تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

الغيب المطلق ، وعالمها عالم الأعيان الثابتة في الحضرة العلمية ، لابتنائه على رأيهم الفاسد الكاسد من وحدة الوجود ، والغيب المطلق مما لا اسم له ولا رسم ، والحضرة العلمية ليس فيها شيء ، والأعيان الثابتة غير ثابتة عندنا ، بل معها ينثلم التوحيد.

بل على الوجه المستفاد من طريق أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ، وهو أن الحضرة الأولى هي الحضرة المشية ، وهو الغيب المطلق وعالمها عالم الجبروت والرحموت ، وتقابلها عالم الشهادة المطلقة المعبر عنها بعالم الملك والناسوت ، وحضرة الغيب المضاف.

وهي تنقسم إلى ما يكون أقرب إلى الغيب المطلق ، وعالمها عالم العقول والنفوس ، والأرواح الملكوتية المجردة من التعلقات الذاتية بالمواد الناسوتية.

وإلى ما يكون أقرب إلى الشهادة ، وعالمها عالم المثال ، وهو المقادير المجردة عن المواد حسب ما يأتي إليه الإشارة.

وأما الخامسة فهي الحضرة الجامعة للحضرات الأربعة المذكورة ، وعالمها عالم الإنسان الجامع لجميع العوالم ، وما فيها حسب ما سمعت إشارة إلى تعدد العوالم ، وقد استفاضت الأخبار بل تواترت بتعدد العوالم وتكثرها وترتبها في السلسلة الطولية والعرضية ، بل يستفاد من بعضها أنّ هذا العالم الجسماني المحاط بالجسم الأعظم المسمى بمحدّد الجهات بما فيه من البسائط والمركبات ، وما تعلق به من الأرواح والقوى عالم من تلك العوالم الكثيرة التي أنهاها بعض الأخبار إلى ألف ألف عالم ، كما أنّ أبانا أبا البشر وذريته آدم من أولئك الآدميين الألف ألف.

ففي «الخصال» و «التوحيد» عن جابر بن يزيد ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن

٤٢١

قول الله عزوجل : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١) فقال :

«يا جابر! تأويل ذلك أن الله عزوجل إذا أفنى هذا الخلق وهذا العالم ، وأسكن أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار جدد الله (٢) عزوجل عالما غير هذا العالم ، وجدّد خلقا (٣) من غير فحولة ولا إناث ، يعبدونه ويوحدونه ، وخلق لهم أرضا غير هذه الأرض تحملهم ، وسماء غير هذه السماء تظلهم ، لعلك ترى أن الله عزوجل إنما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أن الله عزوجل لم يخلق بشرا غيركم ، بلى والله! لقد خلق الله تعالى ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم وأولئك الآدميّين» (٤).

وفي «الخصال» و «منتخب البصائر» عن الصادق عليه‌السلام قال : «إن لله عزوجل اثنى عشر ألف عالم ، كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين ما يرى عالم منهم أن لله عزوجل عالما غيرهم وأنا الحجة عليهم» (٥).

ولعلّ اختلاف العدد فيهما منزّل على ملاحظة كليات العوالم وجزئياتها ، وكذا في غيرهما من أخبار الباب ، مع ظهور الحمل في بعضها على خصوص السلسلة الطولية أو العرضية أو العموم.

فإنّ أخبار هذا الباب مختلفة جدا ، فمنها ما سمعت من الالف ألف ، والاثنى عشر ألف ، ومنها ما روي عن ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إن من وراء قاف سبع بحار وكل بحر خمسمائة عام ، ومن وراء ذلك سبع أرضين يضيء نورها

__________________

(١) سورة ق : ١٥.

(٢) في بعض النسخ : «أوجد الله».

(٣) في الخصال : «وجدد عالما».

(٤) الخصال : ج ٢ / ٦٥٢ ، ح ٥٤ ، ط قم مؤسسة النشر الإسلامي ١٤١٤ و «التوحيد» : ص ٢٧٧ ، باب ٣٨ ، ح ٢.

(٥) الخصال : ج ٢ / ٦٣٩ ، ح ١٤.

٤٢٢

لأهلها ، ومن وراء ذلك سبعون ألف أمة خلقوا على أمثال الطير ، وهو وفرخه في الهواء لا يفترون عن تسبيحة واحدة ، ومن وراء ذلك سبعون ألف أمة خلقوا من ريح ، طعامهم ريح وشرابهم ريح ، وثيابهم من ريح ، وآنيتهم من ريح ، ودوابهم من ريح ، لا تستقرّ حوافر دوابّهم إلى الأرض إلى قيام الساعة ، أعينهم في صدورهم ، ينام أحدهم نومة واحدة ، ينتبه ورزقه عند رأسه ، ومن وراء ذلك ظل العرش ، وفي ظل العرش سبعون ألف أمّة ما يعلمون أنّ الله خلق آدم ولا ولد آدم ، ولا إبليس ولا ولد إبليس ، وهو قوله تعالى : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (١)» (٢).

ومنها ما رواه في «الكافي» عن ابن عباس ، قال : سئل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الخلق ، فقال : «خلق الله ألفا ومائتين في البرّ ، وألفا ومائتين في البحر ، وأجناس من بني آدم سبعون جنسا ، والناس ولد آدم ما خلا يأجوج ومأجوج» (٣).

ومنها ما رواه في «البصائر» عن مولانا أبي الحسن عليه‌السلام قال : «إن لله خلف هذا النطاق زبرجدة خضراء ، فمن خضرتها (٤) اخضرت السماء ، قيل (٥) : وما النطاق؟ قال : الحجاب ، ولله وراء ذلك سبعون ألف عالم ، أكثر من عدد الإنس والجن ، كلهم يلعن فلانا وفلانا» (٦).

ومنها أخبار القباب ، ففي «الكافي» عن أبي حمزة ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام ليلة وأنا عنده ونظر إلى السماء : يا أبا حمزة! هذه قبة أبينا آدم ، وإن لله عزوجل

__________________

(١) النحل : ٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥٧ / ٣٤٨ ، ح ٤٤.

(٣) بحار الأنوار : ج ٦ / ٣١٤ ، عن «الكافي».

(٤) في البحار : «منها اخضرت السماء».

(٥) في البحار : قلت ـ والقائل هو الراوي عبيد الله بن عبد الله الدهقان ـ.

(٦) بحار الأنوار : ج ٥٨ / ٩١ ، ح ١٠ ، عن «منتخب البصائر».

٤٢٣

سواها تسعة وثلاثين قبة فيها خلق الله ما عصوا الله طرفة عين» (١).

وفيه ، عن عجلان أبي صالح ، قال : دخل رجل (٢) على أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له : جعلت فداك! هذه قبة آدم؟ قال : «نعم ، ولله قباب كثيرة ، ألا إنّ خلف مغربكم (٣) هذا تسعة وثلاثين مغربا أرضا بيضاء مملوة خلقا يستضيئون بنورنا لم يعصوا الله عزوجل طرفة عين ، لا يدرون أخلق الله آدم أم لم يخلقه ، يتبرءون من فلان وفلان» (٤).

وفي «البصائر» عن الصادق عليه‌السلام : «إنّ من وراء عين شمسكم هذه أربعين عين شمس فيها خلق كثير ، وإن من وراء قمركم أربعين قمرا فيها خلق كثير لا يدرون أن الله خلق آدم أم لم يخلقه ... إلخ» (٥).

وفيه عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام أنه يقول : «إن من وراء شمسكم هذه أربعين عين شمس ، ما بين شمس إلى شمس أربعون عاما فيها خلق كثير ما يعلمون أنّ الله عزوجل خلق آدم أو لم يخلقه ، وإن من وراء قمركم هذا أربعين قمرا ، ما بين قمر إلى قمر مسيرة أربعين يوما فيها خلق كثير ما يعلمون أن الله عزوجل خلق آدم أو لم يخلقه ... إلخ» (٦).

وفي خبر السحابة المروي بطرق عديدة عن سلمان رضي الله عنه ... إلى أن قال : وقمنا ندور في قاف ، فسألت مولاي أمير المؤمنين عليه‌السلام مما وراء قاف ، فقال :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٧ / ٣٣٥ ، عن روضة الكافي ، ح ٣٠٠.

(٢) في بحار الأنوار : عن عجلان أبي صالح قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قبة آدم فقلت له : هذه قبة آدم؟ ...

(٣) في البحار : «أما إن خلق مغربكم ...».

(٤) بحار الأنوار : ج ٢٧ / ٤٥ ، ح ٥ ، عن «البصائر» ص ١٤٥.

(٥) بحار الأنوار : ج ٥٧ / ٣٢٩ ، عن «البصائر».

(٦) بحار الأنوار : ج ٢٧ / ٤٥ ، عن «البصائر» ص ١٤٥.

٤٢٤

«ما ورائه (١) أربعون دنيا ، كل دنيا مثل هذه الدنيا أربعين مرة».

فقلنا : كيف علمك بذلك؟

فقال عليه‌السلام : كعلمي بهذه الدنيا ومن فيها وبطرق السماوات والأرضين» (٢).

وعن ابن عباس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : إن من وراء هذه الآفاق عالما لا يصل إليه أحد غيري ، وأنا المحيط بما وراء ، وعلمي به كعلمي بدنياكم هذه ، وأنا الحفيظ الشهيد عليها ، ولو أردت أن أجوب الدنيا بأسرها والسموات السبع والأرضين في أقل من طرفة عين لفعلت ، لما عندي من الاسم الأعظم ... إلخ» (٣).

فقبة أبينا آدم هي محدد الجهات المحيط بجميع أجسام هذا العالم ، ولكونه بحركته بجميع أجسام هذا العالم ، ولكونه بحركته الدورية وعاء للزمان عبر عنه بقبة الزمان على بعض الوجوه في دعاء السمات ، حيث قال : وبمجدك الذي ظهر لموسى بن عمران على قبة الزمان (٤) ـ بناء على قراءته بالزاي المعجمة ـ.

وإنما قلنا : على بعض الوجوه لأن فيها وجوها أخر على هذه القراءة ، إذ قد فسرت بالمساجد وبيوت الأنبياء ، وبيت المقدس ، وبالقبة التي بناها موسى وهارون على التيه بأمره تعالى فكان معبدا لهم.

قيل : وقد تكرر ذكر هذه القبة في التوراة.

__________________

(١) في «نفس الرحمن في فضائل سلمان» : قال عليه‌السلام : «ورائه ما لا يصل إليكم علمه» ، فقلنا : تعلم ذلك يا أمير المؤمنين عليه‌السلام؟ فقال عليه‌السلام : «علمي بما ورائه كعلمي بحال هذه الدنيا وما فيها ... إلخ».

(٢) نفس الرحمن للنوري : ص ٤٧١ ـ ٤٧٦ ، ورواه البحراني في «مدينة المعاجز» عن «منهج التحقيق».

(٣) بحار الأنوار : ج ٥٧ / ٣٣٦ ، ح ٢٦.

(٤) مصباح المتهجد ـ البلد الأمين : ص ٩١ ، جمال الأسبوع : ص ٣٢٣ ، وعنهما البحار : ج ٩٠ ، ص ٩٦.

٤٢٥

وفي تفسير القمي عن الصادق عليه‌السلام في حديث إبراهيم على نبينا وآله وعليه‌السلام أنه لما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر الله إبراهيم أن يبني البيت ، فقال : يا رب في أي بقعة؟ قال : في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها الحرم فلم تزل القبة التي أنزلها على آدم قائمة حتى كان أيام الطوفان ، أيام نوح ، فلما غرقت الدنيا رفع الله تلك القبة وغرقت الدنيا إلا موضع البيت فسميت البيت العتيق (١).

ومنها خبر الخيام المروي في «البصائر» عن أبي بصير قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فركض برجله الأرض فإذا بحر فيه سفن من فضة ، فركب وركبت معه حتى انتهى إلى موضع في خيام من فضة ، فدخلها ، ثم خرج ، فقال :

«رأيت الخيمة التي دخلتها أو لا؟» فقلت : نعم ، قال : «تلك خيمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأخرى خيمة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والثالثة خيمة فاطمة عليها‌السلام ، والرابعة خيمة خديجة ، والخامسة خيمة الحسن عليه‌السلام ، والسادسة خيمة الحسين عليه‌السلام ، والسابعة خيمة علي بن الحسين عليه‌السلام والثامنة خيمة أبي عليه‌السلام والتاسعة : «خيمتي وليس أحد منا يموت إلا وله خيمة يسكن فيها» (٢).

وفي «البصائر» خبر طويل في إرائة أبي جعفر عليه‌السلام جابرا ملكوت الأرض ، وفيه : فقال لي : «هل تدري أين أنت؟» ، قلت : لا ، قال : «أنت واقف على عين الحياة التي شرب منها الخضر عليه‌السلام» ، وخرجنا من ذلك العالم إلى عالم آخر ، فسلكنا فيه فرأينا كهيئة عالمنا في بنائه ومساكنه وأهله ، ثم خرجنا إلى عالم ثالث كهيئة الأول والثاني حتى وردنا خمسة عوالم ، قال : ثم قال عليه‌السلام : «هذه ملكوت الأرض ولم يرها إبراهيم ، وإنما رأى ملكوت السموات ، وهي إثنا عشر عالما ، كل عالم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٢ / ٩٩ ، ح ٦ ، عن «تفسير القمي» : ص ٥١ ـ ٥٣.

(٢) بصائر الدرجات : ص ١١٩ ، وعنه «البحار» : ج ٦ / ٢٤٥ ، ح ٧٥ ، وج ٤٧ : ص ٩١ ، ح ٩٧ ، وج ٥٧ / ٣٢٨.

٤٢٦

كهيئة ما رأيت ، كلّما مضى منا إمام سكن أحد هذه العوالم حتى يكون آخرهم القائم في عالمنا الذي نحن ساكنوه» (١) الخبر.

وفيه : إنّ عالم المدينة ـ وأراد به نفسه ـ يقطع اثنى عشر شمسا واثنى عشر قمرا ، واثنى عشر مشرقا واثنى عشر مغربا واثنى عشر برا واثنى عشر بحرا واثنى عشر عالما ...» (٢) الخبر.

ومنها ما رواه ابن طاووس في كتاب «النجوم» قال : إن رجلا أتى علي بن الحسين عليهما‌السلام وعنده أصحابه فقال له : من الرجل؟ قال : أنا منجم قائف عرّاف ، فنظر إليه ثم قال : هل أدلّك على رجل قد مرّ منذ دخلت علينا في أربعة آلاف عالم؟ قال : من هو؟ قال عليه‌السلام : أما الرجل فلا اذكره ، ولكن إن شئت أخبرتك بما أكلت وادّخرت في بيتك ، قال : نبئني ، قال : أكلت في هذا اليوم حيسا (٣) ، وأما في بيتك فعشرون دينارا ، منها ثلاثة دنانير وازنة ، فقال له الرجل : أشهد أنك الحجة العظمى والمثل الأعلى وكلمة التقوى ، فقال له : وأنت صدّيق امتحن الله قلبك بالإيمان فأثبت (٤).

وفي «البصائر» ما يقرب منه ، إلا أن فيه : هل أدلك على رجل قد مر مذ دخلت علينا في أربعة عشر عالما ، كل عالم أكبر من الدنيا ثلاث مرات لم يتحرك من مكانه (٥).

__________________

(١) البصائر : ص ، وعنه «بحار الأنوار» : ج ٥٧ / ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

(٢) بصائر الدرجات : ص ٤٠١ ، ح ١٦ ، مع تفاوت يسير.

(٣) الحيس : بفتح الحاء المهملة وسكون الياء ـ : طعام مركب من تمر وسمن ، وسويق. وفي «البحار» : (الجبن) بالجيم والباء الموحدة.

(٤) فرج المهموم في معرفة الحلال والحرام من النجوم : ص ١١١ ، ط النجف ، وعنه «بحار الأنوار» : ج ٤٦ / ٤٢ ، ح ٤٠.

(٥) بصائر الدرجات : ج ٨ / ٤٠٠ ـ ٤٠١ ، ح ١٣.

٤٢٧

تنبيه

لا يخفى عليك أن المقصود الأصلي في المقام من نقل الأخبار المتقدمة إنما هو التنبيه على كثرة العوالم وتعددها ووسعتها ، وجميع ما سمعت في الأخبار المتقدمة إنما هو فيما وراء هذه العالم الجسماني الناسوتي وأما هذا العالم بما فيه من الأرواح القدسية والإنسية والأجسام الفلكية العنصرية البسيطة والمركبة والمواليد الثلاثة فلا يخفى عليك ما فيه من الوسعة ، ولعلك تسمع فيما يأتي في الآيات المتعلقة بخلق السموات والأرض كلاما مشبعا في ذلك ، وكفاك للدلالة على السعة المكانية ملاحظة خبر زينب العطارة المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المستغني لشهرته عن الذكر (١).

وغيره من الأخبار الكثيرة التي منها ما روي عن مولانا السجاد عليه‌السلام أن لله ملكا يقال له : حزوقائيل ، له ثمانية عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام فخطر له خاطر : هل فوق العرش شيء فزاد الله مثلها أجنحة أخرى فكانت له ست وثلاثون ألف جناح ما بين الجناح والجناح خمسمائة عام ، ثم أوحى الله إليه : أيها الملك طر! فطار مقدار عشرين ألف عام لم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش ، ثم ضاعف الله له في الجناح والقوة وأمره أن يطير فطار مقدار ثلاثين ألف عام لم ينل أيضا ، فأوحى الله : أيها الملك! لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوتك لم تبلغ إلى ساق عرشي ، فقال الملك : سبحان ربي الأعلى ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوها في سجودكم» (٢). ويدل على السعة الزمانية أيضا أخبار كثيرة.

__________________

(١) الكافي : ج ٨ / ١٥٣ ، و «التوحيد» : ص ١٩٩ ، وعنهما «البحار» : ج ٦٠ / ٨٣ ـ ٨٥ ، ح ١٠.

(٢) تفسير نور الثقلين : ج ٥ / ٥٥٤ ، ح ١٣ ، عن «روضة الواعظين».

٤٢٨

إزهاق وإحقاق

من المذاهب السخيفة المحكية عن بعض أوساخ الفلاسفة أنّ العالم واحد ، وهو المحاط بمحدّب محدّد الجهات ، واستدلّوا له بوجوه :

الأوّل : أنه لو وجد عالم آخر كان شكله الطبيعي الكرة ، فيلزم وقوع الخلاء بين الكرتين.

وتوهم أنّه لا خلاء ولا ملأ مدفوع بكونه محصورا بين الحاصرين ، فالبعد الّذي هو المكان حاصل.

الثاني : لو وجد عالمان في كل منهما نار وأرض لزم أن يكون للأجسام المتّفقة الطبيعة أحياز مختلفة ، وهو باطل ، لأنّ طبعها يقتضي جواز الاتّصال ، فإذا اتّصلت في أحد المكانين كان ذلك المكان طبيعيّا لها ، فلا يكون الآخر طبيعيّا وإلّا لكان لجسم واحد مكانان طبيعيّان ، وهذا خلف.

الثالث : أنّه قد ثبت عندهم أنّ فوق محدّد الجهات لا خلاء ولا ملأ ، فلو كان هناك عالم آخر لكان ملأ ، وهذا خلف.

ولا يخفى عليك ضعف هذه الوجوه ، أمّا الأوّل فلأنّه يجوز أن لا يكون كرويا ، ومجرد كون الطبيعي ذلك لا يقضي بالمنع ، إذ مع تسليمه ربما يمنع عنه المانع فيشكّل على غيره قسرا.

مع أنّه مبنيّ على امتناع الخلاء ، والكلام فيه مشهور ، مضافا إلى أنّه يجوز أن يكون بين الكرتين أجسام أخر بحيث يكون ذلك البعد مكانا طبيعيّا لها مع فرض كرة محيطة على جميع الكرات المتماسّة بنقطة أوّلا ، وأن يكون هذا العالم بجملته مركوزا في ثخن فلك آخر كالتدوير في ثخن الحامل فلا يلزم الخلاء.

وأما الثاني فلجواز أن يكون في ذلك العالم أجسام أخر مخالفة لأجزاء هذا

٤٢٩

العالم جنسا ونوعا وطبيعة ودعوى انحصار الأجسام أو الجواهر أو الموجودات الممكنة فيما ذكروه شخصا أو جنسا أوّل الكلام ، مضافا إلى ضعف ما تمسّكوا به في امتناع استحقاق الجسم مكانين.

وأمّا الثالث فللمنع من ثبوته لضعف ما تمسّكوا به مضافا الى بعض ما مرّ في الجواب عن الأوّل.

وبالجملة فبمثل هذه الوجوه لا ينبغي انكار عالم آخر غير هذا العالم المحسوس المشاهد ، كما أنّه لا ينبغي نفيه بمجرد الاستبعاد كما فعله معلّم الفلاسفة أرسطاطاليس حيث إنّه أبطل القول بالمثل الافلاطونيّة ولم يبرهن عليه إلّا أن قال : يلزم أن يكون في الخارج أملاك سوى هذه الأفلاك ، وعناصر سوى هذه العناصر ، وحركات وسكونات ، إلى غير ذلك.

وهذا كما ترى مجرّد استبعاد لا ينفى به المحتمل بعد شهادة جمّ غفير من أرباب المشاهدات والمكاشفات بوجوده بل بمشاهدته ، سيّما بعد ما سمعت من الأخبار الكثيرة الدالّة على تعدّد العوالم ، وأنّ هذه القبّة واحدة من قباب كثيرة ، وأنّ فوق العرش الّذي يسمّونه محدّد الجهات عوالم كثيرة ومخلوقات لا تحصى من الكروبيّين والحجب والسرادقات وغير ذلك مما تظافرت به الروايات.

بل الظاهر من كثير الأخبار أنّ جميع ذلك من أجزاء هذا العالم ، وهناك عوالم أخر.

ولذا قال مولانا الصادق عليه‌السلام فيما رواه في التوحيد والخصال : لعلّك ترى أنّ الله عزوجل إنّما خلق هذا العالم الواحد ، أو ترى أنّ الله تعالى لم يخلق بشرا غيركم ، بلى والله لقد خلق الله ألف ألف عالم وألف ألف آدم ، وأنت في آخر تلك

٤٣٠

العوالم وأولئك الآدميين (١).

وفيما رواه في الخصال ومنتخب البصائر : أنّ لله عزوجل اثنى عشر ألف عالم إلى آخر ما مرّ (٢).

وفي تفسير القمى عن ابن عبّاس قال : إنّ الله عزوجل خلق ثلاثمائة عالم وبضعة عشر عالما خلف قاف ـ وخلف البحار السبعة ، لم يعصوا الله طرفة عين قطّ ، ولم يعرفوا آدم ولا ولده ، كل عالم منهم يزيد عن ثلاثمائة وثلاثة عشر مثل آدم وما ولد ، فذلك قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣)) (٤).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الّتي مضت إلى بعضها الإشارة.

وحمل هذه العوالم على العوالم الكليّة الروحانيّة ، وانحصار الجسماني فيما ذكروه بعيد ، بل المتأمّل في أخبار الباب يقطع بخلافه ، فمن ليس من أهل التصديق والإقرار فلا ينبغي له البدار الى الإنكار ، سيّما بعد تظافر الشواهد بل الأدلّة على المذهب المختار.

نمط آخر في تعدّد عالم الأكوان

قد سمعت في خبر الخصال (٥) والبصائر ، وغيرهما من الأخبار المتقدّمة بأنّ الإمام عليه‌السلام هو الحجّة على جميع تلك العوالم ، بل المستفاد من الأخبار المستفيضة أنّ له الولاية المطلقة في جميع العوالم الكليّة والجزئية في الأمور التكوينية

__________________

(١) التوحيد ص ٢٠٠ ـ الخصال ص ١٨٠ وعنهما بحار الأنوار : ج ٥٧ / ٣٢١ ح ٣.

(٢) الخصال ص ١٧٢ وعنه بحار الأنوار ج ٥٧ / ٣٢٠ ح ٢.

(٣) التكوير : ٢٩.

(٤) تفسير القمي ص ٧١٥ وعنه بحار الأنوار ج ٥٧ / ٣٢٢ ح ٤.

(٥) الخصال : ١٧٢.

٤٣١

والتشريعيّة ، لأنّه الحجاب والباب في المبدأ والمآب وهو المراد بقول الحجّة عجّل الله فرجه : «أشهاد وأعضاد» (١).

مشيرا إلى فحوى قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (٢).

وقد سمعت خبر ابن سنان ، والخطبة الغديريّة الأميرية ، وغيرهما فيما تقدّم ، فهم المشيّة الّتي خلقها الله بنفسها ، وخلق الأشياء بها (٣) كما أشار مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام في الخطبة الّتي رواها السيّد الّرضى رضى الله عنه في نهج البلاغة : فإنّا صنائع ربّنا والنّاس بعد صنائع لنا» (٤)

واللام للصلة وإن أفاد العليّة أيضا ، ولذا قال مولينا الحجّة عجّل الله فرجه على ما رواه في الاحتجاج عنه عليه‌السلام : «ونحن صنائع ربّنا والخلق بعد صنائعنا» (٥).

فقد استفيد منه قسمان من العليّة ، وأمّا الآخران فبوجوه قد مرّت إلى بعضها الاشارة ، فالمشيّة هي آدم الأوّل.

وفي بعض خطب أمير المؤمنين عليه‌السلام الإشارة إليه ، بل التصريح ، ومن صلبه ذلك الألف ألف آدم ، والألف ألف عالم ، ولذا قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (٦).

__________________

(١) مفاتيح الجنان ص ١٣٠ ط طهران ١٣٩١ نقلا عن الشيخ أنه صدر من الناحية المقدسّة على يد الشيخ الكبير أبي جعفر محمد بن عثمان هذا التوقيع الشريف : اقرأ في كل يوم من أيّام رجب ...

(٢) الكهف : ٥١.

(٣) بحار الأنوار ج ٤ ص ١٤٥ عن توحيد الصدوق ، ومجمع النورين ص ١٢٥.

(٤) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج ١٩ / ١٠٤.

(٥) غيبة الشيخ ص ١٨٤ ـ ١٨٥ ـ الاحتجاج ص ٢٥٣.

(٦) سورة الأنبياء : ١٠٧.

٤٣٢

فإنّه هو الرحمة الكليّة والمشيّة الإلهيّة الّتي خلقت العوالم بجملتها من أشعّة نوره ، وظهرت بفاضل ظهوره ، بل الأنبياء عليهم‌السلام خلقوا كافّة من رشحات ناسوته وطفحات رحموته ، ولذا ورد في الخبر الّذي رواه في البحار عن ابى الحسن البكري (١) أستاذ الّشهيد الثاني في كتاب الأنوار عن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ نور نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما سبّح الله في الاثنى عشر حجابا وفي العشرين بحرا حسب ما فصّل في الخبر ، قال : فلمّا خرج من آخر الأبحر قال الله تعالى : يا حبيبي ويا سيّد رسلي ويا أوّل مخلوقاتي ، ويا آخر رسلي أنت الشفيع يوم المحشر ، فخرّ النور ساجدا ثم قام فقطرت منه قطرات كان عددها مائة ألف وأربعة وعشرين ألف قطرة فخلق الله تعالى من كلّ قطرة من نوره نبيّا من الأنبياء ، فلمّا تكاملت الأنوار صارت تطوف حول نور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تطوف الحاجّ حول بيت الله الحرام ... الخبر بطوله (٢) والأخبار بهذا المعنى كثيرة ، ولذا قال شيخنا المجلسي في أوّل البحار : إنّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليه‌السلام الوسائل بين الحق والخلق في افاضة جميع الرّحمات والعلوم والكمالات على جميع الخلق ، فكلّما يكون التوسّل بهم

__________________

(١) البكري أبو الحسن أحمد بن عبد الله البكري ولكنّه ليس من أساتذه الشهيد الثاني ، بل هو من العلماء الإماميّة المتقدّمية ولتشيّعه صار متّهما بالكذب وانتسابه إلى المذاهب الفاسدة وكتابه «الأنوار» في مولد النبيّ المختار كما ترجمه شيخنا المجيز آقا بزرگ الطهراني قدس‌سره في سبعة أجزاء كما ذكره كشف الظنون وجعله العلامة المجلسي مع كتابيه الآخرين : «مقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام ووفاة فاطمة الزهراء سلام الله عليها» من مآخذ البحار عند ذكر كتب الخاصّة ونسب الثلاثة الى أبى الحسن البكري المصري الذي قرأ عليه الشهيد الثاني بمصر وتوفى بها سنة (٩٥٣) ولكن نسبة الكتب الثلاثة الى ذلك المصري سهو بل هي من مصنّفات البكري المتقدّم وصرّح به ابن تيميّة المتوفى (٧٢٨) في كتابه منهاج السنّة ، راجع الذريعة ج ٢ / ٤٠٩ ـ ٤١٠ رقم ١٦٣٨.

(٢) بحار الأنوار ج ٥٧ / ١٩٨ ـ ٢٠٠ ، ح ١٤٥.

٤٣٣

والإذعان بفضلهم أكثر كان فيضان الكمالات من الله تعالى أكثر ، انتهى (١).

فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصيائه عليهم‌السلام هم الواسطة في إيصال الفيوض الإلهية على جميع من سواهم في جميع العوالم المتناهية الامكانيّة ، بلا فرق بين إفراد العالم وجمعه ، لشموله للكلّ على الوجهين شمول الكلّ لأجزائه أو الكلّى لجزئيّاته.

فاذا اعتبر العالم مفردا على الإطلاق غير مضاف ولا مقيّدا بشيء دخل فيه جميع ما سوى الله ، وإذا اعتبر متعددا ، اثنين فصاعدا فلا بدّ من فصل ذاتيّ أو عرضيّ مقسّم للجامع. فيقال : إنّه اثنان عالم الغيب والشهادة ، أو الظاهر والباطن ، أو الأمر والخلق ، أو العقل والمعقول ، أو الوجود المطلق والمقيّد ، أو المادّى والمجرّد ، أو البسيط والمركّب ، لكن لا يخفى عليك أنّ التجرّد والبساطة لا ينافيان التركيب في رتبة الإمكان ولو من المادّة والصورة ، فإنّ كلّ ممكن زوج تركيبىّ حتى العقل ، بل المشيّة أيضا وإن اضمحلّت فيهما سيّما الثاني جهة الماهيّة الّتي توجب التركيب في كلّ ممكن ، بل المراد التجرّد عن المادة العنصريّة والمدّة الزمانيّة.

فما ربما يحكى عن شيخنا المجلسي في أوّل البحار من الحكم بكفر من قال : بإثبات مجرّد غير الله تعالى ليس في محلّه على الإطلاق بل لعلّه لا نزاع فيه أصلا على أنّ عبارة المجلسي ليست صريحة في ذلك ، بل لعلّها ظاهرة في خلافه حيث قال : المعنى السّادس ممّا يطلق عليه العقل ما ذهب اليه الفلاسفة وأثبتوه بزعمهم من جوهر مجرّد قديم لا تعلّق له بالمادّة ذاتا ولا فعلا ، والقول به كما ذكروه مستلزم لإنكار كثير من ضروريّات الدين من حدوث العالم وغيره ، وبعض المنتحلين منهم للإسلام أثبتوا عقولا حادثة وهي أيضا على ما أثبتوها مستلزمة لإنكار كثير من الأصول المقرّرة الاسلاميّة مع أنّه لا يظهر من الأخبار وجود مجرّد

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١ / ١٠٣.

٤٣٤

سوى الله .... الى أن قال :

فلو قال أحد بجوهر مجرّد لا يقول بقدمه ولا بتوقّف تأثير الواجب في الممكنات عليه ، ولا بتأثيره في خلق الله الأشياء ويسمّيه العقل ويجعل بعض الأخبار الواردة في العقل منطبقا عليه فيمكنه أن يقول : إنّ إقباله عبارة عن توجّهه إلى المبدأ ، وإدباره عبارة عن توجّهه الى النفوس لإشراقه عليها. انتهى (١).

وظاهره عدم الثبوت لا ثبوت العدم فضلا عن التكفير بإثباته.

وأمّا العوالم الثلاثة فالوجود الحقّ والوجود المطلق الذي هو الفعل والارادة والمشيّة ، والوجود المقيّد الذي ما دونه من عالم الخلق ، والى هذه الثلاثة الاشارة بقوله في الحديث القدسي : «كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق كى أعرف» (٢) فالكنز المخفي هو غيب الغيوب والمجهول المطلق لا اسم له ولا رسم ، الطريق مسدود ، والطلب مردود ، وجوده إثباته ، ودليله آياته ، والمحبّة الكليّة هي عالم المشيّة أوّل من قرع باب الإمكان وأشرق على أفق الأكوان ، والثالث المخلوق الذي هو في رتبة المفعول.

وإذا اعتبرت الثلاثة في رتبة الإمكان فهي جبروت المشيّة بالصفات الفعليّة ، وملكوت المجرّدات ، وناسوت الماديّات العنصريّة ، والمدّة الزمانيّة ، أو في رتبة المفعول فهي العقول المجردة من المادّة ذاتا وفعلا ، والنفوس المجردة ذاتا لا فعلا ، والأجسام الغاسقة في ظلمة الهيولى أو أنّها الأرواح الشاملة للعقول والنفوس والأبدان والمثال الذي هو برزخ كلّي بينهما ، بل العوالم الثلاثة سارية في العمق

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١ / ص ١٠١ ـ ١٠٣.

(٢) حديث مشهور نقل عن داود النبي ونقله بعضهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ربه. قال ابن عربي في الفتوحات ج ٢ / ٣٩٢ : ورد في الحديث الصحيح كشفا الغير الثابت نقلا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ربّه قال : «كنت كنزا ...».

٤٣٥

الأكبر طولا وعرضا كلّا وبعضا ، حيث إنّ له بكلّ الإعتبار جهتين وبينهما برزخ لا يبغيان.

والعوالم الأربعة هي اللاهوت الّذي لا ينبغي فيه إلّا السكوت خضوعا للحيّ الّذي لا يموت ، والجبروت هو عالم الإبداع والعقل ، والملكوت والناسوت ، وفي رتبة الإمكان بل الأكوان هي الرحموت والجبروت وتالياه ، فالرحموت عالم المشيّة لأنّها الرّحمة الّتي وسعت كلّ شيء. والجبروت بهذا الاعتبار هو عالم العقول ، كما أنّ المراد بالملكوت النفوس.

أو أنّها هي الأركان الأربعة لعرش الرحمة والكرامة الّذي استوى عليه الرحمن برحمانيّته ، وهي المشار إليها بقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (١) وحملتها الملائكة الأربعة ، ومن الأنبياء أولو العزم الأربعة عليهم‌السلام ، وأمّا خامسهم وهو نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو الشاهد المهيمن عليهم وعلى جميع أهل العالم ، (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٢) ، ولذا جعل كتابه مصدّقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، وباقيات العوالم الجزئيّة في ثخن العمق الأكبر الّذى هو الحامل المحرّك لها حول مركز العالم كثيرة جدّا.

كالطبائع الأربعة الّتي هي حرارة الكون المتكونة من حركة بحر الوجود ومن دوام دورانه على نفسه على خلاف التوالي دوران فناء وتصرّم وانقضاء ، وعلى أمر ربّه بالتوالي دوران تجدّد واستفاضة وبقاء.

وبرودته الذاتيّة اللازمة لإمكانه وافتقاره فإنّ البرودة طبيعة الموت.

__________________

(١) الروم : ٤٠.

(٢) النساء : ٤١.

٤٣٦

ورطوبته الحاصلة من جعله قابلا مستعدّا بعد أن لم يكن شيئا أصلا ، فإنّه سبحانه هو معطي القابليّات والاستعدادات ، فأعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى الى ما يحصل به الفعليّة والكمال.

ويبوسته الحافظة للعطايا المفاضة عليه ، وهذه الطبائع الأربعة سارية في جميع أجزاء الكون. والكون متقدّم بها قيام تحقّق ، ولذا قيل مشيرا الى ذلك والى ما تقدّم من أنّ لكلّ شيء ملكا وملكوتا وبرزخا بينهما : «إنّ كلّ شيء مثلّث الكيان مربع الكيفيّة ، وهذا هو الحقّ في تفسير العبارة الّتي قضيّة كليّتها سريان حكمها في كلّ شيء ، لا ما قيل : من أنّ المقصود المواليد الثلاثة والأركان الأربعة الّتي هي العناصر الأربعة.

وأمّا الأربعة المحسوسة الملموسة فهي من أشعّة ظهورها الساطعة في عالم الناسوت على وجه يقتضيه المظهر ، وحيث إنّ ثنتين منها فاعلتان ، والأخريين منفعلتان ، حصلت من اجتماع كلّ مع كلّ الأصول والأربعة الّتي هي الإمكان والعناصر والأسطقسّات ، كلّ باعتبار ، ومن تركّبها وازدواجها المواليد الثلاثة بأنواعها وأصنافها وجزئياتها وخواصّها وآثارها ما يترتّب عليها ، وكالنفوس الأربعة المذكورة في خبر كميل والأعرابي عن مولينا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام (١).

وحيث إنّ بيانها وتحقيق مراتبها يفضي الى التطويل اقتصرنا فيها كغيرها من العوالم السابقة واللاحقة على نوع الإشارة روما للاختصار وحذرا من التكرار ، فإنّك ستسمع الكلام في كلّ منها إن شاء الله تعالى في الموضع اللائق به.

__________________

(١) رواه المجلسي قدس‌سره في البحار ج ٦١ ص ٨٤ ـ ٨٥ عن بعض كتب الصوفيّة ، ولكن قال : هذه الاصطلاحات لم تكد توجد في الاخبار المعتبرة.

٤٣٧

والعوالم الخمسة هي الأربعة الكونيّة المتقدّمة بعد عالم الأزل ، وإن كانت حضرة التنزيه تأبى من عدّه في عداد خلقه ، (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (١) ، إلّا أنّ بينونته عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة ، داخل في الأشياء لا كولوج شيء في شيء ، وخارج لا كخروج شيء من شيء ، (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ). الى غير ذلك من العوالم الكليّة والجزئيّة الّتي لا يمكن إحصائها واستقصائها ، ولذا عبّر عنها (٢) ، العالم عليه‌السلام بألف الف عالم ، مشيرا الى نوع الكثرة والزيادة ، وإلّا فلعلّها على فرض كونها متناهية أكثر من ذلك بكثير ، بل العوالم المندرجة تحت عالم الإمكان لا تحدّ بحدّ ولا تعدّ بعدّ ، إذ لا نهاية لكلّ جزئيّ من جزئياته ، فسبحان الله ذي الملك والملكوت ، سبحان الله ذي العزّ والجبروت ، سبحان الحيّ الذي لا يموت.

تذييل وتكميل

قال البيضاوي : إنّ في قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) دليلا على انّ الممكنات كما هي مفتقرة الى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة الى المبقى حال بقائها بناء على ما ذكر سابقا أنّ معنى التربية تبليغ الشيء الى كماله شيئا فشيئا ، وبيّنه شيخنا البهائى في حواشيه بأنّ الصفة المشبّهة دالّة على الثبوت والاستمرار فتربيتها الّتي هي تبليغها على التدريج حدّ كمالها مستمرّة ثابتة له تعالى ، ومن جملة ذلك إبقائها الى الأمد الذي يقتضيه حالها بل هو من أعظم افراد التربية التي

__________________

(١) المائدة : ٧٣.

(٢) المجادلة : ٧.

٤٣٨

يقضيه مقام التمدّح.

واعترض صدر المحقّقين على البيضاوي بأنّه ليس فيه دليل على ذلك إذ الشيء التدريجي لما كان حصوله على هذا الوجه فجميع زمان وجوده هو بعينه زمان حدوثه ، فالنّامى مثلا زمان نموّه من أوّل نشوه إلى منتهى كماله المقداري هو زمان حدوث مقداره الحاصل له شيئا فشيئا وكفعل الصلوة فان زمانه من لدن أوّل تكبيرة الافتتاح إلى آخر تسليم الاختتام كلّه وقت الحدوث لا وقت البقاء.

نعم فيه دليل على أنّ العالم تدريجيّ الحصول متدرّج في التكوّن بناء على أنّ جواهر هذا العالم والصّور الطّبيعيّة للأجرام السّماويّة والأسطقسيّة كلّها تدريجيّة الكون سيّالة الحصول غير قارّة الوجود كالحركة القطعيّة ومقدارها من الزّمان (١).

قلت : أمّا دلالة الآية على حدوث العالم بجميع أجزائه وجزئيّاته بمعنى افتقاره إلى القيّوم المبدع فممّا لا خفاء فيها غير أنّ معنى الحادث يختلف باختلاف أجزائه لتبعيّته للحوادث فحدوث عالم الملك من الأجسام الفلكيّة والعنصريّة أعنى من المحدّد الأعلى إلى الأرض السّابعة السّفلى حدوث زماني أي حدثت مصاحبة مساوقة له من دون تقدّم لأحدهما على الآخر فانّهما كفرسي رهان ورضيعي لبان ، بل هما كذلك مع المكان فالثلاثة متساوقة في الوجود وحدوث عالم الملكوت ، أي الأرواح المجرّدة دهريّ بنحو ما مرّ في الزّمان وحدوث عالم الجبروت.

أعني الفعل والإبداع سرمديّ والكلّ حادث ذاتي ، وإن كان الثّاني قديما

__________________

(١) تفسير صدر المتألهين ج ١ / ٨١ ـ ٨٢.

٤٣٩

زمانيا لسبقه على الزّمان بل الزّمان الّذى ليس له أوّل ولا آخر زمانيّ بالنّسبة إلى عالم الدّهر كحلقة ملقاة في فلاة قيّ وكذلك الثالث قديم دهريّ والنّسبة ما سمعت ، وتوهّم أنّ العالم كلّه بجميع أجزائه حادث زمانيّ أى مسبوق بالزّمان نظرا إلى انّه الظّاهر من الأدلّة الشّرعيّة والمتحصّل من مذهب المتشرّعة ممّا يقضى ببطلانه ضرورة الوجدان ، فإنّ من جملة أجزاء العالم هو الزّمان ، وكيف يتعقّل كونه مسبوقا بعدم زماني ضرورة أنّه يلزم من فرض عدمه تحقّق وجوده ، بل كيف يتصوّر حدوث السّرادقات الدّهريّة والسّرمديّة في الزّمان مسبوقة به ، مع أنّه لا يصحّ نسبتها إلى الزّمان أصلا ألا ترى أنّ الاعداد والنّسب المقداريّة الّتي بينها بل جميع لوازمها كزوجيّة الإثنين وكونه نصف الأربعة مثلا من جملة المحدثات ، ومن أجزاء العالم مع أنّه لا يصحّ نسبتها إلى الزّمان أصلا بأن يقال إنّما خلقت منذ ألف سنة أو أزيد أو أقلّ.

وتوهّم كونها من الأمور الاعتباريّة الّتي لا وجود لها في الخارج كما ترى ، لضرورة أن لا تمايز في الاعدام وسيجيء تمام الكلام عند قوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) وقوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، الآية (٢).

وأمّا دلالتها على افتقار الممكنات إلى المبقي فالإنصاف أنّه لا دلالة في الآية عليه بوجه فإنّ الظّاهر من التّربية حسب ما صرّحوا به تبليغ الشّيء إلى كماله ، والتّبليغ إلى الكمال إنّما هو بإفاضة المفقود لا بإبقاء الموجود ، إلّا أن يقال إنّ الإبقاء أيضا من الأوّل ، لأنّ البقاء في الآن الثّانى غير موجود في الآن الأوّل ، أو أنّ التّربية لا تكون إلّا حال البقاء فتوقّف عليه فتأمّل ، فإنّه لا يستفاد من افتقاره إلى المربي

__________________

(١) البقرة : ١١٧.

(٢) البقرة : ١٦٤.

٤٤٠