تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

الحيوان في ظهر الخميس كان آخر زمان الخيار ظهر يوم الأحد فإنّه ثلاث دورات للشّمس والكلّ اثنان وسبعون ساعة ، ومثله البحث في أيّام الإقامة والترديد والعدد وغيرها من الآجال المحدودة بالأيّام.

نعم ذكر شيخنا العلّامة في جواهر الكلام عند التّعرض لمسقطات خيار الحيوان الّتي منها انقضاء الثلاثة انّ الظّاهر دخول اللّيلتين المتوسطتين في الحكم دون الاسم ، إذ ليس اليوم لغة وشرعا وعرفا إلّا البياض المقابل لليل بل الظّاهر دخول المنكسر من اليوم كذلك أيضا فاذا وقع العقد مثلا ظهر يوم الخميس فالخيار متّصل إلى أن يتحقّق مصداق مضيّ ثلاثة أيّام ، ولا يكون ذلك إلّا بانتهاء يوم الأحد وهو غروب الشّمس منه ، ولو وقع في أوّل ليلة الخميس مثلا فالخيار فيه إلى مضىّ الثلاثة فتدخل اللّيلة في الحكم لا في اسم اليوم ، بل هذا كاد أن يكون صريح قول الصّادق عليه‌السلام في صحيح ابن رئاب فإذا مضت ثلاثة أيّام فقد وجب الشراء (١) إذ مفهومه أنّ العقد على الخيار إن لم تمض ، فالمنكسر في النّهار واللّيل حينئذ داخلان في حكم البقاء على الخيار إلى حصول الغاية ، لا في مفهوم الأيّام المنافي للّغة والشّرع والعرف ، كدعوى صدق اليوم على الملفّق من يوم آخر أو من اللّيل المنافية للثلاثة أيضا ، وحينئذ فالخيار في الزّيادة على الأيّام الثّلثة مستفاد من دليل الخيار بالتقريب الّذى ذكرناه ، ثمّ قال : فتأمّل جيّدا فانّه دقيق نافع في كثير من المقامات فإنّى لم أجد من تنبّه له ، مع أنّه بالتّأمل في المقام وغيره يمكن القطع به لمن رزقه الله تعالى اعتدال الذّهن (٢).

أقول : وفيه مع الغضّ عمّا يلزمه بل قد صرّح به في المثال من كون مدّة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٠٣ / ١٠٩ باب الخيار ح ٢ عن قرب الإسناد ص ٧٨ والوسائل الباب الثالث من أبواب الخيار ح ٩.

(٢) جواهر الكلام ج ٢٣ / ٣٠ كتاب التجارة في خيار الحيوان.

٤٦١

الخيار ثلاثة أيّام ونصف أنّ جميع ما ذكره رحمة الله عليه مبنىّ على فرض عدم دخول اللّيالي في مفهوم الأيّام بوجه بناء على أنّ اليوم مرادف للنّهار ، وقد سمعت أنّ له إطلاقا آخر شايعا في العرف والشّرع وهو استعماله في مقدار مجموع اللّيل والنّهار من الزّمان ، ولا يهمّنى بين كون ذلك من باب الاشتراك أو المجاز ، وإن كان قد يظهر من بعض الأعاظم دعوى الغلبة والانصراف بل التبادر بالنّسبة إلى ما ذكرناه ، وبالجملة فالظّاهر انّ المعنى المستعمل فيه في مثل قوله صاحب الحيوان بالخيار ، في ثلاثة أيّام هو المقدار المجموع.

ولذا قال بعض الأفاضل : إن دخول اللّيالي إنّما هو على التّحقيق لأنّه الأصل في التحديد والظّاهر دخول اللّيلتين اصالة فتدخل الثالثة وإلّا اختلف معنى الآحاد في استعمال واحد (١) انتهى وإن اعترض عليه في الجواهر بما لا يرد عليه فإنّ الإلحاق في الحكم مع عدم شمول الاسم ممّا لا يساعده دليل سوى الإجماع الّذى يقضى على انّهم قالوا بدخول الأخيرة كالمتوسّطتين ، إذ ليس المراد به مجرّد ظهور الاتّفاق أو تحقّقه حتّى يقال : إنّ الفرض وقوع الخلاف ، على أنّ المسألة غير مذكورة في كلام الأكثر رأسا فكيف يدّعى الوفاق ، بل المراد ما هو الحجّة عند الفرقة المحقّة من مسلك الحدس وغيره بل ربما يظهر ما ذكرناه من فحاوي بعض الأخبار أيضا بل في بعضها عبر عنها باللّيالي تغليبا.

ومن الغريب ما وقع لشيخنا في الجواهر في بحث استبراء البائع الأمة الموطوئة حيث وقع في عبارة جملة من الأصحاب التّعبير عن مدّة الاستبراء بخمسة وأربعين يوما ، وفي جلّ الأخبار بل كلّها التّعبير باللّيالي ، ومع ذلك فقد حكى عن شرح استاذه انّه تدخل في الخمسة وأربعين يوما الليالي المتوسّطة دون

__________________

(١) الجواهر : ج ٢٣ / ٣٠.

٤٦٢

الاولى والاخرة والمنكسر لا يحسب يوما مستقلّا ويقوّي احتسابه بالإكمال ثمّ قال وهو جيّد (١).

إذ فيه مضافا إلى ما مرّ انّ الحكم في خصوص المقام معلّق في صريح الأخبار باللّيالى فإلقاء الطّرفين اعتبارا بالأيّام على الوجه الّذى ذكره في خيار الحيوان لا وجه له ، مع أنّ قضيّة ما سمعت منه فيما مرّ عدم احتساب المنكسر بالإكمال ، بل عدم احتسابه رأسا تكميلا للعدة من الأيّام التّامة حسب ما ذكره ، ثمّ إنّ اللّيلة الأولى الّتي ذكرها لم أر لها وجها ، وكذا قضيّة ذلك الاجتزاء بثلثة وأربعين ليلة بإسقاط اللّيلتين بعد إحراز اليومين وهو كما ترى ، سيّما بعد ملاحظة نصوص الباب.

وممّا يؤمي إلى ما ذكرناه ما ذكره كثير من الفقهاء في تحديد أقلّ الحيض من أنّ اللّيالى داخلة ، بل عن التذكرة أنّه لا خلاف فيه بين فقهاء أهل البيت وإن قيل إنّ معقد الإجماع فيه ، وفي المنتهى : ليس خصوص دخول اللّيالى.

وقال المحقّق (٢) الثّاني في جامع المقاصد : لا ريب أنّ اللّيالى معتبرة في الأيّام إمّا لكونها داخلة في مسمّاها أو تغليبا قال : وقد صرّح بدخولها في بعض الأخبار من طرق العامّة (٣) وفي عبارة بعض (٤) الاصحاب وادّعى المصنّف الإجماع على ذلك في المنتهى (٥). (٦)

__________________

(١) الجواهر : ج ٢٤ / ١٩٨ ـ ١٩٩.

(٢) هو الشيخ الجليل أبو الحسن على بن الحسين العاملي الكركي المولود سنة ٨٦٨ والمتوفى سنة (٩٤٠) ه.

(٣) سنن النسائي ج ١ / ١٨٢.

(٤) المعتبر ج ١ / ٢٠٢ وفيه : قال أبو على ابن الجنيد في المختصر : أقلّه ثلاثة أيّام بلياليها.

(٥) المنتهى ج ١ / ٩٧.

(٦) جامع المقاصد : ج ١ / ٢٨٧.

٤٦٣

ومثله من الوجهين للدّخول عن الرّوض وغيره ، بل يمكن استظهاره من بعض الأخبار والفتاوى في حكم من سافر إلى أربعة فراسخ فصاعدا حيث أرادوا باليوم ما يشمل اللّيلة ، وفي بعض أخبار ناوى الإقامة عشرة أيّام ذكر العشر بدون التّاء مع حذف التّمييز ، ومع كلّ ذلك فللتّأمّل في هذا مسألة مجال واسع وتمام الكلام في الفقه.

ورابعها اليوم الملكوتي ويعبّر عنه باليوم الرّبوبى اقتباسا من قوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (١).

خامسها : اليوم الجبروتى المعبّر عنه بالأيّام الإلهيّة المشار إليها بقوله : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٢).

والتّعبير بالرّبوبي والإلهى إنّما هو لمجرّد الإشارة والتّمييز ، وإلّا فمن الواضح أنّه عند ربّك لا صباح ولا مساء ، وحديث الزّمان منقطع هناك رأسا بل لا ذكر الزّمان في عالم الدّهر الّذي هو وراء النّفوس والعقول فضلا عن السرمد فما ظنك بالأزل جلّت عظمته.

وهذان اليومان في القرآن لعلّهما إشارتان إلى الوعائين المتقدّمين على الزّمان فإنّ الأزل غير داخل في الأوعية رأسا بل هو عين الذّات ، بلا مغايرة حقيقيّة أو اعتباريّة ، وهو عين الأبد فأوليّته عين آخريّته ، وآخريّته عين أوّليّته ، وهما عين الذّات بلا مغايرة أصلا ، وإلّا لزم التّعدد المحال مضافا إلى استلزامه لما هو المستحيل أيضا من الظّرفيّة والشّمول والإحاطة والافتقار فأوّليّته وسبقه على الأشياء ليست بالزّمان ولا بالامتداد الموهوم كما ربما يختلقه بعض الأوهام ولا

__________________

(١) سورة الحج : ٤٧.

(٢) المعارج : ٤.

٤٦٤

بالرّتبة ولا بالأوليّة الدّهريّة والسّرمديّة ، بل أوّلّية حقّيّة ذاتيّة قيّوميّة ، لا يحيط بها الأفهام ولا يعبّر عنها الكلام ، وأمّا الأوعية الثّلثة الواقعة في حيّز الإمكان فأعلاها السّرمد ، وهو ظرف للمشيّة ليس قبله شيء من الممكنات ولا من الكاينات ، وذلك بالنّسبة إلى المشيّة الإمكانيّة والكونيّة وما لهما من الوعاء فافهم ، وليس للسرمد نهاية في نفسه إلّا بالنّسبة إلى غيره ، وبه فارق الدّهر والزّمان لانتهائهما إلى الغير ، وامّا لا تناهيها فلعدم انتهائها إلى شيء وعدم تعلّقها بشيء فليس لها حدّ تقف عنده ، ألا ترى أنّ كلّ شيء من الأشياء يجوز أن يلبس في إمكانه كلّ صورة من الصّور في السّلسلة الطّوليّة والعرضيّة بلا نهاية ، فيجوز أن يكون عقلا أو نفسا أو طبيعة أو كلّيا أو جزئيا وخيرا وشرّا ، وأرضا وسماء وزيدا وعمروا ، وشجرا وحجرا إلى غير ذلك من جزئيّات العالم الّتي لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها مع قياس كميّاتها وكيفيّاتها وأمكنتها وحدودها وأوضاعها وآجالها المتساوية نسبة كلّها إليها ، فليس شيء أقرب إليها من شيء ، ولا شيء أبعد منها من شيء ، وإليها الإشارة بقول مولينا الصّادق عليه‌السلام في تفسير قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) استوى من كلّ شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء (٢).

وفي خبر آخر : استوى من كلّ شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء لم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب ، استوى من كلّ شيء (٣).

فالآن الواحد من السرمد يطوى المتعدّد مع تباين أمكنتها وأوقاتها وحدودها من دون انثلام وحدته ، ولا طروّ تكثّر في انبساطه لا حقيقة ولا معنى ولا صورة وأوسطها الدّهر ، وهو وعاء وظرف للمجرّدات من المادّة العنصرية والمدّة الزّمانيّة ،

__________________

(١) طه : ٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣ / ٣٣٦ ح ٤٥ ـ ٤٦ عن التوحيد وتفسير القمى.

(٣) البحار : ج ٣ / ٣٣٧ ح ٤٧ عن التوحيد.

٤٦٥

سواء كان تجرّده عن المادّة بحسب الذّات والفعل كالعقول ، أو بحسب الذّات خاصّة كالنّفوس الّتي لا يتمّ أفعالها إلّا بواسطة الأجسام ، على حسب اختلاف مراتبها ودرجاتها في التّعلق والتّجرد والمعاني المعقولة والمهيّات الكليّة والاعداد والنّسب العددية الّتي بينها كلّها من حوادث هذا العالم فليس لها حدوث زماني ، لأنّ الزّمان كلّه في رتبة الدّهر ، كنقطة محدودة والحوادث الدّهرية ليس لها حدود زمانيّة ولذا لا يصحّ أن يقال إنّ زوجيّة الأربع مثلا ، أو سلسلة الأعداد ، أو كون عدد نصف آخر ، وثلث ثالث ، وربع رابع مثلا كم لها من السنين أو متى حدثت ، واين مكانها وإلى أين تنتقل ، ومتى تفنى؟

وبالجملة لما كان الزّمان والمكان متساوقين للأجسام فلا يقال شيء منهما على المعاني المعقولة بنفي ولا إثبات.

وتوهّم أنّ هذه المعاني من الأمور الاعتباريّة الّتي ليس لها وجود متأصّل عينىّ فليست من الموجودات ولا من الحوادث حتّى يقال أن لها ظرفا ووعاء وان وقتها الدهر.

مدفوع بانّه إن أريد بكونها من الأمور الاعتبارية فليست من الموجودات المتأصّلة الخارجيّة المتحيّزة الّتي هي الأجسام أو مع لواحقها وعوارضها فمسلّم ، لكن التّفريع في غير موضعه ، لعدم انحصار الموجودات فيها ، وإن أريد أنّها ليست موجودة أصلا بل إنّما هي باعتبار المعتبر وفرض الفارض ففيه منع واضح ، كيف ولكلّ من هذه المعاني والنّسب واقع متأصّل قد يطابقه القضيّة وقد يخالفها ، ومن أين يتطرّق الصّدق والكذب في القضايا الّتي ليست للنّسب الحكميّة الّتي فيها تحقّق سوى مجرّد الفرض والاعتبار ، وما أشبه هذا التّوهّم بهذيانات أوساخ الفلاسفة وحمقاء المتكلّمين من العامّة العمياء الّذين ينكرون نصف العالم بل أكثر وأكثر وأكثر.

٤٦٦

ولذا حصروا الموجودات في الأشياء المحسوسة بالحواس الظّاهرية وأنكر كثير من المنتسبين إلى الفلسفة الموجودات الواقعيّة المسمّاة عندهم بالموجود الذّهني ، بل المتكلّمون كافّة أنكروا بعد الواجب ما سوى المتحيّز والأعراض القائمة به.

قال في المواقف وشرحه : الموجود اى في الخارج (إذ لا يثبتون الوجود الذّهني) إمّا لا يكون له أوّل وهو القديم ، أو يكون له أوّل وهو الحادث ، والحادث إمّا متحيّز بالذّات أو حالّ في المتحيّز بالذّات ، أو لا متحيّز ولا حالّ فيه ، فالمتحيّز هو الجوهر ، ونعنى به المشار اليه إشارة حسّية بأنّه هنا أو هناك ، والحالّ في المتحيّز هو العرض ، وما ليس متحيّزا ولا حالّا فيه لم يثبت وجوده عندنا.

ومنهم من قنع بهذا القدر ، ومنهم من جزم بامتناعه لوجهين : أحدهما انّه لو وجد لشاركه في هذا الوصف الّذى هو عدم التحيّز وعدم الحلول في المتحيّز ، ولا بدّ من أن يمايزه بغيره فيلزم التركّب في الباري من المشترك والمميّز وهو محال.

والثّاني : أنّ هذا الوصف أخصّ صفات الباري فإنّ من سئل عنه لا يجاب إلّا به ، ولو شاركه فيه غيره لشاركه أيضا في الحقيقة ، فيلزم إمّا قدم الحادث أو حدوث القديم ، ثمّ أجاب عن الوجهين بجواز الاشتراك في عارض ثبوتى وبالمنع من كونه أخصّ صفاته.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هذين القسمين من الأيّام أعنى الأيّام الرّبوبيّة والأيّام الإلهيّة يمكن أن يكونا إشارتين إلى الوعاء الدّهرى والسرمدي وحينئذ فالتّحديد بألف سنة أو بخمسين ألف سنة ليس على وجهه ، بل المراد به مجرّد الإشعار على الكثرة والتقريب على الأفهام كتقريب الكثرة بالسّبعين في قوله : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (١) ، ويمكن أن يكونا إشارتين إلى الزّمان

__________________

(١) التوبة : ٨٠.

٤٦٧

الّذى هو قبل خلق الأفلاك والزّمان الّذي بعد فنائها ، كما في الآيتين (١).

وقد حمل بعض الأعلام (٢) السّتّة الأيّام التي خلق الله فيها السّموات والأرض (٣) على هذه الأيّام ، وعليه حمل ما في الأخبار من اختزال السّتة الأيّام من أيّام السنة (٤) مؤيّدا بما ورد من أنّ رباط يوم في سبيل الله خير من عبادة الرّجل في أهله سنة ثلثمائة وستّين يوما كلّ يوم ألف سنة وانّ صلوة المغرب هي السّاعة الّتي تاب الله عزوجل فيها على آدم وكان بين ما أكل من الشّجرة وبين ما تاب الله عليه ثلثمائة سنة من أيّام الدّنيا ، بل عن الطبري في تاريخه : إنّ حمل تلك الأيّام السّتة على الأيّام الرّبانيّة أمر مقرر بين أهل الإسلام (٥) إلى غير ذلك من الشّواهد الّتي تسمع إن شاء الله تمام الكلام فيها وفي تحقيق المرام عند تفسير الآية ولعلّه لا تمانع بين الوجهين فانّ الجنّة الّتي خرج منها أبونا آدم من عالم المثال الّذي هو في الإقليم الثّامن وليس في أفق الزّمان ، ولذا كان يوم أيّامه كألف سنة من هذا العالم ، وكذلك عالم الآخرة من عالم الملكوت وليس من عالم الزّمان ولذا يحشر فيه جميع الأزمنة.

ومن البيّن أنّ الزّمان لا يمكن أن يحشر فيه زمان آخر ، وقد ورد أنّه يحشر الأزمنة بما فيها من الأفعال وتشهد للعباد ، وفي خطبة مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام المذكورة في نهج البلاغة : وأنّه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شيء معه كما

__________________

(١) الحج : ٤٧ ـ والمعارج : ٤.

(٢) هو العلّامة المجلسي قدس‌سره كما في البحار ج ٥٧ / ٢١٨.

(٣) الأعراف : ٥٤ وغيرها.

(٤) إشارة إلى ما رواه الكليني في الكافي كتاب الصوم ب ٧ ح ٣ عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : إن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا في ستّة أيّام ، ثمّ اختزلها عن أيّام السنة ، فالسنة ثلثمائة واربعة وخمسون يوما ....

(٥) بحار الأنوار : ج ٥٧ / ٢١٥ الى ص ٢٢٣.

٤٦٨

كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السّنون والسّاعات. (١) الخطبة.

وفي تفسير الامام عليه‌السلام : إن اللّيالى والأيّام والشّهور شهوده له أو عليه إلى أن قال : ويحشر اللّيالى والأيّام ويستشهد البقاع والشّهور على أعمال العباد فمن عمل صالحا شهدت له جوارحه وبقاعه وشهوره واعوامه وساعاته وأيّامه وليالي الجمع وساعاتها وأيّامها فيسعد بذلك سعادة الأبد إلى أن قال :

وينادى مناد يا رجب ويا شعبان ويا شهر رمضان كيف عمل هذا العبد فيكم وكيف كانت طاعته لله عزوجل؟ فيقول رجب وشعبان وشهر رمضان : يا ربّنا ما تزود منّا إلّا استعانة على طاعتك فقال للملائكة الموكّلين بهذه الشّهور ما ذا تقولون في هذه الشّهادة لهذا العبد؟ فيقولون : يا ربّنا صدق رجب وشعبان وشهر رمضان ، الخبر بطوله (٢).

فالمستفاد منه ومن غيره بل من بعض الآيات أيضا كقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) على تقريب لا يخفى انّه يحشر الزّمان في المحشر بجميع ما فيه من أفعال العباد وأعمالهم فلو كان يوم الحشر أيضا زمانيّا لم يمكن ذلك لعدم كون الزّمان ظرفا لمثله بل جميع الزّمان في جنب الدّهر كنقطة محدودة وقد استفيد من الخبر أيضا أنّه ليس المراد من حشر الزّمان وشهادته شهادة الملائكة الموكّلة به على العاملين فيه حسب ما هو صريح الخبر.

وأمّا كيفيّة امتداد عالم الآخر في المحشر ، وفي الجنّة والنّار فلا تدركه عقولنا بحقيقته ، وعلى فرض كونه من سنخ هذا الامتداد المحسوس في هذا العالم لعلّ المراد بحشر الزّمان فيه معنى آخر ، أو أنّه على كيفيّة اخرى لا تدركه

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة (١٨٦).

(٢) بحار الأنوار : ج ٧ / ٣١٥ ـ ٣١٦ ح ١١ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

٤٦٩

عقولنا والله العالم.

سادسها : الحوادث الزّمانيّة بل مطلق الشّؤن الرّبانيّة ، فإنّ كلّا من الحوادث والشّئون يوم من الأيّام ومنه أيّام العرب لوقائعها أو حروبها ، وفسّرت في قوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (١) بنعم الله وشئون ربوبيّته كنعمة إنجائهم من آل فرعون ، وقبول توبتهم ، وتظليل الغمام ، وإنزال المنّ والسّلوى ، إلى غير ذلك وبنقمة الّتي انتقامها الله من الأمم السّالفة فيكون أيّام الله كناية عن عقوباته الّتي نزلت بمن مضى في الأيّام الخالية.

وفسرها مولينا الباقر عليه‌السلام بيوم يقوم القائم عليه‌السلام ، ويوم الكرة ، ويوم القيامة.

ومولينا الصادق عليه‌السلام : بنعم الله وآلائه (٢). وعن مولينا أبى الحسن الثّالث عليه‌السلام في معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تعادوا الأيّام فتعاديكم انّ السّبت اسم محمّد عليه‌السلام ، والأحد أمير المؤمنين ، والاثنين الحسن والحسين والثلاثاء علىّ بن الحسين ومحمد بن علىّ وجعفر بن محمّد ، والأربعاء موسى بن جعفر وعلىّ بن موسى ومحمّد بن علىّ وأنا ، والخميس إبني الحسن ، والجمعة ابن إبني ، واليه تجتمع عصابة الحقّ ، وهو الّذي يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا فهذا معنى الأيّام فلا تعادوهم في الدنيا فيعادوكم في الآخرة (٣).

ولعلّ ذلك لكونهم من الشّئون الجليلة الإلهيّة بناء على اطلاق الأيّام عليها سواء كان من الحوادث الزّمانيّة أو من الإبداعيّات الملكوتيّة لكنّهم عليهم‌السلام لمّا كانوا اوّل الشّؤون وأعلاها وأقدمها اختصّوا باسم الأيّام على الإطلاق.

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٥.

(٢) تفسير العيّاشى : ج ١ / ٢٢٢ ح ٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٤ / ٢٣٨.

٤٧٠

فصل

الدين

اعلم أنّ الدّين هو الحساب وقيل : هو الجزاء ، ومنه قولهم : كما تدين تدان ، الأوّل بالفتح للفاعل والثّانى بالضّم للمفعول أى كما تجزى تجزى.

قال أخو عبد قيس :

واعلم وأيقن أنّ ملكك زائل

واعلم بأنّك ما تدين تدان

بل عن النّبىّ : البرّ لا يبلى والذّنب لا ينسى (١) والدّيان لا يفنى فكن كما شئت كما تدين تدان (٢).

وقيل غير ذلك من المعاني الّتي يستعمل فيها في خصوص الموارد بل أنهاها في القاموس إلى بضع وعشرين قال : الدّين بالكسر الجزاء ، وقد دنته بالكسر دينا ويكسر ، والإسلام ، وقد دنت به بالكسر ، والعادة ، والعبادة ، والمواظب من الأمطار ، واللّين منها والطّاعة كالدّينة بالهاء فيهما ، والذّل ، والدّاء والحساب ، والقهر ، والغلبة ، والاستعلاء ، والسلطان ، والملك ، والحكم ، والسّيرة ، والتدبير ، والتّوحيد ، واسم لجميع ما يتعبّد الله عزوجل به ، والملّة ، والورع ، والمعصية ، والإكراه ، ومن الأمطار ما تعاهد موضعا وصار ذلك له عادة ، والحال ، والقضاء.

لكنّها مع رجوع بعضها إلى بعض آخر لا يصلح إرادة كلّها في المقام وان

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٠ / ١٠٠.

(٢) البحار : ج ١٣ / ٣٥٣.

٤٧١

أمكن ذلك على تكلّف فالجزاء كقوله : إنا لمدينون وكما تدين تدان ، ولعلّ إرادته في المقام أنسب من غيره من المعاني كما قال : (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١) ، (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٢).

والجزاء بعد الحساب فهو يشمله ، والحساب للجزاء فيدلّ عليه ، ولذا فسّره مولينا العسكريّ عليه‌السلام في تفسيره بيوم الحساب قال : ويوم الدين هو يوم الحساب (٣) ورواه في «المجمع» عن أبى جعفر عليه‌السلام.

ومنه يظهر أنّه لا داعي إلى تكلّف غيره من المعاني ، وان كانت المناسبة الّتي بينه وبين كثير منها كافية في التّسمية ، فإنّه يوم جزاء الإسلام بتقدير المضاف ، وكذا لو أخذ بمعنى العبادة ، أو الطّاعة ، أو الملّة ، والتّوحيد ، أو أنّه يوم أصحاب التوحيد ، أو يوم ظهور الوحدانيّة له تعالى وبطلان الشرك بتبري الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا فإنّهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنّم» فهو يوم ذلّة المشركين بل المجرمين ، (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٤) ، آه ويوم القهر والغلبة بمعنى الفاعل والمفعول ، ويوم ظهور السّلطنة والعلو والملك والحكم وسيرة العدل والتدبير لله ربّ العالمين ، ولأوليائه القوّامين بأمره العاملين بإرادته.

ثمّ انك إذا اعتبرت معاني اليوم ومعاني الدين على وجه الظهور والبطون ، أو عموم المجاز أو الحقيقة بعد الحقيقة ، أو استعمال اللّفظ في المعنيين الحقيقيّين ، أو المعنى الحقيقي والمجازي على فرض جوازهما يظهر لك معان كثيرة وشئون غفيرة للرّبوبيّة.

__________________

(١) الجاثية : ٢٨.

(٢) غافر : ١٧.

(٣) مجمع البيان : ج ١ / ٢٤.

(٤) السجدة : ١٢.

٤٧٢

واعلم أنّه على قراءة ملك تكون الإضافة معنويّة موجبة لتعريف المضاف كى يصحّ توصيف المعرفة الّتي هو الله به لأنّ الصّفة المشبّهة لا تعمل النّصب حتى تكون مضافة إلى المفعول به لاشتقاقها من اللّازم ، وإضافتها اللّفظية منحصرة في اضافتها إلى فاعلها فالاضافة في ملك يوم الدّين مثل كريم البلد حقيقيّة يكسب التّعريف.

وأمّا تجويز سيبويه هو رحيم فلانا وجليس زيدا فقد قيل إنّه نصّ على أنّ الأوّل من ابنية المبالغة ، وحكمه حكم اسم الفاعل حينئذ ، والثّانى بمعنى مجالس وإلّا لم يكن متعدّيا.

واحتمال كون ملك في المقام من أبنية المبالغة نظرا إلى كونه متعدّيا ، مع أنّهم صرّحوا بلزوم اشتقاق الصفّة من الفعل اللّازم مدفوع بما مرّ من تصريحهم بتقدير اللّزوم فيه وفي نظائره في باب المدح والذم بنقل الفعل إلى القرائن بل قيل : إنّ تقدير اللّزوم في المتعدّى كثير في كلامهم كقولهم يعطى ويمنع أو يفعل الإعطاء والمنع ، من غير اعتبار أنّه من يعطيه وما يعطيه.

وأمّا على قراءة مالك فقد أجيب عن إشكال وقوعه صفة للمعرفة بوجهين : أحدهما تجريده عن معنى الحدوث والتّجدد بمعنى أنّ له الملك في هذا اليوم على وجه الثّبوت والدّوام والاستمرار فلا يكون مشابها لفعل في التّجدد والحدوث ، نعم ربما يقال لا مانع من عمله حينئذ أيضا ويستشهد له بقوله : (جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) (١) بنصب الشمس والقمر عطفا على محلّ اللّيل مع قصد الاستمرار من اسم الفاعل كما عطف على محلّه في قوله :

هل أنت باعث دينار لحاجتنا

أو عبد ربّ أخاعون بن محراق

بنصب عبد ، وقد يجاب بانّ الاستمرار يحتوي على الأزمنة الماضية والآتية

__________________

(١) الأنعام : ٩٦ على قراءة (جاعل) لا القراءة الموسومة إنّها (جعل).

٤٧٣

والحال ، فتارة يعتبر جانب الماضي فتجعل الإضافة حقيقيّة ، وتارة جانب الآتي والحال فتجعل لفظيّة ، والتعويل على القرائن والمقامات.

وتوهّم منافاة التّقييد بيوم الدّين للاستمرار نظرا إلى صراحته في الاستقبال مدفوع بأنّ المراد الثّبوت والاستمرار من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة ، ومثل هذا المعنى لا يمتنع أن يعتبر بالنّسبة إلى يوم الدّين كأنّه قيل هو ثابت المالكيّة في ذلك اليوم.

وربما يقال : إنّ الاستمرار في مالك يوم الدّين ثبوتى ، وفي جاعل اللّيل تجدّدي ، لتعاقب أفراده فكان الثّانى عاملا وإضافته لفظيّة لورود المضارع بمعناه دون الأوّل ، والثّانى أنّه بمعنى الماضي تنزيلا لما تحقّق وقوعه ولو في زمان من الأزمنة منزلة الواقع ، ومثله كثير في القرآن ، وأمّا إضافته إلى الظّرف مع عدم كونه فاعلا ولا الوصف عاملا فعلى الاتّساع والتّجوز عند الأكثر فأجرى الظّرف مجرى المفعول به حيث لا يقدّر معه في ، بل ينصب نصبه ويضاف إليه على حسبه.

وفيه : مع أنّه التزام بكونه حينئذ عاملا أنّه مشتمل على تكلّف لا داعي إليه ، وهو جعل اسم الفاعل بمعنى الماضي لتكون الاضافة معنويّة ثمّ جعل الماضي بمعنى المستقبل ، وهو كما ترى.

مع أنّ هذا كلّه بناء على الجري على طريقة القوم وإلّا فلا يخفى أنّ الأزمنة كلّها منقطعة في حقّه سبحانه إذ ليس عند ربّك صباح ولا مساء فجميع الأزمنة عند فعله بل عند ملكوته كنقطة محدودة وإنّما يتوارد الأزمنة بحدودها وأطوارها واكوارها علينا في هذا العالم النّاسوت.

ومن هنا يظهر أنّ الأظهر في الجواب هو الوجه الأوّل لضعف الثّانى كضعف ما قيل أيضا في الجواب من كونه بدلا ليحصل التخلّص من تلك التكلّفات ، نظرا إلى ما هو المختار عند المحقّقين من النّحويّين من جواز إبدال النكرة الغير

٤٧٤

الموصوفة من المعرفة ، إذ فيه أنّ البدل هو التّابع المقصود بالحكم بلا واسطة ومن البيّن أنّ المقصود في المقام إثبات الحمد لله باعتبار هذه الصّفات لا أنّه ثابت للوصف الأخير فالله هو المقصود بالحكم وهو المتبوع لا التّابع.

ثمّ انّه يستفاد من تفسير الامام عليه‌السلام جواز كون الإضافة إلى الظّرف وإلى المفعول قال عليه‌السلام : مالك يوم الدين أي قادر على إقامة يوم الدّين وهو يوم الحساب ، قادر على تقديمه عن وقته وتأخيره بعد وقته وهو المالك أيضا في يوم الدين فهو يقضى بالحقّ لا يملك الحكم والقضاء في ذلك اليوم من يظلم ويجور كما قد يجور في الدّنيا من يملك الأحكام ، قال وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الّدين هو يوم الحساب (١).

أسماء القيامة

اعلم أنّ للقيمة أسماء كثيرة باعتبار الشّؤون الواقعة في ذلك اليوم ، وقد ضبطها بعضهم بواحد ومائة يستفاد أكثرها بالتلويح كيوم النشور ، ويوم الفراق ، ويوم القضاء ، ويوم الزّلفة ، ويوم السّكرة ، وغيرها المصرّح به منها في الكتاب العزيز أربع وثلثون منها المجرّد من لفظة اليوم ، وهي أحد عشر اسما السّاعة ، والحاقة ، والطّامّة ، والآزفة ، والغاشية ، والقارعة ، والرّاجفة ، والرّادفة ، والواقعة ، والخافضة ، والرّافعة ، ومنها المقترنة بها بالإضافة والتّوصيف كاليوم الآخر ، ويوم الآزفة ، ويوم التّلاق ، ويوم تبلى السّرائر ، ويوم التّغابن ، ويوم التّناد ، ويوم الجمع ، ويوم الحسرة ، ويوم الحساب ، واليوم الحقّ ، ويوم الخروج ، ويوم الخلود ، ويوم عبوس قمطرير ، ويوم عظيم ، ويوم عسير ، ويوم الفصل ، ويوم القيمة ، ويوم معلوم ، ويوم مجموع له

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٢ / ٢٥٠ عن تفسير الامام عليه‌السلام.

٤٧٥

النّاس ، ويوم مشهود ، ويوم الوعيد ، ويوم الموعود ، ويوم الدّين الّذى قد سمعت وجه تسمية به بمعانيه ، لكنّه خصّه بإضافة المالك أو الملك إليه مع ثبوت الوصفين له في جميع العوالم والنشئات بكلّ الاعتبارات لإفادة تعظيم ذلك اليوم ، فانّ الانتساب إلى العظيم تنبيه على التّعظيم ، ولأنّ الملك والملك الحاصلان في هذا العالم ربّما ينتسبان إلى غيره انتسابا ثانويّا بواسطة أو بوسائط مجعولا من قبله لانتفاع الخلق بهما كما قال سبحانه : (يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) (١) ، (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) (٢) ، (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) (٣) وقال : (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) (٤).

وذلك لاحتياجهم في أمر معاشهم ومعادهم ونظام أمورهم إلى هذه الأمور الاعتباريّة ، والارتباطات الّتي لا حقيقة لها سوى جعله مع أنّه هو المالك لما ملكهم وهو المالك لهم بل شتّان بين الملكيّة المجعولة لنا في أموالنا وأرقّاتنا لفائدة لانتفاعنا بها وبالتّصرف فيها في الحيوة الدّنيا وبين الملكيّة الّتي له سبحانه فيما أنشأه وقدّره وقضاه وأمضاه وخلقه وصوّره ورزقه وأتقن خلقه ، وأفاض عليه الإفاضات السّيالة الدّائمة اللّايزالية الغير المنقطعة ، بحيث لو انقطع عنها فيضه لكان عدما محضا بحتا ، وأمّا في يوم القيمة تنقطع تلك العلائق وترتفع تلك الاعتبارات لعدم الحاجة إليها بل لعدم الانتفاع بها فإنّ الأشياء المملوكة في هذه الدّنيا من سنخ هذا العالم ، فيحصل الانتفاع بها في هذه الدّار دون الدّار الاخرة كما لا يحصل الانتفاع لأهل هذا العالم بدم الحيض وإن كانوا ينتفعون بها في عالم الأرحام ، وكما لا يحصل للملك الانتفاع بالأغذية الجسمانيّة النّاسوتيّة ، ولذا لا يكون الملك

__________________

(١) البقرة : ٢٤٥.

(٢) آل عمران : ٢٦.

(٣) المائدة : ٢٠.

(٤) يس : ٧١.

٤٧٦

والملك مجعولا لهم يوم القيمة ، فيكون الأمر والملك كلّه لله كما كان في الدّنيا إلّا أنّه في الدّنيا ربما ينصرف النّظر إلى بعض الاعتبارات والجعليّات الظلّيّة فيتوهّمها من الحقائق المتحصّلة المتأصّلة كما قال فرعون : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١).

وفي مصباح الشريعة : يقول ابن آدم : ملكي ملكي ومالي مالي ، يا مسكين اين كنت حيث كان الملك ولم تكن ، وهل لك إلّا ما أكلت فأفنيت. إلخ (٢).

وأمّا في الاخرة فينكشف الغطاء من البصائر والأبصار وينجلي لهم حقائق الأسرار كما قال سبحانه : لقد كنت في غفلة من هذا (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٣) فيرى الملك كلّه لله كما يحكى سبحانه عن السائلين والمجيبين في ذلك اليوم وهم الأئمّة عليهم‌السلام كما في الخبر لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (٤). (٥)

ولأنّ بالرّبوبيّة المطلقة الكليّة التّامّة العامّة المشار إليها بقوله : ربّ العالمين سيّما بعد تعقيبه بذكر الرّحمتين اللّتين هما العدل والفضل اللّذين يتمّ ويكمل بهما الرّبوبيّة قد ثبت له سبحانه جميع الشّئون الّتى منها الملك والملك في عالم التّربية الّتي هو عالم التّرقّى والكسب وظهور الأمور وحيث كانت الاشارة فيها خفية على ثبوت تلك الشؤون بل الشؤون الّتي يناسبها يوم الجزاء في ذلك اليوم أظهرها وأكّدها بقوله : مالك يوم الدّين.

__________________

(١) الزخرف : ٥١.

(٢) بحار الأنوار ج ٧١ ص ٣٥٦ ح ١٧ عن مصباح الشريعة الباب (٣٧) عن الصادق عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) ق : ٢٢.

(٤) غافر : ١٦.

(٥) نور الثقلين ج ٤ / ٥١٤ ح ٢٥ عن التوحيد.

٤٧٧

ثمّ انّ هذا كلّه على فرض اختصاص يوم الدّين بيوم القيامة والّا فالأظهر شموله لجميع النّشئات والعوالم بجميع معاني الدّين عن الإسلام والجزاء والحساب والحكم وغيرها فإنّ شئون الرّبوبيّة لا تعطيل لها في شيء من المراتب والأمكنة والنّشئات والعوالم غاية الأمر انّه في كلّ عالم بحسبه فالدّين يعنى الإسلام ثابت في جميع العوالم وهو مالكه ومعطيه وممدّه والمجزى عليه ، وبمعنى الجزاء ثابت في الدّنيا وفي البرزخ أيضا غاية الأمر أنّ الجزاء الّذي هو في الدّنيا من سنخ الأمتعة الدّنيويّة كما يقال للكفّار : (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) (١). وأيضا من سنخ الإمدادات والإفاضات والتّوفيق والخذلان وغيرها ، بل في كلّ أن يحصل لكلّ موجود من الموجودات في كلّ عالم من العوالم كسر وصوغ فينكسر ويتلاشى من حيث إنيّته ويصوغ صيغة على حسب رتبته ودرجته ونيّته وشاكلته ومنه يتحصّل معنى الحساب أيضا.

ولذا قيل : إنّ معنى سرعة الحساب إنّ الله سبحانه يحاسب العبد في الدّنيا في كلّ ان ولحظة ويجزيه على عمله ، وفي كلّ حركة وسكون ويكافي طاعاته بالتّوفيقات ومعاصيه بالخذلانات ، فالخير يجرّ الخير والشرّ يدعو إلى الشرّ ، ومن حاسب نفسه في الدّنيا عرف هذا المعنى كما قال عليه‌السلام : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا» (٢).

تبصرة

قد سمعت أنّ مالك يوم الدين بجميع معانيه في جميع العوالم هو الله سبحانه لا شريك له في ذلك ولا معين ولا ظهير له في شيء منه فليس له شريك في الملك

__________________

(١) الأحقاف : ٢٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧٠ / ٧٣ ح ٣٦ عن محاسبة النفس.

٤٧٨

ولا له ولىّ من الذّل إلّا أنّه بعزّته قد اتّخذ لنفسه أولياء من خلقه وجعلهم أمناء وحججه على بريّته وهم محمّد وآل محمّد عليهم الصلاة والسّلام فولّاهم أمر خلقه في جميع الشؤون الّتي مرجعها إلى الفعل ، فانّهم أمر الله الفعلى الّذى بهم قامت السّموات والأرض قياما صدوريّا وقياما ركينا ، فإليهم إياب الخلق وعليهم حسابهم كما في الزّيارة الجامعة بل في الاخبار المستفيضة بل المتواترة في تفسير الآية وفي كونهم قسيم الجنّة والنّار وفي باب الشّفاعة وغير ذلك ، ولا غرو في التفويض السّيلانى بالنّسبة إليهم ، فإنّ هذا ثابت في حقّ شيعتهم أيضا كما روى في مشكاة الأنوار عن مولانا الباقر عليه‌السلام إنّ المؤمن ليفوّض الله إليه يوم القيمة فيضع ما شاء فسأله جابر الجعفي عنه من كتاب الله فقال قوله : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) فمشيّة الله مفوّضة إليه والمزيد من الله ما لا يحصى.

ثمّ قال يا جابر ولا تستعن بعدوّنا في حاجة ، ولا تستطعمه ولا تسأله شربة ماء انّه ليخلّد في النّار فيمرّ به المؤمن ، فيقول : يا مؤمن ألست فعلت بك كذا وكذا؟ فيستحيي منه فيستنقذه من النّار ، وإنّما سمّى المؤمن مؤمنا لأنّه يؤمن على الله فيجيز الله أمانه (١).

فالدّين إن كان بمعنى الحساب عليهم وكذا بمعنى الجزاء لقضيّته القسمة بل في الزّيارة الرجبيّة : أنا سائلكم واملكم فيما إليكم التفويض ، وعليكم التّعويض فبكم يجبر المهيض ويشفى المريض.

ومن كلام مولانا أمير المؤمنين قبل موته «غدا ترون ايّامى وتكشف لكم من سرائري» (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨ / ٤٢ ح ٣٦ عن محاسن البرقي ص ١٨٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤٢ / ٢٠٧ ح ١١ عن الكافي ج ١ ص ٣٠٠.

٤٧٩

إِيَّاكَ نَعْبُدُ

فصل

ثمّ انّه لما ثبت لنفسه على لسان عبده الرّبوبيّة والرّحمة والملك بحيث لا يشاركه في شيء منها غيره بل قد انحصر أسباب الخوف والرّجاء فيه سبحانه بحيث ليس للعبد مطمع في غيره ولا له خوف إلّا منه مع أطباق العقول على ضرورة وجوب شكر المنعم وعبادته سيّما بعد كون المعاد إليه والجزاء من لديه المشعرين بامره وطلبه وإيجابه التفت من مقام الغيبة والحكاية إلى مشهد الحضور والعناية فصار ما هو الثّابت بالبرهان مشاهدا بالعيان فتعرض لنفحات القدس وتمكّن على سرير الأنس وتحلّى بحلية العبادة وتخلّى عن الاستعانة بغيره في الفوز بالسّعادة ، فقال بلسان عبيده تعليما لهم على وجه الاخبار والإنشاء (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.)

وهذه هي الآية المتوسطة بين الرّب وبين عبده فانّ أوّل السّورة تحميد وتمجيد ومدحة لله سبحانه وآخرها دعاء ورغبة ورهبة وفي هذه الآية بيان انتساب العبد إلى ربّه وافتخاره به وافتقاره إليه ولذا جعلها واسطة بين تمجيده بأتم الصّفات ودعائه لأعظم المهمّات بل بين الإفاضة والاستفاضة.

اللّغة والقراءة

بحث نحوي في ايّاك

اختلفوا في إيّاك وأخواته من الضّمائر المنصوبة المنفصلة هل الضّمير منه إيّا

٤٨٠