تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

المشية العزمية فهي المكتوبة.

أقول : وستسمع عن قريب تمام البحث في مغايرة المادّة التي اشتق منها اسم الرحمن ، وما اشتق منه اسم الرحيم بحسب المعنى الملحوظ فيهما.

بقي الكلام في تحقيق هذين القسمين من الرحمة ، وإن كان سيأتي إن شاء الله في الآية المتضمنة لهما (رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (١) ، إلا أنه لا بد في المقام من شرح الاسمين الذين أحدهما إشارة إلى الواسعة وهو الرحمن ، والآخر إلى المكتوبة ، وهو الرحيم.

وذلك أن الله تعالى وهو الفعّال لما يريد ، علم وشاء وأراد وقدّر وقضى وأمضى أن يجري فيض جوده على حسب قبول الأعيان واختياراتها واستعداداتها من السعادة والشقاوة والخير والشر والنعيم والجحيم والاستقامة والاعوجاج وغير ذلك مما يختاره الشيء حين تشيّئه وحين ما هو شيء ومن حيث ما هو مختار.

إذ الحق أنه لا جبر ولا إكراه ولا اضطرار في الشرع التكويني ولا في الكون التشريعي (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (٢) ، (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٣).

أنزل من السماء سماء الوجود ومنبع الجود ، عرش الإمكان والأكوان ، ومستوى الرحمن ، ماء ، وهو ماء الإفاضة والإيجاد ومادة المواد ، ومفيض القابلية والاستعداد (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) (٤) وانوجدت الأشياء على حسب قبولها واختيارها ، وهذه الرحمة التي هي مقتضى تلك المشية الحتمية يسمى رحمة العدل

__________________

(١) الأعراف : ١٥٦.

(٢) البقرة : ٢٥٦.

(٣) يونس : ٩٩.

(٤) الرعد : ١٧.

٢٦١

المشار إليها بقوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (١) فإن كلا من الخيرات والشرور ، والجنان والنيران ، والسعادة والشقاوة ، يطلق عليها اسم الشيء ، بل المبعدون المطرودون عن منبع النور أشد تحققا في الشيئية من حيث أنفسها وإنياتها.

ولذا لمّا سئل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الشيء أجاب عليه‌السلام بأنه كافر مثلك (٢).

سيّما مع مطابقة أعداده للمنكر الذي هو الثاني المطرود المبعّد عن معدن النور أبو الشرور.

ثم إنّ اسم الرحمن هو الظاهر بهذه الرحمة الواسعة والنعمة الجامعة ، قد استوى على عرش الوجود وفتح أبواب خزائن الرحمة والجود ، ولذا قال سبحانه : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٣) ، لإفادة الوجود والفيوض الموجبة للعبودية ، وهو القدر المعلوم المشار إليه بقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٤) ، وهو وإن كان متساوي النسبة إلا أن الاختلاف لاختلاف القوابل والأسولة فيعطي من سئله قدر سؤاله ، ولو سئلته القوابل على نسبة واحدة لأعطاهم كذلك.

ولذا قال سبحانه : (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (٥) ، وقال : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٦) بألسنة قبولهم واختيارهم واستعدادهم كل يوم ، أي آن من الآنات ،

__________________

(١) الأعراف : ١٥٦.

(٢) لم أظفر على مصدر له.

(٣) سورة مريم : ٩٣.

(٤) الحجر : ٢١.

(٥) فصلت : ١٠.

(٦) الرحمن : ٢٩.

٢٦٢

أو رتبة من المراتب الإمكانية والكونية من الطولية والعرضية هو في شأن من شؤون الربوبية برحمته الواسعة ويده الباسطة ، فإن له الربوبية إذ لا مربوب ، وهذه ربوبية إذ مربوب ، فافهم الكلام وعلى من يفهم السّلام.

وأما الرحمة المكتوبة المشار إليها بقوله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ) (١).

ثم فسر الآيات بمتابعة : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٢) والإيمان بالنور الذي معه وهو مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وبقوله تعالى : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً) (٣) الآية.

وهذه الرحمة هي التي بها يسعد من سعد ، ويفوز من يفوز ، ويشقى من يشقى وهو العقل الذي به يثيب وبه يعاقب ، وبه يعبد الرحمن ويكتسب الجنان ، وهي مقتضى المشية العرضية ، فإن الله تعالى أحبّ لعباده الخير ليوصلهم إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، بل إنما خلقهم لهذا لا لغيره ، ولذا قال :

(وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (٤) ، وقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥).

والظاهر بهذه الرحمة بل مظهرها هو اسمه تعالى الرحيم ، ولذا قال الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما رواه في «التوحيد» و «تفسير الإمام» : الرحمن الذي يرحم

__________________

(١) الأعراف : ١٥٦.

(٢) الأعراف : ١٥٧.

(٣) الأنعام : ٥٤.

(٤) هود : ١٨ ـ ١٩.

(٥) الذاريات : ٢٢.

٢٦٣

ببسط الرزق علينا» (١).

وفي تفسير الإمام : «العاطف على خلقه بالرزق ، لا يقطع عنهم مواد رزقه وإن انقطعوا عن طاعته ، والرحيم بعباده المؤمنين في تخفيفه عليهم طاعاته ، وبعباده الكافرين في الرفق بهم في دعائهم إلى موافقته».

قال الإمام عليه‌السلام في معنى الرحمن : «ومن رحمته أنه لما سلب الطفل قوة النهوض والتغذي جعل تلك القوة في أمه ورققها عليه ، لتقوم بتربيته وحضانته فإن قسي قلب أم من الأمهات أوجب تربية هذا الطفل على سائر المؤمنين ، ولمّا سلب بعض الحيوانات قوة التربية لأولادها والقيام بمصالحها جعل تلك القوة في الأولاد لينهض حين تولد وتسير إلى رزقها المسبب لها».

إلى أن قال عليه‌السلام :

«فأما الرحيم فإن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : رحيم بعباده المؤمنين ، ومن رحمته أنه خلق مائة رحمة ، وجعل منها رحمة واحدة في الخلق كلهم فبها يترحم الناس ، وترحم الوالدة لولدها ، وتحنوا الأمهات (٢) من الحيوانات على كل أولادها (٣) ، فإذا كان يوم القيامة أضاف هذه الرحمة إلى تسعة وتسعين رحمة فيرحم بها أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم يشفعهم فيمن يحبون له الشفاعة من أهل الملة حتى أن الواحد ليجيء إلى مؤمن من الشيعة فيقول : اشفع لي ، فيقول : وأيّ حق لك علي؟ فيقول : سقيتك يوما ماء فيذكر ذلك له ، فيشفع له فيشفع فيه ، ويجيء آخر فيقول له : إن لي عليك حقا فاشفع لي ، فيقول : وما حقك علي؟ فيقول : استظللت بظل جداري ساعة في يوم حارّ ، فيشفع له فيشفع فيه ، ولا يزال يشفع حتى يشفع في جيرانه وخلطائه

__________________

(١) التوحيد : ص ١٦٤ ، وعن البحار : ج ٩٢ / ٢٣٣.

(٢) في البحار : وتحنن.

(٣) في البحار : على أولادها.

٢٦٤

ومعارفه فإن المؤمن أكرم على الله مما يظنون» (١).

وروى في «المجمع» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يقرب منه (٢).

ومن جميع ما مر يظهر معنى قول مولانا الصادق عليه‌السلام على ما رواه في «المجمع» قال : «الرحمن اسم خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة» (٣).

وفي بعض النسخ اللام عوض الباء.

وعلى كل حال ، فالمعنى أنّ الرحمن اسم خاص بالله سبحانه لا يطلق على غيره حسب ما مر ، وإطلاقه عليه إنما هو باعتبار صفة عامة يعم الخلق جميعا : البر منهم والفاجر ، والباطن منهم والظاهر ، لأنه يشملهم في مقام التكوين بعد التمكين وفي رتبة جريان الماء على الطين (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٤).

وأن الرحيم اسم عام يطلق عليه وعلى غيره ، لكن باعتبار تعدد المعنى لا اتحاده حسبما سمعت ، وإطلاقه عليه سبحانه باعتبار معنى خاص يشمل المؤمنين خاصة.

نعم ، ربما يقال : إنّ الرحمن هو معطي الرحمة والخير والبركة والرزق والحياة في الدنيا والرحيم هو معطي النور والكرامة والمغفرة والثواب في الآخرة فخصوا الرحمة الدنيوية فضلا كانت أو عدلا باسم الرحمن ، والأخروية من الصنفين جميعا

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٢ / ٢٤٠ ـ ٢٥٧ ، ح ٤٨ عن التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام.

(٢) مجمع البيان : ج ١ / ٢١.

(٣) المجمع : ج ١ / ٢١.

(٤) الملك : ٣٠.

٢٦٥

باسم الرحيم.

وربما يستدل له بما رواه في «المجمع» عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن عيسى بن مريم قال : الرحمن رحمن الدنيا والرحيم رحيم الآخرة» (١).

قلت : وهذه الرواية كأنها عامية مع أن الكلمتين عربيتان.

وعلى كل حال فهو لا يعارض الأخبار المتقدمة الظاهرة في إطلاقهما في كل من الدارين ، سيما بعد ما ورد في الدعاء : «يا رحمن الدنيا ورحيمهما» كما في الدعاء الرابع والخمسين من «الصحيفة السجادية» وغيرها.

ولعل المراد بالنبوي المتقدم أنه الرحمن في الأمور الدنيوية ، الرحيم في الأمور الأخروية ، فعبر بالأول عن الفضل وبالثاني عن العدل ، مع وقوع كل من الأمرين في الدنيا والآخرة وأن يد الله ليست مغلولة في الدنيا ولا في الآخرة ، بل يداه مبسوطتان بالعدل والفضل فيهما ينفق كيف يشاء بالمشية الحتمية أو العرفية حسبما سمعت.

ولذا قال مولانا الصادق عليه‌السلام على ما رواه في «الكافي» و «التوحيد» و «العياشي» في تفسير البسملة : «إن الباء بهاء الله ، والسين سناء الله ، والميم مجد الله».

وفي رواية «ملك الله والله إله كل شيء الرحمن بجميع خلقه الرحيم بالمؤمنين خاصة» (٢).

وفي «التوحيد» : «الرحمن بجميع العالم والرحيم بالمؤمنين وهم شيعة

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ / ٢١.

(٢) التوحيد للصدوق : ص ٢٠٣ ، ح ٢ و ٣ ، باب معنى بسم الله.

٢٦٦

آل محمد خاصة» (١).

قلت : وإليه الإشارة بقوله (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٢) و (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣).

فالعدل يشمل كل العالم في الدنيا والآخرة بلا فرق بين البر والفاجر (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) (٤) ، (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٥).

والفضل يشمل المؤمنين في الدنيا بالتوفيق للصالحات والعصمة عن السيّئات وإدرار الرزق ، ورفع البلاء ، وجميل العطاء ، وفي الآخرة بالمغفرة والجنة التي لا يستحقه أحد بعمله.

(قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) (٦).

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) (٧).

بالمشية العزمية الفضلية بل ورد في تفسير قوله : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ) (٨).

في «المجمع» عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله

__________________

(١) التوحيد للصدوق : ص ٢٠٣ ، ح ٣ ، وفيه : بالمؤمنين خاصة.

(٢) الأحزاب : ٤٣.

(٣) الأعراف : ٥٦.

(٤) يونس : ٤٤.

(٥) النساء : ٤٠.

(٦) يونس : ٥٨.

(٧) النور : ٢١.

(٨) الأنعام : ١٥ ـ ١٦.

٢٦٧

برحمته منه وفضل» (١).

ويشمل الكافر أيضا من جهة إدرار الرزق ، ودفع البلاء ونحوه ، إلا أنه مع كونه بتبعية المؤمنين لأنفسهم وإصلاح معاشهم إمهال واستدراج لهم.

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٢).

فقد تبيّن مما مرّ أنّ الفرق بين الاسمين باعتبار الشمول والعدل لا الدنيا والآخرة.

إيراد مقال لدفع إشكال

ربما يورد على ما ذكرناه من انقسام الرحمة إلى القسمين وأنّ الرحمانية هي العامة الواسعة التي يشترك فيها الموافق والمنافق إشكال حاصله أنه ورد في الدعاء : «اللهمّ إنّك قلت وقولك الحق : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (٣) وأنا شيء فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين» (٤).

ومن البيّن أنّ الرّحمة المسؤولة هي الفضل الذي بيد الله ، يؤتيه من يشاء (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) (٥).

وهو الرحمة الرحيمية الإيمانية المشار إليها بقوله : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٢ / ٢٨٠ ، وعنه البحار : ج ٧ / ١١.

(٢) آل عمران : ١٧٨.

(٣) الأعراف : ١٥٦.

(٤) مصباح المتهجد : ص ٢٥٠ ، وعنه البحار : ج ٩٠ / ٨.

(٥) يونس : ٥٨.

٢٦٨

يَشاءُ) (١) وقوله : (أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) (٢).

وأمّا رحمة العدل فلا بد أن يجري على حسب القبول والاستعداد والحكمة والتربية ، ولذا يشترك فيها المؤمن والكافر ، والبر والفاجر.

بل رحمة العدل ليس شيء منها يسأل أو يطلب ، لأن الخوف كل الخوف من عدله تعالى ، ولذا ورد : «إلهي ربّ عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك» وفي الدعاء : «كل خوفي من عدلك» وورد في قوله : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) (٣) ، أنّ المراد هو الاستقصاء والمداقّة فسمّاه سوء الحساب.

وعلى هذا فكيف يستقيم الاستشهاد بالآية سيّما بعد ملاحظة ما سبق ، ومقابلتها بالمكتوبة مع أنّ ظاهره الاستدلال بعموم الشيء.

وربما يجاب بأن الله تعالى حيث إنّه عالم السر والخفيات يعلم مراد السائلين ، ويطلع على ضمائر الطالبين ، خاطبه الداعي بما عنده مما يعلمه أن الله يعلم ما في سره وقلبه ، فكأنه أراد بقوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) أنّ فضلك شامل ، فوسع كلّ من رضيت دينه ، وأنا يا إلهي ممن ترضى دينه لإيماني بالتوحيد والنبوة والولاية ، وإتياني بما أمرتني به خاضعا مسلما ، فلتسعني رحمتك ، ولا تؤاخذني بالمعاصي الذي اقترفت واغفرها لي.

وحاصله كما صرّح به هذا القائل تخصيص الشيء في الآية وإطلاق الرحمة الواسعة على رحمة الفضل.

قلت : ويمكن أن يكون الإطلاق في الدعاء على فرضه ، حيث إنّي لا

__________________

(١) البقرة : ١٠٥.

(٢) هود : ٣.

(٣) الرعد : ٢١.

٢٦٩

يحضرني موضعه (١) مبنيّا على تنزيل ما سوى المرحوم بالرحمة الرحيمية بمنزلة المعدوم ، وأن الشيء حقيقة هو المرحوم بالرحمة الإيمانية ، وأما المرحوم بالرحمة الرحمانية خاصة فهو لا شيء ، كما هو المستفاد من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) (٢).

ولذا لمّا سئل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام عن لا شيء أجاب بأنّه سراب.

ومن هنا نفى عنهم الحياة والسمع والبصر في كثير من الآيات كقوله : (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) (٣) ، (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) (٤) الآية ، وغيرها من الآيات.

فكأنه ادّعى أنّ رحمتك هي الرحمة الإيمانية ، وهي وسعت كل شيء بالمعنى المتقدّم كقوله : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (٥).

وأما قوله : «وأنا شيء» فمعناه بالتوجه إليك ، والسؤال منك ، والإقبال عليك.

على أنّ هذا النوع من التلطف في السؤال مبنيّ على ضرب من الإدلال ، لا يعرفه أصحاب القيل والقال ، ومثله كثير في المناجاة المأثورة عن النبي والآل عليهم صلوات الله الملك المتعال.

تنبيه

ما ذكرناه في اشتقاق الرحمة إنّما هو بحسب الاشتقاق اللفظي ، وأمّا من

__________________

(١) تقدّم الموضع : مصباح المتهجّد ص ٢٥٠ وعنه البحار : ج ٩٠ / ٨.

(٢) النور : ٣٩.

(٣) النحل : ٢١.

(٤) الفرقان : ٤٤.

(٥) يس : ٧٠.

٢٧٠

حيث المعنوي الذي قد سمعت جملة الكلام فيه فهي مشتقّة من رحم محمد وآل محمد صلّى الله عليهم أجمعين ، وذلك أنهم هم الرحمة الموصولة المشار إليها في الزيارة الجامعة أي الموصولة بفعله سبحانه ، فهم نفس فعله الموصول به سبحانه ، اتصال الفعل بالفاعل ، والصنع بالصانع ، وشيعتهم موصولون بهم اتصال شعاع الشمس بالشمس ، والنور بالمنير ، بأنحاء التجلّيات والإشراقات الواقعة في السلسلة الطولية ، وفي عرض تلك السلسلة ، وذلك أنه إن ذكر الخير كانوا أوله وأصله ومعدنه ومأواه ومنتهاه ، فطينة شيعتهم مشتقة من فضل طينتهم ، وأفعالهم من أفعالهم وأقوالهم من أقوالهم ، وأحوالهم من أحوالهم ، وإرادتهم من إرادتهم.

فمن أخذ بالمنهج القويم ، وسلك الصراط المستقيم ، واتبعهم في جميع الأفعال والأقوال بلا تخلّف عنهم في أمر من الأمور فقد اقتبس من أنوارهم ، واقتفى على آثارهم ووصل رحمهم ، ومن خالفهم في الجميع فقد قطع رحمهم ، وبين هذين درجات ومراتب يسير فيها السائرون ، ويسلكها السالكون ، فأصل هذه الرحم هو الولاية ، ومن فروعها كلّ خير وبرّ وإحسان.

ولذا قال الصادق عليه‌السلام في (الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (١) : «إنها نزلت في رحم آل محمد عليهم‌السلام وقد يكون في قرابتك» ثم قال عليه‌السلام :

«فلا تكونن ممّن يقول للشيء : إنه في شيء واحد» (٢).

وفي تفسير الإمام عليه الصلاة والسّلام عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام :

«أنّ الرحمن مشتقّ من الرحمة ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : قال الله عزوجل : أنا الرحمن وهي الرحم ، شققت لها اسما من اسمي ، من وصلها وصلته ،

__________________

(١) الرعد : ٢١.

(٢) بحار : ج ٧٤ / ١٣٠ ، ح ٩٥.

٢٧١

ومن قطعها قطعته».

ثم قال علي عليه‌السلام : «أو تدري ما هذه الرحم التي من وصلها وصله الرحمن ، ومن قطعها قطعه الرحمن؟» فقيل : يا أمير المؤمنين حثّ بهذا كلّ قوم أن يكرموا أقربائهم ويصلوا أرحامهم ، فقال لهم : أحثّهم على أن يصلوا أرحامهم الكافرين ، وأن يعظّموا من حقّره الله وأوجب احتقاره من الكافرين؟ قالوا : لا ولكنه حثّهم على صلة أرحامهم المؤمنين ، قال : فقال : أوجب حقوق أرحامهم لاتصالهم بآبائهم وأمهاتهم ، قلت : بلى يا أخا رسول الله ، قال : فآباؤهم وأمهاتهم ، إنّما غذّوهم في الدنيا ووقوهم مكارهها وهي نعمة زائلة ، ومكروه ينقضي ، ورسول ربهم ساقهم إلى نعمة دائمة لا تنقضي ، ووقاهم مكروها مؤبدا لا يبيد.

فأي النعمتين أعظم؟ قلت : نعمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم وأجل وأكبر ، قال : فكيف يجوز أن يحثّ على قضاء حقّ من صغّر الله حقّه ، ولا يحثّ على قضاء من كبّر الله حقه؟ قلت : لا يجوز ذلك ، قال فإذا حقّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعظم من حق الوالدين ، وحقّ رحمه أيضا أعظم من حقّ رحمهما ، فرحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بالصلة وأعظم في القطيعة ، فالويل كلّ الويل لمن قطعها ، والويل كل الويل لمن لم يعظّم حرمتها ، أو ما علمت أنّ حرمة رحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمة الله؟ وأنّ الله أعظم حقا من كل منعم سواه ، فإنّ كل منعم سواه إنما أنعم حيث قيضه له ذلك ربّه ووفّقه ، أما علمت ما قال الله تعالى لموسى بن عمران حيث قال : يا موسى أتدري ما بلغت رحمتي إيّاك؟ فقال موسى عليه‌السلام : أنت أرحم بي من أبي وأمي ، فقال الله : يا موسى! إنما رحمتك أمّك لفضل رحمتي ، فأنا الذي رفّقتها عليك ، وطيّبت قلبها لتترك طيب وسنها لتربيتك ، ولو لم أفعل ذلك بها لكانت وسائر الناس سواء ، يا موسى أتدري أنّ عبدا من عبادي مؤمنا تكون له ذنوب وخطايا تبلغ أعنان السماء فأغفرها له ولا أبالي ، قال : يا رب! وكيف لا تبالي؟

٢٧٢

قال : لخصلة شريفة تكون في عبدي أحبّها ، وهي أن يحبّ إخوانه الفقراء المؤمنين ، ويتعاهدهم ويساوي نفسه بهم ، ولا يتكبر عليهم ، وإذا فعل ذلك غفرت له ذنوبه ولا أبالي.

يا موسى إنّ العظمة ردائي ، والكبرياء ازاري ، فمن نازعني في شيء منهما عذّبته بناري.

يا موسى إنّ من إعظام جلالي إكرام عبدي الذي أنلته حظا من الدنيا عبدا من عبادي مؤمنا قصرت يده في الدنيا ، فإن تكبّر عليه فقد استخفّ بعظيم جلالي.

ثم قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الرحم الذي اشتقها الله من رحمته بقوله : أنا الرحمن ، هي رحم آل محمد ، وإنّ إعظام الله تعالى إعظام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّ كل مؤمن ومؤمنة من شيعتنا هو من رحم آل محمد ، وإن إعظامهم من إعظام محمّد ، فالويل لمن استخفّ بشيء من حرمة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطوبى لمن عظّم حرمته ، وأكرم رحمه ووصلها ...» (١) الخبر.

وهذا الذي ذكرته شعبة من الصلة وإلّا فقد ورد أنهم أصل كل خير ، ومن فروعهم كلّ برّ وعمل صالح من الصلاة والصوم والزكاة والحج والصدق والأمانة والتقوى وغير ذلك من العبادات القالبية والقلبية ، وأنّ عدوّهم أصل كل شرّ ومن فروعهم كلّ شرّ ، فمن انقطع منهم وأخذ بفروع أعدائهم قولا وفعلا وعملا فقد انقطع عنهم وقطع رحمهم ولذا قالوا : «كذب من زعم أنّه من شيعتنا وهو آخذ بفروع غيرنا» (٢).

ثم لا يخفى عليك أنّ الرحمة الإيمانية كما أنها مشتقة منهم ، فكذلك الرحمة الرحمانية فإنهم الرحمة الكلية والمشية الإلهية ، بهم فتح الله وبهم يختم ، وبهم ينزل

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٣ / ٢٦٦ / ٢٦٨ ، عن تفسير الإمام عليه‌السلام.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٤ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، ح ١٥ عن كنز الفوائد وفيه : كذب من قال : إنه معنا وهو متعلق بفرع غيرنا.

٢٧٣

الغيث ، وبهم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، وذلك أنّ اله تعالى فتح بهم كلّ بر وخير ، بل كلّ خلق وإيجاد وإمكان.

كما رواه جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما هو المروي في «رياض الجنان» قال : قلت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل شيء خلقه الله ما هو؟ فقال :

«نور نبيك يا جابر خلقه الله ، ثم خلق منه كل خير ، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله ثم جعله أقساما ، فخلق العرش من قسم ، والكرسي من قسم ، وحملة العرش وخزانة الكرسي من قسم.

وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله ، ثم جعله أقساما فخلق القلم من قسم ، واللوح من قسم والجنة من قسم.

وأقام الرابع في مقام الخوف ما شاء الله ، ثم جعله أجزاء ، فخلق الملائكة من جزء ، والشمس من جزء ، والقمر والكواكب من جزء ، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله ، ثم جعله أجزاء فخلق العقل من جزء ، والعلم والحلم من جزء ، والعصمة والتوفيق من جزء ، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله ، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشّح من ذلك النور قطرات : مائة ألف وأربعة عشرون ألف قطرة ، فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول ، ثم تنفّست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسها أرواح الأولياء والشهداء والصالحين» (١) الخبر بطوله.

فهم الرحمة العامة ، والكلمة التامة ، ومبدء الإيجاد ومادة المواد ، ومعطي القابلية والاستعداد ، بإذن الوهاب الجواد.

فإنّ المشية الكلية تقوّمت بالحقيقة المحمدية تقوّم ظهور ، فظهرت وأشرقت أرض الإمكان والأكوان بنورها ، وظهرت الأشعة بإشراقها ، هي الزيتونة التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٢١ ـ ٢٣ ، ح ٣٧.

٢٧٤

تبصرة

قد تبيّن لك مما سمعت سابقا السرّ في تقديم اسم الرحمن على الرحيم ، وذلك أنّ الرحمن إشارة إلى الرحمة الواسعة السابقة في عالم الناسوت من حيث الظهور والبروز ، كتقدّم الشجرة على الثمرة ، وإن كانت الثمرة هي الأصل في الشجرة ، وكتقدّم الأنبياء على خاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين مع أنه كان نبيا وآدم بين الماء والطين.

هذا مضافا إلى وسعتها وعمومها واختصاصها بالله سبحانه ، حيث إنّك قد سمعت أنه لا يجوز إطلاقه على غيره ، ولذا قرنه مع اسم الذات في مقام الدعاء الذي لا ينبغي أن يشرك به أحدا في قوله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) (١) وإن أمكن أن يقال : أن ليس المراد ذكر خصوصية للإسمين ، بل التسوية بينهما وبين سائر الأسماء لقوله : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢) ، كما في قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٣).

إلّا أن الظاهر من الاقتصار عليهما والاقتران مع اسم الذات ، بل وضعهما موضعه في الآية الثانية تقدّمه على سائر الأسماء.

ولذا ورد في النبوي : «أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن» (٤).

وأيضا ورد في الخبر المشهور : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، من أحصاها

__________________

(١) الإسراء : ١١٠.

(٢) الإسراء : ١١٠.

(٣) الأعراف : ١٨٠.

(٤) بحار الأنوار : ج ١٠٤ / ٩٣ ، ص ٩٣ عن مكارم الأخلاق : ص ٢٥٢ وفيه : «أحسن الأسماء» وفي نفس المصدر ص ١٢٧ ، ح ٢ عن الخصال : ج ١ / ١٧١ «خير الأسماء» وأيضا في البحار : ج ١٠٤ / ١٣٠ ، ح ٢١ عن نوادر الراوندي ص ٩٠ «نعم الأسماء».

٢٧٥

دخل الجنة وهي : الله ، الإله ، الواحد ، ... الرحمن ، الرحيم ...» (١).

فقدّمه على غيره من أسماء الصفات مع أن الرحمة الرحمانية كالمادة الأولية لعامة الخلق ، والرحيمية كالصورة الإيمانية ، والأولى في رتبة النبوة ، والأخرى في مقام الولاية بها تمام النبوة بل إكمال الدين وإتمام النعمة هذا في الظاهر.

وأما في الباطن فالأمر على العكس ، فإن الولاية التامة العامة الكاملة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظهور النبوة بوصيّه لأنه الباب والحجاب ، ولذا قال : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) إلى قوله (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢) أي بوصيّة الذي هو نفس الإيمان و (مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٣).

وأيضا قد ورد اسم «الرحمن» في القرآن المجيد بعد تكرره في أوائل السور في البسملة في بضع وأربعين موضعا ولم يذكر في شيء منها بعد اسم من الأسماء إلا بعد كلمة «الله» أو الضمير الدال عليه ، كما في قوله : (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (٤).

فإنه قد وقع رديفا لكثير من الصفات الفعلية كالغفور ، والرب ، والرؤوف ، والعزيز ، بل لم يأت متصلا بما يدل على الذات من الاسم الظاهر والمضمر.

وأيضا ربّما يعلل التقديم مرة باختصاص الأول بالدنيا والأخير بالأخرى ، وفيه ما سمعت.

وباختصاص الرحمن بالعرش (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) كالرحيم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ / ١٨٦ ، ح ١ عن التوحيد والخصال.

(٢) التوبة : ١٢٨.

(٣) المائدة : ٥.

(٤) البقرة : ١٦٣.

(٥) طه : ٥.

٢٧٦

بالكرسي ، ولا ريب في فضل الأوّل على الثاني ، وإن كان كل منهما بابا من أبواب الغيوب ، إلى غير ذلك من المناسبات التي ينبغي أن يقال : إن الصحيحة منها نكات بعد الوقوع.

وأخرى بأنه صار كالعلم لله ، لا من حيث إنّه موضوع لذاته تعالى ، بل من حيث إنه لا يوصف به غيره ، فهو أليق بلصوق لفظ الجلالة ، وبكونه بمنزلة الموصوف للرحيم ، وبالتوسط بينهما لكونه ذا جهتين.

بل عن بعض المحققين أنّه بدل من لفظ الجلالة ، والرحيم صفة له ، لا للجلالة ، إذ حق النعت التقديم على البدل.

وذكر بعض الأجلّة أن الرحمن صفة للجلالة والرحيم صفة الرحمن ، مضافا إلى اختصاص معناه به سبحانه ، وذلك لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها ، وذلك لا يصدق على غيره ، لأن من عداه فهو مستفيض بلطفه وإنعامه ، يريد جزيل ثواب ، أو جميل ثناء ، أو إزالة الرقة الناشية من الجنسية ، كمن رأى بعض أبناء جنسه في بلية ، فتألّم قلبه ورقّ له وخلصه منها ، طلبا لإزالة ذلك التألم بالتخليص المذكور ، أو إزالة حب المال ورذيلة البخل ، الذي هو أقبح الخصال ، وأشنع الرذائل كمن يفرّق أمواله في الناس تكميلا لنفسه وتخليصا لها من تلك الرذيلة ، فمبالغة الرحمة حيث اختصّت به سبحانه أفادت اختصاص الوصف به.

نعم ، ربما يناقش فيه بأن ذلك يتصور بأحد وجهين :

أحدها : أن يكون الذات المعتبر فيه معيّنا بأنه المنعم الحقيقي لا من حيث المفهوم.

والآخر : أنّ الزيادة المبالغة في الصيغة تستدعي البلوغ إلى الغاية ، ويلزم منه أن لا يصدق إلّا على المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وهو الله ، فيأوّل معناه إلى ذلك وكلاهما فاسدان.

٢٧٧

أما الأول ، فلأنه مع تعيّن الذات يكون اسما لا صفة ، والمفروض خلافه.

وأما الثاني فلأنّ زيادة المبالغة في الصفة لو استدعى البلوغ إلى الغاية لكان العلّام لا يصدق إلّا عليه سبحانه ، فإنه البالغ إلى غاية العلم ، وكذا الكبّار بالتشديد لا يصدق إلّا عليه ، لأنه البالغ إلى غاية العظمة والكبرياء ، فإذن معنى لفظ الرحمن لا يستدعي أن يختصّ هذا الاسم به سبحانه ، ومقتضى القياس صحّة إطلاقه على كل من وجد فيه معناه ، لكنّه خصّ الاستعمال عليه تعالى ، فلم يصحّ إطلاقه على غيره تعالى اتباعا للاستعمال ، كما أوجب حذف عامل سقيا وو رعيا اتباعا له والقياس جواز ذكره.

أقول : وهو مدفوع بأنّ المراد هو الوجه الثاني ، لكن الصفات على قسمين : صفات ربوبيّة وصفات عبودية ، وقد سمعت سابقا أن إطلاق ما يجوز إطلاقه على الله وعلى خلقه ليس على سبيل الاشتراك المعنوي ، بل إطلاقه على كل منهما بمعنى غير الآخر ، كما وقع التصريح به في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام.

فالرحمة التي وضع الرحمن للمتصف بها هي الرحمة التي لا يمكن صدورها من غيره كالإبداع والإيجاد وإنشاء الرحمة الواسعة والمشيّة الكلية ، والحقيقة المحمدية ، بل هكذا غيرها من الفيوض الدنيوية والأخروية ، فإنّ جميعها منه سبحانه ، وهو المنعم بها على خلقه لا غيره ، ولو كان لغيره مدخلية فيها ، فإنما هي على وجه الوساطة والتبعية والتلقي.

فالرحمة المأخوذة مادة للرحمن إنما أخذت بهذا المعنى ، وهيئة المبالغة الحاصلة بزيادة الألف والنون إنما أفادت عموما في الخصوص.

ومن هنا يسقط النقض بمثل العلّام فإن الاختصاص لم يصل من مجرّد المبالغة ، ولذا لا نقول به في الرحيم المأخوذ مادته من مطلق الرحمة.

وفي المقام وجه آخر وهو البناء على اتحاد المادة فيهما إلا أن بناء فعلان من

٢٧٨

هذه المادة لإفادة المبالغة الخاصّة المتقدمة لا مطلق المبالغة التي يبنى لإفادتها ساير الصيغ وبكل من الوجهين يحصل الجمع بين المنع عن إطلاقه إلى غيره تعالى شرعا ولغة وبين ما هو الأظهر الأشهر.

بل ادّعى بعض المحققين عليه الإجماع من كونه وصفا لا علما ، ولذا وصف به في البسملة وغيرها وأضيف فيما يظهر فيه معنى الوصفية كما في الدعاء : «يا رحمن الدنيا والآخرة» وغير ذلك مما ينافي العلمية.

وأمّا ما ذكره أخيرا من أنّ عدم صحة الإطلاق إتباع للاستعمال ففيه ما لا يخفى ، سيما بعد ورود الشرع بالمنع عنه ، ضرورة أنه لا يكون ذلك إلا باعتبار المعنى.

ومما يؤيّد ما ذكرناه من المغايرة بحسب المعنى ما ذكره الصدوق في كتاب «التوحيد» حيث قال : أنه يقال للرجل : رحيم القلب ، ولا يقال : الرحمن ، لأن الرحمن يقتدر على كشف البلوى ولا يقدر الرحيم من خلقه على ذلك.

قال : وقد جوّز قوم أن يقال للرجل : رحمن ، وأرادوا به الغاية في الرحمة وهذا خطأ (١).

أقول : فانظر كيف أخذ الرحمن من الفعل الربوبي الذي يعجز عنه الرحيم من خلقه ، وكيف حكم بخطإ من أخذه من الرحمة التي هي مادة الرحيم مع اعتبار المبالغة فيها.

ومن تصانيف ما مرّ يظهر لك ضعف ما قيل أيضا من أنّ السبب في أبلغية اسم الرحمن زيادة البناء لأنها تدل على زيادة المعنى كما في قطع وقطّع ، وكبار وكبّار.

__________________

(١) توحيد الصدوق : ص ٢٠٣ ، باب أسماء الله تعالى.

٢٧٩

فإنّه مبنيّ على اتحاد المعنى الذي أخذت منه الصيغتان ، وقد سمعت أنه قد أخذ كلّ منهما من غير ما أخذت منه الأخرى.

ثم إن قاعدة دلالة زيادة المباني على زيادة المعاني قد نقضت بحذر وحاذر ، فإن الأول أبلغ كما صرّحوا به ، وأجيب بأن الشرط اتّحاد الكلمتين بأن يكون كل واحد منهما اسم فاعل أو صفة مشبهة مثلا ، سلّمنا لكن القاعدة أغلبية لا كلية سلّمنا لكن أبلغية حذر إنّما نشأت من إلحاقه بالغرائز كنهم وفطن ، فجاز أن يكون حاذر أبلغ لدلالته على زيادة الحذر بسبب زيادة لفظه ، فأبلغية حذر إنّما هو من حيث الثبوت والاستمرار ، وأبلغية حاذر من حيث الشدّة من غير إفادة الاستمرار ، فتأمل ، فإن الزيادة منتفية حينئذ بل الحاصل المساوات في جهة الزيادة.

وهذه الوجوه وإن كانت بحذافيرها ساقطة في خصوص المقام على ما أصّلناه لك سابقا من اختلاف المادّة معنى ، إلّا أن القاعدة لا بأس بها على وجه الغلبة لو لم ندّع الكلية بعد التأمل في قواعد الاشتقاق ، وكون الداعي في زيادة الحروف على المبادي واعتوار الهيئات المختلفة عليها إفادة الخصوصيات الزائدة.

ولذا ربما يستشهد عليها بالكلام الموروث عن العبد الصالح آصف بن برخيا حيث قال : إنّ الأشكال مغناطيس الأرواح ، فإنّ الروح في الجسد كالمعنى في اللفظ ، كما في العلوي.

ثمّ إنه قد ظهر مما مرّ كون الرحمن وصفا ، وأنّه تابع لاسم الجلالة معنى وإعرابا ، وربما يحكى عن جماعة كابن مالك والأعلم وابن هشام كونه علما بالغلبة ، فلا يجوز كونه وصفا ، بل يتعيّن كونه بدلا من لفظ الجلالة ، وبه أسقطوا سؤال الزمخشري وغيره عن سبب تقديم الرحمن مع أنّ عادتهم تقديم غير الأبلغ كقولهم عالم نحرير ، وجواد فياض.

بل استدلّوا أيضا لذلك بمجيئه كثيرا غير تابع نحو (الرَّحْمنُ عَلَّمَ

٢٨٠