تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

في سرّ تقدّم المفعول

إنّما قدّم المفعول ، وحقّه التّأخير لتقدّمه في الوجود ، وللإشعار على التّعظيم ، ولزيادة الاهتمام النّاشى عن شدّة اقتضاء الكلام السّابق الخطاب حسبما سمعت ، ولشدّة العناية به في ذكره ، والاستمداد به ولو في إظهار عبادته وطلب إعانته ، وللدّلالة على حصر المعبود والمستعان به حقيقة فيه سبحانه ولذا حكى عن ابن عبّاس أنّ معناه نعبدك لا نعبد غيرك (١).

وما يقال من منع دلالة التقديم على الحصر وإنّما غاية ما يدلّ عليه هو الإختصاص ولذا عبّر به في الكشّاف هنا بدل الحصر ، والحصر هنا لم يستفد منه ، بل من خصوص المادّة وهي العبادة والاستعانة.

ففيه أنّ الظّاهر اتّحاد مفاد العبارتين حسب ما صرّحوا به ، والفارق قد فرّق بينهما بما لا يصلح إلّا للفرق بين الحصر والاختصاص المفاد بلامه لا الاختصاص المرادف للقصر ، ولذا قيل لا يضرّ في ترادفهما اشتراك الاختصاص بين الحصر والاختصاص المفاد بلامه كما لا يمنع من إفادة التقديم الحصر عدم إفادته له في مواضع ، لأنّ الحكم على الغلبة لا الاطّراد ، والإطّراد بمعونة القرينة أو ما لم يكن قرينة على الخلاف.

نعم قال بعض المحقّقين : إنّ في خطابنا له تعالى بانّ خضوعنا التّام واستعانتنا منحصران فيه جلّ شأنه وتكرارنا ذلك في كلّ يوم وليلة مرارا عديدة مع خضوعنا الكامل لأهل الدنيا من الملوك والوزراء ومن يحذوا حذوهم واستعانتنا في حوائجنا واستمدادنا في نجاحها منهم جرأة عظيمة توجب مزيد الخذلان وعظيم الحرمان لو لا أن تداركنا رحمته الكاملة وعنايته الشّاملة ، روى عن مالك بن دينار أنّه كان

__________________

(١) تفسير روح المعاني ج ١ / ٨٧.

٥٠١

يقول لو لا انّي مأمور بقراءة هذه الآية من الله تعالى ما قرأتها قطّ لأنّى كاذب فيها ، ثمّ حكى عن بعض الفضلاء : انّ في العدول في فعل العبادة والاستعانة من الإفراد إلى الجمع نكتة هي التحرّز عن الوقوع في الكذب إذ يمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء الخلصاء من الأولياء المقرّبين على غيرهم بخلاف صيغة المفرد فانّه لا يتأنّى فيه ذلك.

قلت : الخضوع لغير الله والاستمداد منه والاستعانة به وصرف الحوائج إليه إن كان بأمر الله وعلى القدر المحدود منه ، من حيث الكميّة والكيفيّة وسائر المشخصات الوجوديّة فلا ريب في كونه عبادة مطلوبة مرغوبة عند الشّارع كطاعة الولد للوالدين ، والعبد للسيّد ، والمتعلّم للمعلّم ، والصّغير للكبير ، بل المؤمن مطلقا كلّ ذلك في غير معصية الله ، بل لكونه مأمورا بذلك في الشريعة ، بل ربّما يرجّح ويقدّم بعض أفرادها لما فيه من الخصوصيّات على بعض العبادات البدنيّة المحضة من المندوبات ، بل ربما يجب أو يندب تعظيم الظّلمة والوزراء والسّلاطين بل المخالفين والكافرين حفظا للدّين أو على بعض المؤمنين وللتقيّة الّتي هي من دين سيّد المرسلين بل ويندب شكر من حصل أو وصل بواسطته شيء من النّعم الإلهيّة ، فإنّ من لم يشكر النّاس لم يشكر الله ، ولعن الله قاطعي سبيل المعروف بترك الشكر ، فضلا عن الكفران ، لكنّ المسلك وعر صعب دقيق.

ولذا قال مولينا الصّادق عليه‌السلام في تفسير قوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١) انّه هو الرجل يقول : لو لا فلان لهلكت ، ولو لا فلان لأصبت كذا وكذا ، ولو لا فلان لضاع عيالي ، ألا ترى أنّه قد جعل لله شريكا في ملكه يرزقه

__________________

(١) سورة يوسف : ١٠٦.

٥٠٢

ويدفع عنه قيل : فيقول : لو لا أن منّ الله علىّ بفلان لهلكت قال : نعم لا بأس بهذا (١).

وبالجملة مراعاة الصّدق في المقام يقتضي حفظ حدود العبوديّة والقيام بوظائفها ، وأمّا إذا لم يكن بأمر الله فربّما يكون مثل هذا الخطاب نفاقا بل شركا في الطّاعة لو لم يكن في العبادة بل قد ورد : من أصغى إلى ناطق فقد عبده (٢).

ولذا ينبغي قبل الدّخول في الصّلوة تطهير القلب بالتّصميم على إخلاص الطّاعة والعبادة له دون غيره ، لئلا يخاطب بخطاب المنافق والمستهزء كما أنّه ينبغي الحضور التّام عند تلاوة هذه الآية بحصر النّفس على كمال الإقبال والتّوجّه إلى جناب ربّ الأرباب كيلا يخاطب غيره ممّا يخطر بباله بهذا الخطاب. ولذا قيل بالفارسيّة :

إيّاك نعبد بر زبان

دل در خيال اين وآن

كفر است اگر لإخوانى يكى

شرك است اگر گوئى دو تا

ولأنّ في تقديم المعبود تنبيها للعابد كيلا يتكاسل في شرائط العبادة ، ويقبل على آدابها بحسن الرّعاية تحصيلا للسّعادة ، مع ما في ملاحظة من تخفيف التكليف بل الاستغراق التّام في حضرة القدس ، وحريم حرم الأنس ، بحيث لا ذكر معه لغيره حتّى لنفسه ، إلّا من جهة ارتباطه وانتسابه من حيث العبوديّة والافتقار إليه سبحانه ، ولذا فضّل ما حكى الله عن حبيبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قال (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) (٣) على ما حكاه عن كليمه حيث قال : (إِنَّ مَعِي رَبِّي) (٤) مع ما في الآية الأولى من الانتساب إلى الاسم الأعظم المقدّم الجامع ، والإتيان بضمير الجمع المشعر برياسته

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٢ / ٤٧٦ عن تفسير العياشي بتفاوت يسير.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٦ / ٢٣٩ ح ١ عن العيون ص ١٦٨.

(٣) سورة التوبة : ٤٠.

(٤) سورة الشعراء : ٦٢.

٥٠٣

الكليّة وبابيّته المطلقة ، وهيمنته على من سواه.

فالنظر في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) من المعبود إلى العبادة بحيث لا يرى العبادة إلّا ويرى الله قبلها ، وفي نعبدك من العبادة الى المعبود ، فمن كان نظره الى المعبود فقد فاز بالسعادة ، ومن كان نظره الى العبادة فقد احتجب عن المعبود بالعبادة ، فإنّ العبادة من أعظم الحجب النورانيّة الّتي بين العابد والمعبود ، كما ورد : «ان لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى اليه بصره (١).

فالحجب غير منحصرة في الظلمانيّة الهيولانيّة الغاسقة ، بل منها حجاب العلم ، وحجاب المعرفة ، وحجاب المحبّة ، وحجاب العبادة ، وكلها من سبحات حجاب الذات الذي هو أعظم الحجب كما قيل :

فقلت وما أذنبت قالت مجيبة

وجودك ذنب لا يقاس به ذنب

فلا بدّ أن يكون النظر عند كلّ شأن من شؤون العبوديّة أو الربوبيّة الى المبدأ الأعلى الذي هو المقصد الأسنى.

ولذا قيل : من كان نظره في وقت النعمة الى المنعم لا الى النعمة كان نظره عند البلاء الى المبلى لا الى البلاء ، فيكون جميع حالاته فريقا ملاحظة الحقّ ، متوجّها الى الحبيب المطلق ، وهذه أعلى درجات السعادة ، ومعه يحصل الانس بالله والفرار عمّا سواه فيتحقّق بحقيقة الزهد المجتمعة في كلمتين من القرآن : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٢).

ولأنّ في تقديم المعبود الحقّ إقناطا كليّا لإبليس وغيره ممّا يعبد من دون الله من وقوع عبادته لغيره تعالى استقلالا أو تشريكا ، سيّما مع إشعاره من أجل

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٥ / ٤٥ باب ٥.

(٢) الحديد : ٢٣.

٥٠٤

الخطاب بكون العابد شاهدا لتجليات أنوار القدس ، متمكّنا في حريم حرم الانس ، متحصّنا من أحزاب مردة أتباع الشيطان بحصينة (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (١) ، وهذا بخلاف ما لو أطلق العبادة ، ثم يذكر المعبود.

ولأنّ فيه إشعارا بالتوسّل اليه والاستعانة باسمه في عبادته ، فكأنّ الجملة الثانية من حيث المقال حكاية للأولى باعتبار الحال.

استكشاف واستعانة عن حقيقة الاستعانة

الاستعانة استفعال من العون بمعنى الظهير ، يقال : استعنته ، وبه فأعاننى وقواني ، والاسم العون والمعانة والمعونة كمقولة ، والمعونة كمكحلة.

ثم إنّ المعونة إمّا كونيّة وإمّا شرعيّة ، وكلّ منها إمّا ضروريّة أو غير ضرورية ، فأقسامها أربعة : الكونيّة الضروريّة ، وهي الّتي لا يتحقّق التكوين بدونها من الوجود والماهيّة ، وحدود القابليّة والهندسة التكوينيّة وغيرها ممّا أشير إليها اجمالا بقوله عليه‌السلام : لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلّا بعلم فمشيّة ، وإرادة ، وقدرة ، وقضاء وأيضا (٢) ، حسب ما نفصّل الكلام فيها في موضعها (إن شاء الله).

وطلب هذه المعونة إنما هو بلسان القبول والاستعداد المفاض عليه حين الإعطاء لا قبله ، إذ ليس له قبل ذلك ذكر في شيء من العوالم ، وهو سبحانه مشيّئ الأشياء لا من شيء ، ومعطي الاستعدادات والقابليّات ، ومفيض التقرّرات والكينونات (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٣) والمبتدء بالنعم قبل استحقاقها.

__________________

(١) الحجر : ٤٣.

(٢) الكافي ج ١ / ١٤٨ ـ ١٥٢ فيه أحاديث كثيرة في هذا الباب.

(٣) سورة طه : ٥٠.

٥٠٥

فالسؤال في قوله (سَواءً لِلسَّائِلِينَ) (١) وغيره ممّا ورد في الآيات والأخبار محمول على السؤال الجعلى الإبداعى الأوّلي الّذى حين العطاء وحين القبول.

وأمّا القول بالأعيان الثابتة ، وأنّ الماهيّات في أنفسها غير مجعولة ، وأنّ لها استعدادات وقابليّات ذاتيّة غير مفاضة بالجعل الإبداعى ، وهي الموجبة لاختلاف قبولها ومراتبها فممّا يأبى عنه القول بالتوحيد وتمجيده سبحانه بالتفريد ، لاستلزامه تعدّد القدماء ، إذ ليست أعداما محضة ، ضرورة عدم التمايز فيها ، ولا واسطة بين الوجود والعدم ، لبطلانها في نفسها ، مع أنّ أصحاب الأعيان يصرّحون بنفيها فلم يقولوا به من جهتها ، وظاهر أكثر المعروفين بالعلم والمعرفة وإن كان إثبات الأعيان ، إلّا أنّ العقل القاطع يأبى عن متابعتهم بعد قيام صريح البرهان ، فإنّ الحقّ حقّ بالتصديق والإذعان.

هذا كلّه بالنسبة الى بدو التكوين ، وأمّا في الإمدادات السيّاله والفيوض المتّصلة ففيها مضافا إلى ما مرّ من السؤال نظرا الى القول بتجدّد الأمثال سؤال آخر استعدادي متأخّر عن الكينونة المتقدّمة وباقترانه بالإجابة يتحصّل التقرّر والبقاء ، (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (٢).

وقد ينضمّ إليهما سؤال ثالث يظهر أوّلا في الجنان ، ثمّ يتجلّى بآثاره وبأشعّة أنواره على الأركان واللّسان.

وأمّا الكينونة الغير الضرورية فهي ما لا يتوقّف عليه الوجود والبقاء من النعم الّتي توجب الوسعة في المعيشة ، وسؤالها على الوجهين الأوّلين وقد يقترنان بالثالث.

__________________

(١) سورة فصّلت : ١٠.

(٢) سورة النحل : ٨٨.

٥٠٦

وأمّا الشرعيّة الضرورية فهي الّتي مرجعها إلى أسباب التمكين من الفعل بحيث لا يتأتّى الفعل بدونه كعلم المكلّف وقدرته في نفسه ، والتمكّن من الآلات والأدوات الّتي لا يتوصّل إلى الفعل بدونها فيقبح التكليف مع انتفائها عندنا ، وإن جاز عند الأشاعرة القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق وطلب المحال بل الطلب المحال وإن لم يقولوا بوقوعه.

وسؤالها مرّة ذاتي جبلي فطريّ ، من حيث أنّ في كينونة الإنسان الشوق الى الكمال والابتهاج بالإقبال ، والسرور بالتشرّف بمقام الامتثال الذي به الفوز والنجاة والخروج عن حضيض البهيميّة إلى أوج ذروة الوصال.

وأخرى ظاهرى مقالي على اللسان كقوله : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (١).

وأمّا الشرعيّة الغير الضروريّة أى الّتي يمكن الفعل بدونها ، ولذا لا يتوقّف صحّة التكليف عليها ، لكن يتيسّر به الفعل ويسهل كمقرّبات الطاعة ومبعّدات المعصية ، والمرغبات الّتي توجب الحثّ على الفعل من الوعد والوعيد ونحوها ممّا لا يؤدى الى الإلجاء والاضطرار ، وهذا في الجملة حسب ما تأتى الإشارة اليه هو المسمّى عندهم باللطف ، وقد أطبقت الفرقة المحقّة الاماميّة على وجوبه على الله ، بمعنى أنّه سبحانه كتبه على نفسه ، ولا يتجاوز عنه في تشريعه وتكليفه على خلقه ، ووافقهم في ذلك المعتزلة ، وبه يثبتون وجوب بعث الأنبياء ونصب الأوصياء وإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وما تكرّر فيها من الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب وعدم خلوّ الأرض من حجّة ، وغير ذلك من المباحث المهمّة نظرا إلى أنّ ترك اللّطف يوجب نقض غرض المكلّف (بكسر اللام) ، فإنّه إذا علم أنّ المكلّف (بفتح

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٨٦.

٥٠٧

اللام) لا يطيع إلّا باللّطف ، فلو كلّفه من دونه كان ناقضا لغرضه ، ونقض الغرض عليه سبحانه محال.

وتوهّم أنّ أفعاله تعالى غير معلّلة بالأغراض كما زعمته الأشاعرة نظرا إلى أنّ الغرض هو السبب الباعث للفاعل على الفعل فهو المحرّك الأوّل للفاعل ، وبه يصير الفاعل فاعلا لذلك الفعل ، ولذلك قيل : إنّ العلّة الغائية علّة فاعلة لفاعليّة الفاعل ومن البيّن أنّه سبحانه أجلّ أن ينفعل من شيء أو يستكمل بشيء فلا يكون معلّلا بغرض ، وأيضا كلّ من يفعل لغرض فوجود ذلك الغرض بالنسبة إليه أولى من عدمه ، فلو كان لفعله تعالى غرض لزم كونه سبحانه مستكملا بغيره وهو ذلك الغرض.

مدفوع بأنّه إنّما يلزم الاستكمال إذا كان الغرض عائدا إلى الفاعل : وأمّا عوده إلى غيره فلا يلزم ذلك.

فان قلت : إنّ نفع غيره إن كان أولى بالنسبة إليه تعالى من عدمه عاد المحذور ، وإلّا لم يصلح أن يكون غرضا له ، فالفاعل الّذى يفعل فعلا لغرض غيره لا بدّ ان يكون له في تحصيل ذلك الفوض غرض عائد.

قلت : نختار الأوّل ونقول : إنّ إيصال النفع الى غيره أولى من عدمه لا بالنسبة الى ذاته حتّى يكون في ذاته مستكملا بغيره ، بل بالنسبة الى فعله الّذى هو في رتبة الإمكان وصقع الحدوث ، فإنّ فعل الكامل يلزم أن يكون على أكمل الوجوه وأتمّها ، والضرورة قضت بقبح العبث في أفعال الحكيم.

وبالجملة فالفرق واضح بين الغرض المستلزم للاستكمال أو لإظهار الكمال ، وبين الغاية اللازمة في أفعال الكامل ، والأوّل نقص والثاني كمال ، لأنّ كمال الفعل إنّما هو باعتبار اشتماله على الحكم والمصالح والأغراض النافعة.

وأيضا الفعل إذا لوحظ في ذاته مرّة مشتملا على جهات الحسن ووجوه

٥٠٨

المنافع العائدة إلى المستحقّين ، واخرى عارية عنها ، بل مشتملة على مفاسد لا تعدّ ولا تحصى ، فالضرورة القطعيّة قاضية بترجيح الأوّل على الثاني وترجيح المرجوح على الراجح قبيح عقلا وشرعا.

نعم لا ينبغي التكلّم بمثل هذا الكلام مع الاشاعرة الذين يكابرون الضرورة وينكرون الحسن والقبح العقليّين ويقتحمون في أغلاط لا يليق التكلم معهم فيها ، فالأولى الاقتصار في جوابهم على ما ذكرناه أوّلا وإن عميت قلوبهم من إدراكه أيضا حيث لم يفرّقوا بين الذات والفعل وجعلوا جملة من الصفات الفعليّة قديما ثابتا للذات ، بل التزموا بإثبات قدماء سبعة أو ثمانية ، الى غير ذلك من الشنائع الّتي خرجوا بها من الدين المبين ، بل اعتزلوا بها عن شريعة سيّد المرسلين ، ولذا قيل : إنّهم يلزمهم خلاف العقل لما سمعت والنقل لتعليق الأحكام في الكتاب والسنّة على العلل والمصالح والأغراض كقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) ، (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) (٢) ، (لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ) (٣) ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) (٤) ، (لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ) (٥) ، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٦) ، الى غير ذلك من الآيات ، بل الأخبار الّتي لا تحصى ولا تستقصى.

بل ربما يدعى عليه الإجماع بمعنى الاتّفاق أيضا ، فإنّ المعتزلة ومن يحذو حذوهم قائلون به ، والأشاعرة ومن تابعهم قائلون بالقياس الفقهي ، وهو فرع العلّة

__________________

(١) الذاريات : ٥٦.

(٢) سورة هود : ١١٩.

(٣) المائدة : ٩٥.

(٤) الأنفال : ٤٢.

(٥) المائدة : ٩٤.

(٦) النساء : ١٦٥.

٥٠٩

والغرض لما صرّحوا به من لزوم كون العلّة باعثة وغرضا للشارع من شرع الحكم في الأصل لا مجرّد أمارة ومظنّة فيلزمهم إمّا بطلان القياس أو هذا الأصل.

ولعلّه لذا حكى في شرح المواقف عن الفقهاء جواز كون الأفعال معلّلة وان لم يجب ، مع أنّ قضية دليلهم حسب ما سمعت عدم الجواز.

وبالجملة فبطلان مقالهم أوضح من أن يستدلّ عليه بمثل هذه الوجوه الّتي ربما يوهم تطرّق بعض المناقشات إليها.

وحيث قد سمعت فساد أوهام الأشاعرة فقد صحّ اتصافه سبحانه بالإعانة وأنّه هو المعين لخلقه في الأمور التكوينيّة والتشريعيّة بالإعانة الضرورية وغيرها ومنه الاستعانة في جميع الفيوض والإمدادات الابتدائيّة والاستعداديّة والاستحقاقيّة ، (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) (١).

ولذا حذف مفعول الفعل الذي هو متعلّق الاستعانة تنبيها على عمومه وشيوعه للجميع ، نظرا إلى أنّ حذف المتعلّق يدلّ على العموم الذي من أظهر مصاديقه في المقام وأهمّها من بين المهام طلب المعونة في أداء العبادة.

ولعلّه لذا فسّره الإمام عليه‌السلام بقوله : منك نسأل المعونة على طاعتك لنؤدّيها كما أمرت ، ونتّقي من دنيانا ما نهيت عنه ، ونعتصم من الشيطان الرّجيم ومن ساير مردة الجنّ والإنس من المضلّين ومن المؤذين الظالمين بعصمتك ... الى أن قال : قال رسول الله : قال الله عزوجل : قولوا : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) على طاعتك وعبادتك وعلى دفع شرور أعدائك وردّ مكائدهم ، والمقام على ما أمرتنا به (٢).

__________________

(١) الإسراء : ٢٠.

(٢) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام ص ١٨.

٥١٠

فلا تتوهّم منه ومن بعض المفسّرين الّذين فسّروه بالاستعانة في العبادة كما يحكى عن ابن عبّاس أيضا حصره فيها (١) ، فإنّ القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه.

نعم ربما يقال : باشتقاقها من العين ، إمّا بمعنى الناظرة فكما أنّ مطلب أصحاب الرسوم طلب المعونة لعبادة المعبود كذلك مقصد أرباب المكاشفات وحقايق العلوم طلب النور المتجلّى على قلوبهم للتحقّق بمقام المعاينة والشهود ، وهو الفوز بمقام الإحسان ، فإنّ كلّ عابد ليس بمحسن في عبادته بل الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه (٢) ، فمعنى الاستعانة طلب المعاينة من قولهم : لا أطلب أثرا بعد عين أى بعد معاينة.

وإمّا بمعنى النابعة ، فكأنّه يطلب جريان ينابيع الحكمة والمعرفة في قلبه ومن قلبه على لسانه.

لكنّ الاشتقاق منه على الوجهين مع بعده في نفسه ومخالفته لما في تفسير الإمام عليه‌السلام موجب للاختصاص في الفائدة الذي لا داعي اليه في المقام.

بقي الكلام في أمور : أحدها في الجمع بين العبادة والاستعانة ، وتقديم الأولى على الثانية ، وذلك أنّه لما نسب جميع الشّئون حتّى التربية وإفاضة الرحمة إليه سبحانه إلى أن تمكّن في مقام الاستغراق في بحر الشهود والتشرّف بمخاطبة الربّ المعبود أقر على نفسه بالعبوديّة ، وأضاف إليها فعل العبادة الّتي هي التربية الحقيقيّة ، وحقيقة الرحمة الرحيميّة ، ثمّ لمّا أوهم هذا أنّ له استقلالا في ذلك ، أو أنّ له أنانيّة هنالك ، فينثلم به أساس التوحيد ، وينمحق به ما أسّسه أوّلا من التمجيد

__________________

(١) في تفسير البصائر ج الفاتحة ص ١٢٨ : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيه قولان : قال ابن عبّاس : اى إيّاك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلّها.

(٢) نور الثقلين ج ١ / ٥٥٣ ح ٥٧٩ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٥١١

والتفريد سلب من نفسه الحول والقوة وأضاف الى ربّه الإمداد والمعونة على وجه الطلب والسؤال الذي هو وظيفة العبوديّة إزالة لغبار الشرك في الأفعال من أوهام الأغيار ، وإرجاعا لجميع الفيوض والإمدادات الى الله الواحد القهّار.

فالعبادة وان كانت هي المقصودة بالذات من العباد ولذا قدّمها ، إلّا أنّها لا تتمّ إلّا بمعونة الحقّ وإمداده وإفاضته ، لا بحول العبد وقوّته ، فإنّه لا حول من المعاصي ، ولا قوة على شيء من الطاعات إلّا بمعرفة الله وتوفيقه ، فقرنها بالاستعانة.

ولذا ربما قيل : إنّ الجملة الثانية حاليّة والواو للحال ، إشعارا على كون العبادة في حال الاستعانة ، فالاستعانة بل الإعانة أيضا مقدّمة على العبادة رتبة وإن أخّرها لفظا ، نظرا إلى ما سمعت.

مضافا إلى أنّ العبادة مطلوب الله من العباد ، والاستعانة مطلوبهم منه ، فناسب أن يقدّم مطلوبه على مطلوبهم.

وأنّ اقتران العبادة بالاستعانة للجمع بين ما يتقرّب به العباد الى ربّهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون اليه من جهة ، وتقديم العبادة على الاستعانة كتقديم الوسيلة على طلب الحاجة رجاء الاجابة كما نبّه سبحانه على ذلك بقوله : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (١).

مضافا إلى أنّ المعبود بالحق هو الذات البحت المجرّد عن جميع الإضافات والأوصاف المشار إليها بالأحدية المطلقة ، بل بالهويّة الغيبيّة ، والمستعان به هو المتجلّى بصفة الإعانة الّتي هي من صفات الفعل ، فالعبادة توحيد ذاتي والاستعانة توحيد فعلي ، بل العبادة إذعان بالتوحيد ، والاستعانة تصديق بالولاية الّتي هي باطن النبوّة ، فإن صفات الفعل كلها حادثة ، عندنا ، وستسمع (إن شاء الله تعالى)

__________________

(١) المائدة : ٣٥.

٥١٢

مزيد بيان لهذا الكلام.

هذا كلّه مضافا إلى ما قيل من توافق الفواصل كلّها في متلو الحرف الأخير ، سواء كانت البسملة آية منها أولا ، وإنّهما وان كانا فعلين للعبد إلا أنّ العبادة من مدلولات الاسم المقدّس الذي معناه المعبود بالحقّ فكانت أحرى بالقرب منه ، بل بالتقديم كما أنّ ذلك الاسم هو المقدّم الجامع ، وأنّ العبادة أنسب بذكر الجزاء ، كما أنّ الاستعانة ألصق بطلب الهداية.

وأنّ زيادة الاهتمام بشأن العبادة وإظهارها تقتضي تقديمها على الاستعانة الّتي متعلّقها حسب ما سمعت أعمّ من العبادة وغيرها ، وهي في نفسها وان كانت عبادة أيضا إلّا أنّها لعموم متعلّقها ربما كانت مشوبة ببعض الحظوظ النفسيّة والفيوض الدنيويّة.

وأنّ مبدأ الإسلام الحثّ على العبادة والتحريض عليها على وجه الإخلاص ونفى الشرك ، وأمّا التخصيص بالاستعانة فإنّما يحصل بعد الرسوخ التام في الدين فكانت أحرى بالتأخير.

وبالجملة الجملة الاولى للتخلّص من الشّرك الظاهر ، والثانية للتخلّص من الشرك الخفي ، وأنّ الاولى اشارة الى التحلّى بحلية العبادة الّتي هي أصل الفضائل ، والثانية تنبيه على التخلّى عن الالتفات الى النفس والى غيره تعالى ، بل عن الانانيّة الّتي هي أمّ الرذائل.

وتقديم الأوّل لكونه الغاية المقصودة ولإعانته على الثاني ، والإشعار على أنّه ينبغي الكون على الفطرة الأوليّة الاصليّة الّتي يكون المقصود منها حفظ الصحّة لا رفع المرض فتأمّل.

وفي علل فضل بن شاذان عن مولينا الّرضا عليه‌السلام ، قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) رغبة وتقرّبا الى الله وإخلاصا بالعمل له دون غيره ، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) استزادة من برّه

٥١٣

وتوفيقه وعبادته واستدامة لما أنعم عليه ونصره (١).

ثمّ اعلم أنّ في هذه الآية الشريفة تحقيقا للمنزلة بين المنزلتين ، وإثباتا للأمر بين الأمرين حيث أبطل بقوله : (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) مذهب الجبريّة الذين ينسبون الأفعال كلّها إلى الله ويقولون : لا مؤثّر ولا فاعل في الوجود إلّا الله ، لقوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٢) ، وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن» (٣) ، حتى أنّ بعضهم كجهم بن صفوان (٤) وغيره لا يفرّقون بين حركة المرتعش وغيره ، ولا بين سكون الزمن وغيره ، ويقولون : إنّ جميع الخيرات والشرور من ناحية القدر ، ولا قدرة للعبد في شيء منها ، بل هو مجرّد الآلة يفعل بإرادة حادثة فيه من الله تعالى فهو المريد وهو الفاعل.

فأبطل مقالتهم : بنسبة العبادة الّتي هي الخضوع والتذلّل الى العبد ، كما أبطل مقالة المفوّضة الذين يعزلون الله عن خلقه وعن ملكه ، بطلب المعونة منه ، فإنّه يدلّ على افتقار العبد في عبادتهم وفي سائر حوائجهم ومهمّاتهم الى معونته وتوفيقه وإمداده.

بل في قوله : (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إشارة الى بطلان المذهبين معا لدلالته على أنّ الطلب من العبد والمعونة من الله ، فتحقّق أن لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين.

ثمّ إنّ التفويض إمّا في التشريعيّات وإمّا في التكوينيات وبالأولى يبطل الأوّل

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٢٠٣ ـ ٢١٤ ضمن ح ٩٢٧ ـ العيون ج ص ١٠٧.

(٢) فاطر : ٣.

(٣) بحار الأنوار ج ١٠ / ١٠٩ ح ١ وج ٧٣ ص ٣٩٤ ح ١٠.

(٤) جهم بن صفوان : أبو محرز السمرقندي رأس الجهميّة قتل بأمر نصر بن سيّار سنة (١٢٨) ه ـ الأعلام ج ٢ / ١٣٨.

٥١٤

وبالثانية الثاني.

ثمّ إنّ بعض الجبريّة لمّا رأوا فساد مذهبهم وشناعة مقالتهم قسموا الجبر الى أقسام أربعة:

الجبر الجزئي ، وجبر التيقّن ، وجبر التخلّق ، وجبر التحقّق ، فنفوا الأوّل لما فيه من إبطال التكاليف والشرائع كافّة ، ومخالفة الحسّ والضرورة ، وأثبتوا الثلاثة ، مفسرين لها بتوحيد الأفعال والصفات ، وبمرتبة البقاء بعد الفناء كما قيل :

وكلّ الذي شاهدته فعل واحد

بمفردة لكن بحجب الأكنّة

وفي الحديث القدسي : لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه ، فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الّذي يبصر به (١).

قلت : وهو حقّ بالنسبة الى انكار الأوّل ، وأمّا إثبات الثلاثة فعلى تفصيل يأتى اليه الإشارة كما يأتى تمام الكلام إن شاء الله تعالى في مسألة الجبر والقدر في موضع أليق ، وإنّما المقصود في المقام الإشارة الى دلالة الآية.

ثانيها : في إيثار الجمع على ضمير الوحدة في الفعلين ، بل وفي الثالث المتعقب لهما في سؤال الهداية.

وذلك إمّا باعتبار الحفظة والكرام الكاتبين ، والمعقّبات الّذى من خلفه ومن بين يديه (٢) ، وغير ذلك من الملائكة الموكّلين بحفظه وبحفظ أعماله وأفعاله وأعضائه وجوارحه وقواه ومشاعره ، وقبضات وجوده والمأمورين بإيصال الفيوض والإمدادات إليه من جميع الجهات في كلّ العوالم في جميع المراتب والوسائط.

وإمّا باعتبار جميع الأجزاء والجزئيات ، وقبضات الوجود الّتي تركّب منها

__________________

(١) أصول الكافي كتاب الايمان والكفر باب من أذى المسلمين واحتقرهم ح ٧ و ٨ ـ بحار الأنوار ج ٦٧ / ٢٢.

(٢) اقتباس من الآية (١١) من سورة الرعد.

٥١٥

المعجمون الإنسانى الذي هو نسخة مختصرة من مجموع العالم الكبير لانطوائه فيه بجميع أجزاءه من الدرّة الى الذرّة ، فإنّ فيه من كلّ شيء شيئا ، ففيه رأس من المشيّة المعبّر عنه بالمشيّة الجزئيّة ، وفيه قبضة من العقل ، وقبضة من النفس ، وقبضة من الطبيعة ، وقبضة من المزاج ، وقبضة من عالم المثال ، وقبضة من الأفلاك السبعة ، وقبضة من العناصر الأربعة ، وقبضة من المواليد الثلاثة حسب ما نفصّل كلّا منها في موضعه إن شاء الله ، وكلّ شيء من الأشياء شاعر بنفسه مسبّح لربّه ، لائذ في فناء الفناء إلى باب قدس الجود والبقاء ، ولذا قال سبحانه :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (١).

وقال سبحانه : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) (٢).

وذلك لما قرّر في محلّه من أنّ الوجود الإمكانى يساوق الشعور ، والشعور التذلّل والاستكانة ، حتى أنّ الكافر بجميع أجزائه مسبّح لله تعالى في جميع العوالم المرتبة إلّا بقلبه ولسانه أحيانا في مقام الشعور الإنساني ولذا في دعاء الركوع : خشع لك سمعي وبصرى وشعري وبصرى ولحمى ودمي ومخّي وعصبي وعظامي» (٣).

وفي دعاء عرفة المتقدّم ذكر بعضه ما سمعت.

وامّا باعتبار التمهيد لعموم الدعاء ، حيث إنّه لمّا مجّد الله ووصفه بصفاته الحسنى ، وأظهر له العبوديّة أراد أن يسأله الهداية الّتي هي الجامعة لخير الدنيا والآخرة عمّم المسألة لأنّه أقرب الى الاجابة ، مع ما ورد من أنّه من دعا لأخيه

__________________

(١) الجمعة : ١ والتغابن : ١.

(٢) الإسراء : ٤٤.

(٣) بحار الأنوار : ج ٨٥ / ١١١.

٥١٦

بظهر الغيب نودي من العرش : ولك مائة ألف ضعف مثله (١)ولذا عمّهم في إظهار العبودية تمهيدا لسؤال الهداية للكافّة فنسب كلّ من يعبد الله الى العبادة ثمّ طلب لهم الهداية.

وإمّا باعتبار الوسائط المترتّبة بين المشيّة الكليّة وبين العابد ، وذلك أنّ العبادة والمعونة من جملة الفيوض الواصلة الى العبد ، وقد تقرّر في محلّه أنّ الفيض لا يصل الى السافل إلّا بواسطة العالي وبابيّته وحجابيّته وأنّ الباب الأقدم والحجاب الأعظم هو الحقيقة المحمديّة وعترته المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين ، فالعبادة والاستعانة لمّا كانت بالتوجه الى المبدأ الأوّل بالتوسّل إلى المبادى العالية والاستشفاع بهم وبالاستفاضة من تلك المبادى والاشراق عليه منها ، فسيلان فيض العبوديّة والاستكانة للاستفاضة في جميع السلسلة عبادة للجميع وهو المفروض باب الأحديّة جبرا للنقصان ، واستدعاء للقبول والإحسان وهذا الاعتبار الّذى لوحنا إليه يتكثر به الواحد الذي هو المشيّة الكليّة والوجود المطلق والفيض الانبساطى ويتّحد به المتكثّر الذي هو الوجودات الجزئيّة المقيّدة الواقعة في صقع المفعول برجوع الكل إليه ، وخضوع الجمع لديه.

والى هذا المعنى أشار رأس الجالوت أعلم علماء اليهود حيث سأل من مولينا الرضا عليه التحية والثناء وقال : يا رئيس المسلمين ما الواحد المتكثّر. وما المتكثّر المتوحد ، وما الجاري المنجمد ، وما الناقص الزائد ، فأجاب عليه‌السلام يا ابن أبيه أىّ شيء تقول وممّن تقول ، ولمن تقول ، وبمن تقول؟ بينا أنت أنت صرنا نحن نحن ، وهذا جواب موجز ... الخبر (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٣ / ٣٨٤ ح ٨.

(٢)؟؟؟؟

٥١٧

وهذا الخبر وإن لم أظفر به في أصول أصحابنا الاعلام إلّا أنّه حكاه بعض السادة الكرام رفع الله قدره في دار السلام ومجمل الاشارة الى مفاده أن رأس الجالوت لمّا اقتبس من أنوار النبوة والولاية بالاطّلاع على الصحف السابقة ، أو من تجليات أنوار الامام انقسام ما في الكون الى الوجود المطلق الذي هو الفعل والمشيّة الكلية والوجود المقيّد الذي هو المفعول والمشيّة الجزئيّة ، وقد تبيّن عنده أنّه لا يصل الفيض الى السافل إلّا بواسطة العالي ، فلذا سأل عن الواحد المتكثّر وهو الوجود المطلق المنبسط ، فوحدته في نفسه وتكثّره بانبساطه وفيضانه ، ومن المتكثر المتوحد وهو المفعول أى عالم الخلق بجملته لتكثّره في نفسه وانتهائه في سيره وتوجهه إلى الله الى الباب الأعظم الذي هو الوجود المطلق.

وممّا أشرنا إليه يظهر ان الأوّل هو الجاري السيّال المنبسط في نفسه المنجمد المقيّد باعتبار محلّه ومتعلّقه ، وأنّ الثاني هو الناقص في نفسه الزائد باعتبار الانتهاء الى مبدئه بالإقبال والاستكمال ، فأجابه الإمام عليه‌السلام مخاطبا له بابن أبيه خطاب مدح لانّهم ، إذ قد يسمّى به من لا يليق به أن ينسب الى أبيه الناسوتي لرفعته عنه اشعارا بأنه ينبغي انتسابه الى الآباء الروحانية النورانية ، ولعل المقام منه ، تعجّبا من دقّة مسئلته ، وغموض حكمته.

وقد يسمّى به من ينفى عن أبيه عهدا وسفاحا ، كزياد بن أبيه (١).

ثمّ عظّم المسألة بالسؤال عنها وعمّن قالها ، ولمن قالها ، وبمن قالها ، وكشف له عن حقيقة الأمر ، وبيّن له أنّه في مقام المشيّة حيث ذكر له : انّك حيث أنت أنت توجهت الى مقام المشار إليه بقوله : انا وأنت بعد قطع جميع العلائق فحينئذ صرنا

__________________

(١) زياد بن أبيه ولد بالطائف ، كان مع أمير المؤمنين عليه‌السلام في مشاهده ومع الحسن عليه‌السلام الى زمان صلحه ثم لحق معاوية ، وهلك بالكوفة سنة (٥٣) ـ سفينة البحار ج ٣ / ٥٧٧.

٥١٨

نحن نحن لرجوع المقيّد الى المطلق ، والجزء الى الكلّ ، والسافل الى العالي والموجود الى الوجود ، فافهم الكلام وعلى من فهمه السلام.

وإمّا لان العبادة لا تقبل إلّا من أهل الولاية وأصحاب الولاية الذين تقبل منهم طاعتهم وعبادتهم إذا كان في عبادتهم قصور وفتور كما هو الغالب الدائم ، فالظاهر من الأخبار أنّه ينجبر ذلك النقصان بفاضل حسنات الإمام عليه‌السلام وذلك عند عرض اعمال العباد عليهم عليهم‌السلام.

ولذا ورد عنهم عليهم‌السلام في الزيارة الرجبيّة على ما في «المتهجّد» : أنا سائلكم وآملكم إليكم التفويض ، وعليكم التعويض ، فبكم يجبر المهيض ويشفى المريض (١).

وفيما سمعه السيّد ابن طاوس عن الحجّة عجّل الله فرجه في الناحية المقدّسة : اللهمّ إنّ شيعتنا خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بماء ولايتنا ، اللهمّ اغفر لهم من الذنوب ما فعلوه اتكالا على حبّنا ، وولّنا يوم القيامة أمورهم ، ولا تؤاخذهم بما اقترفوه من السيئات إكراما لنا ولا تقاصصهم (٢) يوم القيامة مقابل أعدائنا ، وإن خفّت موازينهم فثقّلهم بفاضل حسناتنا (٣).

وإمّا حكاية منه سبحانه عن كافّة عبيده ، فكأنّه قال : يا عبادي قولوا : إيّاك نعبد.

ويؤيّده ما في تفسير الامام عليه‌السلام حيث قال : قال الله تعالى : قولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم : إيّاك نعبد أيّها المنعم علينا ، ونطيعك مخلصين مع التذلل والخضوع بلا

__________________

(١) مصباح المتهجد ص ٧٥٦ الزيارة الرجبيّة.

(٢) في البحار : ولا تقاصّهم.

(٣) بحار الأنوار : ج ٥٣ / ٣٠٣.

٥١٩

رياء ولا سمعة ، وإيّاك نستعين منك نسأل المعونة على طاعتك (١).

وحكاه في المجمع عن الكسائي ، قال : تقديره قولوا : إيّاك نعبد ، ولهذا كما قال الله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا) (٢) اى يقولون : ربّنا ، وقال : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) (٣) ، اى يقولون : سلام (٤).

وإمّا لما ذكره القوم من أنّ المقصود الإشعار بحقارة نفسه من عرض العبادة منفردا وطلب الإعانة مستقلا من دون الانضمام والدخول في جملة جماعة يشاركون في عرض العبادة على باب العظمة والكبرياء ، كما هو الدأب عند عرض الهدايا على الملوك ورفع الحوائج إليهم.

وأنّ في خطابنا له عزّ وعلا بأنّ خضوعنا التامّ واستعانتنا في المهامّ منحصران فيه سبحانه مع خضوعنا الكامل لأهل الدنيا من الملوك والوزراء ومن يحذو حذوهم جرأة عظيمة وجسارة جسيمة ، فقصد بإيثار ضمير الجمع تغليب الأصفياء الخلّص على غيرهم كى يحترز بذلك عن الكذب الظاهر والتهوّر الشنيع.

وأنّ هنا مسألة فقهيّة وهي أنّ من باع أمتعة مختلفة صفقة واحدة فخرج بعضها معيبا فللمشتري أن يقبل الجميع أو يردّ الجميع ، وليس له التبعّض ، فكأنّ العابد أراد أن يحتال لقبول عبادته الناقصة بأن أدرجها في عبادات غيره من الأولياء والمقرّبين ، وعرض الجميع صفقة واحدة على حضرة ذي الجود والإفضال فهو عزّ شأنه أجلّ من أن يردّ المعيب ويقبل الصحيح ، كيف وقد نهى

__________________

(١) تفسير الامام عليه‌السلام ص ١٨ وعنه كنز الدقائق ج ١ / ٦٤.

(٢) السجدة : ٢.

(٣) الرعد : ٢٣.

(٤) مجمع البيان ج ١ / ٢٧.

٥٢٠