تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

واحد ، بل باعتبار المبدأ بحسب القرب والبعد وإن كان الكلّ ينتهى إليه سبحانه ، فأجاب العبد ، بل الرب بلسان عبد : بأنّ المسئول طريق الذين أنعمت عليهم بشرف الوصال ، من دون شوب الغضب والضلال ، فهم أرباب المنحة لا المحنة وأصحاب النعمة لا النقمة ، بل هم الواصلون ، وغيرهم الضالّون المضلّون.

خليلىّ قطّاع الطريق إلى الحمى

كثير ولكن واصلوه قليل

ثمّ إنّ الذين في موضوع الجرّ بإضافة الصراط إليه ، وهو جمع الّذي من لفظه لذوي العلم في الأحوال الثلاثة عند الأكثر ، وهو الأصحّ والأفصح ، واللّذون رفعا هذليّة ومنه قولهم :

نحن اللّذون صبّحوا الصبّاحا.

نعم ربما يقال : إنّ إعراب الجمع لغة من شدّد الياء في الواحد ، وهذا يقوّي قول الجزولي : إنّ الذي مشدّد الياء معرب وأصله اللّذيّون فحذف أحد اليائين ، ثمّ عمل ما عمل بقاضون ، وعن بعضهم عدم الحذف والعمل أصلا ، بل الجري على الأصل بالواو رفعا ، وبالياء مع الياء المشدّدة نصبا وجدّا.

وهذا كلّه من أضغاث أحلام المعربين الذين وجدوا الألفاظ مستعملة ثم تكلّموا فيها بما هو شبيه برجم الغيب ، كما تكلّموا في الّذى أيضا بمثل ذلك ، حيث زعم الكوفيون أنّ أصله الذال الساكنة فلما أرادوا إدخال اللّام الساكنة عليها زادوا قبلها لا ما متحرّكة لئلّا يجمعوا بين الذال الساكنة ولام التعريف الساكنة ، ثمّ حرّكوا الذال بالكسر ، وأشبعوا الكسر فتولّدت ياء.

والبصريون أنّ أصله لذ بالفتح والكسر ألزمت اللام التعريف الّتي لا تفيدها تعريفا ، لكونها من المعارف تحسينا للفظها وأشبعت الكسرة ياء.

لكنّه كغيره من تكلّفاتهم ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، بل ولا إلى ما ذكره عارفهم الشيخ صدر الدين القونوى من أنّ الّذي أصله الذيّ ، ولكثرة التداول والاستعمال أفضى فيه الأمر إلى أن حذفت ياؤه المشدّدة ، ثم تدرّجوا فحذفوا الياء

٦٤١

الاخرى فقالوا اللذ ثم حذف بعضهم الذال أيضا فلم يبق إلّا اللام المشدّدة الذي هو عين الفعل ، فإنّ اللام الاخرى لام التعريف ، فاذا قلت زيد الذي قام ، أو قلت القائم ، كان المعنى واحدا فلام القائم ناب مناب قولك : الذي ، والياء والنون في الّذين ليس للجمع ، بل لزيادة الدلالة لما تقرّر أنّ الموصولات لفظ الواحد ، والجمع فيهن سواء ، لأنّه لو كان الياء والنون في الّذين للجمع لا عيد إليه حين الجمع الياء الأصلية المحذوفة على العادة الجارية في مثل ذلك ، ولم يكن أيضا نبيّا بل معربا والّذين مبنيّ بلا شكّ انتهى.

إذ فيه أنّه من أين علم أنّ اللام الموصولة أصلها الذيّ وأن أصله أيضا بتشديد الياء ، وما الداعي إلى ذلك وهل رأت النحاة إلا بعض الاستعمالات التي ربما استنبط بعضهم منها بعض النكات التي ليست بعلل أوليّة.

نعم ربما يقال : إنّ في المفرد أربع وجوه ، بل لغات يختلف باعتبارها صيغ المثنى والمجموع : أحدها بالياء المشدّدة كالنبيّ ، والمثنّى اللذيات بزيادة الألف والنون بعد الياء المشدّدة ، والجمع اللذيون بضمّ الياء المشدّدة رفعا واللذين بكسرها نصبا وجرّا على وزن النبيّين.

ثانيها اللغة المشهورة الّتي هي تخفيف الياء في المفرد ، وحذفها مع زيادة الألف والنون رفعا والياء والنون نصبا وجرّا مع فتح الذال في الأحوال كقوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها) (١) (أَرِنَا الَّذَيْنِ) (٢).

وإن قيل : إنّه ربّما يشدّد النون حينئذ كما قيل : إنّ هذه الملحقات ليست علائم للإعراب وإن توهّمها بعض القاصرين فإنّ الموصولات بأسرها مبنيّات وضعت صيغتها للدلالة على معانيها ، ولذا كان جمعه في الأحوال بالياء والنون وإن اشتهرت عن هذيل بالواو رفعا ، بل ربما يقال : إنّ الياء والنون في الّذين ليست

__________________

(١) النساء : ١٦.

(٢) فصّلت : ٢٩.

٦٤٢

علامة للجمع أصلا ، بل لزيادة الدلالة ، بل قيل : من لطائف الغرائب أنّ المفرد والمثنى يعمّ ذوي العقول وغيرهم ، بخلاف الجمع فإنّه يختصّ بذوي العقول ، ولعلّها قيست بالجمع السالم.

ثالثها حذف الياء اكتفاء بالكسرة الدالّة عليها على حدّ قوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) (١) لكنّها شاذّة كالوجه الرابع الذي يحذف فيه الكسرة أيضا ، وكانّهما وقعا في ضرورة الشعر فظنّوهما لغتين ، بل لعلّ الوجه الأول أيضا كذلك.

تبصرة

للصراط اعتبارات ثلاثة لأنّه في نفسه طريق معنوي محصور بين المبدأ والمنتهى ، وهو مشروع مجعول من الله سبحانه لسلوك العبد فيه ، ولذا وصفه أوّلا بالاستقامة التي هي صفة ذاتية له ، ثمّ أضافه في السالكين الذين أنعم الله عليهم بسلوك هذا الصراط المستقيم في التوجه إليه والإقبال عليه ، ثمّ أشار الى أنّه نعمة منه ، وأنّه هو المنعم به على عبيده ، وإنّما أضافه إلى المنعم عليهم بالفتح دون المنعم بالكسر للتنبيه على كون هذا الصراط الموصوف بالاستقامة طريقا لهم نعمة من الله عليهم ، ولذا قال بعد قوله : (وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) ... (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) (٢).

وانّه ليس لأحد التنعّم بهذه النعمة الجليلة المحتوية على خير الدنيا والاخرة إلّا بمتابعتهم ومشايعتهم والاقتداء بهديهم والاهتداء بنورهم (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٣).

__________________

(١) القمر : ٦.

(٢) النساء : ٦٨ ـ ٦٩.

(٣) الانعام : ٩٠.

٦٤٣

فإن القرآن نزل على حدّ إيّاك أعنى واسمعي يا جاره ، ومن هنا يظهر أنّه يمكن الاستدلال بهذه الآية على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين وسائط الخلق إلى الله سبحانه وأنّهم الأبواب والحجاب والنواب ، سيّما بعد ما سمعت أنّ ولايتهم هو الصراط المستقيم الذي نجى به من نجى وهلك من هلك ، فبهم تمّت الكلمة ، وعظمت النعمة ، وهم السبيل الأعظم إلى الله ، والصراط الأقوم إليه ، وشهداء دار الفناء ، فلا يغيب منهم عمل عامل من حق أو باطل ، وشفعاء دار البقاء فيشفعون لمن ارتضى الله دينه بولايتهم ، ومحبّتهم والانقطاع إليهم ، والأخذ منهم والعمل بمقتضيات ولايتهم.

والآية وإن لم يكن فيها تصريح بالتّعيين فضلا عن الحصر إلّا أنّه يتمّ ذلك بضميمة الأخبار المستفيضة المتقدمة المصرّحة بكونهم الصراط المستقيم ، مضافا إلى ما سمعت من الإشارة إلى ذلك في آيات كثيرة يقطع الناظر فيها سيّما بعد التأمّل فيما ورد في تفاسيرها من الطريقين لو كان من أهل الشك والارتياب.

أمّا المؤالف المؤتمن فضلا عن المؤمن الممتحن فلعلّه لا يستريب في وساطتهم المحقّقة وبابيّتهم المطلقة في جميع الفيوض التكوينيّة والتشريعيّة على وجه لا يوجب الإلحاد ولا التعطيل حسب ما أشرنا إليه ، كما أنّه يستفاد من الآية أيضا مضافا إلى ما استفيد من الآية المتقدّمة حسب ما أشرنا اليه تقرير الأمر بين الأمرين على أتمّ الوجوه وأبلغها بالنسبة إلى المنعم عليهم الّذين هم قادة الأمم وأولياء النعم ، نظرا إلى أنّه سبحانه أضاف الصراط إليهم أوّلا نفيا لتوهّم الجبر وأضاف النعمة إليه سبحانه ، ثانيا دفعا لشوب التفويض الّذى توهمته الغلاة أو المفوضة إليهم أو إلى أنفسهم ، ولذا أضاف إلى نفسه وإلى خلقه معا الصراط كما في هذه الآية ،

٦٤٤

وفي قوله : (أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (١) والدين في قوله : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) (٢) ، و (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (٣) والهداية في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٤) وإن كان مرجع الثلاثة الى واحد.

ثمّ إنّ إضافة الصراط إلى الموصولة لاميّة تفيد اختصاصه بهم فإن أريد بهم المتبوعون فالاختصاص بهم واضح ، وإن أريد التابعون فاختصاصه بهم من حيث السلوك والاستطراق وإن كان مختصّا بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعترته المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين من حيث الإشراق والاشتقاق ، وبالله سبحانه من حيث الانوجاد والانخلاق لكفاية أدنى الملابسة في باب الإضافة.

ولذا أضيف إليه سبحانه في قوله : (صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ) (٥) الآية وقوله : (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ) (٦) وإلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ) (٧).

وإلى مولينا أمير المؤمنين روحي له الفداء في قوله : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (٨) على وجه البيان أو الاضافة ، وان كان محتملا للأول ، ولتقدير اللام.

ثمّ إنّ التعبير بالذين في المقام دون من وغيره من الأسماء الموصولة إنّما هو لزيادة الإشعار فيه بالتعظيم والتفخيم ، بل التصريح بالجمعيّة الداعية إلى الالتحاق

__________________

(١) الأنعام : ١٥٣.

(٢) آل عمران : ٨٣.

(٣) المائدة : ٣.

(٤) الانعام : ٩٠.

(٥) إبراهيم : ١ ـ ٢.

(٦) الشورى : ٥٣.

(٧) يوسف : ١٠٨.

(٨) الحجر : ٤١.

٦٤٥

بهم والانخراط في زمرتهم إيثارا لموافقتهم ومرافقتهم ، ولذا ندب سبحانه إلى طاعته وطاعة رسوله موافقة أوليائه في قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (١).

نعم قرء شاذا صراط من أنعمت عليهم ونسبه في الكشّاف إلى عبد الله بن مسعود ، بل رواه مرسلا شيخ الطائفة في «البيان» والطبرسي في «مجمع البيان» (٢) عن أهل البيت عليهم‌السلام لكنه لا ريب في شذوذه وعدم ثبوته لهذه الرواية المرسلة الّتي لا جابر لها ، مضافا إلى أنّ الموجود في تفسير الامام عليه‌السلام بل وفي غيره من الأخبار المشتملة على تفسير هذه المباركة والآية الشريفة هو القراءة المشهورة ، هذا مضافا إلى أنّه نسب في «التبيان» وفي «مجمع البيان» هذه القراءة الشاذة إلى شاذّ من الناس كالثاني والزبيري ومن البيّن أنّ الرشد في خلافهما.

نعم روى القمي في تفسيره عن أبيه ، عن حمّاد ، عن حريز ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قرأ صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين (٣).

ولعل الأولى حمله على التقيّة لما سمعت.

بسط في الكلام لبيان معنى الإنعام

الإنعام إفعال من النعمة بمعنى إعطائها وإيصالها ، وهي بالكسر وإن قيل : إنّها مأخوذة من النعمة بالفتح بمعنى اللين ، ومنها النعومة في البدن ، والنعامى بالضم ريح

__________________

(١) النساء : ٦٩.

(٢) في مجمع البيان ج ١ ص ٢٨ قرأ : «صراط من أنعمت عليهم» عمر بن الخطاب وعمرو بن عبد الله الزبيري ، وروى ذلك عن أهل البيت عليهم‌السلام.

(٣) تفسير القمي ج ١ ص ٢٩.

٦٤٦

الجنوب لكنها بالفتح اسم بمعنى التنعّم كما صرحوا مضافا إلى قوله : (وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) (١) ، ولذا قيل : بأنّ الموجود في كتب اللغة أنّها بالفتح هي التّنعم ، وبالكسر هي المال ، ونحوه ، ومن كلامهم : كم من ذي نعمة لا نعمة له ، أي كم من ذي مال لا تنعم له.

وقيل : إنّها من النعمة بالضم بمعنى المسرة والبهجة فالنعمة ما توجبها وتقرّبه العين.

وقيل : إن الإنعام الإتمام تقول : أنعمت دقّه إذا بالغت فيه وأتممته ، ولعلّ أصل الباب للمبالغة والزيادة لكن على وجه الرفق والسهولة ، ولذا اقتصر عليها في «مجمع البيان» وإن لم يذكر القيد ، وعلى كلّ حال فالنعمة في الأصل وإن كانت هي الحالة المستلذّة للإنسان لكونه صحيحا مليّا وجيها إلى غير ذلك ممّا تشتهيه الأنفس وتقرّبه الأعين ، إلّا أنّها أطلقت على نفس الشيء المستلذّ به كالمال ، والصّحة ، والجاه إطلاقا لاسم المسبب على السبب ، نعم يختلف النعمة باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان إلى غير ذلك من المشخّصات الّتي قد يكون الشيء معها نعمة ونقمة من جهتين ، فالمال مثلا في نفسه وبالنسبة إلى بعض الأشخاص أو مطلقا نعمة ، وقد يكون نقمة على غيره ، إذ يسعد به قوم ، ويشقى به آخرون (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٢) و (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) (٣) ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٤).

__________________

(١) الدخان : ٢٧.

(٢) العلق : ٦.

(٣) الشورى : ٢٧.

(٤) إبراهيم : ٢٨.

٦٤٧

كما أنّه ربما يكون الشخص حيث يتلذّذ ويتنعّم بكلّ ما يرد عليه ولو من البلايا والمحن الدنيوية كالفقر والمرض والذلّة وغيرها من البلايا والمصائب.

ولذا ورد في الخبر : إنّ العبد إذا بلغ حقايق اليقين ، فالبلاء عنده نعمة.

وفي العلوي الّذي رواه كميل بن زياد انّ النفس الكلية الالهيّة لها خمس قوى بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعزّ في ذلّ ، وفقر في غناء ، وصبر في بلاء ، ولها خاصيّتان : الرضا والتسليم (١).

وذلك لا لإيثار الفقر والذلّة والبلاء على أضدادها من حيث هي ، فإنّ الكلّ نعمة منه تعالى مع أنّ النعمة في أضدادها أتمّ وأعمّ ، بل إنّما ذلك لما يلزمها من قطع العلائق والانقطاع عن الخلايق ، والتوجّه التّام إلى جناب الخالق ، أو لأن العبد يلزم أن يكون في مقام التسليم بحيث يتلقّى ويرضى بما يرد عليه ، ولذا عدّ في العلوي المتقدّم من خواصّ النفس الكلّية الالهية الرضا والتسليم ، وهو من أسنى المقامات على ما يستفاد من أخبار كثيرة.

ثمّ إنّ نعم الله سبحانه على كلّ عبد من عبيده ممّا لا تعدّ ولا تحصى ولذا قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) (٢) كيف ولا يمكن لأحد الاطّلاع على الاستقصاء بجميع الارتباطات الّتي بينه وبين كلّ جزئي من جزئيّات العالم ، ممّا جعله الله تعالى من روابط فيوضه الروحانية والجسمانية بلا واسطة أو معها مع وحدتها أو تكثّرها بل لعل الفيض الواحد الجزئى ، فضلا عن الفيوض الكثيرة الغير المتناهية الّتي لا يعلمها أحد إلّا هو سبحانه له ارتباط بجميع مراتب الفيوض الواقعة

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٦١ ص ٨٥ عن بعض كتب الصوفيّة.

(٢) إبراهيم : ٣٤.

٦٤٨

في السلسلة الطّولية والعرضية لإستحالة الطفرة في الوجود وانقطاع الروابط بين العابد والمعبود ، بل كلّ عال مجاز ودرجة لما تحته في الصعود ، ووسيلة له إلى واجب الوجود ، وكلّ سافل مجاز للعالي ومظهر له في النزول ، ورابطة بين العلّة والمعلول ، حتّى أنّه لو تغيّر البعض تغيّر الكل ، ولذا قال سبحانه : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) (١).

وورد أبى الله أن يجرى الأمور إلّا بأسبابها (٢).

وبالجملة فرحمته عامّة شاملة وعنايته تامّة كاملة ، وحينئذ فينفتح بهذا المقال باب للسؤال ، وهو أنّ المنعم عليهم جميع الخلق أجمعين من المسلمين والمشركين والكافرين ، وقضيّة عموم الموصول ، وحذف متعلق النعمة ، وعدم التعرض لخصوصيّتها شمول الموصول لكلّ من أنعم الله تعالى عليه بأيّ نعمة كان ، فيكون المسئول طرق جميع أهل العالم ، ولا يمكن الجمع بين طرق الجميع الشامل للمؤمن والكافر والمشرك والمنافق والمطيع بمراتب الإطاعة ودرجاتها ـ والعاصي بفسوق المعصية ودركاتها ، ولا ريب أنّ المقصود بالسؤال خلافه.

لكنّ الخطب سهل في دفعه بعد افتتاح الآية في الهداية الظاهرة في طريق الصواب الموصل إلى الأحباب ، ونيل الثواب ، سيّما مع توصيفه بالمستقيم الذي هو صفة مخصّصة للصراط إن لم نقل : إنّ اللام فيه للإشارة إلى الفرد الكامل الذي هو تمام الحقيقة ، أو إلى المعهود الذي هو المقصود ، أو أنّ غيره لا ينبغي أن يسمّى صراطا ، ولا الإرشاد إليه وإرائته هداية إلّا على وجه التهكّم.

هذا مع أن الّذين أنعمت عليهم ظاهر في المعهودية في خصوص قوم ، وهم

__________________

(١) القمر : ٥٠.

(٢) في عوالي اللآلى ج ٣ ص ٢٨٦ ح ٢٧ عن الصادق عليه‌السلام : أبى الله أن يجرى الأشياء الّا على الأسباب وفي الكافي كتاب الحجّة ح ٧.

٦٤٩

الّذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصّدّيقين والشهداء والصالحين ، ولو لاستفادته من التعبير بالموصولة أو ظهور النعمة في الفرد الأكمل ، أو جميع أفرادها التي يختص بها المؤمن الكامل ، أو لأنّ النعمة لم تبق على الكفّار نعمة ، بل جعلوها نقمة عليهم ، ولذا كان مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل كلّ نعمة من نعم الله الّتي هو عليه‌السلام أعظمها نعمة على الأبرار ، ونقمة على الفجار (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) (١) مضافا إلى تعقيبه بالمخصّص المتّصل الذي هو غير المغضوب عليهم ولا الضالّين على فرض عمومه وإلّا فقد عرفت اختصاصه من وجوه عديدة.

ولذا قال مولينا الإمام عليه‌السلام : إنّ هؤلاء هم الذين قال الله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) (٢). (٣)

وحكى هذا بعينه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال ثمّ قال عليه‌السلام ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحّة البدن ، وإن كان كلّ هذا نعمة من الله ظاهرة ألا ترون أنّ هؤلاء قد يكونون كفّارا أو فسّاقا فما ندبتم أن تدعوا بأن ترشدوا إلى صراطهم ، وانّما أمرتم بالدعاء لأن ترشدوا إلى صراط الذين أنعم عليهم بالإيمان بالله وتصديق رسوله ، وبالولاية لمحمّد والله الطّيبين وأصحابه الخيّرين المنتجبين ، وبالتقيّة الحسنة التي يسلم بها من شرّ عباد الله ومن شرّ الزنادقة في أيّام أعداء الله بكفرهم بأن تداريهم فلا تغريهم بأذاك ولا أذى المؤمنين ، وبالمعرفة بحقوق الإخوان من المؤمنين فإنّه ما من عبد ولا أمة والى محمّدا وآل محمّد وأصحاب محمد وعادى من عاديهم إلّا كان قد اتّخذ من عذاب الله حصنا منيعا وجنّة حصينة ، وما من عبد ولا أمة داري عباد الله بأحسن المداراة فلم يدخل بها في باطل ، ولم يخرج بها عن

__________________

(١) إبراهيم : ٢٨.

(٢) النساء : ٦٩.

(٣) تفسير العسكري : ص ٢٢ ـ ٢٣.

٦٥٠

حقّ إلا جعل الله نفسه تسبيحا وزكّى عمله ، وأعطاه بصيرة على كتمان سرّنا واحتمال الغيظ لما يسمعه من أعدائنا ثواب المتشحط بدمه في سبيل الله ، وما من عبد أخذ نفسه بحقوق إخوانه فوفّاهم حقوقهم جهده وأعطيهم ممكنه ، ورضي عنهم بعفوهم ، وترك الاستقصاء عليهم فيما يكون من زللهم وغفرها لهم إلّا قال الله عزوجل له يوم القيمة : يا عبدي قضيت حقوق إخوانك ولم تستقص عليهم فيما لك عليهم ، فإنى أجود وأكرم ، وأولى بمثل ما فعلته من المسامحة والتكرم ، فأنا أقضيك اليوم على حقّ وعدتك به وأزيدك من الفضل (١) الواسع ، ولا أستقصى عليك في تقصيرك في بعض حقوقي قال عليه‌السلام فيلحقه بمحمّد وآله وأصحابه ويجعله من خيار شيعتهم (٢).

ثمّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لبعض أصحابه ذات يوم : يا عبد الله أحبّ في الله وأبغض في الله ، ووال في الله وعاد في الله ، فإنه لا تنال ولاية الله إلّا بذلك ، ولا يجد رجل طعم الإيمان وان كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك ، وقد صارت مواخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا عليها يتوادون وعليها يتباغضون ، لا يغني من الله شيئا فقال الرجل : يا رسول الله فكيف أن أعلم أنّى قد واليت في الله وعاديت في الله ومن ولي الله حتى أواليه ، ومن عدو الله حتى أعاديه فأشار له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عليّ عليه‌السلام فقال : أترى هذا؟ قال : بلى قال : ولى هذا ولى الله فواله ، وعدوّ هذا عدو الله فعاده ، ووال وليّ هذا ولو أنّه قاتل أبيك وولدك ، وعاد عدوّ هذا ولو أنّه أبوك وولدك (٣).

__________________

(١) في البحار : من فضلي الواسع.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٤ / ١٠ ـ ١١ عن تفسير الإمام ص ١٧ ـ ١٨.

(٣) البحار ج ٢٧ ص ٥٤ ح ٨ عن تفسير الامام ص ١٨ ومعاني الاخبار ص ١١٣ وعيون الأخبار ص ١٦١ وعلل الشرائع ص ٥٨.

٦٥١

تتمّة مهمّة في أنّ النعمة هي الولاية

قد سمعت تواتر الأخبار وشهادة الإعتبار على أنّ المراد بالصراط المستقيم هي ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهي طريقته في معرفته لله تعالى ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وفي عبادته وعبوديّته لوقوفه على التطنجين وبرزخيته الكبرى في البين.

ونزيد في المقام أنّ قضيّة الإنعام أنّ هاهنا أمورا ثلاثة : المنعم والمنعم عليهم والنعمة ، فالأول هو الله تعالى ، والثاني قد مرّ أنّه جميع من أنعم الله عليهم من النبيّين والصّديقين والشهداء والصالحين بل والكروبيّين والعالين ، بل وغيرهم من صنوف الملئكة والجنّة والناس أجمعين ، وامّا الثالث فهو ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام إذ بولايته ومحبّته ومشايعته في عبادة ربّه ومتابعته في طريق معرفته قد فاز الفائزون ، ونجى الصالحون ، ولذا ورد : أنّ الله تعالى قد أخذ ميثاق ولايته على الأنبياء والمرسلين وجميع الخلق أجمعين فسعد من صدّقه بتصديقه ، فخلق بهيئة التصديق ، وهيكل التوحيد ، وشقي من كذّبه بتكذيبه ، فإنّ ولايته متضمنة لولاية الله تعالى وولاية رسوله ، بل لإطاعة الله عزوجل في كلّ ما دقّ وجلّ من الأصول والفروع والآداب والسنن والأحكام الاقتضائية والتخييريّة والوضعيّة على حسب حال موضوعاتها من العموم والخصوص والإطلاق والتقييد والظاهر والباطل.

ولذا قال مولينا الصادق عليه‌السلام : إنّ الدهر فينا قسّمت حدوده ولنا أخذت عهوده (١).

بل ورد من طريق العامة أيضا عن انس بن مالك قال دفع على بن أبي طالب عليه‌السلام إلى بلال درهما ليشتري به بطيخا قال : فاشتريت به بطيخة فوجدها مرّة فقال : يا بلال ردّ هذا إلى صاحبه وأتني بالدرهم إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لي : إنّ الله أخذ حبّك على البشر والشجر والثمر والبذر فما أجاب إلى حبّك عذب وطاب ، وما

__________________

(١) لم أظفر على مصدره.

٦٥٢

لم يجب خبث ومرّ ، وإنّي أظنّ أنّ هذه ممّا لم يجب (١).

وممّا يصرّح بكون ولايته عليه‌السلام تمام النعمة قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ) (٢).

لما ستسمع من استفاضة الأخبار بل تواترها من الفريقين على أنّ المراد بها في الآية تنزيلا وتأويلا ولايته عليه‌السلام ونصبه علما للناس.

ولذا قال مولينا الصادق عليه‌السلام في الدعاء المرويّ في «التهذيب» وغيره بعد صلوة الغدير : ومننت محمّدا وذريّته (٣).

وفي تفسير قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٤) عن القمى عن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال عليه‌السلام : ما بال قوم غيّروا سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدلوا عن وصيّة لا يخالفون أن ينزل بهم العذاب ، ثمّ تلا هذه الآية ، ثمّ قال : نحن النعمة التي أنعم الله على عباده ، وبنا يفوز من فاز يوم القيمة (٥).

وفيه عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) (٦) قال : أتدري ما آلاء الله؟ قلت : لا ، قال : هي أعظم نعم الله على خلقه وهي ولايتنا (٧).

وروى القمي وغيره عن مولينا الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (٨) ، قال : أمّا النعمة الظاهرة فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وما جاء به من معرفة

__________________

(١) ينابيع المودّة ج ٢ ص ١٨٠ ح ٥٢٠ وذخائر العقبى ص ٩٢.

(٢) المائدة : ٣.

(٣) معاني الاخبار ص ٣١ ح ٧.

(٤) إبراهيم : ٢٨.

(٥) بحار الأنوار : ج ٥٨ ص ٢٢.

(٦) الأعراف : ٦٩.

(٧) البحار : ج ٢٤ / ٥٩ عن الكافي ج ١ ص ٢١٧.

(٨) لقمان : ٢٠.

٦٥٣

الله وتوحيده ، وأمّا النعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت وعقد مودّتنا (١).

وبمعناه أخبار أخر ، بل في بعضها أنّ النعمة الظاهرة الإمام الظاهر والباطنة الإمام الباطن.

وفي «المحاسن» مسندا عنه عليه‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يا أبا ذر من أحبّنا أهل البيت فليحمد الله على أوّل النعم ، قال : يا رسول الله وما أوّل النعم؟ قال : طيب الولادة لا يحبّنا أهل البيت إلّا طاب مولده (٢).

وفي الزيارة الجامعة : بموالاتكم تمّت الكلمة ، وعظمت النعمة.

ثمّ إنّه قد فسّرت النعمة في هذه الآية وفي غيرها أيضا بالدين ، والإسلام ، والإيمان ، والمعرفة ، والتقوى ، والتوحيد ، وغيرها من التعبيرات المختلفة الّتي مرجعها إلى حقيقة الولاية بالحدود المعتبرة.

عباراتنا شتّى وحسنك واحد

وكلّ إلى ذاك الجمال يشير

ولذا فرض الله طاعته وإقامة ولايته على الناس أجمعين بل جعل ولايته المعرّف الصحيح ، والكاشف الأخير لتوحيده ونبوة رسوله.

وورد في النبوي : أنّ الله تعالى لمّا خلق آدم ونفخ فيه من روحه عطس آدم فقال : الحمد لله ، فأوحى الله تعالى إليه حمدتني ، وعزّتي وجلالي لو لا عبدان أريد أن أخلقهما في دار الدنيا (٣) ما خلقتك يا آدم قال : إلهى فيكونان منّي ، قال : نعم يا آدم ارفع رأسك وانظر ، فرفع رأسه فإذا مكتوب على العرش : لا اله الّا الله ، محمّد نبيّ الرحمة ، وعليّ مقيم (٤) الحجّة ، من عرف حقّ عليّ زكى وطاب ، ومن أنكر حقّه لعن وخاب ، أقسمت بعزّتي أن أدخل الجنّة من أطاعه وإن عصاني ، وأقسمت

__________________

(١) البحار : ج ٢٤ / ٥٤ عن المناقب ج ٣ ص ٣١٤.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٧ / ١٥٠ عن أمالى ابن الشيخ ص ٣٨ ـ ٣٩.

(٣) في البحار : في آخر الدنيا.

(٤) في البحار : وعلى مفتاح الجنّة.

٦٥٤

بعزّتي أن أدخل النار من عصاه وإن أطاعني (١).

بل قد ورد أخبار كثيرة في تفسير قوله تعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) (٢). الآية : أنّ المراد بالحسنة والله ولاية أمير المؤمنين ، والسّيئة والله اتّباع أعدائه.

وفي الكافي عن مولينا الصادق عليه‌السلام عن جدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام في هذه الآية قال عليه‌السلام : الحسنة معرفة الولاية وحبّنا أهل البيت ، والسّيئة إنكار الولاية وبغضنا أهل البيت (٣).

ومثله أخبار كثيرة تأتي في موضعها ، بل ورد مثله في طرق العامّة عن عبد الله بن مسعود وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فعن «المناقب» للخوارزمي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو اجتمع الناس على حبّ عليّ بن أبي طالب لما خلق الله عزوجل النار (٤).

وعن كتاب «الفردوس» عن معاذ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : حبّ علىّ بن أبي طالب حسنة لا تضر معها سيّئة وبغضه سيّئة لا ينفع معها حسنة ، وادخل الجنة من أطاعه وإن عصاني وادخل النار من عصاه وإن أطاعني (٥).

بل في المحكي عن الزمخشري في بيانه أنّه قال : هذا رمز حسن ، وذلك أنّ حبّ عليّ هو الإيمان الكامل ، والإيمان الكامل لا تضرّ معه السيّئات قوله : وإن عصاني فإنّى أغفر له إكراما وأدخله الجنّة فله الجنة بالإيمان ، وله بحبّ عليّ العفو والغفران ، وقوله : ادخل النار من عصاه وإن أطاعنى ، وذلك لأنّه إن لم يوال عليا فلا

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٦٨ ص ١٣٠ ح ٦١ عن بشارة المصطفى ص ٨٢ وليس فيه : (أدخل الجنة من أطاعه وإن عصاني ...) نعم في ذيله : أقسم بعزّتى أن أرحم من تولّاه وأعذّب من عاداه.

(٢) النمل : ٨٩ ـ ٩٠.

(٣) أصول الكافي ج ١ ص ١٨٥ ح ١٤.

(٤) المناقب للخوارزمي ص ٦٠٧ الفصل ٦ ص ٣٩.

(٥) الفردوس ج ٢ ص ١٤٢ ح ٢٧٢٥ وليس فيه : (وادخل الجنّة ... إلخ).

٦٥٥

إيمان له وطاعته هناك مجاز حقيقة ، لأن الطاعة الحقيقية هي المضاف إليها سائر الأعمال ، فمن أحبّ عليّا فقد أطاع الله ونجى.

فعلم أنّ حبّه هو الإيمان وبغضه هو الكفر ، وليس يوم القيمة إلا محبّ ومبغض ، فمحبّه لا سيّئة له ولا حساب عليه ، ومن لا حساب فالجنة داره ، ومبغضه لا إيمان له ، ومن لا إيمان له ينظر الله إليه بغير رحمته ، وطاعته عين المعصية إلى أخر ما ذكره في مادّة «عصاني» مجمع البحرين (١) وكأنّه حكاه عن الشيخ البرسي الذي خلط كلامه بكلام الزمخشري فلاحظ (٢).

وحيث إنّك قد سمعت أن المنعم عليهم هم الأنبياء والمرسلون ، والملئكة أجمعون ، والعباد الصالحون حسب ما هو قضيّة عموم الآية بل خصوص الآية الاخرى المتقدّمة ، سيّما مع ملاحظة تفسير الإمام عليه‌السلام فالنعمة عليهم جميعا في ولاية مولينا أمير المؤمنين ، حسب ما مرّت الإشارة إليها آنفا من أنّ المراد بولايته هو القيام بحدود العبوديّة ووظائفها ، وملازمة التقوى ، والطاعة الكاملة المطلقة في جميع ما شاء الله وأحبّ من الأمور التشريعية وغيرها ، فكلّ من ارتكب منهم شيئا خلاف ما هو الأولى والأحرى فقد خرج عن حدود ولايته ، كما أنّه خرج عن وظائف عبوديّة الله سبحانه ، ولا تتوهم من هذا شركا أو إلحادا فإنّ الله تعالى جعل ولايتهم ولايته ، وطاعتهم طاعته ، ومعصيتهم معصيته ، ومحبّتهم محبّته ، وإن شئت فقل : جعل ولايته ولايتهم للأول إلى الاتّحاد من غير إلحاد ، وفي البين ما تقرّبه العين فمن أطاعهم فقد أطاع الله ، ومن عصاهم فقد عصى الله ، ومن أحبّهم فقد أحبّ الله ، ومن أبغضهم فقد أبغض الله ، لا لقضية الملازمة فإنّها بعيدة غير ملائمة ، بل لأنها هي ، لا لأنّهم هو ، بل لأنّهم الأعراف الّذين لا يعرف الله إلّا بسبيل محبّتهم ومعرفتهم وولايتهم لأنه جعلهم أبوابه وسبله وحجبه ، ومعادن لكلماته وأركانا لتوحيده وآياته

__________________

(١) مجمع البحرين ج ١ ص ٢٥٩ في ذيل كلمة (عصى) ط بيروت.

(٢) مشارق أنوار اليقين للبرسي ص ٦٦.

٦٥٦

ومقاماته الّتي لا تعطيل لها في كلّ مكان يعرفه بها من عرفه لا فرق بينه وبينهم إلّا أنّهم عباده وخلقه فإنّهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

ثمّ إنّ سبل الذين أنعم الله عليهم من هؤلاء المعدودين وإن كانت بمختلفة جدّا لاختلاف مراتب القبول الّتي يختلف بها الوصول لكنّ المسؤول هو النوع الّذي لأفرادها عرض عريض جدّا حتّى أنّ الهداية اللائقة بشخص واحد خاصّ من حيث الاستعداد والقبول لها جزئيّات مختلفة من حيث خصوصيّات الأزمان والأحوال ، ومن هنا يسقط ما لو ربّما توهّم من أنّه كيف يصحّ سؤال الصراط المبهم وسؤال ما لا ينال قطعا إذ مع أن سبيل كلّ واحد لا يتعدّاه لا ريب أنّ سبيل الأنبياء والأوصياء المخصوصين بالعصمة على اختلاف مراتبها لا يتعدّاهم إلى غيرهم ، ومع فرضه فمن البيّن أنّه لا يناله كلّ أحد ممّن امر بهذا الطلب في كلّ صلوة وغيرها.

ثم إنّه قد ظهر من جميع ما مرّ أنّ النعمة التي منّ الله تعالى بها عليهم هو نفس هدايتهم إلى الصراط المستقيم ، أو نفس الصراط على بعض الوجوه ، فكأنّه جعل المقصد الصراط الذي هو النعمة العظمى : منه سبحانه على جميع المؤمنين والشهداء والصالحين بل الأنبياء والمرسلين ولذا جمعهم في الهداية مع الامتنان عليهم بالنعمة في الآية بل في صريح الآية المتقدّمة وفي قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (١) ، وإن لم يصرّح بالصراط لأنّ الآية في حقّه وفي يوم نصبه ، وفي قوله تعالى : خطابا لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) (٢) وإتمام النعمة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجعل وصيّه بابه وحجابه ليتمّ بولايته نبوّته من حيث التبليغ والإرشاد وهداية الخلق.

وأمّا هدايته إلى الصراط المستقيم فإمّا باعتبار نيل ذلك المقام الذي به إتمام

__________________

(١) المائدة : ٣.

(٢) الفتح : ٢.

٦٥٧

القوسين والوقوف على التطنجين.

ولذا ورد في القدسيّات على ما مرّ : لولاك لما خلقت الأفلاك ، ولو لا علىّ لما خلقتك (١) ، وإمّا للتعبير به عن هداية أمّته ، حيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمّل ذنوب أمّته عنهم ليغفر له الله ما تقدّم من ذنب أمّته وما تأخر ، كما ورد عن الإمام عليه‌السلام في تفسير صدر الآية.

ثمّ إنّه يظهر لك ممّا مرّ أنّ تفسير المنعم عليهم بخصوص المتقين أو السالكين ، أو التائبين ، أو المشتاقين ، أو المنقطعين إليه سبحانه ، أو الفانين عن هويّات وجوداتهم وذواتهم فيه به له ، إلى غير ذلك من المقامات الّتي لا تدركها العقول ، ولا تنالها الأوهام إلّا بعد الوصول تخصيص من غير مخصّص بعد اشتراك الجميع في الهداية والاستقامة ، وإن اختلفت في مراتب الفضل والكرامة ، فإنّ هذه كلّها كالفروع والجزئيّات لما ذكرناه من الولاية التي هي الأصل المحتوي على جميع ذلك وعلى غيره ممّا لم يذكر في المقام ، ولم تجربها الأقلام ، بل لم تخطر على الأوهام.

وأمّا تعيين الفرقة المنعم عليهم من بين فرق الإسلام فقد لوّحنا لك أنّه الفرقة الناجية الإماميّة الاثنى عشرية ، وستسمع تمام الكلام في إقامة البرهان من طريق العقل والنقل على أنّهم هم المخصوصون بالهداية والعناية والكرامة والاستقامة من بين الفرق الاسلاميّة الذين أضافوا إليهم اسمه وأضاعوا رسمه ، وهم بضع وسبعون فرقة كلّهم في النار فضلا عن غيرهم من فرق الكفار ، ولانحرافهم بالغلوّ والإلحاد عن الصراط المستقيم الذي هو الإقتصاد في الأقوال والأفعال والإعتقاد فيمن سمّاهم الله تعالى بالمنذر والهاد.

__________________

(١) بحار الأنوار ج ١٥ ص ٢٨ ح ٥ ـ وج ٥٧ ص ٩٩ ح ٣ والجملة الثانية ليست موجودة فيه.

٦٥٨

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ

وصل

وحيث قد سمعت أنّ الاستقامة يلزمها طرفان نوعيّان محصوران بكثرة أفرادهما في القصور والتقصير أراد سبحانه بعد التلويح به بوصف الصّراط بالاستقامة التصريح ببيان أحوال الفرق الثلاث واعدادها فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها فجعل المسئول المأمول صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيّين والصّديقين والشهداء والصالحين.

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بالتقصير والتفريط في ولاية أوليائه حتى ألحقوا بتهودهم ورجوعهم إلى الجاهلية الاولى وإتّباعهم لعجل الامّة وسامريّها بمن لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت فإنّ المسخ الباطني غير منسوخ في هذه الامّة.

(وَلَا الضَّالِّينَ) الذين أفرطوا وغلوا في حبّهم وطاعتهم حتّى اتّبعوا بغلوّهم أهواء النصارى الّذين قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيرا وضلّوا عن سواء السبيل.

ولذا فسّر في بعض الأخبار باليهود والنصارى ، وفي بعضها بالغلاة والقلاة : وفي ثالث تنزيل كلّ من الوصفين على كلّ من الفريقين ، بل جميع الفرق المنحرفة كما في «تفسير الامام عليه‌السلام» عن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الله أمر عباده أن يسألوه طريق المنعم عليهم ، وهم النبيّون والصّديقون والشهداء.

وأن يستعيذوا به من طريق المغضوب عليهم ، وهم اليهود الّذين قال الله تعالى

٦٥٩

فيهم : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ) (١).

وأن يستعيذوا به من طريق الضالّين وهم الذين قال الله فيهم : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) (٢) الآية وهم النصارى.

ثمّ قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : كلّ من كفر بالله فهو مغضوب عليه ، وضالّ عن سبيل الله عزوجل (٣).

وقال الرضا عليه‌السلام مثله وزاد فيه : من تجاوز بأمير المؤمنين العبوديّة فهو من المغضوب عليهم ومن الضّالين (٤).

إلى آخر ما تسمعه في مقالة الغلاة.

وروى القمي عن مولينا الصادق عليه‌السلام قال : إنّ المغضوب عليهم النصارى والضّالين أهل الشكوك الّذين لا يعرفون الإمام عليه‌السلام (٥).

إلى غير ذلك ممّا تسمعه في بيان حال الفرقتين بعد التنبيه على أنّ الغير من الأسماء المتوغلة في الإبهام مثل المثل والشبه ، إلّا أنّ هذين للمماثلة والمشابهة وذلك للمغايرة في الذات أو في الصفات ، أو الآثار ، أو من كلّ وجه أو مطلقا أو مطلقها ، وعلى كلّ حال لا يزول إبهامها ولو بالإضافة إلى المعارف إلّا إذا وقعت بين ضدّين كما في المقام ، وفي قولهم : الحركة غير السكون ، فيضعف إبهامها ، كما عن الأكثر أو يزول رأسا كما عن السيرافي فتتعرّف عنده ، وتكون بدلا لا صفة ومن

__________________

(١) المائدة : ٦٠.

(٢) المائدة : ٧٧.

(٣) بحار الأنوار ج ٢٥ ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ح ٢٠ عن الاحتجاج وتفسير الإمام عليه‌السلام.

(٤) بحار الأنوار ج ٢٥ ص ٢٧٣ ـ ٢٧٤ ح ٢٠ عن الاحتجاج وتفسير الإمام عليه‌السلام.

(٥) تفسير القمي ج ١ ص ٢٩.

٦٦٠