تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

الناطق والنبأ الصادق : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (١)» (٢).

وإنما ذكره بطوله لما فيه من الشهادة بجميع أعضائه وجوارحه وظاهره وباطنه على قصوره من أداء شكر نعمة واحدة من نعمه سبحانه ، فإذا كان مولانا سيد الشهداء روحي له الفداء عاجزا عن ذلك ، فما ظنّك بغيره!

بل غاية المطلوب منّا إنما هو الاعتراف بالعجز والقصور ، بل التفاوت في الدرجات واختلاف مراتب الممكنات إنما هو بحسب اختلاف معرفتهم وتصديقهم بالعجز عن ذلك واعترافهم بذلك وهو التحقق بمقام العبودية والإذعان بالعجز عن إحصاء شؤون الربوبية.

درّة بيضا في حقيقة اللواء

اعلم أن اللواء بالهمزة واللواي واللواية بالياء بدون الهاء ومعها ، بمعنى العلم بالفتحتين أو العلم الكبير.

وقد تظافرت الأخبار بل تواترت بأنه أعطي نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لواء الحمد وهو حامله.

وفي أكثر الأخبار أنّ حامله مولانا أمير المؤمنين وأن آدم ومن دونه من الأنبياء والمرسلين تحت هذا اللواء.

ولم أر لأحد من العلماء الأعلام رفع الله قدرهم في دار السّلام كلاما في هذا المرام ، فلا بأس بالإشارة إلى بعض الأخبار في المقام ثم التعرض لبعض المقاصد التي يصل إليها أكثر الأفهام ، فإنه ليس كل ما يعلم يقال ، ولا كل ما يقال حضر له

__________________

(١) إبراهيم : ٣٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٩٨ / ٢١٨.

٣٢١

رجال ، ولا كلما حضر له رجال حان له المجال.

ففي «العيون» عن مولانا الرضا عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي! أنت أول من يدخل الجنة وبيدك لوائي ، وهو لواء الحمد ، وهو سبعون شقة الشقة منه أوسع من الشمس والقمر» (١).

وفيه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا علي! إني سألت ربي فيك خمس خصال فأعطانيها ، أحدها أن يجعلك حامل لوائي ، وهو لواء الله الأكبر مكتوب عليه المفلحون هم الفائزون بالجنة» (٢) الخبر.

وفي «المناقب» عن مقاتل ، والضحاك ، وعطاء ، وابن عباس في قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ) أي من المنافقين (مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) وأنت تخطب على منبرك تقول : إنّ حامل لواء الحمد يوم القيامة علي بن أبي طالب (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) تفرقوا و (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً) على المنبر استهزاء بذلك كأنهم لم يسمعوا ، ثم قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٣)» (٤).

وفي «العلل» : «يا علي! أنت أول من يدخل الجنة ، فقلت : يا رسول الله أدخلها قبلك؟ قال : نعم ، لأنك صاحب لوائي في الآخرة كما أنّك صاحب لوائي في الدنيا وحامل اللواء هو المتقدّم ثم قال عليه‌السلام : يا علي! كأني بك وقد دخلت الجنة وبيدك لوائي وهو لواء الحمد تحته آدم فمن دونه (٥).

وفي «تفسير فرات بن إبراهيم» عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي أعطى يوم القيامة أربعة

__________________

(١) العيون : ص ١٦٨ ، وعنه البحار : ج ٨ / ٤.

(٢) العيون : ص ١٩٨ ، وعنه البحار : ج ٨ / ٤.

(٣) سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ١٦.

(٤) المناقب : ج ٢ / ٢١ ، وعنه البحار : ج ٣٩ / ٢١٣.

(٥) علل الشرائع ص ٦٨ وعنه البحار ج ٣٩ ص ٢١٧ ح ٩.

٣٢٢

ألوية فلواء الحمد بيدي ، وأدفع لواء التهليل لعلي ، وأوجّهه في أول فوج وهم الذين يحاسبون حسابا يسيرا ، ويدخلون الجنة بغير حساب عليهم ، وأدفع لواء التكبير إلى حمزة ، وأوّجهه في الفوج الثاني ، وأدفع لواء التسبيح إلى جعفر ، وأوجّهه في الفوج الثالث ، ثم أقيم على أمتي أشفع لهم ثم أكون أنا القائد وإبراهيم السائق حتى أدخل أمتي الجنة» (١).

وفي «الأمالي» بالإسناد : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آخى بين المسلمين ثم قال : «يا علي أنت أخي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ، أما علمت يا علي أنّه أول من يدعى به يوم القيامة يدعى بي ، فأقوم عن يمين العرش فأكسى حلّة خضراء من حلل الجنة ، ثم يدعى بأبينا إبراهيم فيقوم سماطين (٢) عن يمين العرش في ظلّه فيكسى حلة خضراء من حلل الجنة ، ألا وإني أخبرك يا علي إن أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة ، ثم أبشرّك يا علي إنّ أول من يدعى يوم القيامة يدعى بك هذا لقرابتك مني ومنزلتك عندي ، فيدفع إليك لوائي وهو لواء الحمد فتسير به بين السماطين ، وإن آدم وجميع من خلق الله يستظلون بظل لوائي يوم القيامة ، وطوله مسيرة ألف سنة ، سنانه ياقوتة حمراء ، قصبه فضة بيضاء ، زجه (٣) درة خضراء ، له ثلاث ذوائب من نور ، ذوابة في المشرق ، وذوابة في المغرب ، وذوابة في وسط الدنيا ، مكتوب عليها ثلاث أسطر : السطر الأول (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، والآخر (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) والثالث «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، طول كل سطر مسيرة ألف سنة ، وعرضه مسيرة

__________________

(١) تفسير فرات ص ٢٠٦ وعنه البحار ج ٨ ص ٧ ح ١١.

(٢) السماط (بكسر السين المهملة) : الشيء المصطف.

(٣) الزج (بضم الزاي) : الحديدة التي في أسفل الرمح.

٣٢٣

ألف سنة ، فتسير باللواء والحسن عن يمينك ، والحسين عن يسارك حتى تقف بيني وبين إبراهيم في ظل العرش فتكسى حلة خضراء من حلل الجنة ، ثم ينادي مناد من عند العرش : نعم الأب أبوك إبراهيم ، ونعم الأخ أخوك علي ، ألا وإني أبشرك يا علي إنك تدعى إذا دعيت وتكسى إذا كسيت وتحيى إذا حييت (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

والإشارة الإجمالية أنك قد سمعت أنّ الحمد الحقي الفعلي هو الحقيقي الذاتي الذي هو المشية الكلية ، والحقيقية المحمدية ، واسمه في السماء أحمد ، وفي الأرض محمد كما في الخبر يعني أن اسمه في سماء الرفعة والوجود والإقبال والاستفاضة هو احمد بزيادة الألف في أوله للإشعار إلى مقام الإقبال وشدة التوجه والتجريد والانغماس في بحر التوحيد ولذا أفاد معنى التفضيل فإنه خير مظهر ومظهر أول المحامد الربانية فظهر به مجده وثنائه ، وتجلى فيه قدسه وبهاؤه ، تجلى له ربه فأشرق ، وطالعه فتلألأ ، وألقى في هويته مثاله فأظهر عنه أفعاله.

وفي أرض الانوجاد والإمكان والإدبار والإفاضة على غيره هو محمّد بزيادة الميمين إشارة إلى المقام المخصوص به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون علي عليه‌السلام وهو طوافه حول جلال القدرة ثمانين ألف سنة.

كما في خبر جابر الأنصاري عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (٢) ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر ابتدعه عن نوره واشتقه من جلال عظمته ، فأقبل يطوف بالقدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة ، ثم سجد لله تعظيما ، ففتق منه نور علي ، فكان نوري محيطا

__________________

(١) أمالي الصدوق ص ١٩٥ وعنه البحار ج ٨ ص ١ ح ١.

(٢) آل عمران : ١١٠.

٣٢٤

بالعظمة ، ونور علي محيطا بالقدرة ، ثم خلق العرش واللوح والشمس» (١) الخبر وقد مر الكلام في بيان الخبر فلاحظ.

فنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشتق من الحمد على الوجهين بالاشتقاق اللفظي والمعنوي ليطابق الظاهر الباطن ، بل هو مشتق من اسمه سبحانه الحميد والمحمود بالاشتقاق المعنوي ، فهو العزيز الحميد ، وهذا محمد.

وفي الخبر : «أنا المحمود وأنت محمد شققت لك اسما من اسمي» (٢).

وإليه أشار أبو طالب (رضي الله عنه) في قصيدته في مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ألم تر أن الله أرسل عبده

ببرهانه والله أعلى وأمجد

وشقّ له من اسمه ليجله

فذو العرش محمود وهذا محمّد (٣)

فالحمد والثناء كله لله وبالله ومن الله إلا أنه ليس في مرتبة ذاته الأحدية المجردة الذي ليس له اسم ولا رسم ولا وصف ولا نعت ، بل إنما هو في مرتبة فعله ، وفعله حادث ليس معه قديما بالقدم الأزلية سبحانه له القوة القوية والقدم الأزلية ، بل القدم المضاف إلى الفعل إنما هو القدم في عالم الإمكان وفي صقع الوجود المطلق والمشية الكلية والحقيقية المحمدية.

كما في الخطبة الغديرية الأميرية على ما رواه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه‌الله في «المتهجد» بالإسناد عن مولانا الرضا عليه‌السلام وفيها : «وأشهد أن محمدا عبده ورسوله استخلصه في القدم على سائر الأمم ...

إلى قوله عليه‌السلام : «وأن الله اختص لنفسه بعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بريته خاصة علاهم بتعليته وسما بهم إلى رتبته وجعلهم الدعاة بالحق إليه ، والأدلاء بالإرشاد إليه لقرن

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٢٥ ص ٢٢ ح ٣٨.

(٢) أمالي الصدوق ص ٢١٣ وعنه البحار ١٨ ص ٣٣٨.

(٣) بحار الأنوار ج ١٦ ص ١٢٠ وقيل : الشعر لحسان.

٣٢٥

قرن وزمن زمن.

أنشاهم في القدم قبل كل مذروء ومبروء ، أنوارا أنطقها بتحميده ، وألهمها شكره وتمجيده ، وجعلها الحجج على كل معترف له بملكة الربوبية وسلطان العبودية واستنطق بها الخرسان بأنواع اللغات بخوعا (١) له بأنه فاطر الأرضين والسموات وأشهدهم خلق خلقه وولّاهم ما شاء من أمره وجعلهم تراجمة مشيته ، وألسن إرادته ، عبيدا لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون» (٢).

وقد ظهر من هذه الخطبة الشريفة كما في الأخبار المتواترة أنهم هم الفيض الأول ، والنور المشرق من صبح الأزل ، وأن الله أنشأهم في القدم قبل كل شيء ، وولّاهم أمر كل شيء ، فظهر بوجودهم محامده الفعلية الأولية ، وبوساطتهم لخلق الخلائق ورزقهم وساير فيوضهم وتجلياتهم نعمه الجليلة الجميلة التي لا تحصى ولا تستقصى على جميع خلقه ، فاللواء هو العلم الذي يرفعه الأمير للشهرة ولظهور النصرة ولتحقق الإمرة ، وحيث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الواسطة لجميع الإفاضات الربانية والنعم الإلهية ، بل به ظهر مجده وثناؤه ، وقدسه وفعله ، وأمره ومشيته ، فهو الظاهر والمظهر والمظهر ، وهو المخصوص بلواء الحمد والثناء والمجد والبهاء والقدس والسناء والنور والضياء والنعمة والعطاء.

وأما إن حامله علي عليه‌السلام فلأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدينة العلم والحكمة وعلي بابها ، وقد قال الله تعالى : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) (٣).

ولذا كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب التنزيل وعلي عليه‌السلام صاحب التأويل ، فإن المراد بالعلم في خبر المدينة الأعم من التكويني والتشريعي ، فلا يصل شيء من الفيوض إلى

__________________

(١) البخوع : المبالغة في الإذعان والإقرار.

(٢) مصباح المتهجد ص ٥٢٤ وعنه البحار ج ٩٧ ص ١١٣.

(٣) البقرة : ١٨٩.

٣٢٦

أحد من الخلايق إلا بواسطته ، والخروج من يده ، لأنه من حجاب القدرة ، وطائف حول حجاب العظمة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجاب العظمة ، وطائف حول حجاب القدرة ، وبالجملة فالولاية المطلقة التامة العامة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والحامل لتلك الولاية والمتصدي لإحيائها إنما هو مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في جميع العوالم التكوينية والتشريعية.

ولذا يكون تحتها آدم ومن دونه من الأنبياء والمرسلين والأوصياء والصديقين والملائكة المقربين صلى الله على محمد وآله وعليهم أجمعين.

وهذا لضرب من البيان وإلا فتحتها جميع العالم من الدرة إلى الذرة ، ومن أعلى عليين إلى أسفل سافلين ، بل جميع ما خلق الله سبحانه من ألف ألف عالم ، وألف ألف آدم في جميع الأكوار والأدوار والأوطار والأطوار إلى غير ذلك مما لا يعلمه أحد إلا الله العزيز الجبار ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خبر «الأمالي» : «إن آدم وجميع من خلق الله يستظلون بظل لوائي يوم القيامة».

ومن هنا يظهر أن الإختصاص والحمل للواء ليس في خصوص الآخرة ، بل في الدنيا أيضا ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخبر المتقدم عن «العلل» : «إنّك صاحب لوائي في الآخرة كما أنت صاحب لوائي في الدنيا» (١).

نعم ظهور هذا اللواء أعني الولاية المطلقة إنما يكون في الآخرة يوم تبلى السرائر ، هنالك الولاية لله الحق ، إذ له الملك وله الحمد ، هو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما عليه أقدرهم.

وأما إن له سبعين شقّة كل شقّة منه أوسع من الشمس والقمر فهو إشارة إلى كماله وتماميته في عالم الإمكان والأكوان ، وأنه ليس له في هذا العالم قصور ولا

__________________

(١) العلل ص ٦٨ وعنه البحار ج ٣٩ ص ٢١٧ ح ٩.

٣٢٧

نقصان ، فإن السبعة هي العدد الكامل ، والنور الشامل من أول الإفراد إلى ثاني الأزواج ، ومن أول الأزواج إلى ثاني الأفراد ، وظهور انبساطه وترقيه إنما هو بالترقي إلى العشرات ، ولذا يعبر به عن الأعداد الكاملة التي لها الغاية القصوى كقوله (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) (١).

وللنبوي : «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة» (٢).

مع أن تعدد الشقة باعتبار تعدد العوالم ، فإن كل شقة منها محيطة بعالم من العوالم ، ولذا تكون أوسع من الشمس والقمر في الإحاطة والضياء والبهاء والنور.

بل في كلام بعض السادة الأعلام : أنه ورد أن له سبعين ألف شقة ، لكن الخطب سهل بعد ما علم أنه يعبر عن الكثرة العددية بهذا العدد وإن لم يكن مقصودا بالخصوص كما يعبّر عنها بعدد الألف أيضا ، منه ما في خبر «الأمالي» من أن طول كل سطر وعرضه ألف سنة (٣).

وكأنه من سني الربوبية الصغرى أو الكبرى ، (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤) وله كل (يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٥).

بل عرض كل من الأسطر الثلاثة وطولها بقدر عالم الأكوان والإمكان ، فإن كل شيء من الموجودات رقمت عليه الأسطر الثلاثة بحيث قد استوعب جميعه من ظاهره وباطن وملكه وملكوته ، بل لا تزاحم بين الأسطر ولا تدافع فيها فكل سطر منها محيط بكله فكل شيء موسوم بسمة الله.

__________________

(١) التوبة : ٨٠.

(٢) كشف التوبة ص ٢٥٤ وعنه البحار ج ٢٥ ص ٢٠٤.

(٣) أمالي الصدوق ص ١٩٥ وعنه البحار ج ٨ ص ١ ح ١.

(٤) الحج : ٤٧.

(٥) المعارج : ٤.

٣٢٨

كما عن الرضا عليه‌السلام في تفسير البسملة (١).

مظهر لثنائه سبحانه ، بل مظهر له بأفصح لسانه دال بجميع وجوده وجهات ظهوره على توحيد خلقه وتتريهه من سمات الحدوث والنقصان والإقرار بالبابية الكبرى ، والوساطة العظمى للنورين الأولين القديمين في عالم الكون والإمكان ، وهو محمد وعلي (صلوات الله عليهما وآلهما) فإن من لم يقر لهما بهذا المقام لم يخرج من غسق العدم إلى عتبة الوجود ، والأخبار بذلك كثيرة ، بل يدل عليه أيضا ما ورد من أن أسمائهم مكتوبة على العرش الذي أظهر إطلاقاته في المقام هو جملة العالم.

نعم لو أطلق في مقابلة غيره أريد منه الخصوصية كما في «الإحتجاج» عن الصادق عليه‌السلام وفيه ما يدل على أصل المقصود أيضا قال عليه‌السلام : «لمّا خلق الله العرش كتب على قوائمه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، على أمير المؤمنين ، ولمّا خلق الله الماء كتب على مجراه لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين ، ولمّا خلق الله (عزوجل) إسرافيل كتب على جبهته : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، على أمير المؤمنين ، ولما خلق الله (عزوجل) جبريل كتب على جناحيه : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين ، ولما خلق الله (عزوجل) السموات كتب على أكتافها : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين ، ولما خلق الله (عزوجل) الأرضين كتب في أطباقها : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، علي أمير المؤمنين».

ثم ذكر عليه‌السلام الجبال والشمس والقمر ، ثم قال : «وهو السواد الذي ترونه في القمر ، فإذا قال أحدكم : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فليقل : علي أمير المؤمنين

__________________

(١) معاني الأخبار ص ٣ وعنه البحار ج ٩٢ ص ٢٣٠.

٣٢٩

ولي الله» الخبر (١).

وهذه السطور والأرقام كلها في هذه اللواء ، بل سائر الأشياء كلّها مرقومة بقلم النور من مداد السرور في صحيفة الظهور وقد كتبه مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله سبحانه حين أشهدهم خلقها وولاهم أمرها كما في الخطبة الأميرية الغديرية المتقدمة (٢) ، وفي خبر محمد بن سنان وغيره فالتوحيد الذي فطر الله عليه الخلق لا يتم إلا بالإسلام الذي هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالإيمان الذي هو مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ولذا يستنطق الإسلام من بينات اسم محمد (٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإيمان من بينات اسم علي عليه‌السلام (٤) فلا يقبل التوحيد إلا بالإسلام (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٥) (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (٦).

ولا يقبل الإسلام إلا بالإيمان (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٧).

تنبيه

ربما يقال إن قوله : (الحمد لله) يحتمل الإخبار والأمر والابتداء ولعل المراد بالأخير هو الإنشاء لا مطلقة ، فإن الأمر نوع منه ، بل إنشاء الحمد كالدعاء ، فالأولى

__________________

(١) الإحتجاج ص ٨٣ وعنه البحار ج ٢٧ ص ١ ح ١.

(٢) مصباح المتهجد ص ٥٢٤ وعنه البحار ج ٩٧ ص ١١٣.

(٣) فإن بينات كل منهما بحسب العدد يساوي (١٣٢).

(٤) لأن بينة (علي) بحسب لعدد (١٠٢) وهو يساوي كلمة (إيمان).

(٥) آل عمران : ١٩.

(٦) الحج : ٧٨.

(٧) الحجرات : ١٧.

٣٣٠

أن يقال : إنه يحتمل الإنشاء والإخبار.

وعلى كل من الوجهين إما بتقدير القول وما معناه ، كاحمدوا وأشكروا ونحوهما ، أولا ، فالاحتمالات أربعة.

فعلى الإنشاء هو إنشاء من الله لحمد ذاته بذاته فيتحد الحامد والمحمود والحمد ، وإن كان في مقام الواحدية لعدم إيجابه التغاير أو بفعله فيتغاير الحمد الحامد والمحمود.

ويؤيد الإنشاء على الوجهين أو على الوجه الثاني خاصة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١) إشارة إلى ذلك إذ هو مع ظهوره في كون الثناء منه سبحانه ، ظاهر في الإنشاء أيضا ، وإن أوجب ذلك تعليم غيره أيضا ، فإنه لا يوجب انحصار الفائدة فيه ، وعلى فرضه لا يستلزم أن يكون الكلام مسوقا على وجه الأمر.

وعلى الثاني لا بد من إضمار ، وأنسبه على ما قيل : لفظ القول لاقترانه في مواضع كقوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) (٢) (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) (٣) (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ) (٤).

فالمعنى قولوا : الحمد لله.

أو أنه حمد من الله على لسان عبده كقوله : «سمع الله لمن حوله».

وعلى الإخبار إخبار منه سبحانه بأن المحامد كلها منه ، وله ، فهو المختص

__________________

(١) الإقبال ص ٤٧ ـ ٥٧ وعنه البحار ج ٩٧ ص ٣٢٨ وفيه / لا أحصي الثناء عليك ولو حرصت ، وأنت كما أثنيت على نفسك سبحانك وبحمدك.

(٢) الإسراء : ١١١.

(٣) النمل : ٩٣.

(٤) النمل : ٥٩.

٣٣١

بها ، أو أن الأمر له كقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (١) بناء على ما قيل : من أن الحمد بمعنى الأمر بل عليه يحمل قوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) (٢).

ولعله بناء على كون الأمر بمعنى الشأن ، ليشمل جميع الشؤون التكوينية والتشريعية في العوالم كلها ، فيرجع إلى اختصاصه سبحانه بالمحامد كلها لكنه على إضمار القول لما كان العبد عاجزا عن عدّ نعمه سبحانه (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (٣) وعن الشكر عليها كما هو أهله ومستحقه ، فلذا أجمل القول وعمّم ، فأثبت جميع المحامد الشامل للمحامد الذاتية والفعلية من الحقية والحقيقة والخلقية له سبحانه ، وإلّا فإحصاء محامده مما لا يطيقه البشر بل لا يطيق شكر نعمة واحدة من نعمه الكثيرة التي لا تتناهى.

حسب ما سمعت في كلام مولانا سيد الشهداء روحي وروح العالمين له الفداء (٤).

بل في دعاء سجود الشكر للسيد السجاد عليه‌السلام : «إلهي لو أني منذ بدعت فطرتي من أول الدهر عبدتك دوام خلود ربوبيتك بكل شعرة في كل طرفة عين سرمد الأبد بحمد الخلايق وشكرهم أجمعين لكنت مقصّرا في بلوغ أداء شكر أخفى نعمة من نعمك» (٥).

وبالجملة فلكون الغرض إفادة الشمول والعموم أتى بالمصدر المعرّف بلام الجنس ، أو الاستغراق ، حسب ما تسمع مرفوعا على الابتداء ، وخبره لله ليدلّ على

__________________

(١) آل عمران : ١٥٤.

(٢) النصر : ٣.

(٣) النحل : ١٨.

(٤) بحار الأنوار : ج ٩٨ / ٢١٨ دعاء عرفة.

(٥) البحار : ج ٩٤ / ٩٠.

٣٣٢

الإستيعاب والاستقصاء مضافا إلى إفادته الدوام والثبات ، وعدم تقيّده بواحد من الأزمنة مطلقا ، بناء على عدم ثبوت المحامد الذاتية والفعلية له سبحانه قبل خلق الزمان والمكان ، فإنهما من أنزل مراتب الأكوان والإمكان.

وهذه الفوائد لا تستفاد من المصدر المنكّر إذ المرفوع منه يدل على ثبوت الفرد الواحد المنتشر على البدلية ، والمنصوب منه مفعول مطلق لفعل محذوف لا يكاد يستعمل معه كقولك سقيا ورعيا ، وهو مع إفادته للفرد لكونه مفعولا مطلقا نوعيا ، لا توكيديا لكون مدلوله معرفا باللام زايدا على مدلول الفعل ، ولا عدديا لانتفاء ما يدلّ عليه يدلّ على التجدد والحدوث والتقيد بشيء من الأزمنة خاصة.

ولهذه الجملة لم يأت بالجملة الفعلية أيضا ، فإنها تدلّ على ثبوت حمد خاصّ عن حامد واحد في واحد من الأزمنة ، وأين هذا ممّا سمعت من ثبوت المحامد كلها من جميع الحامدين له سبحانه على سبيل الدوام والاستقرار والثبوت.

اشارة الى معنى الالف واللام في الحمد

اعلم أنّ الألف واللام في قوله (الحمد لله) يمكن أن يكون للإشارة إلى الطبيعة الجنسية فإن هذه الطبيعة لا يستحقه بحقيقة الاستحقاق إلا الله لاختصاصه به ، أو لكونه ملكا له ، وللحقيقة المتقررة لما مر ، وللعهد الذهني ومعناه على ما قيل الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو.

بل في بعض حواشي «الكشاف» : أن تعريف الحقيقة راجع إلى تعريف العهد الذهني كما عليه المحققون نظرا إلى أن اللفظ الدال على الماهية من غير نظر إلى وحدة وكثرة واستغراق وعدمه وتعين وإبهام ذهنا أو خارجا وإن لم يخل عن أحدها هو المطلق ، والدال عليها باعتبار تعينها ذهنا بنفسه علم الجنس ، وبأداة التعريف هو

٣٣٣

المعرّف بتعريف الماهية ، والفرق بين ملاحظة التعين ومصاحبة التعين بيّن.

وقولك : أدخل السوق لمن بينك وبينه سوق معهود من هذا القبيل ، لأنّ الدالّ على الحقيقة صالح للإطلاق على الفرد الخارجي المشتمل عليها معيّنا كان فيه أو لا ، وقد جعل قسما برأسه وضم النشر بقدر الإمكان أولى.

قلت : لكن لا يخفى أن الماهية الملحوظة من حيث تحصّلها في ضمن فرد ما ولو مع عدم التعيين كما هو المعهود في العهد مغايرة للملحوظة من حيث نفسها مع قطع النظر عن تحققها في ضمن الأفراد أو مع ملاحظة العدم كما هو الملحوظ في القسمين الأولين من الأقسام المتقدمة فضم النشر خير مع الإحصاء لا الضياع وللاستغراق الجنسي أو الخصائصي أو الإفرادي نظرا إلى اختصاصه سبحانه بجميع المحامد وبالحقيقة الملحوظة في ضمنها أو المستجمعة لخصائصها.

وقد حكي حمل اللام على الاستغراق عن الجمهور بل المشهور ويحتمل الحمل على كل من الثلاثة وإن كان محط أنظارهم بل الظاهر من عباراتهم هو الإفرادي ولعل غيره أبلغ وللعهد بإرادة أكمل أفراده وهو حمده تعالى لذاته كما يليق بكماله وينبغي لكرم وجهه وعز جلاله كما في التحميد الذي تقدمت الإشارة إلى مراتبه الأربعة ، ولذا قال سيد المرسلين (صلى‌الله‌عليه‌وآله أجمعين) : «سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١).

ولعل هذا هو الوجه في حمل اللام على العهد في المقام ، كما عن بعض الأعلام لكنه لا يخفى عليك بعد ملاحظة ما مر من أقسام الحمد الحقي والحقيقي والإطلاقي من حيث الذات والفعل بشئونه وأطواره أنه من حيث الحقيقة والفرد مخصوص به سبحانه فجميع المحامد منه وله ، فإن أبيت عن حمل اللام على جميع

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧١ / ٢٣ ح ٩.

٣٣٤

معانيها ولو لإرجاعها إلى معنى واحد أو لاعتبار مراتب البطون ، فإن القرآن ذلول ذو وجوه وله ظهور وبطون ، فلا أقل من حملها على الاستغراق الجنسي الدال على استيعاب جميع الأفراد التي تقدمت إليها الإشارة وأما ما في «الكشاف» من أنه لتعريف الجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو نحو التعريف في «أرسلها العراك» (١) وإن الاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم منهم (٢) ـ انتهى.

ففيه أنه أولى بالوهم لما سمعت ، نعم ذكر المتعرضون لكلامه في توجيهه وجوها.

منها : أنه مبني على مسألة خلق الأعمال ، فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة الذين هو منهم كانت المحامد كلها راجعة إليهم ، فلا يصح اختصاص المحامد كلها به سبحانه ، وفيه : أنه لا يمنع أن تمكين العباد وإقدارهم على الأعمال التي يستحقون بها الحمد إنما هو منه سبحانه بل لوح إليه في سورة التغابن حيث قال في قوله : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) (٣) قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك والحمد بالله تعالى لأنهما على الحقيقة ، لأنه مبدء كل شيء ومبدعه ، وأصول النعم وفروعها منه ، ثم قال : وأما حمد غيره فاعتداد بأن نعمة الله جرت على يده (٤) انتهى.

وبالجملة فالأفعال وإن كانت منسوبة إلى العبيد من حيث إن لهم الإختيار

__________________

(١) من كلام لبيد العامري ان ربيعة الشاعر المخضرم المتوفي في أول خلافة معاوية في بيت :

وأرسلها العراك ولم يذدها

ولم يشفق على نغص الدخال

(٢) الكشاف ج ١ ص ٤٩ ط بيروت دار الفكر.

(٣) الغابن : ١.

(٤) حاشية الكشاف للسيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفي (٨١٦) ص ٥٢ ر ط بيروت دار الفكر.

٣٣٥

فيها إلا أن جميع ما للعبد من الآلات والأدوات والأعضاء والجوارح والمشاعر والقوى وغيرها كلها فائضة من الله وهو سبحانه يستحق الحمد والشكر على إفاضتها وإبقائها في كل آن من الآنات بما لا يقوم به أحد من عبيده حسب ما مرت إلى جملة منها الإشارة.

هذا مضافا إلى أن البناء على مسألة خلق الأعمال ، كما أنه يمنع من الحمل على الاستغراق كذلك يمنع من الحمل على الجنس فإنه لا يصح حينئذ اختصاص الجنس به سبحانه ، والحمل على التوسع وأصول النعم مشترك بالنسبة إلى المعنيين.

وقد ذكر في «الكشاف» في قوله (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١) أن اللام فيه للجنس فيتناول كل محسن (٢) ، وفي قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٣) أنه للجنس مع وجود الاستثناء الدال على شمول الإفراد.

إلا أن يقال : إنه قد أراد بالجنس هنا غير ما أراد به هناك كما قيل ، وهو كما ترى.

ومنها أن هذه المصادر نائبة مناب الفعل وسادّة مسدّه والأصل فيها النصب والعدول إلى الرفع بجمل الجملة اسمية للدلالة على الدوام والثبات ، والفعل إنما يدل على الحقيقة دون الاستغراق فكذا ينوب منابه.

وفيه أن النائب عن الفعل إنّما هو المصدر المجرد القائم مقامه إذ هو المؤدى لمدلوله ، وأما المعرف باللام فلا مانع من استفادة الاستغراق منه من جهة التعريف الذي هو بمنزلة القرينة ، أو من باب تعدد كل من الدال والمدلول.

على أن النيابة إنما هي في جوهر الكلمة لا في جميع مقتضيات الصورة

__________________

(١) آل عمران : ١٣٤.

(٢) الكشاف : ج ١ / ٤٦٤ ط بيروت.

(٣) العصر : ١.

٣٣٦

والهيئة وإلا لامتنع التغاير من حيث الاسمية والفعلية ومقتضياتها ومع ضرورة التغاير فيها نقول : إنه منها.

ومنها : أن الجنس هو المتبادر إلى الفهم الشائع في الاستعمال سيما في المصادر ، وعند خفاء قرائن الاستغراق.

وفيه المنع عن التبادر والغلبة سيما في مقام المخاطبة وعند الامتنان والتعليم والتعظيم والشكر ، بل قيل : أيّ مقام أدلّ بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام تخصيص الحمد بالله سبحانه تعظيما له فقرينة الاستغراق فيما نحن فيه كنار على علم.

ومنها : ما ذكره غياث المحققين (١) من أن الحق أن السبب في الإختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام ، وهو مستلزم لاختصاص جميع الأفراد به تعالى فلا حاجة في تأدية المقصود الذي هو ثبوت الحمد له تعالى وانتفاؤه من غيره إلى أن يلاحظ الشمول والإحاطة ويستعان فيه بالأمور الخارجة عن اللفظ (٢).

وفيه مع الغضّ عن منع الاستلزام بحيث يتعلق المقصود به لاختلاف المقاصد في ذلك ولو باعتبار تطرّق الانصراف إلى العموم الجنسي في الجملة دن الاستغراقي ، وعن منع الحاجة في إفادة الشمول إلى الاستعانة بالأمور الخارجة أزيد مما تحتاج إليه في إفادة الجنس لاستفادة كل منهما من اللام ولو بمساعدة المقام للقرينة على المرام.

أنّ الظاهر من كلام الزمخشري كما فهمه غير واحد منه نفي الاستغراق في

__________________

(١) المراد به السيد الشريف الجرجاني المتوفي (٨١٦) المتقدم ذكره.

(٢) حاشية الكشاف للجرجاني ج ١ ص ٥٢.

٣٣٧

المقام ، وعدم الحمل عليه ، وظاهره أنه من جهة عدم الصلاحية ، لا من جهة الحاجة إلى الاستعانة بالأمور الخارجة وعدمها في إفادته أو كونه مجازا محتاجا إلى القرينة ولذا تريه في كثير من الموارد يذكر الوجوه والاحتمالات الظاهرة وغيرها من غير اقتصار منه على المعاني الحقيقية أو الوجوه الراجحة.

هذا كله بعد تسليم التجوز وعدم الظهور أو ظهور العدم بالنسبة إلى الاستغراق.

ومن جميع ما مر يظهر النظر بما ذكره التفتازاني وتبعه بعض من تأخر عنه من أن اللام للتعريف إجماعا ومعناه التعيين والإشارة ، وهذا ليس في شيء من الإحاطة والشمول الذي هو معنى الاستغراق.

قال وهذا معنى ما حكي عن بعض النحاة أن اللام لا يفيد سوى التعريف والإشارة ، والاسم لا يدل إلا على مسمّاه ، فإذا لا يكون ثمّت استغراق ، ولذا حصر في «المفصل» فائدة اللام في التعريف في العهد والجنس ، ثم ذكر تحقيقا حاصله أنّ إفادة اللام الاستغراق إنما هي لدلالتها على الماهية من حيث وجوده في ضمن الأفراد وعدم وجدان القرينة البعضية ففي المقام الخطابي يحمل على العموم والاستغراق احترازا عن ترجيح أحد المتساويين ، ومثله لفظ كل مضافا إلى النكرة ، وفي مقام الاستدلال على الأقل لأنه المتيقن ، بل في «كشف معضلات الكشاف» : الدال على الماهية مع كثرة غير معينة اسم الجمع ومع الكثرة المستوعبة الاسم المستغرق وهو العام عند الأصولي.

قال : ومنه ظهر أن الاستغراق ليس من التعريف في شيء ، وكفاك استغراق نحو «لا رجل» و «تمرة خير من جرادة» شاهدا فلا بد معه من اعتبار تعين ذهني أو خارجي ، فلا يخرج من القسمين أعني تعريف الحقيقة أو العهد الخارجي.

ثم ذكر أن إرادة الاستغراق إنما هو على وجه التجوز حتى عند الأصوليين

٣٣٨

إلا أن هذا التجوز مستمر عند أكثرهم في الجموع المعرفة باللام ، وعند بعضهم في المفرد الجنسي المعرف بها أيضا عند عدم العهد فيهما ، لكن الأكثر على منع الاستمرار.

ومنه يظهر أن الاستغراق في المقام أولا وهم ، وثانيا يأبى المقام عنه لأن اختصاص حقيقة الحمد به سبحانه أبلغ من اختصاص أفرادها جمعا وفرادى.

وفيه أن حصر وجه إفادة اللام الاستغراق فيما ذكره غير جيد ، فإنه قد يكون من جهة الوضع ومن جهة قرينة المقام ودلالتها على استيعاب الأفراد وتعليق الحكم على كل فرد منها ، وأين هذا من الحمل على العموم إذا وقع في كلام الحكيم احترازا عن ترجيح أحد المتساويين المعبر عنه عند الأصوليين بالعموم من جهة الحكمة.

وأما ما ذكره صاحب «الكشف» من حصر معنى اللام في تعريف الحقيقة والعهد الخارجي ، ففي غاية الغرابة ، كيف وقد جعلوا الاستغراق قسيما لهما بعد اعتبار التعين بالنسبة إلى الأفراد ، من أنك قد سمعت أن اللام وضعت للإشارة إلى مدلول مدخولها الذي ربما يكون هي الماهية من حيث تحصلها في ضمن جميع الأفراد ، وقد أجمعوا على أن الجمع المحلى باللام يفيد العموم على وجه الاستغراق إذا لم يكن هناك قرينة على إرادة الجنس أو العهد ، بل قيل : إنه ظاهر ، بل حقيقة في العموم الإفرادي ، لا الجمعي ، والمجموعي ، حسب ما هو ظاهر من ملاحظة العرف واللغة لقضية التبادر وغيره من أماراة الحقيقة نعم قد يتأمل في كون ذلك هل هو على وجه تعدد الدال والمدلول أو من جهة أن هذا وضع مستقل للهيئة التركيبية بحيث صار سببا لهجر المعنى الذي كان يقتضيه الأصل ، وهو كلام آخر محرر في الأصول.

وعلى كل حال فلا ريب في كون الاستغراق من المعاني التي يفيده المعرف باللام كسائر ما يفيده ولو بقرينة المقام من العهد والجنس وغيرهما حسب ما

٣٣٩

سمعت ، فالفصل بينهما ليس بالفصل بل هو قول هزل.

ومرادهم من إطلاق الاستغراق هو التعريف على هذا الوجه نظير إطلاقهم الجنس والعهد ، فيسقط ما ذكره من دعوى أن الاستغراق ليس من التعريف في شيء وإرجاعه مع التعين الذهني أو الخارجي إلى أحد القسمين حسبما ذكره من الغرائب ، وأغرب منه نسبته إلى الأصوليين كون ذلك في الجموع على وجه التجوز وحمله على التجوز من حيث اللغة أو وضع المفردات كما ترى.

وأما دعوى كون اختصاص حقيقة الحمد به أبلغ من اختصاص أفرادها.

ففيها أنك قد سمعت أن للحمد مقامات ودرجات كالحمد الحقي والحقيقي والخلقي والإطلاقي وكل ذلك إما في مقام الذات أو الفعل وبعضه إما بالجنان أو بالأركان أو باللسان أو بالجميع ، ومن البيّن أنّ الأكمل في مقام الثناء إثباته له بجميع مقاماته ودرجاته كما في الدعاء : «الحمد لله كلّما حمد الله شيء ، وكما يحب الله أن يحمد ، وكما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجه وعز جلاله» (١).

فالأول يدل على الإستيعاب ، والثلاث الأخر على الكيفية.

وأما ما ذكره في «الكشف» وغيره من أن المستغرق لا يجوز أن يختص به تعالى ، بل الحمد الحقيقي الكامل الذي يقتضيه إجراء هذه الصفات فاللام للحقيقة ويراد أكمل أنواعه من باب «ذلك الكتاب» وحاتم الجواد ، إشعارا بأنه هو الحمد الذي يحق أن يطلق عليه الحقيقة كأنه كل الحقيقة.

ففيه أنه يمكنه أيضا إختيار الاستغراق ، بناء على تنزيل ما عدا محامده سبحانه منزلة العدم ، إذ لا يعبؤ بمحامد غيره بالقياس إلى محامده ، فلا فرق بين المعنيين في صلاحيتهما لتأويل يصح معه الإختصاص.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٦ / ٤٤ ح ٥٤.

٣٤٠