تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

والأخبار بهذا المعنى كثيرة من طرقهم بل قد تواتر أخبارهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأخبار عن القائم المهدي وأنّه من صلب الحسين عليه‌السلام : وأنّه يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا.

عن البغوي في شرح السّنة والبخاري ومسلم بالإسناد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم (١).

وعن أبى داود والتّرمذى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو لم يبق من الدّنيا الّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث الله رجلا منّى أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمى يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا (٢).

وعن محمّد بن يوسف الشّافعى في كفاية الطّالب عن أبى سعيد الخدري في حديث طويل عن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال يا فاطمة أما علمت أنّ الله اطّلع إلى الأرض اطّلاعة فاختار منهم أباك فبعثه نبيّا ثمّ اطّلع ثانية فاختار منهم بعلك فأوحى إلىّ فأنكحته واتّخذته وصيّا أما علمت انّك بكرامة الله إياك زوّجك أغزرهم (٣) علما وأكثرهم حلما وأقدمهم سلما.

قال : واستبشرت فأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يزيدهما مزيد الخير كله الذي قسّمه لمحمد وآل محمّد فقال : يا فاطمة ولعليّ ثمانية أضراس يعنى مناقب : الإيمان بالله ورسوله وحكمته ، وزوجته ، وسبطاه الحسن والحسين ، وأمره بالمعروف ، ونهيه عن المنكر.

يا فاطمة إنّا أهل بيت أعطينا ستّ خصال لم يعطها أحد من الأوّلين ولا يدركها أحد من الآخرين غيرنا : نبيّنا خير الأنبياء ، وهو أبوك ، ووصيّنا خير

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٤ ص ١٤٣ صحيح مسلم ج ١ ص ٨٦ ح ٢٤٤.

(٢) الفصول المهمّة عن أبى داود والترمذي ص ٢٧٦ ط الغري.

(٣) في البحار : أعلمهم علما.

٧٢١

الأوصياء وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشّهداء وهو حمزة عمّ أبيك ، ومنّا سبطا هذه الأمّة وهما ابناك ، ومنّا مهديّ الأمّة الّذي يصلّي عيسى خلفه.

ثمّ ضرب على منكب الحسين فقال : من هذا مهدىّ الأمّة. (١)

إلى غير ذلك من الأخبار الّتي أفردتها الخاصّة بالتّصنيف بل العامّة أيضا كما تصدّى لنقل ذلك عنهم شيخنا العلّامة المجلسي قدس‌سره في البحار.

وعن كفاية الطّالب عن ابن عبّاس قال : ستكون فتنة فمن أدركها منكم فعليه بخصلتين : كتاب الله تعالى وعلى بن أبي طالب فانّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو آخذ بيد علىّ عليه‌السلام وهو يقول : هو أوّل من امن بي ، وأوّل من يصافحني. وهو فاروق هذه الأمّة يفرّق بين الحقّ والباطل ، وهو يعسوب الدّين ، والمال يعسوب الظّلمة ، وهو الصّديق الأكبر وهو بابى الّذى اوتي منه ، وهو خليفتي من بعدي (٢).

وعن الحافظ النّطنزي عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ عليّ بن أبي طالب وصيّي وإمام أمّتي ، وخليفتي عليها بعدي ، ومن ولده القائم المنتظر الّذي يملأ الله به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، والّذى بعثني بالحقّ ونذيرا إنّ الثّابتين على القول به في زمان غيبته لأعزّ من الكبريت الأحمر.

فقام إليه جابر بن عبد الله الأنصاري فقال : يا رسول الله وللقائم من ولدك غيبة؟ قال : إي وربّي (لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) (٣).

يا جابر ، انّ هذا أمر من أمر الله عزوجل وسرّ من سرّ الله ، علمه مطوى عن عباد الله إيّاك والشكّ في أمر الله عزوجل فانّه كفر (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣٨ ص ١١ ح ١٦ عن كشف الغمّة ص ٤٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣٨ ص ٢٧.

(٣) آل عمران : ١٤١.

(٤) البحار : ج ٣٨ / ١٢٦ ـ ١٢٧ عن اليقين ص ١٩١.

٧٢٢

وعن الحافظ أبى نعيم في كتاب ما نزل الله من القرآن في عليّ بالإسناد عن أبى سعيد الخدري قال إن رسول الله صلّى الله عليه وآله : دعا النّاس إلى عليّ عليه‌السلام في غدير خمّ وأمر بما تحت الشّجرة من شوك فقمّ فدعا عليّا عليه‌السلام فأخذ بضبعيه فرفعهما حتّى نظرنا إلى بياض إبطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ لم يتفرّقوا حتّى نزلت هذه الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١) الآية. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر على إكمال الدّين وإتمام النّعمة ورضى الرّب برسالتي وبالولاية لعليّ من بعدي ثمّ قال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه : اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره ، واخذل من خذله.

قال حسّان : ائذن لي يا رسول الله فأقول في علىّ أبياتا فقال : قل على بركة الله فأنشد :

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخمّ وأسمع بالنّبى مناديا

ويقول فمن مولاكم ووليّكم

فقالوا ولم يبدوا هناك التّعاديا

إلهك مولانا وأنت وليّنا

ولم تجدن منّا لك اليوم عاصيا

فقال له قم يا علىّ فانّنى

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

* هناك دعا اللهمّ وال وليّه

وكن للذي عادى عليّا معاديا

ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا حسّان لا تزال مؤيّدا بروح القدس ما نافحت (٢) عنّا بلسانك.

بل قال ابن الجوزي : إنّه اتّفق علماء السّير على أنّ قصّة الغدير كانت بعد رجوع رسول الله من حجّة الوداع في الثامن عشر ذي الحجة وكان معه من الصّحابة

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) نافح عنه : دافع عنه.

٧٢٣

ومن الاعراب وممّن يسكن حول مكة والمدينة مائة وعشرون ألفا ، وهم الّذين شهدوا معه حجّة الوداع وسمعوا منه هذه المقالة ، وقد أكثر الشّعراء في يوم الغدير ثمّ نقل أشعار حسّان وما أنشده سعد بن عبادة الأنصاري بين يدي أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم صفّين في حكاية الغدير ثمّ حكى ما أنشده كميت :

ويوم الدّوح دوح غدير خمّ

أبان له الولاية لو أطيعا

ولكنّ الرّجال تدافعوها

فلم أر مثلها خطرا منيعا

فلم أر مثل ذاك اليوم يوما

ولم أر مثله حقّا أضيعا (١)

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتي أفردوها بالتّصانيف ، وستسمع كثيرا منها في هذا التّفسير وإن كان كلّ ما ذكرناه كغيرنا قليلا من كثير.

هذا مضافا إلى انتهاء جميع الفضائل والكمالات إليه عليه‌السلام وكونه أعلم الصحابة وأفضلهم وأزهدهم وأعبدهم وأتقيهم ، ورجوع جميع الصّحابة حتّى الخلفاء إليه في الأحكام والقضايا ، حتّى قال عمر سبعين مرّة : لو لا علىّ لهلك عمر (٢) ، وكانت الصّحابة يرجعون إليه في حلّ المشاكل وكشف المعاضل.

كلّ ذلك مع الغضّ عن المطاعن والرذائل التي كانت للآخرين بحيث ملئوا منها الطّوامير ، وسطروا فيها الأساطير ، بل أقرّ بجلّها لو لم نقل كلّها أكثر الجماهير وإن كان كلّ ما ذكروه قليلا من كثير ، فالاشتغال بذكرها لا يناسب ما نحن بصدده من الاكتفاء بالإشارة في هذا التّفسير.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣٧ ص ١١٢ وص ١٥٠.

(٢) المناقب للخوارزمي ص ٩٧ ح ٩٨ وليس فيه ذكر العدد.

٧٢٤

ختام به الإتمام

بقي في المقام شيئان أحدهما في التّامين الّذى هو قول آمين بعد الحمد ، وهو في الأصل كلمة سريانيّة أو عبريّة كما عن الأخفش وعطية ، أو فارسيّة معرّب همين أى لا نطلب شيئا سوى هذا كما عن التّيسير ، أو عربيّة بالمدّ وتشديد الميم بمعنى قاصدين ، منصوبا بفعل محذوف كدعوناك ونحوه كما رواه بعض المفسّرين من العامّة عن مولانا الصّادق عليه‌السلام ، ولم يثبت ذلك منه عليه‌السلام ، وعلى تقديره فلا دلالة فيه على جواز قولها بعد الحمد في الصّلوة كى يعارض ما صحّ عنه وعن غيره من أئمّة الأنام عليهم الصّلوة والسّلام من المنع عن قولها في الصّلوة للمأموم وللإمام ، أو أنّه فعيل والالف لإشباع الحركة لعدم كون فاعيل وافعيل وفيعيل من أوزان كلمات العرب كما عن أبى علىّ.

وجوّز نجم الائمّة أن يكون أصله أمين بالقصر ، ثمّ مدّ فيكون عربيّا مصدرا في الأصل كالنّذير والنكير ، جعل اسم فعل.

وفي الكشّاف أنّه صوت يسمّى به الفعل الّذى هو استجب كما أنّ رويد وحيّهل وهلمّ أصوات سميت بها الإفعال الّتي هي أمهل وأقبل واسرع.

وفي المصباح المنير : أمين بالقصر في الحجاز ، وبالمدّ في لغة بني عامر والمدّ إشباع بدليل أنّه لا يوجد في العربيّة كلمة على فاعيل ، ومعناه اللهم استجب.

وقال أبو حاتم : معناه يكون كذلك ، وعن الحسن البصري : أنّه اسم من أسماء الله تعالى.

والموجود في مشاهير الأصول المعتمدة أنّ التّشديد خطأ ، وقال بعض أهل

٧٢٥

العلم : التّشديد لغة قديم وهو وهم قديم ، وذلك أنّ أبا العباس أحمد بن يحيى قال : وأمين مثل عاصين لغة فتوهّم أنّ المراد صيغة الجمع لا أنّه قابله بالجمع ، وهو مردود بقول ابن جني وغيره أنّ المراد موازنة اللّفظ لا غير ، ويؤيّده قول صاحب التّمثيل في «الفصيح» والتّشديد خطأ ، ثمّ المعنى غير مستقيم على التشديد ، لأنّ التقدير ولا الضّالّين قاصدين إليك وهذا لا يرتبط بما قبله.

قلت : ولعلّه جعله حالا من الفاعل فعاد نقضا على المطلوب ، وأمّا على ما ذكرناه سابقا فلا محذور ، غير أنّ الظّاهر أنّه اسم فعل لا اسم فاعل بمعنى استجب بنى على الحركة لالتقاء الساكنين والفتح للخفّة.

وفي القاموس آمين بالمدّ والقصر وقد يشدّد الممدود ويمال أيضا.

عن الواحدي في «البسيط» : اسم من أسماء الله أو معناه اللهم استجب ، أو كذلك فليكن ، أو كذلك فافعل :

وعن ابن الأثير هو اسم مبنيّ على الفتح ، ومعناه : اللهم استجب لي ، وقيل : معناه كذلك فليكن ، بمعنى الدّعاء ، وعن المغرب معناه استجب.

وبالجملة فالظّاهر كونه اسما مبنيّا على الفتح لطلب الحاجة ، وهو بالتخفيف والتّشديد لغة أو غلط كما أنّ الأكثر مدّه ، وبه ورد في الأدعية الكثيرة عن أهل بيت العصمة ، وأنشد مجنون بنى عامر :

يا ربّ لا تسلبني حبّها أبدا

ويرحم الله عبدا قال آمينا

نعم قد يقصّر لضرورة الشّعر كقوله :

تباعد عنّي فطحل إذ سئلته

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

وتقديمه على الدّعاء لمزيد الاهتمام ، ويظهر من صريح بعض كظاهر آخرين جواز قصره في غير الضّرورة.

لكن الخطب فيه سهل كسهولته في القطع بعدم استحبابه في الصّلوة بعد

٧٢٦

الفاتحة للمتفرد والإمام والمأموم جهريّة كانت الصّلوة أو اخفاتيّة ، وانّما هو من بدع أهل البدعة المتسمين باسم السّنة للتّضاد لرواية رواها أبو هريرة الّذى كان أكذب النّاس أو أكذب الأحياء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كما روى عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل عن الجاحظ في التوحيد انّ أبا هريرة ليس بثقة في الرّواية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : ولم يكن علىّ يوثّقه في الرّواية بل يتّهمه ، ويقدح فيه ، وكذلك عمر ، وعائشة.

وفي مناقب الخوارزمي : أنّ رجلا سئل أبا هريرة بصفّين في مجلس معاوية فقال : أنشدك بالله ان سألتك عن حديث سمعته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتجيبنى؟ قال : نعم ، قال الرجل : أسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول لعلىّ عليه‌السلام من كنت مولاه فعلىّ مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه قال : نعم.

قال : فإنّي رأيتك واليت أعدائه ، وعاديت أوليائه ، فقال أبو هريرة : إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

بل قد يحكى عنهم انّه اتّفق له مع عمر بن الخطاب واقعة شهد فيها عليه بانّه عدوّ لله وعدوّ للمسلمين ، وحكم عليه بالخيانة وأوجب عليه عشرة ألف دينار وألزمه بها بعد ولاية البحرين.

وحكى أبو المعالي الجويني الشّافعى المعروف بإمام الحرمين عدم عمل أبى حنيفة برواية أبى هريرة إلى غير ذلك ممّا اشتهر عنهم فضلا عن غيرهم في القدح فيه وفي غيره ممّن استندوا اليه في هذا الحكم وغيره.

هذا مضافا إلى الاحتياط اللازم المراعاة في مهيّة العبادات ومرجعه إلى قاعدة الاشتغال ، وانّ ترك التأمين لا يقدح في صحّة العبادة إجماعا من الفريقين ، وفعله بدعة يوجب بطلان العبادة عند الإماميّة الذين استفادوا علومهم وأحكامهم من أئمّتهم. أهل البيت الذين هم أدرى بما في البيت ، مع أنّه قد صحّ عن

٧٢٧

النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الفريقين أنّ هذه الصّلوة لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين ، ومن البيّن أنّ قول آمين ، من كلامهم أمّا على كونه سريانيّا أو عبريا أو معرّبا حسبما ذهب إلى كلّ منها فريق منهم كما مرّ فواضح.

وإمّا مع كونه عربيّا فلأنّ المراد من كلام الآدميين ما ليس بقرآن ولا دعاء ولا تسبيح ولا ذكر ، ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الخبر المتقدّم إنّما هي التّسبيح والتكبير وقراءة القرآن أمّا عدم كونه قرآنا فظاهر كظهور عدم كونه تسبيحا وأمّا عدم كونه دعاء فلأنّه اسم للدّعاء الّذى هو استجب كما صرّح به البيضاوي وغيره ، والإذن في أحدهما لا يستلزم الإذن في الآخر.

بل ذكر السيّد المرتضى رضى الله عنه في «الانتصار» أنّه لا خلاف في أنّ هذه اللّفظة ليست من جملة القرآن ولا مستقلّة بنفسها في كونها دعاء وتسبيحا فجرى التّلفظ بها مجرى كلّ كلام خارج عن القرآن والتّسبيح والدّعاء.

وعن التّنقيح : اتّفق الكلّ على أنّها ليست قرآنا ، وإنّما هي اسم للدّعاء ، والاسم غير المسمّى.

وفي كشف اللّثام بعد أن حكى عن «الخلاف» تعليل البطلان بانّه من كلام الآدميين الّذى لا يصلح قال : وهو مبنىّ على أنّه ليس دعاء كما هو المشهور المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مرفوعا في «معاني الاخبار» عن الصّادق عليه‌السلام ، وانّما هو كلمة تقال أو تكتب للختم كما روى أنّها خاتم ربّ العالمين ، وقيل : إنّها تختم بها برائة أهل الجنّة وبرائة أهل النّار.

ثمّ إنّه مع كونها من أسماء الأفعال فقد سمعت أنّ معناه لفظ استجب أو غيره ممّا مرّت حكايته عن القاموس وغيره ، بل عن بعض الأجلّة أنّها اسم للفظ الفعل بإجماع أهل العربيّة ، قال : بل هو بديهي عندهم.

لكنّه في «الحدائق» استظهر كونه دعاء كقولك : أللهمّ استجب ، قال : وقد

٧٢٨

صرّح بذلك نجم الأئمّة الرضى رضى الله عنه فقال : وليس ممّا قال بعضهم إنّ صه مثلا اسم للفظ اسكت الّذى هو دالّ على معنى الفعل ، فهو علم للفظ الفعل لا لمعناه بشيء لأنّ العربي القح يقول : صه مع أنّه ربما لا يحضر في باله لفظ أسكت ، وربّما لم يسمعه أصلا ولو قلت اسم لا صمت أو امتنع ، أو أكفف عن الكلام أو غير ذلك ممّا يؤدى هذا المعنى لصحّ ، فعلمنا أنّ المقصود المعنى لا اللّفظ.

قلت وفيه : أن الظّاهر من كلام أهل اللّغة بل صريح غيرهم أنّها موضوعة للفظ الفعل ، ولذا سمّيت بأسماء الأفعال ، وان كان ربما يكتفى في الإضافة بأدنى الملابسة لكنّه بمجرّده غير دافع للظّاهر ، بل قد سمعت من غير واحد من الأساطين دعوى الاتّفاق على ذلك ، نعم في «التصريح» أنّ أسماء الأفعال هل هي أسماء لألفاظ الأفعال ، أو لمعانيها من الأحداث والأزمنة ، أو أسماء للمصادر النّائبة عن الأفعال أو هي أفعال أقوال :

قال بالأول جمهور البصريّين ، وبالثّانى صاحب البسيط ، ونسبه إلى ظاهر قول سيبويه والجماعة ، وبالثالث جماعة من البصريّين ، وبالرّابع الكوفيون.

وعلى القول بأنّها أفعال حقيقة أو أسماء لألفاظ الأفعال لا موضع لها من الإعراب عند الأخفش وطائفة ، واختاره ابن مالك ، وعلى القول بأنّها أسماء للمصادر النّائبة عن الأفعال موضعها بأفعالها النّائبة عنها لوقوعها موقع ما هو في موضع نصب ، وهو قول المازني.

والصّحيح أنّ كلّا منها اسم لفعل ، وأنّه لا موضع لها من الاعراب : انتهى.

ومنه بل ومن غيره ممّا مرّ يظهر قوة القول المذكور مع المنع من التبادر الّذى قد استدلّ به نجم الأئمّة ، مع أنّ المعنى الفعلى لا يمكن وضع الاسم له ضرورة المغايرة الظّاهرة المانعة عن ذلك.

واستبعاد الوضع للفظ غير مسموع بعد تصريح أئمّة الفن.

٧٢٩

على أنّه قد يقال بالبطلان أيضا ولو مع تسليم كون معناه استجب ، أو اللهم استجب أو غير ذلك ممّا مرّ نظرا إلى اعتبار ورودها عرفا بعد الدعاء دون القرآن ، ودون انفرادها فلا يكون حينئذ دعاء ، ولذا قيل إنّه لو قال : اللهم استجب لم يجز فكذا ما بمعناه.

بل ذكر بعض المشايخ انّه لو قيل : إنّ معناه كذلك فليكن ، أو كذلك فافعل ، لم يجز قطعا للزوم تعقّبها للدّعاء حينئذ ، قال : ودعوى الاكتفاء بتعقّبها لما يصلح للدّعاء وان لم يكن ذلك أو منع اعتبار وقوعه بعده فيها على التفسير الأوّل لها ، وهو المعنى المعروف ، إذ لا مانع من إرادة طلب الاستجابة لكلّ ما دعا به في الزّمن السّابق ، ويدعو به في الزّمن اللّاحق ، أو يلتزم قصد الدّعائيّة مع القرآنيّة ولا تنافي بينهما ، وإن حكى عن «تبيان» الشّيخ المنع من جمعهما بالقصد للزوم استعمال المشترك في معنييه ، إذ التّحقيق ضعفه بما في «الذكرى» من أنّ المعنى هنا متّحد ، وهو الدّعاء المنزل قرآنا ، ومن المعلوم أنّ الله إنّما كلّف بهذه الصّيغة لإرادته الدّعاء ، فكيف يبطل الصلوة بقصده ، فإذا صحّ وقوعها حينئذ بعد المقصود به الدّعاء من القرآن صحّ بعد غيره ، لعدم القول بالفصل.

يدفع الأول منها شهادة تتبّع استعمالها ومعلوميّة قبح وقوعها بعد غير المقصود به الدّعاء من اللغو والهذر ، وإن كان صالحا لأن يقصد به الدّعاء على معنى طلب الاستجابة فعليّة السّؤال بالأوّل قطعا.

بل والثاني أيضا ، وصحّته مستقلّا في اللهمّ استجب مثلا لا يقتضي صحّته في آمين ، والعرف أعدل شاهد على ذلك ، وقد سمعت نفي الخلاف في «الانتصار» على عدم كونها دعاء مستقلّا.

والثّالث بمنع جواز القصد بهما أوّلا بناء على ما عندهم من وجوب تعيين المشترك بالقصد والنيّة كما ذكروه في البسملة ، وان كان قد يناقش فيه.

٧٣٠

اللهم إلّا أن يفرّق بأنّه لا ينافي القرآن بقصد الدّعاء بالمنزل منه ، ولا يوجب الاشتراك لاتّحاد المعنى ، بخلاف غيره من المشترك بين القرآن وغيره فلاحظ وتأمّل.

وثانيا بالقلب على معنى عدم الصّحة إذا لم يقصد كما هو الغالب في القارئين من العرب والعجم ولا قائل بالفصل.

قلت : هذا غاية ما قيل أو يمكن أن يقال في المقام لكنّها لتطرّق وجوه المناقشة إليها لا تنهض بإثبات المرام لظهور صدق الدّعاء على اللّفظ الدّالّ على طلب الإجابة وسؤالها ، ولو باعتبار وضعه للفظ استجب ونحوه ، فانّ المدار على دلالته عليه واستفادة ذلك منه ولو بالواسطة ، بل ولو مع عدم قصد الدّاعى للدّعاء وعدم إنشائه لذلك ، فإنّ العبرة في مثل ذلك بصلاحيّة اللّفظ وكونه موضوعا لذلك مستعملا في هذا المقصد لا بفعليّة القصد والإنشاء كما هو الحال في الأدعية الكثيرة المشتملة على هذه الكلمة وغيرها المندوب قراءتها للقاصد المتذكّر وغيره ، بل للعجمى البحت الّذى لا يفهم المعنى أصلا فضلا عن أن يكون في مقام الطّلب والسّؤال كى يكون تلاوته دعاء ، ضرورة كونه دعاء بملاحظة نفسه مع قطع النّظر عن أحوال الدّاعى به وإن كان مراتب فضل قراءته تختلف باختلاف مراتب أحواله.

وامّا المنع من جواز قصد الدّعاء بالقرآن بل التأمّل في رجحانه فضلا عن جوازه فغريب جدّا ، وأغرب منه توهّم كونه من باب استعمال المشترك في معنييه.

بل وممّا ذكرناه يظهر النّظر فيما ذكره السيّد في «الغنية» أيضا لا في قوله : ولا يقول : آمين أخر الحمد بدليل الإجماع المشار اليه ، وطريقة الاحتياط واليقين ببرائة الذّمّة من الصّلوة فانّه جيّد وجيه.

بل في قوله بعد ذلك : وقولهم لفظة آمين وإن لم يكن دعاء ولا تسبيحا ولا من جملة القرآن فهي تأمين على دعاء تقدّم عليها ، وقوله : اهدنا الصّراط المستقيم

٧٣١

لا يصحّ الاعتماد عليه لأنّ اللفظ إنّما يكون دعاء بالقصد إلى ذلك ، والقاري إنّما يقصد التلاوة دون الدّعاء ، ولو قصد الدّعاء دون التّلاوة لم يكن قاريا للقرآن ولم يصحّ صلوته ، وإن جاز أن يقصد التّلاوة والدّعاء معا جائز منه أن لا يقصد الدّعاء وإذا لم يقصده لم يجز أن يقول أمين ، والمخالف يقول إنّها مسنونة لكلّ مصلّ من غير أن يعتبر قصده الدّعاء ، وإذا ثبت أنّ قولها لا يجوز لمن لم يقصده ثبت أنّه لا يجوز لمن قصده ، لأنّ أحدا لم يفرّق بين الأمرين ، إذ فيه المنع من انتفاء القراءة إذا كان داعيا بالقرآن ، بل لعلّه القسم الأخير الّذى ظاهره تسليمه من هذا الوجه وإن ناقش فيه من وجه آخر.

مدفوع بجواز التّعبد به على فرضه بمجرّد الصلوح ولذا ورد في القدسيّات :

قسمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سئل إلى أن قال فاذا قال العبد : اهدنا الصّراط المستقيم إلى آخر السّورة قال الله جلّ جلاله هذا لعبدي ، ولعبدي ما سئل فقد استجبت لعبدي وأعطيته ما أمّل وأمنته ممّا منه وجلّ (١).

رواه في العيون وتفسير الامام عليه‌السلام عن مولانا الصّادق عن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله عزوجل.

وحاصل الكلام أنّ هذه الوجوه الّتي علّلوا الحكم بها إن كان المقصود بها إبطال مذهب العامّة في توهّمهم تشريع هذه البدعة فالأولى ترك محاجتهم بها إذ الأدلّة والوجوه الضّعيفة ربّما توجب وهن المدّعى وضعفه في نظر بعض القاصرين لتوهّمهم انحصار الدّليل فيها ، وإن كان المقصود إبطال القول بالكراهة أو الحرمة من غير إبطال الصلوة كما ربّما يعزى إلى بعض أصحابنا فالاولى الاستدلال بظهور إجماعهم على ذلك ، بل قد سمعت عن الإنتصار والغنية عليه الإجماع كما هو

__________________

(١) عيون الأخبار ج ١ ص ٣٠١.

٧٣٢

المحكي أيضا عن الخلاف و «التّحرير» و «نهاية الأحكام» و «التذكرة» و «احقاق الحق» وظاهر «كشف الالتباس» و «المنتهى» و «جامع المقاصد» وغيره.

بل عن الصّدوق في أماليه من دين الإماميّة الإقرار بانّه لا يجوز قول آمين بعد فاتحة الكتاب ، وفي «الفقيه» أيضا : لا يجوز ، لأنّ ذلك كان يقوله النصارى ، وفي «المقنعة» للمفيد قدس‌سره : ولا يقل بعد فراغه من الحمد آمين كقوله اليهود ، وإخوانهم النصّاب إلى غير ذلك من تضاعيف كلماتهم وحكاية إجماعاتهم الّتي يستفاد منها أنّ طلب تركه بل حرمته وبطلان الصّلوة به مذهب أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا.

ولذا استفاضت بها أخبارهم كالصّحيح عن مولينا الصّادق عليه‌السلام إذا كنت خلف إمام قرء الحمد تفرّغ من قراءتها فقل أنت الحمد لله ربّ العالمين ، ولا تقل آمين (١).

وصحيح زرارة عن مولينا الباقر عليه‌السلام ولا تقولنّ إذا فرغت من قراءتك : آمين فإن شئت قلت : الحمد لله ربّ العالمين (٢).

وصحيح الحلبي وان كان فيه محمّد بن سنان للاعتماد به بل عن جامع البزنطي روايته بإسناد آخر عن الصّادق عليه‌السلام انه سئله أقول إذا فرغت من فاتحة الكتاب أمين قال لا (٣).

وعن دعائم الإسلام مرسلا عنهم عليهم‌السلام : انّهم حرّموا أن يقال بعد قراءة فاتحة الكتاب أمين كما تقول العامة قال جعفر بن محمد عليه‌السلام إنّما كانت النّصارى تقولها ، وعنه عن آبائه عليهم‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تزال أمّتى بخير وعلى شريعة من دينها حسنة جميلة ما لم يتخطّوا القبلة باقدامهم ولم ينصرفوا قياما كفعل أهل

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٣١٣ ح ٥ ـ تهذيب الأحكام ج ٢ ص ٧٤ ح ٢٧٥.

(٢) علل الشرائع ج ٢ ص ٤٧.

(٣) التهذيب ج ٢ ص ٧٤ ح ٢٧٦.

٧٣٣

الكتاب ولم تكن لهم ضجّة بآمين (١).

وفي مجمع البيان عن فضل بن يسار عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال إذا قرأت الفاتحة وقد فرغت من قراءتها وأنت في الصّلوة فقل الحمد لله ربّ العالمين (٢).

وصحيح معاوية بن وهب : أقول آمين إذا قال الامام غير المغضوب عليهم ولا الضّالين فقال عليه‌السلام هم اليهود والنّصارى (٣).

اى الفرقتان المشار إليهما في الاية ، أو الّذين يقولون آمين بعدها هم اليهود والنصارى من هذه الأمّة والّا فمن البيّن أنّ اليهود والنّصارى لا يقرؤن الحمد كي يقولوا بعده آمين ، ولعلّ الأخير أظهر بل هو المتعيّن لمن تدبّر.

ولذا قال شيخنا الشّارح : انّ فهم السائل بقرينة ما زاده في الوسائل في الخبر : ولم يجب من هذا انّ هذا جواب للمراد بالضّالين لا لسئواله ليس حجّة فلا حاجة حينئذ لحملة على ترك الجواب للتقيّة بل يمكن ارادة الامام في الجواب الجمع بين التقيّة وسؤال السّائل بالإيهام في العبارة.

ومن هذا كلّه يظهر ضعف القول بالكراهة على فرض القائل به وإن لم أحقّقه عن أحد من المتقدّمين.

نعم قد يحكى عن الإسكافي وأبى الصّلاح لكن قد يقال : إنّهما مع كونها غير قادحين فيه قد حكى عن ثانيهما في «الذكرى» انّه لم يتعرّض لذلك بنفي ولا إثبات كابن أبى عقيل ، والجعفي ، وصاحب الفاخر ، ولا صراحة في كلام أولهما بل ظاهر بعض كلامه المحكي عنه الموافقة.

__________________

(١) دعائم الإسلام ج ١ ص ١٦٠.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ٣١.

(٣) التهذيب ج ٢ ص ٧٤ ح ٢٧٥ وعنه الوسائل ج ٦ ص ٦٧ ح ٧٣٦٣ وقال المصنف : عدول الامام عليه‌السلام عن الجواب للتقية دليل على عدم جواز التأمين.

٧٣٤

قال : ولا يصلّ الإمام ولا غيره قراءة ولا الضالين بآمين لأنّ ذلك يجرى مجرى الزّيادة في القرآن ممّا ليس منه ، وربما سمعها الجاهل فقرأها من التنزيل.

وقد روى سمرة وأبى بن كعب السكتتين ولم يذكرا فيها آمين ، ثمّ قال بعد ذلك : ولو قال المأموم في نفسه : اللهم اهدنا إلى صراطك كان أحبّ إلي : لأن ذلك ابتداء دعاء منه ، وإذا قال آمين تأمينا على ما تلاه الإمام صرف القراءة إلى الدّعاء الّذى يؤمن عليه سامعه.

قلت ولعلّ نهيه الاول أن لا يريد المحبّة المقتضية للجواز وأمّا حكاية السكتتين فإشارة إلى ما روى من السكتتين اللّتين كانتا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في القراءة وإن اختلفت الرواية في موضعهما.

فعن مولينا الصّادق عليه‌السلام انّ رجلين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اختلفا في صلوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكتبا إلى أبى بن كعب كم كانت لرسول الله من سكتة قال : كانت له سكتتان : سكتة إذا كبر ، وسكتة إذا فرغ من قراءة أمّ القرآن (١).

وعن ابن الجنيد انّه روى سمرة وأبى بن كعب عن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ السّكتة الأولى بعد تكبيرة الافتتاح ، والثّانية بعد الحمد.

وقد مرّت رواية الخصال (٢) في المقدّمة فلاحظ.

وعلى كلّ حال فلا ريب في ضعف القول المذكور وشذوذه كشذوذ القائل به ، وإن احتمله المحقّق في المعتبر مستدلّا له بما رواه الحسين بن سعيد عن ابن أبى عمير عن جميل في الصّحيح قال : سئلت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول النّاس في الصلوة جماعة حين يقرأ فاتحة الكتاب آمين؟ قال : ما أحسنها وأخفض الصّوت بها (٣).

__________________

(١) المستدرك الباب ٣٤ من أبواب القراءة في الصلاة ح ١ ـ ٢.

(٢) الخصال للصدوق ج ١ ص ٧٤ ح ١١٦.

(٣) الوسائل ج ٦ ص ٦٨ ح ٧٣٦٦.

٧٣٥

إذ فيه مع حمله على التّعجب انّه مخالف لإجماع الإماميّة بل لضرورة مذهبهم ، لعدم قائل منّا بالاستحباب ، بل يعرف إنكاره من مذهبنا كلّ مخالف ومؤالف ، فيجب حمله على التقيّة ، سيّما مع اشتماله على الأمر بخفض الصّوت الّذى هو عندهم ، مستحب في مستحبّ.

ومع حمله على نفى التّحسين واستفادة الجواز عن الأمر بخفض الصّوت بها أنّه مخالف للظّاهر المنساق ، بل قد يقال للإجماع أيضا ، إذ المتبادر من الاقتصار على نفى الحسن انتفاء القبح أيضا.

مع أنّه من المحتمل لو لم يكن الظّاهر انّ قوله ما أحسنها على صيغة التكلّم من الإحسان أو التّحسين بمعنى الحكم بالحسن وقوله : أخفض الصّوت بها على صيغة الماضي من كلام الراوي فالفاعل الامام وهو مشعر بالتقيّة وتعبير به عن طلب تركه.

وبالجملة فالقرائن الدّاخلة والخارجة متطابقة على ورود الرّواية مورد التّقيّة إن لم تحمل على ما ذكرناه لموافقتها للعامّة الّذى جعل الله الرشد في خلافهم ، ولذا أجمعت الطّائفة المحقّة على الحرمة بل وعلى بطلان الصّلوة بها لظهور التّعبير عنه بالنّهى وبالحرمة في الأخبار المتقدّمة ، وفي فتاوى الجماعة ولذا لم يفصل أحد منهم بين الأمرين عدا صاحب المدارك الّذى سبقه الإجماع ولحقه مضافا إلى الأخبار الكثيرة المتقدّمة الظّاهرة في عدم مطلوبيّة العبادة على هذا الوجه ، بل عدم كونها حينئذ متعلّق الأمر باعتبار اشتمالها على التشريع المحرّم الّذى هو بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النّار.

هذا مضافا إلى قاعدة التوظيفيّة ولزوم تحصيل البرائة عن الإشتغال بالعبادة وغيرها من الأصول والقواعد ، فضلا عن خصوص النّصوص.

٧٣٦

فضل سورة الفاتحة

ثانيهما في فضل هذه السّورة المباركة ويدلّ عليه مضافا إلى ما سمعت من اشتمالها على الحقائق الكليّة والعلوم الالهيّة ، ونعوت الجمال والجلال ، واسرار المبدأ والمعاد ، وإرشاد العباد إلى طريق السّداد ، وغير ذلك كما مرّ تفصيل الكلام فيه ، جملة من النّصوص المأثورة عن أهل الخصوص.

ففي «عدّة الدّاعى» وغيرها عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام عن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لمّا أراد الله عزوجل أن ينزّل فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، وشهد الله ، وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب تعلقن بالعرش وليس بينهنّ وبين الله حجاب ، فقلن : يا ربّ تهبطنا إلى دار الذّنوب ، وإلى من يعصيك ونحن متعلقات بالطهور والقدس ، فقال سبحانه : وعزّتى وجلالي ما من عبد قرأكن في دبر كلّ صلوة إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان ، وإلّا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلّ يوم سبعين نظرة ، وإلّا قضيت له في كلّ يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ، ولأعذته من كلّ عدو ونصرته عليه ، ولا يمنعه دخول الجنّة إلّا الموت (١).

وفي الأمالى لابن الشّيخ عن الصّادق عليه‌السلام قال : من نالته علّة فليقرأ في جيبه الحمد سبع مرّات فإن ذهب العلّة وإلّا فليقرأها سبعين مرّة وأنا الضّامن له العافية (٢).

__________________

(١) مجمع البيان ج ١ ص ٤٢٦ وعنه كنز الدقائق ج ١ ص ٦.

(٢) أمالى الطوسي ج ١ ص ٢٩٠ وعنه البحار ج ٩٢ ص ٢٣١ ح ١٣.

٧٣٧

وفي العلل والعيون بالإسناد عن مولينا الرّضا عليه‌السلام فإن قال : فلم أمروا بالقراءة في الصّلوة؟ قيل : لئلّا يكون مهجورا مضيّعا ، وليكون محفوظا مدروسا ، فلا يضمحلّ ولا يجهل.

فإن قال : فلم بدء بالحمد في كلّ قراءة دون سائر السّور؟ قيل : لأنّه ليس شيء من القرآن والكلام جمع فيه من جوامع الخير والحكمة ما جمع في سورة الحمد ، وذلك أنّ قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إنّما هو أداء لما أوجب الله تعالى على خلقه من الشّكر ، وشكر لما وفّق عبده للخير ، (رَبِّ الْعالَمِينَ) تمجيد له ، وتحميد ، وإقرار بأنّه هو الخالق المالك لا غيره ، (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) استعطاف وذكر لآلائه ، ونعمائه على جميع خلقه (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إقرار بالبعث والحساب والمجازات ، وإيجاب له ملك الآخرة كما أوجب له ملك الدّنيا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) رغبة وتقرّب إلى الله تعالى وإخلاص بالعمل له دون غيره (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) استزادة من توفيقه وعبادته واستدامة لما أنعم عليه ونصره ، (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) استرشاد لأدبه واستعصام بحبله واستزادة في المعرفة بربّه وبعظمته وكبريائه : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) توكيد للسؤال والرّغبة ، وذكر لما تقدّم من نعمه على أوليائه ، ورغبة في مثل تلك النعم : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) استعاذة عن أن يكون من المعاندين الكافرين المستخفين به وبأمره ونهيه ، (وَلَا الضَّالِّينَ) اعتصام من أن يكون من الضّالين الّذين ضلّوا عن سبيله من غير معرفة ، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا.

فقد اجتمع فيه من جوامع الخير والحكمة في أمر الآخرة والدّنيا مالا تجمعه شيء من الأشياء (١).

وفي «العيون» و «تفسير الامام عليه‌السلام» قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : فاتحة

__________________

(١) علل الشرائع ج ١ ص ٢٤٧ ـ عيون الأخبار ج ٢ ص ١٠٧.

٧٣٨

الكتاب أعطاه الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمّته بدء فيها بالحمد والثّناء عليه ثمّ ثنى بالدّعاء لله عزوجل ، ولقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : قال الله عزوجل : قسمت الحمد بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله عزوجل : بدأ عبدي باسمي وحقّ عليّ أن أتمم له أموره : وأبارك له في أحواله ، فاذا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال الله عزوجل : حمدنى عبدي وعلم أنّ النّعم الّتي له من عندي ، وأنّ البلايا الّتي اندفعت عنه فبطولى (١) أشهدكم يا ملائكتى انّي أضيف له نعم الدنيا إلى نعم الاخرة ، وأدفع عنه بلايا الاخرة كما دفعت عنه بلايا الدّنيا.

وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله عزوجل : شهد لي عبدي بأنّى الرّحمن الرّحيم ، أشهدكم لأوفرنّ من رحمتي حظّه ، ولأجزلنّ من عطائي نصيبه ، فإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال الله تعالى : أشهدكم كما اعترف بأنّي أنا الملك يوم الدّين لأسهلنّ يوم الحساب عليه حسابه ، ولأتقبلنّ حسناته ، ولأتجاوزنّ عن سيّئاته. فاذا قال العبد : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) : قال الله تعالى : صدق عبدي إيّاى يعبد ، أشهدكم لأثيبنّه على عبادته ثوابا يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي ، فاذا قال : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال الله عزوجل : بي استعان عبدي ، وإليّ التجأ ، أشهدكم لأعيننه في شدائده ولآخذنّ بيده يوم نوائبه ، فاذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). إلخ قال الله عزوجل : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ، قد استجبت لعبدي ، وأعطيته ما أمّل ، وأمنته عمّا منه وجل (٢).

وفي كتاب العلل لمحمّد بن عليّ بن إبراهيم في تفسير الحمد لله يعنى الشكر

__________________

(١) في البحار : فبتطوّلى.

(٢) تفسير الامام عليه‌السلام ص ٢٧ ـ عيون الأخبار ج ١ ص ٣٠٠.

٧٣٩

لله وهو أمر ولفظه خبر ، والأمر مضمر فيه ، ومعناه قل (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ومعنى (رَبِ) اي خالق و (الْعالَمِينَ) كلّ مخلوق خلقه الله ، (الرَّحْمنِ) بجميع خلقه (الرَّحِيمِ) بالمؤمنين خاصّة (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يعنى يوم الحساب والمجازات ، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) مخاطبة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عزوجل و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) مثل ذلك ، (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

حدّثني أبي عن جدّي ، عن حماد ، عن الحلبي ، عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أمير المؤمنين ، (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) يعنى النّصاب و (لَا الضَّالِّينَ) اليهود والنّصارى.

ثمّ قال : إنّ أوّل ما نزل على رسول الله عليه‌السلام بمكّة بعد أن نبئ الحمد (١).

في المجمع وجامع الاخبار بالإسناد عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أيّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كانّما قرأ ثلثي القرآن ، وأعطى من الأجر كانّما تصدق على كلّ مؤمن ومؤمنة (٢).

وفيهما انّه روى هذا الخبر عن طريق آخر إلّا أنّه قال كأنّما قرء القرآن.

وعن أبي قال : قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاتحة الكتاب فقال : والّذى نفسي بيده ما أنزل الله في التّوراة ولا في الإنجيل ولا في الزّبور ولا في الفرقان مثلها وهي أمّ القرآن ، وهي السبع المثاني وهي مقسومة بين الله وبين عبده ولعبده ما سئل (٣).

وعن العيّاشي بالإسناد انّ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لجابر بن عبد الله الانصاري يا جابر ألا أعلمك أفضل سورة أنزلها الله تعالى في كتابه؟ قال : فقال له جابر : بلى بأبي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٢ ص ٥١ ـ ٥٣ كتاب الصلاة باب القراءة.

(٢) مجمع البيان ج ١ ص ١٧.

(٣) نفس المصدر.

٧٤٠