماء» بتشديد التّاء قراءة نافع وأبي عمرو وابن كثير وابن عامر ، والباقون دون تشديد (١).

وقوله تعالى : (فَكانَتْ أَبْواباً) قيل معناه : تتشقّق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجدرات ، وقيل : إنها تتقطع السماء قطعا صغارا حتى تكون كألواح الأبواب ، والقول الأول أحسن ، وقد قال بعض أهل العلم : تنفتح في السماء أبواب للملائكة من حيث ينزلون ويصعدون.

وقوله تعالى : (فَكانَتْ سَراباً) عبارة عن تلاشيها بعد كونها هباء منبثّا ، و (مِرْصاداً) : موضع الرصد ، وقيل : (مِرْصاداً) بمعنى راصد ، والأحقاب : جمع حقب وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة ، وقال ابن عبّاس وابن عمر الحقب : ثمانون سنة (٢). وقال أبو أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ثلاثون ألف سنة ، وقد أكثر الناس في هذا ، واللازم أنّ الله تعالى أخبر عن الكفار أنهم يلبثون أحقابا ، كلما مرّ حقب جاء غيره إلى غير نهاية ، نجانا الله من سخطه ، قال الحسن : ليس للأحقاب عدّة إلا الخلود في النار (٣).

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً)(٣٧)

وقوله سبحانه : (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً ...) الآية ، قال الجمهور : البرد في الآية مسّ الهواء البارد ، أي : لا يمسّهم منه ما يستلذّ ، وقال أبو عبيدة وغيره : البرد في الآية النوم (٤) ،

__________________

(١) ينظر : «السبعة» (٦٦٨) ، و «الحجة» (٦ / ٣٦٨) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٣١) ، و «معاني القراءات» (٦ / ١١٦) ، و «العنوان» (٢٠٢) ، و «حجة القراءات» (٧٤٥) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (٢ / ٥٨٣)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٠٤) (٣٦٠٥٣) عن ابن عبّاس ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٣) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٢) عن أبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وابن عبّاس.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٠٥) (٣٦٠٥٨) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٣٨) ، وابن عطية (٥ / ٤٢٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٤)

(٤) ذكره البغوي (٤ / ٤٣٨) ، وابن عطية (٥ / ٤٢٦) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٣)

٥٤٣

والعرب تسمّيه / بذلك لأنّه يبرّد سورة العطش ، وقال ابن عبّاس : البرد الشراب البارد المستلذّ (١) ، وقال قتادة وجماعة : الغسّاق : هو ما يسيل من أجسام أهل النار من صديد ونحوه (٢).

وقوله تعالى : (وِفاقاً) معناه لأعمالهم وكفرهم ، و (لا يَرْجُونَ) قال أبو عبيدة وغيره معناه : لا يخافون ، وقال غيره : الرجاء هنا على بابه (٣) ، و (كِذَّاباً) مصدر ، لغة فصيحة يمانيّة ، وعن ابن عمر قال : ما نزلت في أهل النار آية أشد من قوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٤) ورواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والحدائق : هي البساتين عليها حلق وحظائر وجدرات ، في البخاريّ : (وَكَواعِبَ) أي : نواهد ، انتهى ، والدّهاق : المترعة ؛ فيما قال الجمهور ، وقيل : الصافية ، وقال مجاهد : متتابعة (٥) ، وعبارة البخاريّ وقال ابن عبّاس : (دِهاقاً) : ممتلئة ، انتهى (٦) ، و (كِذَّاباً) : مصدر وهو الكذب.

وقوله : (عَطاءً حِساباً) أي : كافيا ؛ قاله الجمهور من قولهم ، أحسبني هذا الأمر ، أي : كفاني ، ومنه حسبي الله ، وقال مجاهد : (حِساباً) معناه : بتقسيط ، فالحساب على هذا بموازنة أعمال القوم ؛ إذ منهم المكثر من الأعمال ، والمقلّ ولكل بحسب عمله (٧).

وقوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ) الضمير للكفار ، أي : لا يملكون من أفضاله وإجماله سبحانه أن يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها ؛ وهذا أيضا في موطن خاصّ.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ

__________________

(١) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٢٧)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٠٦) (٣٦٠٦٩) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٢٧) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٤) بنحوه.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٠٩) (٣٦٠٩٤) عن قتادة ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٢٧)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٤١٠) (٣٦٠٩٤) بنحوه عن عبد الله بن عمرو ، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٤) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٤) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن الحسن بن دينار.

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٤١٢) (٣٦١٢١) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٣٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٥) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد.

(٦) أخرجه الطبري (١٢ / ٤١١) (٣٦١٠٩) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٣٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٥) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عبّاس.

(٧) أخرجه الطبري (١٢ / ٤١٣) (٣٦١٢٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٢٨)

٥٤٤

الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً)(٤٠)

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) اختلف في الرّوح المذكور هنا فقال الشعبي والضحاك : هو جبريل ـ عليه‌السلام (١) ـ ؛ وقال ابن مسعود : هو ملك عظيم أكبر الملائكة خلقة يسمى الرّوح (٢) ، وقال ابن زيد (٣) : هو القرآن ، وقال مجاهد : الروح خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون (٤) ، / وقال ابن عبّاس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الرّوح خلق غير الملائكة هم حفظة للملائكة ؛ كما الملائكة حفظة لنا» (٥) ، وقيل الرّوح اسم جنس لأرواح بني آدم ، والمعنى : يوم تقوم الأرواح في أجسادها إثر البعث ، ويكون الجميع من الإنس والملائكة صفّا ولا يتكلم أحد منهم هيبة وفزعا إلا من أذن له الرحمن من ملك أو نبي ؛ وكان أهلا أن يقول صوابا في ذلك الموطن ، وقال البخاريّ : (صَواباً) : حقّا في الدنيا وعمل به ، انتهى ، ، وفي قوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) وعد ووعيد وتحريض ، والعذاب القريب : هو عذاب الآخرة ، إذ كلّ آت قريب ، وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر : إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتصّ لبعضها من بعض ، ثم يقول لها بعد ذلك : كوني ترابا فيعود جميعها ترابا ؛ فعند ذلك يقول الكافر : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) (٦)

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٤١٥) (٣٦١٣٦) (٣٦١٣٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٤٠) ، وابن عطية (٥ / ٤٢٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٦) ، وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ عن الضحاك.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤١٥) (٣٦١٣٣) ، (٣٦١٣٤) عن ابن عبّاس بنحوه ، وذكره البغوي (٤ / ٤٤٠) ، وابن عطية (٥ / ٤٢٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٦) ، وعزاه لابن جرير.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٤١٦) (٣٦١٤٧) عن ابن زيد عن أبيه ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٢٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٤١٥) (٣٦١٣٨) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٤٠) ، وابن عطية (٥ / ٤٢٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٥) ، وعزاه لعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن مجاهد.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٥) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، وأبي الشيخ في «العظمة» ، وابن مردويه.

(٦) أخرجه الطبري (١٢ / ٤١٨) عن عبد الله بن عمرو برقم : (٣٦١٦٠) ، وعن أبي هريرة برقم : (٣٦١٦١) بنحوه ، وذكره البغوي (٤ / ٤٤٠) عن عبد الله بن عمرو ، وابن عطية (٥ / ٤٢٩) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٧) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في «البعث والنشور» عن أبي هريرة.

٥٤٥

* قلت* : واعلم رحمك الله أني لم أقف على حديث صحيح في عودها ترابا ، وقد نقل الشيخ [أبو العباس القسطلانيّ عن] الشيخ أبي الحكم بن أبي الرّجّال إنكار هذا القول ، وقال : ما نفث روح الحياة في شيء ففني بعد وجوده ، وقد نقل الفخر هنا عن قوم بقاءها وأن هذه الحيوانات إذا انتهت مدة إعراضها جعل الله كلّ ما كان منها حسن الصّورة ثوابا لأهل الجنة ، وما كان قبيح الصورة عقابا لأهل النار ، انتهى ، والمعوّل عليه في هذا : النقل فإن صحّ فيه شيء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجب اعتقاده وصير إليه ، وإلا فلا مدخل للعقل هنا ، والله أعلم.

٥٤٦

تفسير سورة «النّازعات»

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ)(٩)

قوله عزوجل : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) قال ابن عبّاس وابن مسعود : (النَّازِعاتِ) : الملائكة ، تنزع نفوس بني آدم (١) ، و (غَرْقاً) على هذا القول إما أن يكون مصدرا بمعنى الإغراق والمبالغة في الفعل ، وإما أن يكون كما قال علي وابن عبّاس : تغرق نفوس الكفرة في نار جهنم (٢) ، وقيل غير هذا ، واختلف في (النَّاشِطاتِ) فقال ابن عبّاس ومجاهد : هي الملائكة تنشط النفوس عند الموت ، أي : تحلّها كحلّ العقال ، وتنشط بأمر الله إلى حيث شاء (٣) ، وقال ابن عبّاس أيضا : الناشطات النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج (٤) ، * ت* : زاد الثعلبيّ عنه : وذلك أنّه ليس مؤمن يحضره الموت إلا عرضت عليه الجنة قبل أن يموت فيرى فيها أشباها من أهله وأزواجه من الحور العين ، فهم يدعونه إليها فنفسه إليهم نشيطة أن تخرج فتأتيهم ، انتهى ، وقيل غير هذا واختلف في (السَّابِحاتِ) هنا فقيل : هي النجوم ، وقيل : هي الملائكة ؛ لأنّها تتصرّف في الآفاق بأمر الله ، وقيل : هي الخيل ، وقيل : هي السفن ، وقيل : هي الحيتان ودوابّ البحر ، والله أعلم ، واختلف في

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٢٠) عن عبد الله برقم (٣٦١٦٦) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٤١) ، وابن عطية (٥ / ٤٣٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٨) ، وعزاه لسعيد بن منصور ، وابن المنذر.

(٢) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٣٠) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٦) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٠٨) ، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٢١) عن ابن عبّاس ، برقم : (٣٦١٧٨) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٣٠)

(٤) ذكره البغوي (٤ / ٤٤١) ، وابن عطية (٥ / ٤٣١)

٥٤٧

(فَالسَّابِقاتِ) ، فقيل هي الملائكة ، وقيل : الرياح (١) ، وقيل : الخيل ، وقيل : النّجوم ، وقيل : المنايا تسبق الآمال ، وأما (فَالْمُدَبِّراتِ) فهي الملائكة قولا واحدا فيما علمت ، تدبّر الأمور التي سخّرها الله لها وصرّفها فيها ؛ كالرياح والسحاب ، وغير ذلك ، و (الرَّاجِفَةُ) النفخة الأولى ، و (الرَّادِفَةُ) النفخة الأخيرة ، وقال ابن زيد : (الرَّاجِفَةُ) : الموت ، و (الرَّادِفَةُ) : الساعة (٢) ، وفي «جامع الترمذي» عن أبيّ بن كعب قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا ذهب ثلثا اللّيل قام ، فقال : يا أيّها النّاس ، اذكروا الله ، اذكروا الله ، جاءت الرّاجفة ، تتبعها الرّادفة ، جاء الموت بما فيه ، [جاء الموت بما فيه]» الحديث (٣) ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، انتهى ، وقد أتى به* ع (٤) * هنا وقال : إذا ذهب ربع الليل ، والصواب ما تقدّم ، ثم أخبر تعالى عن قلوب تجف [في] ذلك اليوم ، أي : ترتعد خوفا وفرقا من العذاب ، واختلف في جواب القسم : أين هو؟ فقال الزجاج والفراء : هو محذوف دلّ عليه الظاهر تقديره : لتبعثنّ ونحوه ، وقال آخرون : هو موجود في جملة قوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ* قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) كأنه قال لتجفنّ قلوب قوم يوم كذا.

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها)(٢٩)

وقوله تعالى : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) حكاية حالهم في الدنيا ، والمعنى : هم الذين يقولون ، و (الْحافِرَةِ) : قال مجاهد والخليل : هي الأرض ، حافرة بمعنى محفورة ، والمراد : القبور والمعنى : أإنا لمردودون أحياء في قبورنا؟ ، وقيل غير

__________________

(١) في د : وهي الرياح.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٢٥) (٣٦٢٠٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٣١)

(٣) أخرجه الترمذي (٤ / ٦٣٦ ـ ٦٣٧) ، كتاب «صفة القيامة» باب : (٢٣) (٢٤٥٧) ، (٢ / ٤٢١) ، وأحمد (٥ / ١٣٦) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (١ / ٢٥٦).

قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، ووافقه الذهبي.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٣١)

٥٤٨

هذا (١) ، و (نَخِرَةً) معناه بالية ، وقرأ حمزة «ناخرة» بألف (٢) ، والنّاخرة المصوّتة بالريح المجوّفة ، وحكي عن أبي عبيدة وغيره : أن الناخرة والنّخرة بمعنى واحد (٣) ، وقولهم : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي : إذ هي إلى النار لتكذيبهم بالبعث ، وقال الحسن : (خاسِرَةٌ) معناه عندهم كاذبة ، أي : ليست بكائنة (٤) ، ثم أخبر تعالى عن حال القيامة فقال : «إنما هي زجرة واحدة» أي : نفخة في الصور ، (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) وهي أرض المحشر.

وقوله : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) استدعاء حسن ، والتزكّي : التّطهر من النقائص ، والتلبّس بالفضائل ، ثم فسّر له موسى التزكّي الذي دعاه إليه / بقوله : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) والعلم تابع للهدى ، والخشية تابعة للعلم ، (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] و (الْآيَةَ الْكُبْرى) العصا واليد ؛ قاله مجاهد وغيره (٥) : و (أَدْبَرَ) : كناية عن إعراضه ، وقيل : حقيقة قام مولّيا عن مجالسة موسى ، (فَحَشَرَ) أي : جمع أهل مملكته ، وقول فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) نهاية في السّخافة والمخرقة ، قال ابن زيد : (نَكالَ الْآخِرَةِ) أي : الدار الآخرة ، (وَالْأُولى) : يعني : الدنيا ، أخذه الله بعذاب جهنّم وبالغرق ، وقيل غير هذا (٦) ، ثم وقفهم سبحانه مخاطبة منه تعالى للعالم ؛ والمقصد الكفار فقال : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ...) الآية ، والسّمك : الارتفاع ، الثعلبي : والمعنى : أأنتم أيها المنكرون للبعث أشد خلقا أم السّماء أشد خلقا ، ثم بيّن كيف خلقها ، أي : فالذي قدر على خلقها قادر على إحيائكم بعد الموت ، نظيره : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [يس : ٨١] الآية ، انتهى ، و (أَغْطَشَ) معناه : أظلم.

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى)(٣٦)

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٢٧) (٣٦٢٢٢) عن مجاهد ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٣٢)

(٢) وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر.

ينظر : «السبعة» (٦٧٠ ـ ٦٧١) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٣٥) ، وزاد نسبتها إلى الكسائيّ ، و «معاني القراءات» (٣ / ١١٩) ، و «حجة القراءات» (٧٤٨) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ٩٧) ، و «شرح شعلة» (٦١٨) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٨٥)

(٣) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٣٢)

(٤) ينظر : المصدر السابق.

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٣٢) (٣٦٢٥٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٣٣)

(٦) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٣٤) (٣٦٢٧٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٣٤)

٥٤٩

وقوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) متوجّه على أن الله خلق الأرض ولم يدحها ثم استوى إلى السّماء وهي دخان فخلقها ، وبناها ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، ودحوها بسطها ، وباقي الآية بيّن ، و (الطَّامَّةُ الْكُبْرى) هي يوم القيامة ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (١).

(فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)(٤١)

(فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي تجاوز الحدّ ، (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على الآخرة لتكذيبه [بالآخرة] ، و (مَقامَ رَبِّهِ) هو يوم القيامة ، وإنما المراد مقامه بين يديه ، و (الْهَوى) هو شهوات النفس ؛ وما جرى مجراها المذمومة.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦)

وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) يعني : قريشا ، قال البخاري عن غيره : (أَيَّانَ مُرْساها) متى منتهاها ، / ومرسى السفينة حيث تنتهي ، انتهى ، ثم قال تعالى لنبيه على جهة التوقيف : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي من ذكر تحديدها ووقتها ، أي : لست من ذلك في شيء ، إنما أنت منذر ، وباقي الآية بيّن ، قال الفخر (٢) ؛ قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) تفسير هذه الآية هو كما (٣) ذكر في قوله : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) [الأحقاف : ٣٥] والمعنى : أن ما أنكروه سيرونه حتّى كأنّهم كانوا أبدا فيه ، وكأنّهم لم يلبثوا في الدّنيا إلا ساعة من نهار ، يريد لم يلبثوا إلا عشيّة أو ضحى يومها ، انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٤٠) (٣٦٣١١) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٣٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٦٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس بنحوه.

(٢) ينظر : «الفخر الرازي» (٣١ / ٤٩)

(٣) في د : ما.

٥٥٠

تفسير سورة «عبس»

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى)(٨)

قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) سببها : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو بعض صناديد قريش ويقرأ عليه القرآن ويقول له : هل ترى بما أقول بأسا ، فكان ذلك الرجل يقول : لا والدّمى يعني الأصنام ؛ إذ جاء ابن أم مكتوم ؛ فقال : يا رسول الله! استدنني وعلّمني مما علّمك الله ؛ فكان [في] ذلك كلّه قطع لحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الرجل ، فلما شغب عليه ابن أم مكتوم عبس صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعرض عنه ؛ فنزلت الآية ، قال سفيان الثوريّ : فكان بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم قال : مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي ـ عزوجل ـ وبسط له رداءه واستخلفه على المدينة مرتين (١) ، * ت* : والكافر المشار إليه في الآية هو : الوليد بن المغيرة ؛ قاله ابن إسحاق ، انتهى ، ثم أكّد تعالى عتب نبيه بقوله : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) أي بماله ، (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي : تتعرّض.

(وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ)(١٢)

وقوله : (وَهُوَ يَخْشى) أي : يخشى الله ، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي تشتغل ، تقول لهيت عن الشيء ألهى إذا اشتغلت عنه ، وليس من اللهو ، وهذه الآية السبب فيها هذا ؛ ثم هي بعد تتناول من شاركهم في هذه الأوصاف ، فحملة الشرع والعلم مخاطبون بتقريب الضّعيف من أهل الخير وتقديمه على الشريف العاري من الخير ، مثل ما خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه السورة ، قال عياض : وليس في قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) الآية ، ما يقتضي إثبات ذنب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أنه خالف أمر ربّه سبحانه ، وإنّما في الآية الإعلام بحال

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٤٤) عن قتادة وغيره (٣٦٣٢٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٣٦) بنحوه.

٥٥١

الرجلين ، وتوهين أمر الكافر ، والإشارة إلى الإعراض عنه ، انتهى ، قال السهيلي : وانظر كيف نزلت الآية بلفظ الإخبار عن الغائب فقال : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) ولم يقل : عبست وتولّيت ، وهذا يشبه حال العاتب المعرض ، ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب فقال : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) الآية ، علما منه سبحانه أنّه لم يقصد بالإعراض عن ابن أم مكتوم إلا الرغبة في الخير ودخول ذلك المشرك في الإسلام ؛ إذ كان مثله يسلم بإسلامه بشر كثير ، فكلّم نبيّه حين ابتدأ الكلام بما يشبه كلام المعرض عنه العاتب له ، ثم واجهه بالخطاب تأنيسا له* ع* ، انتهى ، ثم قال تعالى : (كَلَّا) يا محمّد ، ليس الأمر كما فعلت ، إنّ هذه السّورة أو القراءة أو المعاتبة تذكرة ، وعبارة الثعلبي : إن هذه السورة ، وقيل : هذه الموعظة ، وقال مقاتل : آيات القرآن (١) تذكرة ، أي : موعظة وتبصرة للخلق ، (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي : اتّعظ بآي القرآن وبما وعظتك / وأدّبتك في هذه السورة ، انتهى. ـ ص ـ : (ذَكَرَهُ) ذكّر الضمير ؛ لأنّ التذكرة هي الذكر ، انتهى.

(فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ)(١٦)

وقوله تعالى : (فِي صُحُفٍ) متعلق بقوله : (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) وهذا يؤيد أن التذكرة يراد بها جميع القرآن ، والصحف هنا قيل إنه اللوح المحفوظ : وقيل صحف الأنبياء المنزلة. قال ابن عبّاس : السّفرة هم الملائكة ، لأنّهم كتبة يقال : سفرت ، أي : كتبت ، ومنه السّفر ، وقال ابن عبّاس أيضا : الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله وبين أنبيائه (٢) ، وفي البخاري : سفرة الملائكة [واحدهم سافر] (٣) ، سفرت أصلحت بينهم وجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله ـ عزوجل ـ وتأديته كالسّفير الذي يصلح بين القوم ، انتهى ، قال* ع (٤) * : ومن اللفظة قول الشاعر : [الوافر]

وما أدع السّفارة بين قومي

وما أسعى بغشّ إن مشيت (٥)

والصحف على هذا : صحف عند الملائكة أو اللوح.

__________________

(١) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (٤ / ٤٤٧)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٤٦) (٣٦٣٣٠) ، (٣٦٣٣٣) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٤٧) ، وابن عطية (٥ / ٤٣٨) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٧١) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥١٩) ، وعزاه لابن أبي حاتم ، وابن المنذر من طريق علي عن ابن عبّاس.

(٣) سقط في : د.

(٤) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٣٨)

(٥) ينظر : البيت في «البحر» (٨ / ٤١٧) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٣٨) ، والقرطبي (١٩ / ١٤١) ، و «الدر المصون» (٦ / ٤٨٠) ، و «فتح القدير» (٥ / ٣٨٣)

٥٥٢

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ)(٢٢)

وقوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) : دعاء على اسم الجنس ، وهو عموم يراد به الإنسان الكافر ، ومعنى (قُتِلَ) : أي : هو أهل أن يدعى عليه بهذا ، وقال مجاهد : (قُتِلَ) معناه : لعن وهذا تحكّم* ت* : ليس بتحكم وقد تقدم نحوه عن غير واحد (١).

وقوله تعالى : (ما أَكْفَرَهُ) يحتمل معنى التعجب ، ويحتمل الاستفهام توبيخا ، وقيل : الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب ، وذلك أنّه غاضب أباه فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأسلم ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالا وجهّزه إلى الشام ، فبعث عتبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إنّي كافر بربّ النّجم إذا هوى فدعا عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «اللهمّ ابعث عليه كلبك حتّى يأكله» ، ثم إن عتبة خرج في سفرة / فجاء الأسد فأكله من بين الرفقة.

وقوله تعالى : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الإنسان منه ، (فَقَدَّرَهُ) أي جعله بقدر وحدّ معلوم ، (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال ابن عبّاس وغيره : هي سبيل الخروج من بطن أمّه (٢) ، وقال الحسن ، ما معناه أن السبيل هي سبيل النظر المؤدّي إلى الإيمان (٣).

وقوله (فَأَقْبَرَهُ) معناه : أمر أن يجعل له قبر ، وفي ذلك تكريم له ؛ لئلا يطرح كسائر الحيوان.

وقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا شاءَ) يريد : إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه ؛ وهو يوم القيامة ، و (أَنْشَرَهُ) معناه : أحياه.

(كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ)(٣٣)

وقوله تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ) أي لم يقض ما أمره ، ثم أمر الله تعالى الإنسان

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٤٦) (٣٦٣٣٥) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٣٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٠) ، وعزاه لابن المنذر عن مجاهد.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٤٧) ، برقم : (٣٦٣٣٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٣٨) ، وابن كثير (٤ / ٤٧٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢١) ، وعزاه للعوفي عن ابن عبّاس.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٤٨) ، رقم : (٣٦٣٤٦) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٣٨)

٥٥٣

بالعبرة والنظر إلى طعامه والدليل فيه وكيف يسّره له بهذه الوسائط ، والحبّ جمع حبّة ـ بفتح الحاء ـ ، وهو كلّ ما يتخذه الناس ويربونه ، والحبّة : بكسر الحاء كلّ ما ينبت من البزور لا يحفل به ، ولا هو بمتّخذ ، والقضب قيل هي الفصفصة وهذا عندي ضعيف ؛ لأن الفصفصة للبهائم وهي داخلة في الأبّ ؛ والذي أقول به أن القضب هنا هو كلّ ما يقضب ليأكله ابن آدم غضّا من النبات كالبقول والهليون ونحوه ؛ فإنّه من المطعوم جزء عظيم ولا ذكر له في الآية إلّا في هذه اللفظة ، والحديقة : الشجر الذي قد أحدق بجدار ونحوه ، والغلب : الغلاظ الناعمة ، والأبّ المرعى والكلأ ؛ قاله ابن عبّاس وغيره (١) ، وقد توقّف في تفسيره أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما (٢) ـ و (مَتاعاً) : نصب على المصدر ، والمعنى : تتمتّعون به أنتم وأنعامكم ؛ فابن آدم في السّبعة المذكورة ، والأنعام في الأبّ ، و (الصَّاخَّةُ) : اسم من أسماء يوم / القيامة. ـ ص ـ : قال الخليل : الصاخّة صيحة تصخّ الآذان صخّا ، أي : تصمّها لشدة وقعتها ، انتهى.

(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ)(٤٢)

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) الآية ، قال جمهور الناس : إنما ذلك لشدة الهول كلّ يقول نفسي نفسي ، وقيل : فرارهم خوفا من المطالبات ، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) عن اللقاء مع غيره ، ثم ذكر تعالى اختلاف الوجوه من المؤمنين الواثقين برحمة الله ؛ حين بدت لهم تباشيرها ، ومن الكفار حين علاها قترها ، و (مُسْفِرَةٌ) معناه : نيّرة باد ضوءها وسرورها ، والغبرة التي على الكفرة : هي من العبوس كما يرى على وجه المهموم والميّت والمريض شبه الغبار ، ـ ص ـ : والقتر سواد كالدّخان ، قال أبو عبيدة : هو الغبار ، انتهى ، ثم فسّر سبحانه أصحاب هذه الوجوه المغبرّة بأنهم (الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ).

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٥٢) (٣٦٣٧٥) ، وذكره ابن كثير (٤ / ٤٧٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢١) ، وعزاه للعوفي عن ابن عبّاس.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٥١) ، رقم : (٣٦٣٦٧) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٤٩) ، وابن عطية (٥ / ٤٣٩) ، وابن كثير (٤ / ٤٧٣)

٥٥٤

تفسير سورة «التّكوير»

[وهي] مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ)(٥)

قوله سبحانه : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) هذه كلّها أوصاف يوم القيامة ، وتكوير الشمس هو أن تدار كما يدار كور العمامة ويذهب بها إلى حيث شاء الله ـ تعالى ـ ، وعبّر المفسرون عن ذلك بعبارات ؛ فمنهم من قال : ذهب نورها ؛ قاله قتادة (١) ، ومنهم من قال : رمي بها ؛ قاله الربيع بن خثيم (٢) وغير ذلك مما هو أسماء توابع لتكويرها ، ، وانكدار النجوم هو انقضاضها وهبوطها من مواضعها ، وقال ابن عبّاس : انكدرت : تغيّرت من قولهم ماء كدر (٣) و (الْعِشارُ) : جمع عشراء وهي الناقة التي قد مرّ لحملها عشرة أشهر ، وهي أنفس ما عند العرب ، وإنما تعطّل عند أشدّ الأهوال.

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)(١٤)

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قال أبيّ بن كعب وابن عبّاس وغيرهما : / معناه أضرمت نارا ، كما يسجر التّنّور (٤) ، ويحتمل أن يكون المعنى ملكت وقيّدت ، فتكون اللفظة مأخوذة

__________________

(١) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٥٧) (٣٦٤٠٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٥١) ، وابن عطية (٥ / ٤٤١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٧٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٦) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٥٧) (٣٦٤١٠) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٤١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٧٥)

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٥٨) (٣٦٤١٧) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٤١) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٧٥)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٦٠) ، عن أبي بن كعب ، برقم : (٣٦٤٣٢) وعن ابن عبّاس برقم : (٣٦٤٣٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٥١) ، وابن عطية (٥ / ٤٤٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٧٦) بنحوه.

٥٥٥

من ساجور الكلب ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «سجرت» بتخفيف (١) الجيم ، والباقون بتشديدها ، وتزويج النفوس : هو تنويعها ؛ لأن الأزواج هي الأنواع ، والمعنى : جعل الكافر مع الكافر والمؤمن مع المؤمن ، وكلّ شكل مع شكله ؛ رواه النعمان بن بشير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقاله عمر بن الخطاب وابن عبّاس (٢) ؛ وقال : هذا نظير قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) [الواقعة : ٧] وفي الآية على هذا حضّ على خليل الخير ، فقد قال ـ عليه‌السلام ـ : «المرء مع من أحبّ» ، وقال : «فلينظر أحدكم من يخالل» ، وعبارة الثعلبيّ : قال النعمان بن بشير : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) ، قال الضّرباء : كلّ رجل مع كلّ قوم كانوا يعملون عمله ، انتهى ، وقال مقاتل بن سليمان معناه : زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهنّ من الحور ، وغيرهنّ (٣).

وقوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) الموءودة اسم معناه المثقل عليها بالتّراب ، وغيره حتى تموت ؛ وكان هذا صنيع بعض العرب ببناتهم يدفنونهن أحياء ، وقرأ الجمهور (٤) : «سئلت» وهذا على جهة التوبيخ للعرب الفاعلين ذلك ؛ واستدلّ ابن عبّاس بهذه الآية على (٥) أنّ أولاد المشركين في الجنّة ، لأنّ الله قد انتصر لهم ممّن ظلمهم (٦).

__________________

(١) وحجتهما قوله سبحانه : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطور : ٦] ولم يقل المسجّر. وحجة الباقين قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ) ولو كان واحدا لكان تخفيفا ، والعرب تقول : سجرت التنور ، وسجّرت التنانير.

ينظر : «حجة القراءات» (٧٥٠) ، و «السبعة» (٦٧٣) ، و «الحجة» (٦ / ٣٧٩) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٤٤) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١٠١) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٢٣) ، و «العنوان» (٢٠٤) ، و «شرح شعلة» (٦١٩) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٩١)

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٦٢) عن عمر برقم : (٣٦٤٤٩) ، وعن ابن عبّاس برقم : (٣٦٤٥٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٥٢) ، وابن عطية (٥ / ٤٤٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٧٧) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن مردويه.

(٣) ذكره البغوي (٤ / ٤٥٢) ، وابن عطية (٥ / ٤٤٢) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٨) ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن المنذر عن الكلبي بنحوه.

(٤) وقرأ ابن عبّاس ، وأبي ، وجابر بن زيد ، وأبو الضحى ، ومجاهد ، وجماعة منهم : ابن مسعود ، والربيع بن خيثم «سألت».

ينظر : «مختصر الشواذ» ص : (١٦٩) ، و «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٤٢) ، و «البحر المحيط» (٨ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥) ، و «الدر المصون» (٦ / ٤٨٦)

(٥) في د : في.

(٦) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٤٢) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٧٧)

٥٥٦

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) قيل : هي صحف الأعمال ، وقيل : هي الصحف التي تتطاير بالأيمان والشمائل ، والكشط : التقشير وذلك كما يكشط جلد الشاة حين تسلخ ، وكشط السّماء هو طيّها / كطيّ السّجلّ ، و (سُعِّرَتْ) معناه : أضرمت (١) نارها ، وأزلفت الجنة معناه : قرّبت ليدخلها المؤمنون ، قال الثعلبي : قرّبت لأهلها حتى يرونها ، نظيره ، (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق : ٣١]. (عَلِمَتْ نَفْسٌ) عند ذلك (ما أَحْضَرَتْ) من خير أو شر ؛ وهو جواب لقوله (إِذَا الشَّمْسُ) وما بعدها ، انتهى.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)(٢٣)

وقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) لا إمّا زائدة وإما أن تكون ردّا لقول قريش في تكذيبهم نبوة نبينا محمّد* ع* ، ثمّ أقسم تعالى بالخنّس الجوار الكنّس ، وهي في قول الجمهور : الدّراريّ السّبعة : الشمس والقمر وزحل وعطارد والمرّيخ والزّهرة والمشتري ، وقال عليّ : المراد الخمسة دون الشمس والقمر ؛ وذلك أنّ هذه الكواكب تخنس في جريها أي : تتقهقر فيما ترى العين ، وهي جوار في السماء ، وهي تكنس في أبراجها أي : تستتر (٢) ، الثعلبي : وقال ابن زيد تخنس ؛ أي : تتأخّر عن مطالعها كلّ سنة ، وتكنس بالنّهار ، أي : تستتر فلا ترى ، انتهى (٣) ، وعسعس الليل في اللغة إذا كان غير مستحكم الإظلام ، قال الخليل : عسعس الليل : إذا أقبل وأدبر ، وقال الحسن : وقع القسم بإقباله (٤) ، وقال ابن عبّاس وغيره : بل وقع بإدباره (٥) ، وقال المبرد : أقسم بإقباله وإدباره (٦)

__________________

(١) في د : ضرمت.

(٢) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٦٧) (٣٦٤٨٤) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٥٣) ، وابن عطية (٥ / ٤٤٣) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٧٨) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٨) ، وعزاه لسعيد بن منصور والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه من طرق عن علي رضي الله عنه.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٦٧) (٣٦٤٨٧). والبغوي (٤ / ٤٥٣)

(٤) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٧٠) (٣٦٥١٢) ، وذكره البغوي (٤ / ٤٥٣) ، وابن عطية (٥ / ٤٤٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٧٩) بنحوه.

(٥) أخرجه الطبري (١٢ / ٤٦٩) ، (٣٦٥٠٢) ، وذكره ابن عطية (٥ / ٤٤٤) ، وابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٧٩) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٣٠) ، وعزاه لابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عبّاس.

(٦) ذكره ابن عطية (٥ / ٤٤٤)

٥٥٧

معا ، وعبارة الثعلبي : قال الحسن عسعس الليل : أقبل بظلامه ، وقال آخرون : أدبر بظلامه ، ثم قال : والمعنيان يرجعان إلى معنى واحد ، وهو ابتداء الظلام في أوله وإدباره في آخره ، انتهى ، ، وتنفّس الصبح ، اتّسع ضوءه ، والضمير في «إنه» للقرآن ، والرسول الكريم في قول الجمهور ؛ هو جبريل* ع* وقال آخرون : هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية كلّها ، / والقول الأول أصحّ ، و (كَرِيمٍ) صفة تقتضي رفع المذامّ ، و (مَكِينٍ) معناه : له مكانة ورفعة ، وقال عياض في «الشفا» في قوله تعالى : (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) : أكثر المفسرين على أنّه نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، انتهى ، قال* ع (١) * : وأجمع المفسرون على أن قوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ) يراد به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والضمير في (رَآهُ) لجبريل* ع* وهذه الرؤية التي كانت بعد أمر غار حراء ، وقيل : هي الرؤية التي رآه عند سدرة المنتهى.

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢٩)

وقوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) بالضاد بمعنى : ببخيل تبليغ ما قيل له ؛ كما يفعل الكاهن حين يعطى حلوانه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائيّ : «بظنين» بالظاء (٢) ، أي : بمتّهم ، ثم نفى سبحانه عن القرآن أن يكون كلام شيطان على ما قالت قريش ، و (رَجِيمٍ) أي : مرجوم.

وقوله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) توقيف وتقرير والمعنى : أين المذهب لأحد عن هذه الحقائق والبيان الذي فيه شفاء ، (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) أي : تذكرة ، * ت* : روى الترمذيّ عن ابن عمر قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنّه رأي عين ؛ فليقرأ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)» قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، انتهى.

__________________

(١) ينظر : «المحرر الوجيز» (٥ / ٤٤٤)

(٢) ينظر : «السبعة» (٦٧٣) ، و «الحجة» (٦ / ٣٨٠) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٤٦) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٢٤) ، و «العنوان» (٢٠٤) ، و «حجة القراءات» (٧٥٢) ، و «شرح شعلة» (٦٢٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٩٢)

٥٥٨

تفسير سورة «الانفطار»

وهي مكّيّة بإجماع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ)(٤)

قوله تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي : انشقّت ، (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي : تساقطت ، (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) قيل : فجّر بعضها إلى بعض ، ويحتمل أن يكون تفجّرت من أعاليها ، ويحتمل أن يكون تفجير تفريغ من قيعانها / فيذهب الله ماءها حيث شاء ، وبكل قيل ، وبعثرة القبور : نبشها عن الموتى.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ)(٧)

وقوله سبحانه : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) هو جواب (إِذَا) و (نَفْسٌ) هنا اسم جنس ، وقال كثير من المفسرين في معنى قوله : (ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) إنها عبارة عن جميع الأعمال من طاعة أو معصية.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها ، فقال : «غرّه جهله» (١) ، فسبحان الله ما أرحمه بعباده ، قال الثعلبيّ : قال أهل الإشارة : إنّما قال :

__________________

(١) قال الزيلعي في «تخريج الأحاديث والآثار» (٤ / ١٦٧) (١٤٦٤) ، وقال : رواه الثعلبي : أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه ـ واسمه الحسين بن محمّد ـ ثنا أبو علي بن حنش المقري ، ثنا أبو القاسم بن الفضل المقري ، ثنا علي بن الحسين المقدمي ، وعلي بن هاشم قالا : ثنا كثير بن هشام ، ثنا جعفر بن برقان ، ثنا صالح بن مسمار قال : بلغني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا هذه الآية : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) قال : «غره جهله».

وعن الثعلبي رواه الواحدي في «تفسيره الوسيط» بسنده ومتنه.

ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام ، في كتاب «فضائل القرآن» حدثنا كثير بن هشام وذكره سواه إلا أنه قال : «غره حلمه» ، والنسخة صحيحة.

٥٥٩

(بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ، دون سائر أسمائه تعالى وصفاته ، كأنه لقّنه جوابه ؛ حتى يقول : غرّني كرمك ، انتهى ، وقرأ الجمهور : «فعدّلك» وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نظر إلى الهلال ؛ قال : «آمنت بالذي خلقك فسوّاك فعدلك» وقرأ حمزة والكسائيّ وعاصم بتخفيف الدال (١) ، والمعنى عدّل أعضاءك بعضها ببعض ، أي : وازن بينها.

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (١٤)

وقوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) ذهب الجمهور إلى أن «في» متعلّقة ب «ركّبك» ، أي : في صورة حسنة أو قبيحة ، أو سليمة ، أو مشوهة ، ونحو هذا ، و «ما» في قوله : (ما شاءَ رَكَّبَكَ) زائدة فيها معنى التأكيد ، قال أبو حيان (٢) : (كَلَّا) ردع وزجر ، انتهى ، والدّين هنا يحتمل أن يريد الشرع ، ويحتمل أن يريد الجزاء والحساب ، وباقي الآية واضح لمتأمّله.

(يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)(١٩)

وقوله تعالى : (يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) أي : يوم الجزاء.

وقوله تعالى : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) [قال جماعة : معناه : ما هم عنها بغائبين] (٣)

__________________

(١) قال الفراء : وجهه ـ والله أعلم ـ فصرفك إلى أي صورة شاء ، إما حسن أو قبيح ، أو طويل أو قصير. وعن أبي نجيح قال : (في صورة أب أو في صورة عمّ). وليست في من صلة «عدلك» لأنك لا تقول : (عدلتك في كذا) ، إنما تقول : (عدلتك إلى كذا) أي : صرفتك إليه ؛ وإنما هي متعلقة ب «ركّبك». كأن المعنى : (في أي صورة شاء أن يركّبك).

وقال آخرون : (فعدلك : فسوّى خلقك). قال محمّد بن يزيد (المبرد) : فعدلك أي : قصد بك إلى الصورة المستوية ومنه العدل الذي هو الإنصاف ، أي : هو قصد إلى الاستواء. فقولك : (عدل الله فلانا) أي : سوّى خلقه. فإن قيل : فأين الباء التي تصحب القصد حتى يصح ما تقول؟ قلت : إن العرب قد تحذف حروف الجر ، قال الله عزوجل : «وإذا كالوهم أو وزنوهم» فحذف اللامين ، فكذلك «فعدلك» بمعنى : فعدل بك.

ينظر : «حجة القراءات» (٧٥٢ ـ ٧٥٣) ، و «السبعة» (٦٧٤) ، و «حجة القراءات» (٦ / ٣٨٢) ، و «إعراب القراءات» (٢ / ٤٤٨) ، و «معاني القراءات» (٣ / ١٢٦) ، و «شرح الطيبة» (٦ / ١٠٣) ، و «العنوان» (٢٠٤) ، و «شرح شعلة» (٦٢٠) ، و «إتحاف» (٢ / ٥٩٤)

(٢) ينظر : «البحر المحيط» (٨ / ٤٢٨)

(٣) سقط في : د.

٥٦٠