تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

الفصل الأوّل

فيما يتعلّق بالحمد

ثمّ إنّ الله سبحانه وله الحمد والمنّة لمّا علّمنا كيفية التبرك بالاستعانة به والتوسل بأسمائه والانصباغ بصبغته مع التنبيه على أنّ جميع النعم الدنيوية والأخروية والتشريعية والتكوينية كلها منه ، والأمور كلها بيده ، وهو المبتدء بالنعم قبل استحقاقها ، والسائق إلى المستحقّين حقوقها ، أراد أن يحمد نفسه بالثناء عليه على نعمه الجميلة الجليلة وآلائه الجزيلة النبيلة ، تعليما للعباد ، وهداية لهم إلى سبيل الرشاد ، فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

الحمد في الأصل مصدر (حمد) كسمع ، حمدا ومحمدا ومحمدة بكسر الثالث وفتحه فيهما بمعنى الثناء ، كحمدته عل فعله ، والشكر كحمدته على نعمه ، والرضا كحمدت بسيرة فلان ، والمدح كحمدت فلانا على فضله ، لكن الغالب عليه في الاستعمال هو المعنى الأول ، هذه المعاني متغايرة وإن تقاربت ، ولذا كان لكلّ منها نقيض غير نقيض الآخر ، فالنقيض للحمد الذم ، وللشكر الكفر ، وللمدح الهجا ، والذم أيضا ولعله الأغلب.

وبالجملة فقد عرّفوا الحمد بالثناء باللسان على الجميل الاختياري من نعمة وغيرها.

فهو أخصّ من المدح الذي هو الثناء على الجميل المطلق اختيارا كان أو غيره ، ولذا يقال : مدحت زيدا على حسنه ، دون حمدته ، ويطلقان بالنسبة إلى علمه.

٣٠١

ومن الشكر الذي هو تعظيم المنعم بالاعتراف بالنعم الواصلة إليه باللسان والأركان والجنان ، إلا أن أخصيّته من المدح على الإطلاق ومن الشكر من وجه ، فهو أعمّ من كل الأولين من وجه ، لوجوده دونهما في أفعال القلب والجوارح.

وإن اجتمع الكلّ في فعل اللسان وترتب الحمد والمدح على كل من الفضائل التي هي المزايا الغير المتعدية ، والفواضل التي هي المزايا المتعدية ، وهي المواهب والعطايا ، إلّا أن هذا كأنّه مجرد اصطلاح لا يساعده تتبع موارد إطلاقاتها.

ولذا أنكر بعضهم تقييد الحمد بكون الجميل اختياريا ، بل ذكر شيخنا البهائي أنّ هذا التقييد غير موجود في كلام الأكثر ، بل أنكره البعض لقولهم : الصبر يحمد في المواطن كلها ، وعاقبة الصبر محمودة ، بل في القرآن : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (١).

وفي كلام مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «فعند الصباح يحمد القوم السري» (٢).

فلا داعي للتكلف في تلك الإطلاقات بأنه استعمل في معنى المدح أو الرضا مجازا ، أو أنّه من قبيل وصف الشيء بحال متعلقه ، أي المقام محمود صاحبه ، والسري محمود عليه كالصبر.

هذا مضافا إلى تصريح اللغويّين بعموم معناه.

قال في «الصحاح» : «الحمد أعم من الشكر ، وظاهره الإطلاق ، ولذا قال : والمحمّد الذي كثرت خصاله المحمودة» (٣).

__________________

(١) الإسراء : ٧٩.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة (١٦٠) آخرها. ولا يخفى أن هذه الجملة من الأمثال ومعناها : إذا أصبح النائمون وقد رأوا السارين ليلا وصلوا إلى مقاصدهم حمدوا سراهم وندموا على نوم أنفسهم. والسري بضم السين المهملة وفتح الراء : السير ليلا.

(٣) الصحاح : باب الدال ، فصل الحاء ، واستشهد بقول الأعشى : إلى الماجد القرم الجواد المحمد.

٣٠٢

وفي «القاموس» : الحمد : الشكر ، والرضاء ، والجزاء ، وقضاء الحق.

وفي «المصباح المنير» للفيومي : حمدته على شجاعته وإحسانه حمدا : أثنيت عليه.

ومن هنا كان الحمد غير الشكر لأنه يستعمل لصفة في الشخص وفيه معنى التعجب ، ويكون فيه معنى التعظيم للممدوح وخضوع المادح ، كقول المبتلى : إلى الحمد لله ، إذ ليس هناك شيء من نعم الدنيا ويكون في مقابلة إحسان يصل إلى الحامد.

وأما الشكر فلا يكون إلا في مقابلة الصنيع ، فلا يقال : شكرته على شجاعته ويقال غير ذلك. انتهى.

وبالجملة ، الأظهر أنه موضوع للمعنى الأعم من دون أن يؤخذ في مفهومه كونه باللسان أو على الجميل الاختياري.

أمّا الأول فلثنائه سبحانه على نفسه ، ولقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (١) وغير ذلك.

واحتمال التجوز في اللسان ، أو في الحمد ، أو تكلف التأويل مما لا ينبغي الإصغاء إليه ، وما يقال : من أنه لمّا ثبت الاختصاص بالنقل عن الثقات من أرباب اللغات فيحمل أمثال ذلك على المجاز مردود بما سمعت.

وأما الثاني فلشهادة الإطلاق ، ونص أهل اللغة ، وأصالة الحقيقة ، وأولويتها مع عموم المعنى على المجاز.

نعم ، بعض هؤلاء المنكرين للتقييد بالاختياري من الفلاسفة الذين يزعمون أن الله تعالى فاعل بالإيجاب والعلّية دون الإرادة فالتزموا بقدم العالم ، نظرا إلى أن

__________________

(١) الإسراء : ٤٤.

٣٠٣

ذات الواجب تعالى إمّا أن يستجمع جميع شرائط التأثير في الأزل أو لا؟

فعلى الأول يلزم القدم ، ضرورة امتناع تخلف المعلول عن علته العامة.

وعلى الثاني يتوقف وجود الأثر وهو العالم على شرط حادث ، وننقل الكلام إليه حتى يلزم التسلسل الذي قامت القواطع العقلية على استحالته ، بل استدلوا على نفي إرادته الحادثة بأدلة ضعيفة واهية ، سنشير إن شاء الله تعالى إلى الجواب عنها ، وعن ساير ما استدلوا به للقدم في موضع أليق.

ولعل اختيار الحمد في المقام على المدح للإشعار بكون محامده اختيارية وبعد الإحسان ، إذ المدح على ما قيل أعم من كون الممدوح به اختياريا أو لا ، صدر قبل الإحسان أو بعده.

مضافا إلى ما قيل : إن المدح مذموم ، للعلوي : «أحثوا التراب في وجوه المداحين» (١).

والحمد مأمور به لقوله : «من لم يحمد الناس لم يحمد الله» (٢).

وإن كان لا يخلو من تكلف ، إذ منشأ الذم فيه بعض الجهات الخارجية كالإطراء ، ومجاوزة الحد ، وشوب النفاق ونحوها.

واما اختياره على الشكر فلأن الشكر إنما هو بإزاء ما وصل من النعم إلى الشاكر ، وأما الحمد فإنما هو بإزاء ما عليه النعم من المحامد.

ولذا ورد : «الحمد لله كما هو أهله ومستحقه» (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٣ / ٢٩٤ ، ح ١ عن أمالي الصدوق : ص ٢٥٦ ، وفيه : «احثوا في وجوه المداحين التراب» ، وجعله من مناهي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) التفسير الكبير للفخر الرازي : ج ١ / ٢١٨.

(٣) بحار الأنوار : ج ٨٦ / ١٦٣ ، ح ٤٣.

٣٠٤

وفي الدعاء : «ولك الحمد بجميع محامدك كلها على جميع نعمك كلها» (١).

وكم الفرق بين الثناء عليه سبحانه بما هو أهله ومستحقه مع الأغماض وقطع النظر عن الإنعام على الحامد أو غيره ، أو العدم مطلقا ، وبين مجازات نعمه الجميلة الجليلة بألسنة قصيرة وأزمنة يسيرة يحتاج شكر كل زمان منها إلى أزمنة كثيرة.

وعلى هذا فيستوعب الحمد شكر جميع الشاكرين مع الزيادة ، فإن الصفات الذاتية والنعم التي لم يصل بعد إلى أحد من المخلوقين محامد توجب الحمد لا الشكر.

قال مولانا الصادق عليه‌السلام على ما رواه «الكافي» : «ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال : الحمد لله إلا أدى شكرها» (٢).

وفي دعاء الصحيفة السجادية : «الحمد لله الذي هدانا لحمده ، وجعلنا من أهله لنكون لإحسانه من الشاكرين» (٣).

وفي «كشف الغمة» عن الصادق عليه‌السلام : «إن أبا جعفر عليه‌السلام فقد بغلة له ، فقال : لئن ردها الله لأحمدنه بمحامد يرضاها ، فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها ، فلما استوى عليها وضم عليها ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال : «الحمد لله» فلم يزد ، ثم قال : ما تركت ولا أبقيت ، شيئا جعلت كل أنواع المحامد لله عزوجل ، فما من حمد إلا وهو داخل فيما قلت» (٤).

وفي «تفسير الإمام» و «الاحتجاج» عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه سئل عن

__________________

(١) البحار : ج ٩٥ / ٤١٣.

(٢) الكافي : ج ٢ / ٩٦ ، وعنه البحار : ج ٧١ / ٣٢ ، ح ٩.

(٣) صحيفة السجادية الجامعة : ص ٢٠٩ ، دعائه عليه‌السلام إذا دخل شهر رمضان.

(٤) كشف الغمة : ج ٢ / ٣١٩ ، وعنه البحار : ج ٤٦ / ٢٩٠ ، ح ١٥ ، وأخرجه ابن طلحة في مطالب السؤول : ص ٨١ ، وأبو نعيم في الحلية : ج ٣ / ١٨٣ بتفاوت.

٣٠٥

تفسير (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، فقال : «هو أن الله عرّق عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل ، لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف ، فقال لهم : قولوا : الحمد لله على ما أنعم به علينا» (١).

وعن مولانا الصادق عليه‌السلام في معنى الحمد ، قال : «معناه : الشكر لله وهو المنعم بجميع نعمائه على خلقه» (٢).

وقال عليه‌السلام : «من حمده بصفاته كما وصف نفسه ، فقد حمده ، لأن الحمد حاء والميم ودال ، فالحاء من الوحدانية والميم من الملك والدال من الديمومة ، فمن عرفه بالوحدانية والملك والديمومة فقد عرفه».

رواهما القاضي سعيد في «أسرار الصلاة» عنه عليه‌السلام مرسلا ويأتي الأخير بلفظ آخر عن السلمي عنه عليه‌السلام.

بل ربما يستفاد من بعض الأدلة وفحاوي الأخبار اختصاص الحمد بالله سبحانه بحيث ليس أحد ممّن سواه أهلا لأن يحمد كما في «المتهجد» في دعاء يوم الجمعة :

«اللهم لك الحمد كما توليّت الحمد بقدرتك ، واستخلصت الحمد لنفسك ، وجعلت الحمد من خاصتك ، ورضيت بالحمد من عبادك ، ففتحت بالحمد كتابك ، وختمت بالحمد قضائك ، ولم يعدل إلى غيرك ، ولم يقصر الحمد دونك ، فلا مدفع للحمد عنك ، ولا مستقر للحمد إلا عندك ، ولا ينبغي الحمد إلا لك» (٣).

ولعل ذلك الاختصاص لدلالة الحمد على كون المحامد ذاتية أصلية قائمة بالمحمود بقيمومية المطلقة التي لا يشاركها فيه غيره.

__________________

(١) تفسير الإمام : ص ١١.

(٢) تفسير القمي : ص ٢٦ ، وعنه البحار : ج ٩٢ / ٢٢٩.

(٣) مصباح المتهجد : ص ٣٤٨ ، وعنه البحار : ج ٩٠ / ١٢٩ ـ ١٣٠.

٣٠٦

ولذا ورد في الخطبة الأميرية الغديرية : «الحمد لله الذي جعل الحمد من غير حاجة منه إلى حامديه ، طريقا من طرق الاعتراف بلاهوتيته وصمدانيته وربانيته وفردانيته ، وسببا إلى المزيد من رحمته ، ومحجة للطالب من فضله ، وكمّن في إبطال اللفظ حقيقة الاعتراف له بأنه المنعم على كل حمد باللفظ ، وإن عظم» (١).

فجعله طريقا من طرق الاعتراف بالألوهية دليل على اختصاصه مطلقا أو على بعض الوجوه به سبحانه.

والمراد بقوله : «وكمن في إبطال اللفظ» الإشارة إلى أنه سبحانه قد أنزل الحقائق الكلية من الخزائن الغيبية إلى العوالم النازلة الناسوتية بكسوة الألفاظ والحروف الصوريّة ، فسهّل بذلك حمده وذكره على قاطبة البريّة.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا مر أنّ الحمد من الألفاظ الجامدة الموضوعة ، نعم ربّما يقال : إنّه مشتّق من الحمدة (بالفتحات) وهي صوت التهاب النار ، حيث إنّ العبد بعد مشاهدة النعماء الغير المتناهية يشتغل في قلبه نيران المحبة ، فيستنير بنور معرفته الجنان وينطبق بحمده اللسان.

وإمّا من الحمادى كحبارى بمعنى الغاية والنهاية ، ومنه الخبر : حماديات النساء غضّ الطرف» (٢).

أي غاياتهن ومنتهى ما يحمد منهم غضّ الطرف عمّا حرّم الله ، وذلك أنّ الحمد منتهى مقصد القاصدين ، واجتهاد المجتهدين ، سيّما مع توقفه على معرفة المنعم بالنعمة ، وانبساط يديه بالرحمة.

__________________

(١) مصباح المتهجد : ص ٥٢٤ ، وأخرجه المجلسي قدس‌سره في البحار : ج ٩٧ / ١١٣ ، عن مصباح الزائر الفصل السابع.

(٢) الاحتجاج : ج ١ / ١٦٧ ، ط بيروت وعنه البحار : ج ٣٢ / ١٥١ ، وهذه الكلمة من كلام أم سلمة بنت أمية قالتها لعائشة لما أزمعت الخروج إلى البصرة.

٣٠٧

والحقّ أنّ اشتقاقه منهما تكلّف مستغنى عنه ، بل لعلّ المعنيين مأخوذان منه على ضرب من الاشتقاق ، وإن كان فيه إشعار بالمعنيين ، سيما مع إضافته إلى الله ، كما أنّه مشتقّ بالاشتقاق المعنوي من الصفات الربانية والنعوت الكمالية.

كما رواه السلمي (١) في «الحقائق» عن مولانا ومولى الخلائق جعفر بن محمد الصادق عليه الصلاة والسّلام أنه قال :

«الحمد ثلاثة أحرف الحاء والميم والدال. فالحاء : من الوحدانيّة ، والميم : من الملك ، والدال : من الديمومية ، فمن قال : الحمد لله ، فقد وصف الله بالوحدانية والملك والديمومة».

ولعل الوجه فيه أنّ الحمد التامّ الكامل الذي يفوق جميع المحامد ما كان المحمود فيه كاملا تاما في جميع الصفات الذاتية والفعلية ، والوحدانية إشارة إلى كماله في صفاته الذاتية التي هي عين ذاته تعالى بلا مغايرة حقيقية واعتبارية ، وإلا لانثلمت الوحدانية ، فإن كمال التوحيد نفي الصفات عنه بدليل أن كل صفة غير الموصوف وكل موصوف غير الصفة.

وأما الصفات الفعلية لم تكن قديمة عين الذات ولا شريكا له مع الذات ، بل حادثة بحدوث الفعل والمفاعيل كانت ملكا له ، فلذا عبر عنها به ، وحيث إن فيضه عزوجل في صقع الإمكان والحدوث لا يزال ولم يزل ، إذ كل يوم هو في شأن ، ولا يشغله شأن عن شأن ، فلذا استحق المحامد الجميلة الجليلة خلود دوام ربوبيته وهو المشار إليه بالديمومية.

__________________

(١) السلمي : محمد بن الحسين بن محمد بن موسى الأزدى النيسابوري المحدث الحافظ المفسّر المتوفّى سنة (٤١٢) ه من تصانيفه : حقايق تفسير القرآن. ـ معجم المؤلّفين ج ٩ ص ٢٥٨.

٣٠٨

تبصرة عرفانية

روى السيد الجليل ابن طاووس في «سعد السعود» نقلا عن النقاش مسندا إلى ابن عباس قال : قال لي علي عليه‌السلام :

«يا بن عباس! إذا صليت الآخرة ، فالحقني إلى الجبّانة» ، قال : فصلّيت ولحقته ، وكانت ليلة مقمرة ، فقال لي : «ما تفسير الألف من الحمد جميعا؟» قال : فما علمت حرفا أجيبه ، قال : فتكلم في تفسيرها ساعة تامة ، ثم قال لي : «ما تفسير اللام من الحمد؟» قال : فقلت : لا أعلم ، قال : فتكلّم في تفسيرها ساعة تامّة ، ثم قال : «ما تفسير الحاء من الحمد؟» قال : فقلت ، لا أعلم ، فتكلّم في تفسيرها ساعة تامة ، ثم قال : «ما تفسير الميم من الحمد؟» فقلت : لا أعلم ، فتكلّم في تفسيرها ساعة ، ثم قال «فما تفسير الدال من الحمد؟» قلت : لا أدري ، فتكلم فيها إلى أن برق عمود الفجر ، قال : فقال : «قم يا بن عباس إلى منزلك فتأهّب لفرضك ، فقمت وقد وعيت كلما قال ، قال : ثم تفكرت فإذا علمي بالقرآن في علم علي عليه‌السلام كالقرارة في المثعنجر ، قال : والقرارة : الغدير ، والمثعنجر : البحر (١).

أقول : في «القاموس» : المثعنجر بفتح الجيم وسط البحر ، وليس في البحر ماء يشبهه.

وقول ابن عباس وذكر عليا عليه‌السلام : علمي إلى علمه كالقرارة في المثعنجر ، أي مقيسا إلى علمه كالقرارة موضوعة في جنب المثعنجر ، انتهى.

وفيه : القرارة بالضم ما بقي في القدرة ، أو ما لزق بأسفلها من مرق أو حطام ، والقرارة مثّلثة الماء البارد الذي يصبّ في القدر.

قلت : فتفسيرها بالغدير ليس على ما ينبغي ، بل التشبيه ليس في محله ولو

__________________

(١) سعد السعود : ص ٢٨٤ ، وعنه البحار : ج ٩٢ / ١٠٤.

٣٠٩

بالقطرة والذرة ، والصواب ترك النسبة ، بل الانتساب ، فأين التراب وأبو تراب؟ ولو كانت بينهما نسبة لتكلّم ابن عباس بحرف واحد ، أو بكلمة واحدة ، مع أنّ ما تكلّم عليه‌السلام به في تلك الليلة مع ضيق الوقت إنما هو على قدر فهمه وحسب مقامه ، لأنهم مأمورون بتكلّم الناس على قدر عقولهم.

ولذا قال ابن عباس : «فقمت وقد وعيت كل ما قال» ، وإلا فهو عليه‌السلام كان قادرا على استخراج جميع العلوم والمعارف والأحكام المتعلقة بالإمكان والأكوان من الحقائق التكوينية والعلوم التشريعية من كلمة واحدة بل من حرف واحد.

ولذا قال عليه‌السلام : «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير باء بسم الله».

وفي خبر آخر : «من تفسير فاتحة الكتاب» رواه الشهيد في «أسرار الصلاة» (١).

وقال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : «لو وجدت لعلمي الذي آتاني الله حملة لنشرت التوحيد والإسلام والإيمان والدين والشرائع من الصمد ، وكيف لي بذلك ولم يجد جدي أمير المؤمنين عليه‌السلام حملة لعلمه حتى كان يتنفس الصعداء (٢) ويقول على المنبر : «سلوني قبل أن تفقدوني» فإنّ بين الجوانح مني لعلما جمّا ، هاه هاه ألا لا أجد من يحمله ، ألا وإنّي عليكم من الله الحجة البالغة «فلا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور» (٣).

وبالجملة ، فالحروف والكلمات لها مراتب ودرجات وأطوار علوية وسفلية ، مجردة ومادية ، جبروتية وملكوتية وناسوتية ، والمدرك منها بالمشاعر الظلمانية

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٢ / ١٠٣ عن «أسرار الصلاة».

(٢) الصعداء ـ بضم الصادر وفتح العين ـ التنفس الطويل من أو تعب.

(٣) بحار الأنوار : ج ٣ / ٢٢٥ ، ١٥ والآية بلا لفظ الغاء في سورة الممتحنة : ٢٤.

٣١٠

المادية الناسوتية هو المتنزل منها إلى هذا العالم الجسماني بالصور اللفظية والكتبية ، فما يرى سواد العين إلّا سواد المداد بالألحاظ ولا تسمع الأذن إلا الأصوات والألفاظ ، وأنّى لهما الدخول في حريم هذه المعاني والاستقصاء عما لها من المباني من العالي والداني.

وأما العقل الإنساني فقد ابتلى بالتقيّد عن التجرّد ، واحتجب عن مشاهدة الأنوار الملكوتية بالحجب الناسوتية ، فوقع من القربة في الغربة ، مع أنّ كل شيء لا يدرك ما فوق عالمه ، ولا يتجاوز عن معالمه ، وكيف يدرك العقل الجزئي الحقائق الكلية إلّا بعد الوصل الكلي ، بقطع جبل الإنيّة ، والتجرد عن العلايق الجسمانية والخروج من عرف قدره لا يتعدّى طوره.

ولذا لو أنزل الله هذا القرآن على ما هو عليه من قدس ملكوته وعز جبروته (١) ، ولذا أتى بما يشار به إلى القريب ، تنبيها إلى أنه بعد باق على علوه ورفعته على جبل عظيم من الجبال التي هي مظاهر العظمة في هذا العالم الجسماني ، أو على جبلة من جبلات الإنية الواقعة في صقع النفوس (لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) لعدم صبره وتحمله وثباته ، ولذا أنزله الله تبارك وتعالى بكسوة الألفاظ والحروف التي هي أمثلة وأظلة للحقائق الكلية (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢) ، فيصلون بالألفاظ إلى المعاني ، ومن المعاني إلى المباني ومن المباني إلى النور الشعشعاني ، أعني معرفة البشر الثاني.

__________________

(١) مقتبس من الآية (٢١) من سورة الحشر : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).

(٢) الحشر : ٢١

.

٣١١

نفحات قدسية

ينقسم الحمد باعتبار الحامد إلى : حقّي ، وحقيقي ، وخلقي ، وإطلاقي.

فالحقي من حيث الذات : هو الهوية الغيبية التي ليس لها اسم ولا رسم ولا نعت ولا وصف ، وبذلك أثنى على ذاته بذاته ، فثناؤه ذاته ، وذاته ثناؤه ، فامتنع بعزّ قدسه من أن تناله الأوهام ، أو أن تصل إلى معرفته ثواقب العقول والأفهام.

ومن حيث الفعل هو المشيّة الكلية ، وهو الفعل الذي خلقه بنفسه وأسكنه في ظلّه ، وهو في صقع الإمكان والأكوان ، حقيقة الحقائق ومبدء المبادئ ، وأصل الأصول ، وأسطقسّ الأسطقسّات ، فالثناء على الله تعالى بعد ثنائه على ذاته لا يكون إلا في مظهر من المظاهر الكونية ، فأعلى المظاهر أجلاها وأسناها ثناء على الله.

وحيث إنّ المشيّة الكونية والإمكانية أعلى المظاهر وأوّل الأوائل في عالم الأكوان والإمكان ، كان هذا الحمد له ، وأفضل الحمد عنده ، وأحقّ الحمد لديه ، وأحبّ الحمد إليه ، كما في دعاء يوم الإثنين (١).

ثم إنّ الحمد الحقي في مقام الفعل هو بعينه الحمد الحقيقي في مقام الذات ، وإن كان هناك تغاير بحسب الاعتبار ، فإنّ ذات المشيّة هو فعل الرب سبحانه وهو إبداعه وإرادته كما أشار إليه مولانا الرضا عليه‌السلام.

فالحمد الحقيقي ينقسم أيضا إلى ذاتي هو ما سمعت ، وإلى فعلي وهو دوام توجهه وافتقاره وانقطاعه إلى الله سبحانه بالتضرع والسؤال والابتهال والاستمداد لتحصيل الاستعداد ، وهو الحمد الذي يصل إليه أوله ، ولا ينقطع آخره ، لم يجعل له أمدا ، ولا ينفد أبدا ، وهو الذي أشار إليه في الدعاء :

__________________

(١) مصباح المتهجد : ص ٢١٧ ، وعنه البحار : ج ٩٠ / ١٧٤.

٣١٢

«حمدا دائما يدوم ما دام سلطانك ، ويدوم ما دام وجهك ، ويدوم ما دامت جنتك ، ويدوم ما دامت نعمتك ، ويدوم ما دامت رحمتك ، حمدا يصعد ولا ينفد ، يبلغك أوله ولا ينقطع آخره ، حمدا سرمدا لا يحصى عددا ولا ينقطع أبدا» (١).

كما أن الحقيقي الذاتي هو المشار إليه بقوله : «ففتحت بالحمد كتابك» (٢).

بناء على أن المراد بالكتاب هو الكتاب التكويني أو الإمكاني ، وإن كان ابتداء الكتاب التدويني به أيضا ، وبقوله : «حمدا سعة علمك ومقدار عظمتك وكنه قدرتك ومبلغ مدحك ومداد كلماتك ...» (٣).

وأما الحمد الخلقي فيكون أيضا في مقام الذات وفي مقام الفعل ، فالذاتي يشترك فيه جميع العالم من حيث التحقق والوجود ، وإن كان بين أفراده من الاختلاف ما لا يحصى ولا يستقصي كاختلاف ذوات الذرّات في السلسلة الطولية والعرضية وهو المعبر عنه بالتسبيح الذاتي المشار إليه بقوله (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٤) ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (٥).

لكن التسبيح المذكور في الآيتين وغيرهما يراد به مضافا إلى ما ذكر من التسبيح الفطري الذاتي ، التسبيح الشعوري الاختياري التكليفي الذي نطقت به الآيات والأخبار حسبما يأتي بيانه إن شاء الله.

ولذا قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي

__________________

(١) البلد الأمين ص ٨٢. مصباح المتهجد : ص ٣٤٣ ، دعاء يوم الجمعة.

(٢) نفس المصدر.

(٣) بحار الأنوار : ج ٩٠ / ١٣٠ ، دعاء الجمعة.

(٤) الجمعة ، والتغابن : ١.

(٥) الإسراء : ٤٤.

٣١٣

الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) (١).

فإنه نسب السجود إلى غير الناس على سبيل الكلية وإليهم على وجه الجزئية ، وهذا هو السجود الاختياري والتكليف الشعوري الإرادي.

وأما التسبيح الفطري الذاتي فيشترك فيه جميع الأشياء والأكوان مما دخل في صقع الإمكان أو في بقعة الوجود حتى أن الكافر والمشرك في حال كفره وشركه موحد لله تعالى مسبح له ، ولذا قيل بالفارسية :

«عين إنكار كافر إقرار است».

وقيل أيضا :

هر گياهي كه از زمين رويد

وحده لا شريك له كويد

وفي «الجامعة الصغيرة» : «يسبح الله بأسمائه كل شيء».

وذلك لأن كل ما دخل في عالم الوجود من الأكوان والأعيان والمجردات والماديات والفلكيات والعنصريات والجمادات والنباتات والحيوانات فهو ينادي بأعلى صوته بل بجميع ألسنة وجوده بأني عبد عاجز مصنوع لا أقدر على شيء ولا أملك لنفسي شيئا ، بل لست بشيء وإن لي ربا قادرا ، عالما ، قيوما ، حيا ، قديما ، جامعا لصفات الكمال ونعوت الجلال وإنه شيأني بمشيته وأوجدني بقدرته وأفاض علي من رحمته ، وأقامني بأمره قيام صدور وظهور ، بحيث لو قطع فيضه عني لكنت عدما محضا ، وهذه المقالة مما جرت عليها ألسنة جميع الذرات والكائنات من جميع جهات وجودها وكينونتها في جميع الأدوار والأكوار والأطوار والأوطار ، فقد ملأ الدهر قدسه لا يرى فيه نور إلا نوره ، ولا يسمع فيها صوت إلا

__________________

(١) الحج : ١٨.

٣١٤

صوته كما في الدعاء.

وأما الحمد الخلقي الفعلي فيكون بالجنان وبالأركان وباللسان ولذا قيل : «إن الثناء للسلطان باللسان ينجيك من سيف السلطان ، ويسلمك من آفة الكفران ، وشكر الأركان ينجيك من دركات النيران ، ويبلغك إلى أعلى درجات الجنان ، والحمد بالجنان يقربك إلى الرحمن ويشرفك بالعرفان.

وأدنى درجات حمده في هذا المقام انفراد اللسان بالثناء عليه من دون مواثقة الجنان والأركان ، وربما كان مذموما لأنه من شعب النفاق.

وأعلاها وأغلاها وأرفعها في هذه المرتبة توافق الثلاثة ، وإن كان الأصل فيها معرفة المحمود ، ووقوع عظمته في القلب ، فإن الأركان حتى اللسان بمنزلة الآلات والأدوات للقلب تجري بحكمه ويترشح عليها ما وقع فيه ، فكل إناء بالذي فيه ينضح.

ولذا قال روح الله عيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام : «إن اللسان يتكلم بزوائد القلب ، فإذا وقعت في القلب عظمة شخص وكماله وجلاله بادرت الأركان والألسنة إلى تعظيمة والثناء عليه ، حتى ربما تقع لها شبه الاضطرار من شدة البدار ، ولذا اضطرت العقول بالاستكانة لديه ونطقت الألسن بالثناء عليه ، بل كل ركن من الأركان ، وكل مشعر من المشاعر لسان من الألسنة بل وكذا الأوصاف والأعراض والأحوال والخيالات والخطرات والنيات والأعمال.

وأما الحمد الإطلاقي فهو العام التام الكامل الشامل لجميع ما ذكرناه وما لم نذكره ، مما لم يثبت في الدفاتر ، ولم يجر على الخواطر.

وإلى ما ذكرناه من مراتب الحمد إشارة بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدعاء : «الحمد لله كلما حمد الله شيء ، وكما يحب الله أن يحمد ، وكما هو أهله ، وكما ينبغي لكرم

٣١٥

وجهه وعز جلاله» (١).

فقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إشارة إلى الحمد الإطلاقي العمومي الشامل لجميع المحامد ، ولذا قال مولانا الصادق عليه‌السلام في الخبر المتقدم (٢) بعد وجدان البغلة : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ولم يزد ، ثم قال : «ما تركت ولا بقيت شيئا جعلت كل أنواع المحامد لله عزوجل فما ، من حمد إلا وهو داخل فيما قلت».

وقوله «كلما حمد الله شيء» ، إشارة إلى الحمد الخلقي الشامل لمحامد جميع المخلوق في رتبة المفعول بجميع أدواتهم ومشاعرهم وألسنتهم وأركانهم ولغاتهم وأحوالهم.

وقوله «وكما يحب الله أن يحمد» ، إشارة إلى الحمد الخلقي الذاتي أو الحقيقي ، فإنهما في رتبة واحدة وإن كانا متغايرين بالاعتبار ، وجعله أثرا للمحبة لكونه من آثار المشية التي هي المحبة الكلية الأصلية المشار إليها بقوله :

«كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق كي أعرف» (٣).

فعبر فيه عن الوجود المطلق الذي هو الواسطة بين الوجود الحق وهو الكنز المخفي أي المجهول المطلق ، وبين الوجود المقيد وهو الخلق بالمحبة التي هي جذبة التوحيد ومقام التفريد ، والآخذ بناصية كل شيء ، فهو راجع إليها رجوع الفيء (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٦ / ٤٤ ، في ما يستحب عقيب الصلاة.

(٢) كشف الغمة : ج ٢ / ٣١٩.

(٣) الحديث مشهور تارة نسب الى داود النبي عليه‌السلام واخرى نسب الى النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن قال السيوطي في الدرر المنثرة ص ١٩٣ : لا أصل له ، وقال ابن العربي في الفتوحات ج ٢ ص ٣٩٩ : الحديث صحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كشفا لا نقلا.

(٤) النحل : ٤٨.

٣١٦

وقوله «وكما هو أهله» : إشارة إلى الحمد الحقيقي الذاتي الحقي الفعلي الذي قد عرفت سابقا اتحادهما أيضا من وجه ، وإن تغايرا من وجه آخر ، فإن فعله سبحانه أهل له ، وهو أهل لفعله ، وهذا التأهل إنما هو في مقام الفعل لا الذات.

وقوله «وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله» ، إشارة إلى الحمد الحقي الذاتي في مقام الواحدية لا الأحدية التي هو الغيب المطلق ، فله في مقام الواحدية الظهور بالصفات الكمالية من الجمالية والجلالية.

فقوله «لكرم وجهه» إشارة إلى ظهوره بالصفات الكمالية من العلم والقدرة والحياة والقدم وغيرها ، «وعز جلاله» إشارة إلى تقدسه عن كل ما يعدّ في النقصان أو ينتهي إلى رتبة الإمكان.

فانظر كيف أطلق الحمد أولا بالإطلاق الشمولي الإحاطي ، ثم فصّله في مراتبه ودرجاته متدرّجا من الأدنى إلى الأعلى ، كما هو القانون في التوجهات والأسفار والترقيات الواقعة في عالم الموادّ ، وصقع الاستعداد (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (١).

ثم بعد تفصيل المراتب في المقامات الأربعة التي هي الأركان الأربعة لعرش المعرفة والتقديس ، وهي التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ، فصّل بعد الإجمال وأجمل بعد التفصيل فقال : وسبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر على كل نعمة أنعم بها عليّ وعلى كل أحد من خلقه ، ممن كان أو يكون إلى يوم القيامة (٢).

ثم اعلم أن الثناء الواقع من كل أحد لله سبحانه إنما هو على حسب مقامه ورتبته وقابليته واستعداده والله سبحانه منزه عن كل ذلك ، فإنه قد انتهى المخلوق

__________________

(١) فاطر : ١٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٨٦ / ٤٤.

٣١٧

إلى مثله وألجأه الطلب إلى شكله ، وأنّى له والثناء على الله بما هو أهله ومستحقه إلا بمجرد إطلاق القول بذلك والحوالة على ما هنالك ، ولذا ورد في الدعاء :

«الحمد لله كما هو أهله ومستحقه».

وقال أشرف الأنبياء والمرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليهم أجمعين : «سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١).

وذلك لأن الخلق وإن بالغ في السعي والاجتهاد وأتى بما في وسعه من القوة والاستعداد ، فلا يمكن له الخروج من حدود الإمكان المحفوف بالقصور والنقصان في جميع العوالم من الإمكان والأعيان والأكوان ، فمن أين له الإحاطة بكمال الواجب (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً).

فالعجز عن درك الإدراك إدراك

والخوض في طلب الإدراك إشراك

ولذا نزّهه عن أوصافهم وتوصيفاتهم في قوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢).

ثم استثنى توصيف عباده الذين يصفونه بما وصف به نفسه بقوله : (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣) وتوصيفهم هو الذي أشار إليه في الآية التالية : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) الغلبة والكبرياء (عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) الذين يصفونه بما وصف به نفسه وهو قولهم : (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤).

ورد في النبوي أنه دعوة أهل الجنة (٥) كما في الآية (٦).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧١ / ٢٣.

(٢) الصافات : ١٥٩.

(٣) الصافات : ١٦٠.

(٤) الصافات : ١٨٠ ـ ١٨٣.

(٥) تفسير العياشي : ج ١ / ٢٣.

(٦) يونس : ١٠.

٣١٨

وفي «الاحتجاج» عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا قال العبد الحمد لله أنعم الله عليه بنعيم الدنيا موصولا بنعيم الآخرة وهي الكلمة التي يقولها أهل الجنة إذا دخلوها وينقطع الكلام الذي يقولونه في الدنيا ما خلا (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وذلك قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١)» (٢).

وأما حمده سبحانه على نعمه وآلائه فمع توقفه على معرفة المنعم موقوف على العلم التفصيلي بالنعم وأجناسها وأنواعها وأصنافها ومباديها وأسبابها وغاياتها وافتراقاتها في إبداع فؤاده ، وخلق عقله ، وروحه ونفسه ، وطبيعته ومزاجه ، ومثاله وعنصره ، وجسمه وجسده ، وأعضاؤه وأخلاطه ، وقواه ومشاعره ، وظاهره وباطنه ، وسره وعلانيته ، وأغذيته الروحانية والجسمانية ، وملاحظة مباديها ونزولها من البحر الذي هو تحت العرش بأيدي الملكة الحفظة الكرام ، من الذاريات ، والحاملات والجاريات ، والمقسمات ، والمدبّرات ، وغيرها من عمّال الكائنات والمكوّنات ، وعبودها من أطباق السموات إلى أن حملتها الرياح ، ثم السحاب ، ثم الهواء ، ثم الأرض ، ثم النبات ، ثم الحيوانات وما له فيما بين ذلك من الكيموسات والكيلوسات والاستحالات والتنقلات ، والإشراقات والإمدادات والإفاضات والقرانات والمقابلات والمزاحمات والمدافعات.

فمن أين للعبد الذليل الضعيف المسكين المستكين أن يشكر واحدة من نعمه الكثرة الجميلة الجزيلة الجليلة التي لا تحصى ولا تستقصى ، ولذلك أفرد النعمة في قوله : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (٣) أي من حيث الشكر عليها من حيث المبادي والأسباب وغيرها مما ذكرناه ومما لم نذكر.

__________________

(١) يونس : ١٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩ / ٢٩٥ ، ح ٥.

(٣) يونس : ١٠.

٣١٩

ومن هنا قال مولانا سيد الشهداء صلى الله عليه وعلى الأرواح التي حلت بفناءه في دعائه يوم عرفة بعد الإشارة إلى جملة من نعمه سبحانه :

«فأي نعمك يا إلهي أحصي عددا وذكرا ، أم أي عطاياك أقوم بها شكرا؟ وهي يا رب أكثر من أن يحصيها العادّون أو يبلغ علما بها الحافظون ، ثم ما صرفت ودرأت عني ، اللهم من الضرّ والضراء أكثر مما ظهر لي من العاقبة والسرّاء ، وأنا أشهد يا إلهي بحقيقة إيماني ، وعقد عزمات يقيني ، وخالص صريح توحيدي ، وباطن مكنون ضميري ، وعلائق مجاري نور بصري ، وأسارير صفحة جبيني ، وخرق مسارب نفسي ، وخذاريف مآرن عرنيني ، ومسارب صماخ سمعي ، وما ضمّت وأطبقت عليه شفتاي ، وحركات لفظ لساني ، ومغرز حنك فمي وفكي ، ومنابت أضراسي ، وبلوغ حبائل بارع عنقي ، ومساغ مأكلي ومشربي ، وحمالة أم رأسي ، وجمل حمائل حبل وتيني ، ما اشتمل عليه تامور صدري ، ونياط حجاب قلبي ، وأفلاذ حواشي كبدي ، وما حوته شراسيف أضلاعي ، وحقاق مفاصلي ، وأطراف أناملي ، وقبض عواملي ، ولحمي ودمي وشعري وبشري وعصبي وقصبي وعظامي ومخي وعروقي وجميع جوارحي ، وما انتسج على ذلك أيّام رضاعي ، وما أقلّت الأرض مني ، ونومي ويقظتي وسكوني وحركتي ، وحركات ركوعي وسجودي ، أن لو حاولت واجتهدت مدى الأعصار والأحقاب لو عمرتها أن أؤدي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك إلّا بمنّك الموجب علي شكرا آنفا جديدا ، وثناء طارفا عتيدا ، أجل ولو حرصت أنا والعادّون من أنامك أن نحصي مدى إنعامك سالفة وآنفة لما حصرناه عددا ولا أحصيناه أبدا ، هيهات أنّى ذلك وأنت المخبر عن نفسك في كتابك

٣٢٠